الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس في الفرق بين العام والمطلق
قال الإمام فخر الدين- رحمه الله تعالى-: اعلم أن كل شيء فله حقيقة، فكل أمر يكون المفهوم منه غير المفهوم من تلك الحقيقة كان لا محالة أمرا آخر (سوى تلك الحقيقة) سواء كان ذلك المغاير لازما لتلك الحقيقة أو مفارقا لها، وسواء كان سلبا أو إيجابا، فالإنسان من حيث إنه إنسان ليس إلا أنه إنسان، وأما أنه واحد أو لا واحد أو كثير أو لا كثير، فكل ذلك مفهومات منفصلة عن الإنسان من حيث إنه إنسان، وإن كنا نقطع بأن مفهوم الإنسان لا ينفك عن كونه واحدا (أو لا واحدا).
وإذا عرفت هذا فتقول: اللفظ الدال على (الحقيقة من حيث هي هي من غير أن تكون فيها دلالة على شيء من قيود الحقيقة سلبا كان ذلك القيد أو إيجابا فهو المطلق).
(وأما اللفظ الدال على) تلك الحقيقة مع قيد الكثرة، فإن كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا يتناول ما بعدها فهو اسم للعدد، وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو العام.
قال: وبهذا التحقيق ظهر خطأ قول من قال: المطلق هو الدال على واحد لا بعينه، فإن كونه واحداً وغير معين، قيدان زائدان على الماهية.
هذا هو كلام الإمام فخر الدين- رحمه الله وهو في غاية التلخيص والتحقيق بالنسبة إلى غيره ومع ذلك فعليه أسئلة:
السؤال الأول: أن قوله: اللفظ الدال على الحقيقة من حيث هي هي من غير أن تكون فيها دلالة على شيء من قيودها من المطلق، مشكل من جهة أن الحقيقة تطلق ويراد بها الموجود من حيث هو موجود، الذي لا يعتبر فيه قيد ألبتة، وعلى هذا التقدير يختص المطلق باللفظ الدال على المعنى البسيط، فيكون الحد غير جامع؛ لخروج المطلقات التي وضعت للمركبات، نحو: إنسان، وفرس، وغيرها من أسماء الأنواع والأجناس مع أنها طلقات، ويطلق أيضا لفظ الحقيقة ويراد به مسمى اللفظ كيف كان بسيطا أو مركبا، وعلى هذا التقدير
يكون الحد جامعا، لكنه لما لم يتعرض للتصريح لهذا القسم، بل أتى بلفظ محتمل، بل هو ظاهر في الأول دون الثاني فلا جرم كان الحد غير ملخص، ثم إنه قال: من غير أن يكون فيه دلالة على شيء من قيود تلك الحقيقة، مع أن لفظ الحيوان دال على قيد في النامي وهو الحساس، فإن الحيوان هو مركب من جنس وهو النامي، وفصل وهو الحساس، والفصل هو قيد في الجنس يركب من مجموعهما النوع؛ (إذا) أن لفظ حيوان مطلق إجماعا، وهو دال على قيد من قيود حقيقة النامي، وكذلك كل لفظ موضوع لجنس متوسط (بقيد) كالإنسان، فإنه مركب من الحيوان والناطق، فالناطق فصله، وهو قيد لحق الحيوان، فصار من مجموعهما نوع الإنسان، فالناطق فصله، وهو قيد لحق الحيوان، فصار من مجموعها نوع الإنسان، فتخرج هذه الألفاظ كلها من الحد حتى يصرح بقوله: القيود الخارجة عن مسمى اللفظ، حتى يخرج القيد الداخل في مسمى اللفظ لجميع الفصول، لكنه لم يصرح به، بل اقتصر على إخراج مطلق القيد كيف كان، فكان حده غير جامع.
السؤال الثاني: أن الألفاظ الموضوعة بإزاء الحقائق البسائط أو المركبة قد
يكون لها لوازم بينة لا تفارقها في الذهن، فيدل ذلك اللفظ على تلك القيود دلالة الالتزام وهي مطلقة إجماعا، فاشتراطه عدم الدلالة مطلقا ينفي دلالة المطابقة، والتضمن، والالتزام، فتخرج هذه الألفاظ من الحد، فلا يكون الحد جامعا سواء أراد مسمى الحقيقة البسيطة، أو أراد مسمى اللفظ كيف كان.
السؤال الثالث: على قوله: اللفظ الدال على الحقيقة- مع قيد- كثرة معينة بحث لا يتناول ما بعدها هو اسم العدد، نحو العشرة، وسائر أسماء الأعداد، إنما وضع لمرتبة معينة من العدد المركب من وحدات محصورة/ مع قطع النظر عن المعدودات، فالعدد غير المعدود، وهو في نفسه معلوم عند العقل، ويتصور مفهوم العشرة مثلا تارة عارضة للثياب وتارة للدراهم وتارة
للرجال، فإن عرضت لأحدها قيل حينئذ: عشرة دراهم، وعشرة ثياب، وعشرة رجال، فاللفظ الدال على العدد في هذه المثل هي عشرة، واللفظ الدال على المعدود الذي عرض له العدد وهو رجال أو ثياب، ولا دلالة للفظ العشرة على الرجال ولا (على) غيرها من أجناس المعدودات، كما أن لفظ: رجال لا يدل على العشرة ولا غيرها من مراتب العدد، فاللفظ الدال على العدد واللفظ الدال على المعدود متباينان لم يدخل مسمى أحدهما في مسمى الآخر، ولا يشعر بخصوصيته ألبتة، بل مسميات الأعداد كيفيات تعرض للمعدودات بطريق الاتفاق لا بطريق اللزوم.
وقوله: اسم العدد هو الموضوع للماهية بقيد كثرة معينة، جمع فيه بين الماهية التي هي المعدود والكثرة المعينة التي هي العدد، وجعل كل واحد منهما جزء مسمى لفظ العدد، وأن اسم العدد يدل على المعدود المعين تضمنا، وليس كذلك، بل لا دلالة له ألبتة على المعدود أصلا، بل كان ينبغي له أن يقول: اللفظ الدال على الكثرة المعينة التي لا يتناولها ما بعدها هو اسم العدد، فيخص تلك الكثرة بالوضع دون ما تعرض له.
السؤال الرابع: أن جميع ما ذكره في اسم العدد ينتقض بجموع القلة،
وقد تقدم ضبط ذلك في البيت المنظوم مع جمع السلامة، فإنه يدل على كثرة معينة وهي الثلاثة أو الاثنان- على الخلاف في أقل الجمع- ولا يتناول ما بعدها، فينبغي أن يكون على مقتضى قوله: من أسماء الأعداد، وليس كذلك.
وكذلك جموع الكثرة: أقل مراتبها أحد عشر بالنقل عن النحاة، فهي تدل على كثرة معينة وهي الأحد عشر، ولم يتناول ما بعدها، فإن المفهوم م التناول الدلالة، ولفظ جمع الكثرة نحو: رجال لا دلالة على الزائد/ على الأحد عشر، بل تحتمله، والاحتمال غير الدلالة والتناول، فإن اللفظ الدال على الجنس كحيوان غير دال على شيء، من أنواعه وأشخاصه، مع احتماله لكل نوع من أنواع وكل شخص من أشخاصه، ولا يقول أحد: إن اللفظ الدال على الجنس كحيوان غير دال على شيء من أنواعه وأشخاصه، مع احتماله لكل نوع من أنواعه وكل شخص من أشخاصه، ولا يقول أحد: إن اللفظ الدال على الأعم دال على الأخص ولا يتناوله، بل كان ينبغي أن يقول في اسم العدد هو: اللفظ الدال على رتبة معينة من الكثرة، بحيث لا يحتمل أقل منها ولا أكثر، فإن أسماء الأعداد نصوص لا تحتمل المجاز على ما قاله الجمهور، فينتفي عنها الاحتمال، ولا يقتصر على نفي التناول الذي هو الدلالة.
السؤال الخامس: على قوله في العام: إنه اللف الدال على الماهية مع كثرة غير معينة، وأراد بقوله: غير معينة: الاحتراز عن أسماء الأعداد.
ويرد عليه: أن الكثرة في العام معينة وتعينها يسلب النهاية، فإن العام مسلوب النهاية، وسلب النهاية نوع من التعيين، فسلب مطلق التعيين ينافيه، فيخرج جميع أفراد صيغ العموم من حد العموم فيكون العموم باطلا، ثم إن اللفظ الذي يتخيل وضعه للماهية بقيد كثرة غير متناهية يصدق بطريقتين:
أحدهما: أن يكون موضعا للجموع، أي: الكل من حيث هو كل، ويكون أفراد (هذا) الكل غير متناهية، وبهذا القدر (ساوى) العدد، بأن أفراد العدد (غير) متناهية.
وثانيهما: أن يكون موضوعا له بمعنى الكلية، وهو الذي ينطبق على معنى العموم و (قد) تقدم الفرق بين الكل والكلية، وأن الكل لا يمكن أن يكون موضوعا للعموم، مع أنه مندرج في عبارته وهو ليس للعموم، فيرد عليه.
ويرد عليه أيضا: أن الواضع لو قال: وضعت هذه الصيغة للماهية بقيد كثرة لا تختص برتبة معينة، ولا تخص مرتبة من الأعداد صدق حده فيها،
وصدقت هي في أي مرتبة كانت من العدد؛ لأن الوضع الذي لا يختص هو أعم من الذي يختص، والأعم يستلزم الأخص، فلا يستلزم هذه الصيغة مرتبة معينة من العدد، فتصدق حينئذ هذه الصيغة باثنين، لأن ما ليس بمختص يلزمه أدنى الترتب، وهو الاثنان/ ولذلك قال العلماء: أقل مراتب الجمع اثنان أو ثلاثة على الخلاف، لأن هذين الرتبتين أدنى المراتب فاستلزمها مسمى اللفظ، ويرد عليه هذه الصيغة لاندراجها في حده.
فجميع ما رأيته وقع للفضلاء في ضبط صيغ العموم لا يصح منه شيء؛ لهذه الأمثلة وأمثالها مما تقدم في بيان حقيقة العموم وحده، فينبغي التعويل
على ما تقدم هناك في ضبط العموم: بأنه اللفظ الدال على قدر مشترك بوصف يتبعه بحكمه في حالة
تنبيه:
زاد تاج الدين الأرموي في اختصاره في كتابه الحاصل فقال: اللفظ الدال على الماهية من حيث هي هي: المطلق، والدال عليها مع وحدة معينة: المعرفة، ومع وحدة غير معينة هو: النكرة، ومع وحدات معدودة هو: اسم العدد، ومع كل جزئياتها هو العام، ويرد عليه مع تلك الأسئلة:
السؤال السادس: وهو أنه قوله مع قوله: وحدة معينة المعرفة، لا يتجه؛ لأنه إن أراد بالتعيين التعيين بالشخص، لم يكن حده جامعا لجميع المعارف،
فإنه ليس في المعارف ما وضع لمعين بالشخص إلا علم الشخص نحو: زيد، وأما علم الجنس نحو: ثعالة علم جنس الثعلب، وأما علم (جنس الإنسان) ونحوه من أعلام الأجناس- كما هو مقرر في كتب النحاة- والمضمرات، والمبهمات، والمعرف باللام، والإضافة، لم يندرج في حده؛ لأنها معارف بإجماع النحاة، مع أنها لم توضع لمعين بالشخص، (مع أن الإمام فخر الدين وجمهور النحاة قالوا: المضمرات موضوع لمعين بالشخص) وليس بصواب؛ لأنه لو كان موضوعا لشخص معين لما صدق على شخص آخر إلا بوضع آخر، وليس كذلك، فدل ذلك على أنها لأمور كلية وبسطته في شرح المحصول.
وأما بقية المعارف فلم يقل أحد إنها موضوعة لجزئي مشخص، فخرجت
من حده مع أنها معارف، هذا إن أراد بالتعيين التعيين بالشخص.
وإن أراد التعيين بالنوع نحو: الإنسان، أو الجنس نحو: الحيوان، أو الصفة نحو: ضارب أو عالم اندرجت النكرات في هذه، فإنها كلها موضوعة لمعين بأحد هذه الأمور كقولنا: إنسان، حيوان، طير، مؤمن، فإن كل لفظ من هذه الألفاظ النكرات يتناول حقيقة/ معينة بنوعها، أو جنسها، أو صفتها، فعلم أنه إن أراد بالوحدة والتعيين الشخص أو ما هو أعم منه، فإنه لا يستقيم لفظه.
السؤال السابع: على قوله: إن كان اللفظ موضوعا لوحدة غير معينة فهو النكرة ففرق بين المطلق وبين النكرة، وهذا يقتضي أن يكون المطلق أعم من النكرة وأنه جزء النكرة، فإن الماهية من حيث هي هي جزء الماهية بقيد وحدة غير معينة، مع أن المعلوم من مذاهب العلماء: أن النكرة ما عدا المعارف الخمسة وهي: المضمرات، والمبهمات، وأسماء الأعلام، وما عرف باللام، وما أضيف إلى واحد من هذه الأربعة، فكل شيء يقول الأصوليون: إنه مطلق، يقول النحاة: إنه نكرة، نحو قوله تعالى:{فتحرير رقبة} فإن (الرقبة) في الآية مطلقة إجماعا، وكل شيء يقول النحاة: إنه نكرة، يقول الأصوليون: إنه مطلق، وإن الأمر به يتأدى بفرد منه فكل نكرة في سياق الإثبات مطلق عند الأصوليين، فما أعلم موضعا ولا لفظا من ألفاظ النكرات يختلف فيها النحاة والأصوليون، بل أسماء الأجناس كلها في سياق الثبوت هي نكرات عند
النحاة، ومطلقات عند الأصوليين.
والتعرض للفرق في الاصطلاحين عسر، باعتبار الواقع من الاصطلاح، أما باعتبار الغرض والتصوير فممكن، غير أن البحث إنما وقع في هذا المكان عن الواقع من الاصطلاح، ما هو؟
تنبيه:
في لغة العرب ثلاثة ألفاظ ينبغي النظر فيها:
أحدها: المصادر المحدودة نحو: ضربة، وقومة، ونحوهما، فإن هذا القبيل من الألفاظ موضوع لماهية المصدر بقيد الوحدة، كذلك نص عليه النحاة، مع أن النحاة يسمونه نكرة، (ولو ورد) قول الشارع: اضربه ضربة، لقال الأصوليون: المأمور به مطلق، مع أنه لفظ موضوع للماهية بقيد الوحدة؛ بخلاف قولنا: ماء، ومال، وذهب، وفضة، ونحوهما، فإنه (لا إشعار) له بالوحدة ألبتة.
وثانيهما: أن ألفاظ النكرات من أسماء الأجناس/ على قسمين: منها ما يصدق اسم لفظ الجنس على القليل والكثير من ذلك الجنس نحو: مال، وماء، وذهب، وفضة، فإن قليل الفضة يقال لها: فضة، وكذلك كثيرها، وكذلك كثير الماء والمال والذهب، ولا يقال لكثير الدراهم درهم، وإن قيل لها: فضة، ولا لكثير الدنانير: دينار، وإن قيل له: ذهب، ولا لكثير الرجال: رجل، فهذه الألفاظ من أسماء الأجناس التي لا تصدق على الكثير، ينبغي أن يقال: إنها موضوعة للماهية بقيد الوحدة أيضا.
وثالثهما: قول العرب: لا رجل في الدار- بالرفع- قال النحاة: إنه موضوع للماهية بقيد الوحدة، ولذلك يقولون: لا رجل في الدار بل اثنان.
فهذه (الثلاثة الألفاظ) موضوعة في لسان العرب للماهية بقيد الوحدة، فعلى ت قرير الشيخ تاج الدين الأرموي: ما يكون لنا نكرات إلا هذه الأجناس الثلاثة من الألفاظ، وهو خلاف إجماع النحاة؛ لأنهم يقولون: ماء، ومال، وضرب، وقيام، نكرات، وإن كانت هذه الألفاظ موضوعة للماهية من حيث هي تلك الماهية، وليست الوحدة داخلة في المسمى ألبتة، فهذا النظر وهذا التلخيص يحقق عندك أمورا:
أحدها: قوة السؤال على تاج الدين في تعرضه للفرق بين المطلق والنكرة.
وثانيهما: أنا إذا قلنا: اسم الجنس وإذا أضيف يعم، ينبغي أن يختص باسم الجنس الصالح للكثير، فمع صلاحيته للكثير يقع ذلك الصالح له، فيعم حينئذ، وأما ما لا يتناول الماهية إلا بقيد الوحدة، فإن ذلك اللفظ إذا أضيف ينبغي ألا يعم؛ لوجود المنافي فيه وهو (قيد الوحدة)، كقولنا: عبدي حر، وامرأتي طالق، لا يفهم أحد من هذين اللفظين العموم في العبيد ولا في
النساء، بخلاف قولنا: مالي صدقة، وماء البحر طهور، فإنه يتبادر (إلى الذهن) العموم في جميع أفراد المال وأفراد الماء، مع أن الأصوليين أطلقوا القول بأن اسم الجنس إذا أضيف يعم مطلقا، ولم يفصلوا، وينبغي التفصيل المذكور.
وثالثها: أن قوله عليه الصلاة والسلام لما سئل عن ماء البحر: أنتوضأ منه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، حمله العلماء- رضي الله عنهم على العموم في الماء والميتة، ومقتضى ما تقدم أنه يعم في (لفظ) الماء فقط؛ لأن لفظ الماء يصدق على الكثير/ بخلاف الميتة، لا يصدق على كثير الميتات أنها ميتة، كما لا يصدق على كثير من النسوة أنهن امرأة.
تنبيه:
كل مقيد يمكن أن يكون مطلقا بالنسبة إلى لفظ آخر (وكل مطلق يمكن أن يكون مقيدا بالنسبة إلى لفظ آخر)، فيكون الإطلاق والتقييد من باب النسب والإضافات، وهذا كما تقول لفظ:(جسم) مطلق (فإذا قلت: جسم نام، كان مقيدا، وإذا قلت: نام، كان مطلقا، مع أنه مدلول ذلك المقيد بعينه، وكذلك إذا قلنا: إنسان، هو مطلق)، فإذا قلنا: هو حيوان ناطق، كان مقيدا باعتبار هذه الصيغة، مع أنه مدلول ذلك المطلق، وكذلك لك أن تضيف في كل مطلق بأن تعبر عنه بعبارة أخرى فيصير مقيدا، وفي كل مقيد فيعبر عنه بعبارة أخرى فيكون مطلقا على هذا المنوال، فتصير المعاني أحد الألفاظ فيها مطلق والآخر مقيد.
والضابط: أنك إذا أضفت لمسمى اللفظ معنى آخر صار مقيدا بذلك المعنى الآخر، ومتى عمدت إلى مطلق فصلت أجزاؤه وعبرت عنها بلفظين صار مقيدا، فاعلم ذلك.
تنبيه:
اعلم أن الذي أختاره في الفرق بين هذه الحقائق أن:
العام هو: الموضوع لمعنى كلي بوصف تتبعه في محاله بحكمه، كما تقدم تحريره.
والمطلق هو: الموضوع لمعنى كلي هو كمال ذلك اللفظ المفرد.
فقولي: (الموضوع) ولم أقل: الدال؛ احترازا عن اللفظ الموضوع لمعنى كلي ولآخر بطريق الاشتراك نحو: القرء، القين، فإنه إذا قيل: اعتدي بقرء، كان ذلك مطلقا في أحد الجنسين، فتعتد بمطلق الطهر أو مطلق الحيض مع أنه غير دال، فلو اشترطت الدلالة، خرجت المطلقات المجملة التي لا دلالة فيها، فقلت:(الموضوع)، ليندرج المجمل والدال معا (فيكون الحد جامعا).
وقولي: (لمعنى كلي) احترازا من الأعلام نحو: زيد، فإنه في الاصطلاح ليس من المطلقات بل يخصون المطلقات بالمعاني الكلية، ولذلك لا يقولون: زيد الصالح مقيد، وإن كان (قيد زيد) على مسمى اللفظ قيد زائد، وإنما يقولون ذلك في الكلي إذا قيد نحو: رقبة/ مؤمنة، وهو يرد على الإمام في حده، بسبب أن لفظ زيد دال على حقيقة من حيث هي هي فيتناوله حده، مع أنه غير مطلق في الاصطلاح.
وقولي: هو كمال مسمى ذلك المفرد، احترازا من المعنى الكلي الذي دل عليه اللفظ المقيد، فإن قولنا: رقبة مؤمنة، مجموع هذا اللفظ دال على مجموع مركب من (الرقبة) و (الإيمان) وذلك المجموع معنى الكلي، مع أنه مقيد ليس بمطلق، فهذا الحد ينطبق على المطلق في الاصطلاح.
واسم العدد هو: الموضوع لمرتبة معينة من الكم المنفصل.
فقولي: (الموضوع) لمرتبة معينة احترازا من لفظ العدد الذي هو المعين والدال، فإن سماه القدر المشترك بين جميع الأعداد، بخلاف عشرة، وخمسة، ونحوهما من أسماء الأعداد، فإنها لمرتبة معينة لا تتعداها لما فوقها ولا لما تحتها، وهذا هو اسم العدد المقصود ها هنا، وأما لفظ:(عدد) فمن أسماء الأجناس لا من أسماء الأعداد؛ لأن أسماء الأعداد يريدون بها (أسماء مراتب) العدد، ولفظ العدد اسم لجنس تلك المراتب لا اسم لمرتبة معينة منها.
وقوليك من الكم (المنفصل: احترازا من الكم المتصل، وذلك أن
الكم) الذي يشتمل على المساحات فإنها مقادير معدودة، فإذا مسحنا الخشبة، وقلنا: هي عشرة أذرع (فإنا نتصور) منها رتبا ومقادير مضموما بعضها إلى بعض، غير أن تلك المقادير متصلة بعضها ببعض، فموضع الوصل بين المقادير هو حد مشترك بينها فهي كم متصل، وأما أفراد العشرة، فإنا لا نتصور أفراداً متصلة كاتصال مقادير الخشبة، بل نتصورها مقادير متباينة، فهي كم منفصل، فهذا هو اصطلاح أرباب هذا الشأن، يسمون العدد كما منفصلا والمساحة كما متصلا، فلذلك احترزت في اسم العدد عن الكم المتصل بقولي:(كم منفصل)، واشتقاق الكم المنفصل والكم المتصل (من قول العرب: كم مال ملكت؟ فـ (كم) في اللغة اسم للعدد والمقادير كانت استفهامية أو خبرية، فاشتق أرباب المعقول منها (الكم المنفصل) و (الكم المتصل)، وفي تشديد/ هذه الياء قولان هما لغتان فيها: إما للعرب إن كانت هذه الألفاظ نطق بها قديما، أو لأرباب المعقول، بأن لم تسمع إلا منهم فمن بعدهم.
والنكرة عندي: اسم جنس كلي مشترك فيه بين أشياء بلفظ ظاهر لا مبهم
فقولي: (كلي) احترازا من الأعلام، فإنها موضوعة لجزئية وهي معارف، فخرجت باشتراك الكل.
وقولي: (بلفظ ظاهر) احترازا من المضمرات، فإنها موضوعة لمعاني كلية، وليست نكرات، بل أعرف المعارف على الصحيح، فإن لفظ (أنا) موضوع لمفهوم المتكلم بها؛ إذ لو كان موضوعا لجزئي كما توهمه الجمهور (لما صدقت) على شخص آخر، فلما صدقت على ما لا يتناهى من المتكلمين من غير اشتراك في اللفظ دل على أنها موضوعة لقدر مشترك بينها، فهو مفهوم المتكلم بها، وكذلك لفظ (أنت) موضوع للمخاطب بها، وهو معنى كلي مشترك فيه بين جميع المخاطبين، ولفظ (هو) موضوع لمعنى الغائب، وهو قدر مشترك فيه بين الغائبين، وكذلك بقية المضمرات موضوعة لمعنى كلي بهذا التقرير، وفي هذا المقام مباحث وأسئلة وأجوبة من أرادها راجع شرح المحصول.
فلو اقتصرت على أن المسمى الكلي، لاندرجت المضمرات في حد النكرات، وهي معارف ليست نكرات فتعين إخراجها، فالتباين عندي واقع بين النكرة ومسماه كلي، فإن الكلي أعم من النكرة بدليل المضمرات، لا بين النكرات والمطلقات كما قاله تاج الدين فيما تقدم من كلامه.
وخرج بقولي: (معنى كلي) أيضا المعارف التي هي المعرفة باللام، فإنها
للعموم، فسماها كلية لا كلي، وقد تقدم الفرق بينهما، وخرج أيضا المضاف؛ لأنه للعموم كالمعرف باللام، ولم يبق من المعارف إلا أسماء الإشارة، وقد خرجت بقولي:(لا مبهم) فصار حد النكرة منطبقا عليها.
وأما المعرفة فهي: اللفظ الموضوع لمعنى جزئي أو كلي لا يتردد الذهن فيه، أو كلية، فالجزئي كالأعلام، والكلي كالأسماء المبهمة نحو: هذا، وذاك، وأولئك، فإنها موضوعة لمعنى كلي وهو مفهوم المشار إليه، لكنها لما لم تستعمل إلا مع الإشارة/ لم يقع التردد عند العقل في موارد ذلك المسمى، ولذلك سميت معارف، فخرجت النكرة بهذا القيد.
وقولي: (أو كلية) ليندرج المعرف باللام والإضافة، فإنهما موضوعان للعموم، فهي كلية والنكرات لكلي فافترقا، فصار هذا الحد منطبقا على المعرفة مع اختلاف أنواعها.
فإن قلت: المعرفة بلام العهد معرفة وليس للكلية، بل شخص معين والذي والتي يوصلان بصلة لا يتعدى شخصا معينا، وهي معارف وليست للكلية بل للكلي، وليس في حد ما يخرجها، وإذا قلنا: غلام زيد، أو مال زيد، فإنه معرفة وليس للكلية، فلم يندرج (في الحد).
قلت: أما لام العهد فمجاز عند الفقهاء وجميع المعممين بها، وهي حقيقة في العموم فقط، والحدود إنما تتناول الحقائق ولا ترد المجازات عليها
نقوضا، كما لا يرد الإنسان المصور في الحائط نقضا على حد الإنسان؛ لأنه مجاز.
فأما الذي والتي ونحوهما: فإنها موضوعان لكل من اتصف بتلك الصفة على وجه الشمول.
غاية ما في الباب: أن الواقع من المتصف فرد معين وكون الواقع كذلك لا يمنع أن الصيغة للعموم، فإن صيغة (المشركين) للعموم، وقد لا يكون الواقع منها إلا واحدا ولا يخل ذلك بالعموم، فالحكم الواقع غير الحكم الذي وقع به العموم، وسيتضح ذلك إن شاء الله تعالى في باب خصائص العموم في كون (من) الاستفهامية للعموم، في قولك: من في الدار؟ فيقال لك: زيد، فيكون جوابا مطابقا، مع أن (زيد) لا يطابق العموم، فكيف يجمع بين كونها للعموم مع مطابقة (زيد) في الجواب؟ وسيأتي الجواب عن هذا السؤال، إن شاء الله تعالى فيتضح به الجواب عن الموصولات.
أما (غلام زيد) و (مال زيد) فهو اسم جنس أضيف، فيعم - أيضا- على ما هو منصوص للأصوليين والواقع منه فرد، مع أن الصيغة أصل وضعها للعموم، وقد تقدم أنه لا مناقضة بين العموم وكون الواقع ليس عاما بل لا يقع شيء من العموم ألبتة، فقد يقال لك، من في الدار؟ فتقول: ليس في الدار أحد، وهو جواب مطابق إجماعا، فظهر اندفاع هذه الأسئلة وصحة الحد وهو/ المطلوب.
فائدة عظيمة
بقيت من هذا الباب وهي متعلقة به، من باب ما وضع للجزئي والكلي: وهي لفظ وضع لجزئي وذلك الجزئي بعينه هو كلي، وكون الشيء جزئيا كليا يقتضي اجتماع النقيضين، فإن الكلي هو: الذي لا يمنع تصوره من الشركة، والجزئي: هو الذي يمنع تصوره من الشركة، والمنع وعدمه نقيضان، فمن العجائب اجتماعهما في مسمى واحد.
(وبيان ذلك): أنه علم الجنس وكان الشيخ شمس الدين الخسر وشاهي لما ورد البلاد يدعي أن أحدا لا يعرف حقيقة علم الجنس إلا هو والظاهر صدقه، فإنني لم أر أحدا يحققه إلا هو.
ووجه الإشكال فيه- أيضا- مضافا لما تقدم: أن أسامة مثلا الذي هو علم جنس الأسد يصدق على كل أسد، واسم الجنس الذي هو أسد يصدق على كل أسد، فكيف يقال: إن أسدا اسم جنس وأسامة علم الجنس، مع استوائها في أن كل واحد منهما موضوع لمعنى كلي، وأن كل واحد منهما يصدق على ما لا نهاية له؟ !
فإن قلت: الفرق بينهما أن العرب صرفت لفظ (أسد) ولا صرفت لفظ أسامة، وليس المانع من الصرف إلا العملية والتأنيث، فدل ذلك على أن (أسامة) علم، فهذا هو الفرق.
قلت: المانع من الصرف من آثار العلمية، (فهب أنا استدللنا بالأثر على الأثر، لكن يمكننا أن نتصرف العلمية، والفرق بين ما هو مساء للفظ الأسد الذي هو نكرة، والمساوي للنكرة نكرة، فلا بد من تلخيص نظهر به الفرق بين اسم الجنس ولفظ علم الجنس بحيث يكون واضحا موافقا للقواعد.
ووجه التحرير في ذلك أن نقول: الوضع فرع التصور، فلا يضع الواضع لفظا لمعنى حتى يتصور ذلك المعنى قبل (ذلك) الوضع، فإذا استحضر صورة (الأسد)، - مثلا- ليضع لها، فتلك الصورة الحاصلة في ذهنه فرد مشخص من أفراد تصور (الأسد) ويدلك على ذلك أنه قد يذهل عن هذه الصورة، ثم يتصور الأسد مرة أخرى، فتكون هذه الصورة الثانية فردا آخر مثل الأولى، وكذلك دائما يتكرر على ذهنه/ صورة (الأسد) فردا بعد فرد، وكذلك يكون في ذهن غيره صورة (الأسد) في الزمن الذي يكون هو متصورا (للأسد)، فيكون الذي في ذهن الواضع والذي في ذهن غيره
صورتين متماثلتين، وهما فردان من أفراد تصور (الأسد)، فعلم أن الحاضر في ذهن الواضع حالة الوضع صورة مشخصة من أفراد تصور (الأسد)، وأنها مشتملة على (تصور) مطلق صورة (الأسد)؛ لضرورة اشتمال كل شخص من نوع على ذلك النوع، فهذه الصورة- حينئذ- لها خصوص وهو تشخصها وكونها هذه الصورة ولها عموم، وهو نوعها، وكونه مطلق الصورة إذا تصورت في هذه الصورة ولها عموم، وهو نوعها، وكونه مطلق الصورة إذا تصورت في هذه الصورة جهة عموم وجهة خصوص، فللواضع أن يضع (لها حينئذ) من جهة خصوصها، كما يضع لفظ (زيد) لشخص (زيد) في الخارج، له أن يضع لها من جهة عمومها، كما وضع لفظ (الإنسان) للقدر المشترك من (زيد) و (عمرو) فإن وضع لها من جهة عمومها، فذلك اللفظ الموضوع حينئذ هو اسم جنس نحو (أسد)، إن وضع لها من جهة كونها تلك الصورة الخاصة، ويضم الخصوص للعموم، فهذا اللفظ الموضوع حينئذ هو علم الجنس نحو (أسامة).
فيكون الفرق بين علم الجنس واسم الجنس: أن اسم الجنس: موضوع للقدر المشترك (بين الصور الذهنية، مع قطع النظر عن الخصوص، وعلم الجنس: هو موضوع للقدر المشترك) بقيد الخصوص الذهني الذي هو التشخيص في الذهن.