الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السبب السادس المفيد للعموم: الكائن في المركبات:
اعلم أن أهل العرف كما ينقلون الألفاظ المفردة كلفظ الدابة، والنجو والراوية، فكذلك ينقلون المركبات دون مفرداتها، فتكون المفردات في ذلك المركب لا نقل فيها، وذلك المركب من حيث هو مركب حصل فيه النقل، وهذا النوع قل أن يتفطن له في كتب الفقه، وتقع فروع مبنية عليه، ويقع التخريج لذلك الفروع بغيره، فيقع التخريج خطأ في كثير من الصور، وذلك أمثلة:
الأول: قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} وما ذكر مع الأمهات
…
الآية، مقتضى هذا اللفظ لغة أن يكون ذوات الأمهات حراما، فإن المفعول الذي ذكر في اللفظ فإنه دل العقل على أن الذوات غير مقدورة لنا، ودلت اللغات وعوائد الشرع أن التحريم وجميع الأحكام/ الشرعية لا تقع إلا في مقدور، فلا تكون ذوات الأمهات محرمة لهذه المقدمات، فيتعين
حينئذ أن يكون هنالك مضاف محذوف تقديره: حرمت عليكم استمتاعات أمهاتكم، هذا مقتضى اللغة، والقواعد المقدمة، ثم إنه كثر حذف هذا المضاف، وتطاول الاستعمال، وغلب حتى صار هذا المركب الموضوع لتحريم ذوات الأمهات لغة موضوعا لتحريم أنواع الاستمتاع في العرف، بحيث ستجد بعد هذا النقل التصريح بذلك المضاف، وصار كأنه كالزيادة المتكلفة المذكورة، ولو قلت: الأمهات وحده، لم يفد عموم تحريم أنواع الاستمتاع، أو حرمت وحده، لم يفد عموم تحريم الاستمتاع، بل المجموع هو المفيد لعموم تحريم أنواع الاستمتاع، بسبب النقل العرفي، ولذلك أنك لو لم تأت بصيغة العموم بل بلفظ مفرد دال على لفظ واحد يحصل العموم، فإذا قلت حرمت عليكم هذه المرأة بالرضاع لم يفهم أحد إلا تحريم جميع أنواع الاستمتاع بها بسبب النقل العرفي.
وكذلك إذا قلت: حرمت عليك هذه الميتة، لكان اللفظ- أيضا- موضوعا لتحريم المناع المتعلقة بها، المقصودة منها، ولم يحتج إلى تقدير مضاف بعد هذا النقل؛ لأنا إنما قدرناه لأن اللفظ لم يكن موضوعا له، بل لتحريم الذوات، فلما صار اللفظ موضوعا له عرفا استغنينا عن تقدير بسبب التصريح، ولو قلت حرمت عليكم الأفعال الخبيثة أو المشتملة على المفاسد لم يكن فيه نقل عرفي، بل ذلك بالوضع اللغوي من غير احتياج إلى تقدير مضاف ولا نقل؛ لأن هذا المواطن لم يحتج إلى حذف مضاف ولا تقديره، بل اللفظ في نفسه لا مجاز فيه ولا حذف كامل واف بالدلالة على هذا المعنى من غير احتياج إلى ضميمة، وإنما حصل النقل هنالك؛ لأنه كان محتاجا باعتبار الوضع اللغوي إلى مضاف محذوف، فتأمل ذلك.
الثاني/: قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} / فمقتضى اللغة، أن يكون المحرم هو هذه الأعيان، والقواعد المتقدمة تمنع من ذلك من جهة أنها غير مقدورة، بل الجميع محتاج إلى تقدير مضاف تقديره: أكل الميتة، وشرب الدم، وأكل لحم الخنزير، وإن أردت أن تقدر مضافا واحدا يشمل الجميع قلت: تناول الميتة والدم ولحم الخنزير، فالمتناول يشمل الجميع وحينئذ يصح إسناد التحريم لهذا المضاف، وإلا فالميتة ليست حراما إجماعا، والدم والخنزير ليسا بحرامين إجماعا، وإنما الحرام تناولهما، كذلك الخمر لا يحرم (تناولها) إجماعا، بل شربها وهو فعل يتعلق
بالمكلف غير عين الخمر وعين الميتة وما ذكر معهما، وهذا هو حظ البحث اللغوي مع ملاحظة القواعد الشرعية، بل كثر الاستعمال وتطاولت به الأيام إلى أن صار هذا المركب موضوعا لتحريم ذلك المضاف الذي كنا نقدره، بعد أن كان موضوعا لغة لتحريم المضاف إليه خاصة، فلما حصل النقل العرفي حصل في عموم المنافع المضافة لهذه الأعيان اللازمة لكل واحد منها، واستغنينا حينئذ غن تقدير المضاف؛ لأنا حينئذ ننطق باللفظ الصريح فيه، ومع التصريح بالمعنى لا يفيد؛ لأنه إنما يفيد لعدم ما يدل عليه.
المثال الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)، مع أن الدماء والأموال والأعراض لا يمكن أن يتعلق بها التحريم، فيتعين بمقتضى اللغة مضافات محذوفة تقديرها: ألا إن سفك دمائكم (وأكل أموالكم، وثلب أعراضكم، أو يقدر مضافا واحدا يعم الجميع تقديره.
تناول دمائكم) وأموالكم، وتناول كل شيء على حسبه، ويكفي هذا المضاف عن تلك وهو أخصر.
هذا هو البحث بحسب اللغة، ثم كثر الاستعمال في هذا الحذف حتى صار المركب موضوعا لتحريم التناول، لا لتحريم هذا المسميات، ومقتضى اللغة إنما هو تحريم هذه المسميات، ولما انتقل لتحريم هذه/ الانتفاعات أو التناولات المضافة إلى هذه الأعيان، وكل واحد من هذه الأعيان عام في نفسه؛ لأنه (اسم جمع) أضيف فيعم (نحو عبيدي) أحرار، والمنافع أيضا المضافة للعموم عامة ولو أنه في كل فرد فرد حصل العموم، فإن الموزع على العام عام، فتكون هذه الصيغ المركبات موضوعة في العرف للعموم وضعا عرفيا، (وهو المطلوب وكل واحد من مفردات هذه المركبات لم تفد هذه العموم، فالتحريم وحده لا يفيد، والدماء وحدها لا تفيده، فإذا ركبت التحريم مع هذه الصيغ كان المجموع المركب من هذين اللفظين هو الموضوع للعموم عرفا) بالنقل العرفي، ومثل هذا كثير في العرف، فيكفي الاقتصار على هذا القدر.
فإن قلت: ما ذكرته من النقل العرفي مشكل بقوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها، وباعوها،
وأكلوا أثمانها)، فإن مقتضى ما قدرته من القاعدة يكون اللفظ المركب من التحريم مع الشحوم موضوعا في العرف لما هو المتبادر منه، وهو الأكل، فإنه لا يفهم السامع من قول القائل حرم الله تعالى الشحم إلا تحريم أكله، كما أنه لا يفهم من تحريم الميتة إلا تحريم أكلها، دون سائر الأفعال، والقاعدة: أنه لا يلزم من تحريم أكل شيء تحريم بيعه؛ لأن الآدمي حرام الأكل (ويجوز بيع رقيقه، والخمر وبالبغال محرمة الأكل ويجوز بيعها إجماعا، والنبات الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود على تحريم البيع مع لفظ (التحريم، والتحريم) إنما يفهم منه تحريم الأكل خاصة ولا يلزمن منه تحريم البيع.
قلت: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن العين إذا كانت لها منفعة واحدة، وحرمت تلك المنفعة حرم بيع
تلك العين، فإن المعاوضة تعتمد وجود منفعة مقصودة، يصح تناولها شرعا، فإذا لم يبق في العين منفعة غير المحرمة، أو منفعة لا يقصد لها إلا نادرا- امتنع/ بيعها، ومنفعة الشحوم غالبا إنما هو الأكل، فإذا حرم الأكل حرم البيع؛ لانحصار المنفعة في المحرم أو ما هو نادر كطلاء السفن بالشحوم، فإنه (إنما) يقصد إليه أحيانا قليلة (في بقاع قليلة) وهو موارد السفن في البحار المالحة، فلذلك حسن لعن اليهود على البيع.
وثانيهما: أنا نستدل بالأثر على المؤثر، فنستدل بورود اللعن على البيع، أن الله تعالى لما حرم الشحوم على اليهود حرم عليهم مطلق الانتفاع بهما، فلما باعوا فقد خالفوا النهي فاستحقوا اللعن على البيع بعد هذا التحريم.
***