الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع عشر في إقامة الدليل على أن هذه الصيغ المتقدم ذكرها في البابين قبله للعموم
وهو مرتب على فصلين:
الفصل الأول: في إقامة الدليل على أصل العموم في اللغة، وحكاية المذاهب فيه، وشبه منكريه، والجواب عنها.
(و) الفصل الثاني: في بيان أن ما زدته وأوردته من الألفاظ في هذا الكتاب لاحقة بما ذكروه من الصيغ.
/الفصل الأول
اختلف الناس في العموم الذي هو الكلية، كما تقدم تحريرها، والفرق بينها وبين الكل، هل وضعت (العرب) له صيغة أم لا؟
فقال الفقهاء والمعتزلة: إن (كل)، و (جميع)، و (أي)، و (ما)، و (من) في المجازاة والاستفهام للعموم فقط من غير اشتراك.
وقال أكثر الواقفية: إنها مشتركة بين العموم والخصوص.
وقال أقل الواقفية: إنا متوقفون في أمر هذه الصيغ، لا ندري لأي شيء وضعت، وهو مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب، وهؤلاء توقفوا في الوضع والفريق الأول توقفوا، في الجمع لا في الوضع؛ لأنهم جزموا بالوضع على وجه الاشتراك، ولذلك سموا واقفية.
وكذلك الخلاف في (أين)، و (متى) في الاستفهام والنكرة في سياق النفي، والجمع المعرف باللام، والمفرد المعرف باللام، غير أن الإمام فخر الدين سلم العموم في الجمع، ومنعه في المفرد.
وخالف أبو هاشم من المعتزلة في الجمع المعرف فقال: ليس
للعموم، والخلاف المتقدم في الجمع المضاف نحو: عبيدي أحرار، واسم الجنس المضاف نحو: مالي صدقة، وفي ضمير الجمع إذا وجه المتكلم به جماعة نحو قول السيد لعبيده: قوموا، فإنه يشمل الجميع.
وقال الجبائي وحده: الجمع المنكر للعموم، وخالفه الباقون.
لنا على إفادة العموم وجوه:
الأول: أن هذه الصيغ إما أن تكون موضوعة للعموم فقط، أو للخصوص فقط، أو لهما على سبيل الاشتراك، أو لا لواحد منهما، والكل باطل.
أما الأول: وهو كونها للخصوص فقط؛ فلأنها لو كانت للخصوص فقط لما حسن من المجيب أن يذكر الكل، لأن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال، لكن الجواب بالكل حسن إجماعا فإذا قيل: من في الدار من أصحابك؟ فتقول: الكل.
وأما بطلان الاشتراك فإن هذه الصيغ لو كانت مشتركة لكانت مجملة، ولو كانت مجملة لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام، فإذا قال له: من عندك؟ فلابد أن يقول له: تسألني عن الرجال أو النساء؟ فإذا قال: عن الرجال، فلابد أن يقول: تسألني عن العرب أو العجم؟ فإذا قال: عن العرب، فيقول: عن ربيعة تسألني أو عن مضر؟ وهلم جرا، فإن أقسام الخصوص غير/ متناهية، والقائل بوضعها مشتركة بين العموم والخصوص لم يخص مرتبة من الخصوص، فيلزم الاشتراك في أمور غير متناهية في مراتب الخصوص، فيتعين السؤال عن تلك المسميات حينئذ على قاعدة الألفاظ المشتركة، فيلزمه استفهامات غير متناهية، لكن هذه الاستفهامات غير لازمة في عرف الاستعمال، فلا تكون هذه الصيغ مشتركة بين العموم والخصوص.
وأما أن هذه الصيغة غير موضوعة للعموم والخصوص: فمتفق عليه.
وإذا بطلت هذه الأقسام كلها إلا الأول، وهو أنها موضوعة للعموم فقط تعين.
فإن قيل: لم تجوز أن تكون موضوعة للخصوص؟ (والجواب بالكل يكون لأحل القرينة الدالة على إرادة الكل، ويجوز أن تكون مشتركة، والقرائن المعينة للمراد لا تنفك عنها، فكذلك ترك الاستفهام، سلمنا عروها عن القرائن، فلم لا يجوز أن تكون موضوعة للخصوص) والجواب بذكر الكل لا يقبح ويكون حسنا؛ لأنه مشتمل على الخصوص، وإذا حصل الجواب مقصود السؤال وزيادة
كان حسنا، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر هل يتوضأ منه؟ فقال عليه الصلاة والسلام:(هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، فذكر الجواب وزيادة، وهي الميتة، وكان ذلك حسنا في الإجابة.
سلمنا أنه لا يحسن الجواب مع الزيادة، فلم لا يجوز أن تكون مشتركة؟ ولا نزاع في حسن الاستفهام، الواحد والاثنين ونحوهما، وإنما المستقبح الاستفهامات الكثيرة، فليس استدلالكم بعدم الاستفهامات الكثيرة على عدم الاشتراك بأولى من استدلالنا بالاستفهام القليل على الاشتراك، وعليكم الترجيح.
سلمان أن ما ذكرتم يدل على قولكم، لكنه معارض بأن هذه الصيغ وهي (ما) و (من) مثلا لو كانت للعموم في الاستفهام لكان قول القائل: من في الدار؟ مثل قوله: أكل العقلاء في الدار؟ ولو كانت مثلها لحسن الجواب فيها بـ (نعم) أو (لا) كما (يحسن) في قولنا: أكل الرجال في الدار؟ لكن لا يحسن ذلك فلا تكون للعموم؛ لأن المثلين لا يختلفان في اللوازم.
قلنا: الجواب عن السؤال الأول: أنا نعلم بالضرورة من عادة العقلاء حسن الجواب بالكل وإن فقدت جميع القرائن، ثم القرينة إن كانت لفظا وجب أن تسمع، ونحن نجد حسن الجواب وإن لم نسمع/ إلا صيغة العموم، أو غير لفظ كالإشارة وتحريك الرأس ونحوه، وهذا كله لا يطلع عليه الأعمى، مع أنه يحسن جوابه قبل السؤال ويذكر الكل؛ ولأنه لو كتب إلى غيره:
من قدم عليك من إخوتك؟ حسن الجواب بذكر الكل، مع انتفاء القرائن الحالية والمقالية، لغيبة المتكلم.
وعن الثاني: أن أصل الاستفهام- وإن قل وانفرد- فإن أصله لطلب الفهم، فلذلك قيل له استفهام، ومع القول بالاشتراك مع عدم تعيين رتبة معينة منه تتعين الاستفهامات غير متناهية، وأما قوله: إن أصل الاستفهام حسن؛ فلأنا نقول: هو مرجوح؛ فلأنه أنما يأتي للتأكيد، ورفع الإجمال، أو الاحتمال البعيد، أو الغبطة بالمعنى، كقول القائل: دفع السلطان لك عشرة آلاف دينار. فتقول: عشرة؟ مستفهما، اغتباطا بها، مع أن اللفظ نص، والفهم فيه حاصل، أو كراهة في المعنى كما قيل (له): إن السلطان طلب منك ذلك، وإذا كان الاستفهام محتملا وجوها كثيرة، امتنع الاستدلال به على أحدها عينا، وهو الاشتراك.
والجواب عن الثالث: أن الزيادة في الجواب على خلاف الأصل، لعدم الداعي إليها من جهة السائل والسؤال، وإنما وردت الزيادة في الحديث النبوي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرع، يجب عليه التبليغ بذكر تلك الزيادة، واجب عليه سئل أم لا، فلذلك ذكرها بخلاف صورة النزاع، لم يتوجه طلب
إلا في المسئول عنه خاصة، فالزيادة حينئذ عبث، لا تحسن.
والجواب عن الرابع: أن الوضع للعموم قدر مشترك بين هذه الصيغ، ولها خصوصات في أنفسها، غير الوضع للعموم، ومن كونها استفهاما، أو شرطا، ولمن يعقل، ولما لا يعقل، وللزمان دون الأجسام كـ (متى)، وللأجسام دون الزمان كـ (ما) ونحوه، فهذه خصوصيات غير الوضع للعموم. وكذلك قولنا: أكل الرجال في الدار؟ سؤال عن تصديق، هل هو حق أم باطل؟ كأن قائلا قال: كل الرجال في الدار، جازما بذلك. فقال السائل/ أكل الرجال في الدار؟ كما تقول هذا في المخبر، وخبره صدق أم كذب، وليس الكل في الدار، فهو سؤال صدق، خبر وطلب للواقع في ذلك الصدق أو الكذب، أما قولنا: من في الدار؟ فهو طلب لتصور الحقيقة الكائنة في الدار هل وجدت أم لا؟ وإن وجدت فهل هي زيد أم عمرو أم غيرهما؟ وطلب التصور غير طلب التصديق، فالصيغتان وإن اشتركتا في الوضع للعموم، غير أن لكل واحد منهما خاصية لم تشركها الأخرى فيها، فهما مختلفتان بخصوصيتهما، والاشتراك واقع بينهما في الوضع للعموم، والمختلفات قد تشترك في اللوازم.
وأما الجواب بـ (نعم)، و (لا) و ((بلى)) فله قاعدة وهي: أن (نعم) للموافقة في النفي والإثبات، و (لا) لمخالفة الإيجاب، و (بلى) لمخالفة النفي، وذلك كله إنما يكون فيما هو تصديق لا تصور، فمن قال: قام زيد، وأردت موافقته قلت: نعم، وإن قال: ما قام زيد، وأردت موافقته قلت: نعم، وإن قال: قام زيد، وأردت مخالفته قلت: لا، وإن قال: ما قام زيد، وأردت مخالفته، قلت: بلى، ولذلك لما قال الله تعالى للملائكة:{ألست بربكم قالوا بلى} سألهم تعالى عن عدم الربوبية أحق هو؟ فقالوا: بلى، أي النفي، والذي دل عليه ليس في السؤال، ليس واقعا، بل الحق أنك رب حق، فلو قيل في جواب هذا السؤال: نعم لكان تقريرا للنفي، فيكون كفرا.
وكذلك الجواب في قوله: {أليس الله بكاف عبده} ، {ألم نشرح لك صدرك} ، {أليس الله بأحكم الحاكمين} ، {ألم يأتكم رسل منكم} ، جميع ذلك الجواب الصحيح فيه بـ (بلى)، بخلاف قوله تعالى:{هل أتى على الإنسان حين من الدهر} ، فيقال: نعم؛ لأن الحق الموافقة، دون المخالفة.
وعلى هذا المنوال يكون الجواب في جميع التصديقات بجعل (نعم) للتصديق، و (لا) لتكذيب الإيجاب، و (بلى) لتكذيب النفي، قال الشيخ ابن عصفور في المقرب:(قد ينوب المفرد عن الجملة في إعادتها، وحكايتها، ويفيد إفادتها) نحو: نعم وبلى، (فنعم) يكون (عادة) في جواب الاستفهام والأمر، ويكون تصديقا للخبر نحو قولك لمن قال: قام زيد، أو: ما قام زيد/ نعم، (يكون) تصديقا له على إثبات القيام لزيد أو نفيه عنه.
(وبلى) تكون جوابا للنفي خاصة (إلا) أن معناها أبدا إيجاب المنفي مقرونا، كان النفي بأداة الاستفهام أو (غير مقرون بها نحو قولك) في جواب من قال: ما قام زيد، (أو لم) يقم زيد، بلى، أي قد قام، ولو قلت: نعم، لكنت محققا للنفي، كأنك (قلت: نعم لم يقم).
وقد يقع (نعم) في جواب النفي المصاحب لأداة الاستفهام، والمراد إيجاب المنفي بالنظر إلى المعنى إذا أمن اللبس، لأن التقدير في المعنى إيجاب، ألا ترى أنك إذا قلت: ألم يقم زيد، فإنما تريد أن تثبت للمخاطب قيامه، ومن ذلك قول الشاعر:
أليس الليل يجمع أم عمرو
…
وإيانا فذاك بنا تداني
نعم وترى الهلال كما أراه
…
ويعلوها النهار كما علاني
فلما كانت بلى تنوب مناب بل، كان كذا ونعم تنوب مناب قولك: كان كذا، أو
لم يكن، عوملتا معاملة ما نابتا منابه، هذا نص كلامه، فقد تضافرت نصوص النحاة على أن (نعم) و (لا) و (بلى) غنما تدخل في التصديقات، لتحقيق الصدق أو نفيه، وأما التصورات فليست بأخبار، ولا صدق فيها ولا كذب، فلذلك لم تدخلها (نعم) و (لا) و (بلى)؛ لانتفاء موضعها، فصار قولنا: أكل رجل في الدار؟ ومن في الدار؟ قد اشترك القولان في العموم والاستفهام وغير ذلك من المعاني، وامتاز أحدهما بأنه تصديق، والآخر بأنه تصوري ولحق بهذه المميزات توابعها، فهذا هو الجواب، وهو الفرق بين الموطنين، وبطل قول السائل: إنها لو كانت للعموم لحسن فيها (نعم) و (لا)، وإنما يصح سؤاله أن لو ادعيناه المساواة بينها من كل وجه، ونحن إنما ادعينا المساواة بينهما في معنى العموم خاصة، وأنهما متباينان من وجوه كثيرة غير العموم، فتأمل هذا الموضع فهو حسن.
الوجه الثاني: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم، أن من قال لوكيله: من دخل داري فأكرمه، حسن من الوكيل الجري على موجب العموم/ ولولا أنها للعموم لما حسن منه ذلك؛ لأنه إفساد لمال الآمر بغير مقتضى له، وذلك موجب للذم، فلما حسن مدحه، وقبح ذمه، دل ذلك على أنها للعموم.
الوجه الثالث: في الدليل على أن هذه الصيغ للعموم، أن من قال: من دخل داري فأكرمه، حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء، العلم بحسن ذلك من عادة أهل اللغة ضروري، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه، وذلك (أنه) لا نزاع أن المستثنى من الجنس لابد وأن يصح دخوله تحت المستثنى منه، فإما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر، والأول باطل، وإلا لكان لا يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر كقوله: جاءني فقهاء إلا زيدا، (وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقوله: جاءني الفقهاء
إلا زيدا فرق، لصحة دخول زيد في الخطابين، لكن الفرق بينهما معلوم بالضرورة من عادة العرب، فعلمنا أن الاستثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ، وهو المطلوب.
فإن قيل: ينتقض دليلكم بأمور ثلاثة:
أحدها جموع القلة وهو ما (في) قول الشاعر:
بأفعل وأفعال وأفعلة
…
وفعلة يعرف الأدنى من العدد
نحو: أفلس، وأجمال، وأجربة، وصبية، وجموع السلامة، فإنها للقلة بنص سيبويه مع (صحة) استثناء كل واحد من أفراد ذلك الجنس.
وثانيهما: يصح أن يقال: صل إلا في اليوم الفلاني، ولو كان الاستثناء يقتضي إخراج ما لولاه لدخل، لكان الفعل مقتضيا للفعل في كل الأزمنة، فكان الأمر مفيدا للتكرار والفور، وأنتم لا تقولون بهما.
وثالثهما: أنه يصح أن يقال: اصحب جمعا من الفقهاء إلا فلانا، ومعلوم أن ذلك المستثنى لا يجب اندراجه تحت ذلك المنكر.
سلمنا سلامة دليلكم عن النقض، لكن لا نسلم أن قوله: من دخل داري أكرمه، يحسن منه استثناء كل واحد من العقلاء، فإنه لا يحسن منه استثناء الملائكة والجن/ واللصوص، ولا يحسن أن يقال إلا ملك الهند، وملك الصين، سلمنا حسن ذلك، لكن لم يدل على العموم.
وقوله: المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه، فإن استثناء الشيء من غير جنسه جائز، سلمناه، لكن لم قلت: إنه لابد من الوجوب؟ !
قوله: ويلزم انتفاء الفرق بين الاستثناء من الجمع المنكر والجمع المعرف، قلنا: نسلم أنه لابد من الفرق، ولكن لا نسلم أنه لا فرق إلا ما ذكرتموه.
سلمنا أن ما ذكرتموه (يدل) على الوجوب، لكن معنا ما يدل على الاقتصار على الصحة من وجهين:
الأول: أن الصحة أعم من الوجوب، فحمل اللفظ عليه حمل له على ما هو أكثر فائدة؛ لأن الأعم أكثر أفرادا من الأخص.
الثاني: أن القائل إذا قال: أكرم جمعا من العلماء، (أو) اقتل جمعا من الكفار، حسن منه أن يستثني كل واحد من العلماء والكفار، فيقول: إلا فلانا، وإلا فلانا ولو كان الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه، لوجب أن يكون اللفظ المنكر للاستغراق.
سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي أن تكون هذه الصيغة للعموم، لكنا نستدل على أنها ليست للعموم من وجه آخر، وهو أنها لو كانت للعموم لكان دخول الاستثناء عليها نقضا، فإنها وجدت حينئذ بدون العموم، ووجود الدليل بدون المدلول نقض عليه.
والجواب عن الأول: وهو النقض بجموع القلة، فلا نسلم أنه يصح استثناء أي عدد شئنا، فلا يقال: أكلت أرغفة إلا ألف رغيف، فإنها للعشرة فأقل، واستثناء أكثر من العشرة من اللفظ الموضوع للعشرة محال، واتفقنا على أنه لا يجوز استثناء أي عدد شئنا من صيغ الاستفهام والشرط ونحوها، وأنه يقال: من دخل داري فأكرمه إلا أهل البلدة الفلانية.
وعن الثاني: أنا نلتزم أن تكون صيغة الأمر للتكرار، فإنه قول مشهور.
وعن الثالث: أنه إذا صبت (أن) الاستثناء من الجمع المنكر يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله فيه، فلم قلتم بأنه في المعرف وبقية/ الصور؟ ! كذلك قوله: لا يحسن استثناء الملائكة وملك الهند ونحو ذلك.
قلنا: إنما لم يحسن استثناء هذه الصور؛ لأن مقصود الاستثناء حاصل بالقرينة، حتى لو كان الكلام عريا عن القرينة، بأن يكون حال المتكلم لا يمتنع عليه هذه الطوائف، يحصل الاستثناء، كما لو قال تعالى: (أطعم
كل من خلقت [إلا] الملائكة، صح الاستثناء، وانظر بعين الرحمة إلى جميع الخلق إلا الملوك المتكبرين.
قوله: لم قلتم بأن المستثنى يصح اندراجه؟
قلنا: انعقد عليه الإجماع في الاستثناء من الجنس، ولا ينتقض بغير الجنس؛ لأنا لم ندعه، ولأنه ينصرف في اللفظ، فلا يحتاج إلى صارف.
قوله: لم قلت: إنه لا فرق إلا ما ذكرت؟
قلنا: العالم حادث، فالأصل في كل جزء من أجزائه أن يبقى على العدم السابق وما عدا ما ذكرناه كان معدوما، فوجب بقاؤه على العدم.
قوله: الصحة أولى؛ لأنها أعم، فتكون أكثر فائدة.
قلنا: الوجوب أولى لوجهين:
الأول: أنه أخص، والأخص أكثر أجزاء، فيكون اللفظ أكثر فائدة، وهذه الفائدة في الأجزاء أرجح من الفائدة في الجزئيات، كأن الجزئيات عارضة للعام، أجنبية منه، والأجزاء داخلة في الأخص.
الثاني: أن اللفظ إذا كان موضوعا للأخص كان الأعم لازما له، فيكون التجوز إليه أرجح من المجاز عن الأعم للأخص، لعدم لزوم الأخص الأعم.
قوله: إذا قال اصحب جمعا من الفقهاء، يحسن استثناء كل واحد منهم.
قلنا: هب أن الاستثناء في المنكر للصحة فلم قلت: إنه في المعرفة كذلك، أو في (من) و (ما) ونحوهما؟
قوله: يلزم أن يكون الاستثناء على هذه الصيغ نقضا.
قلنا: النقض، ومخالفة اللفظ لدلالة الدليل عليه لا محذور فيه كسائر صور المجاز، والتأكيد والتخصيص على خلاف الدليل، ولكن لما دل الدليل عليها لم يقبح، ولم يمتنع، وها هنا كذلك، فإنه لما دل الدليل على ما ذكرناه من العموم، كان ذلك دليلا على حسن دخول الاستثناء وإن كان نقضا.
قاعدة:
الاستثناء في لغة العرب يقع على أربعة أقسا: فيما لولاه لوجب اندراجه وعلم، وفيما لولاه لظن اندراجه/ وفيما لولاه لجاز اندراجه من غير علم ولا ظن، وفيما لولاه لقطع بعدم اندراجه.
فالأول: كالاستثناء من النصوص كقوله: عندي عشرة إلا اثنين، يعلم اندراج الاثنين مع الثمانية في أفراده لولا الاستثناء.
(والثاني): كقوله تعالى مثلا: (اقتلوا المشركين إلا زيدا)، فزيد يظن اندراجه لولا الاستثناء؛ لأن دلالة العموم ظنية، بخلاف أسماء الأعداد، فإنها نصوص لا تقبل المجاز.
الثالث: أربعة أقسام:
القسم الأول: الاستثناء من المحال، كقوله: اعتق رقبة إلا الكفار، فإنه كان له تعيين المشترك وهو مطلق الرقبة في الكفار والمؤمنين، وفي كل شخص، وهذه كلها محال للقدر المشترك الذي هو مفهوم الرقبة، وكذلك: اصحب رجلا إلا زيدا وعمرا وخالدا وبكرا، فإنه كان له تعيين المشترك وهو مفهوم الرجل في أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منهم يصلح أن يكون محلا لمفهوم الرجل، فإن كل شخص هو محل لأعمه، فاستثناؤهم استثناء من المحال.
القسم الثاني: الاستثناء من المحال، كقوله: صل إلا في المزبلة، أو المجزرة، أو الحمام، ونحو ذلك، فإنه كان له أن يوقع فعله في كل بقعة من هذه البقاع، فاستثناؤها استثناء من المحال لا من نفس المدلول.
القسم الثالث: الاستثناء من الأزمنة كقوله: صل إلا عند الزوال، وبعد العصر، وعند طلوع الشمس، فالأزمان، والبقاع محال للأفعال، والأشخاص محال للأجسام، وكلها غير مدلول اللفظ.
القسم الرابع: الاستثناء من الأمور العامة، كقوله تعالى:{لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} فاستثنى حال الإحاطة من الأحوال، والأحوال ليست مدلولة اللفظ، بل هي أمر يعرض للمدلول.
ففي هذه الأقسام الأربعة المستثنى يجوز اندراجه من غير ظن ولا علم، مطلق الجواز فقط.
والرابع: الاستثناء من غير الجنس، فإنه يقطع بعدم دخوله، نحو قوله: رأيت القوم إلا ثوبا، فإن الثوب لا يجوز اندراجه في اللفظ ألبتة، وعلى هذه القاعدة يتعين ما هو واجب الاندراج، (وما/ هو غير واجب الاندراج)، وما هو يصح اندراجه فقط، ويمكنك الجمع بين هذه الأقوال كلها.
الوجه الرابع: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم: أن النقل قد تواتر عن العرب أنها تجمع بين هذه الصيغ وبين لفظ الاستثناء، وفهم عنها أيضا أن الاستثناء عبارة عما لولاه لوجب اندراج المستثنى تحت الحكم، دل على ذلك موارد الاستعمال، واستقراء الأحكام فيها، وفهم السامعين كذلك، فهاتان مقدمتاه نقليتان، وعندنا مقدمة عقلية وهي أن نقول: صيغ العموم يدخلها الاستثناء عملا بالمقدمة الأولى، والاستثناء عبارة عما لولاه لوجب اندراجه عملا بالمقدمة الثانية، وما من نوع من أنواع مدلول هذه الألفاظ إلا وهو يصح استثناؤه، وما استثني فيجب اندراجه، عملا بالمقدمة الثانية، فيجب اندراج جميع الأنواع والأشخاص في حكم هذه الصيغ، وهذا هو مرادنا بالعموم، فهذا هو دليل مركب من العقل والنقل.
الوجه الخامس: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم (لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال ابن الزبعري: (لأخصمن محمدا، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: أليس عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد المسيح؟ تمسك بعموم (ما) وهو عربي، وفهمه وقوله حجة في اللغة، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حتى نزل قوله
تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} ، وهذا أيضا يقتضي أنها للعموم، فإن هذه الآية الثانية جرت مجرى الاستثناء ولولا تقرير السؤال وحصول الاندراج لما احتيج إلى صرف اللفظ عمن سبقت له الحسنى.
وإذا تقرر أن صيغة (ما) للعموم، تقرر في الجميع لوجهين:
الأول: أنا نعلم بالضرورة حصول المساواة بين لفظ (ما) وبين بقية صيغ العموم في الفهم عند السماع.
الثاني: أنه لا قائل بالفرق، فكل من قال: إن (ما) للعموم، قال: إن/ بقية الصيغ للعموم، نحو:(من) وما يجري مجراها، ومن قال: إن غير (ما) ليس للعموم، أو مشتركة، قال: إن (ما) كذلك، فالقول بأن (ما) وحدها للعموم لم يقل به أحد، فوجب أن يكون باطلا.
فإن قلت: الصحيح عند النحاة أن (ما) لما لا يعقل، فيكون سؤال ابن الزبعري باطلا؛ لأن من ذكره من العقلاء.
قلت: الخطاب كان مع العرب، وكان منهم نصارى عبدة المسيح، ومنهم عبدة الملائكة، ولما كانت العرب لا كتابة لها، كانت كل فرقة منها تدين بدين من يجاورها، فمنهم يهود، ومنهم نصارى، ومنهم عبدة الكواكب،
إلى غير ذلك من الفرق الدهرية وغيرها، ولما قصد خطابهم على العموم فلابد أن يقصد لمعبوداتهم على العموم، وقد تقدم في سرد صيغ العموم في الموصولات أن العرب إذا قصدت التعبير عن الأمور العامة والأجناس العالية، أنها إنما تأتي بـ (ما) دون (من)، قال الله تعالى:{أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء} ، ولم يقل: من خلق الله، وتقول: كل ما خلق الله ممكن، إذا أردت العموم، ولا تقول: من وكل ما في العالم مفتقر لقدرة الله تعالى، مريدا للعموم، ولو قلت:(من) لم يحصل العموم، والسر في ذلك أن المفهوم العام لا يتناول الخاص ولا يستلزمه، فمفهوم الجنس لا يستلزم الحيوان، ومفهوم الحيوان لا يستلزم الإنسان، وكذلك كل معنى أعم لا يستلزم ما تحته، فإذا أشير إلى المخلوق من حيث هو مخلوق لم يكن هذا المفهوم مستلزما لمن يعقل، وكذلك إذا أشير إلى المعبود من حيث هو معبود؛ لأنه أعم من المعبود العاقل، فلم يستلزمه، وإذا لم يستلزمه لم يدخل مفهوم العاقل في العموم المراد من حيث هوهو، وإذا لم يدخل العاقل تعين
التعبير عنه بـ (ما) لا بـ (من)، ويندرج في ذلك العموم كل عاقل من حيث هو معبود أو مخلوق، لا من جهة أنه عاقل، وهو من جهة أنه مخلوق أو معبود لا يستحق لفظ (من)، بل لفظ (ما) خاصة، فلذلك عبر عن العموم في هذه الصور/ بلفظ (ما) مع اندراج العقلاء فيه، وهي قاعدة جليلة فتفطن لها، فقد تقدم تقريرها، وسيأتي مزيد بسطها، وتقدم أيضا أن هذه القاعدة تقتضي أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فإن العقل حالة تعرض لهذه العمومات، فلو أن العام في الأشخاص عام في الأحوال أيضا لكان قد يتناول اللفظ من يعقل وما لا يعقل، فيتعين تغليب من يعقل، والتعبير حينئذ يتعين بـ (من)، لا بـ (ما)، فلما كان التعبير بـ (ما)، دل ذلك على عدم العموم في الأحوال، وبهذه القاعدة أمكن الجمع بين نقل النحاة أن (ما) لما لا يعقل وبين صحة سؤال ابن الزبعري وتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وحصول اندراج الملائكة والمسيح من جهة عامة، لا تستحق تلك الجهة من حيث هي لفظ (من)، بل (ما)، وهذا جواب سديد لم يتفطن له كثير من الفضلاء، بل أجابوا عن الآية وصحة السؤال بأن (ما) يستعمل لمن يعقل، كقوله تعالى:{والسماء وما بناها} ، {ولا أنتم عابدون ما أعبد} ، وهذا جواب لا يثبت معه جادة نقل النحاة، بل يحصل التعارض فقط، وأما مع ملاحظة هذه القاعدة لا يحصل تعارض وتقسيم هذه الألفاظ كلها.
الوجه السادس: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم: أن القائل إذا قال: جاءني كل فقيه في البلد، أو من في البلد من الفقهاء، فمن يريد مناقضته في الجملة يقول (له): ما جاءك كل فقيه، أو ما جاءك من في البلد من الفقهاء، وهذا الأخير سلب جزئي اتفاقا وتقرر في قواعد المنطق أن السلب
الجزئي إنما يناقضه الإيجاب الكلي، ولما ثبت أنهما متناقضان، وثبت أن أحدهما سالبة جزئية، ثبت أن الأخرى موجبة كلية، إذ لا مناقضة بين السلب في البعض والثبوت في البعض، فتكون الصيغة للعموم، وهو المطلوب.
الوجه السابع: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم، أن القائل إذا قال: أكرمت من في الدار أو من دخل داري فله درهم أو ما في ملكي صدقة فالسابق إلى الفهم الاستغراق، وإذا كان كذلك في العرف وجب أن يكون في اللغة كذلك؛ /لأن الأصل عدم النقل والتعيين، لاسيما ومبادرة الذهن هي أصل كبير في اللغات، وهي الجارية في جميع الموارد.
فإن قلت: إنما يحصل الفهم في هذه المواطن بسبب القرينة المحتفة بهذه الصيغ في موارد الاستعمال، ولا يلزم من الفهم بمجموع اللفظ والقرينة أن يكون اللفظ وحده مفيدا للعموم.
قلت: نحن لو فرضنا أنفسنا خالية عن استحضار جميع القرائن لوجدنا أنفسنا تعتقد حصول العموم عند سماع هذه الصيغ، وأيضا لو وجدنا مكتوبا
في كتاب من قال (لك): ح، فقل له: ب، فإن ها هنا لا قرينة، ونحن نفهم العموم. ولو كتب واحد لعبده كتابا مشتملا على أمور كثيرة، وقال له: اعمل بما فيه، فهم منه العموم، مع عدم القرينة، بل لمجرد لفظ (ما)(فيه) الدالة على العموم، وأيضا الأعمى يفهم العموم من هذه الصيغ، مع عدم اطلاعه على القرينة المرئية، وأما المسموعة فإنا نفرض أن المتكلم لم يتكلم بغير صيغة العموم.
الوجه الثامن: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما سمع قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
…
وكل نعيم لا محالة زائل
قال له: كذبت، فإن نعيم أهل الجنة لا يزول، ولولا أن قوله أفاد
العموم لما توجه عليه التكذيب فاستعمل لبيد لفظ (كل) و (ما) في العموم، وفهم عنه العموم منها، وإذا ثبت ذلك في هاتين الصيغتين (ثبت في) بقيتها؛ لأنه لا قائل بالفرق في أكثرها.
الوجه التاسع: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم، أن القائل إذا قال: ما في ملكي صدقة أجمعنا على أنه يتناول جميع ما في ملكه من الجماد والنبات والحيوان، وإن اختلفنا: هل يلزمه التصدق بجميع ذلك أو بثلثه؟ والأصل في الاستعمال الحقيقة، فوجب أن يكون لفظ (ما) حقيقة في جميع ذلك، فتكون للعموم، وإذا ثبت أن هذا اللفظ للعموم/ ثبت أن بقية الصيغ للعموم؛ لأنه لا قائل بالفرق في أكثرها، أو لأن الكل في معناها.
الوجه العاشر: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم: أن النكرة إذا كانت في سياق النفي ولا تعم عند القائلين بصيغ العموم، وذلك في صور.
أحدها: إذا كانت في سلب الحكم عن العمومات نحو قولنا: ما كل أحد
يصحب، ومرادنا: أن بعض الناس لا يصلح للصحبة، فهي سالبة جزئية، لا سالبة كلية، والعموم هي السالبة الكلية، نحو: لا رجل في الدار، وكذلك قولنا: ليس كل عدد زوجا، أو بعضه ليس كذلك، فهو سلب في بعض أفراد العدد، لا في جميع أفراده، وكذلك: ليس كل حيوان إنسانا، ونظائره كثيرة جدا، وليس فيها إلا السلب عن البعض، واشتراك الجميع في أنه سلب للحكم عن العموم، ولا حكم بالسلب على العموم، وكأنا تخيلنا قائلا يقول: كل عدد زوج، وحكم بذلك على العموم، فقصدنا أن نسلب حكم الزوجية عن هذا العموم، بخلاف قولنا: لا شيء
من الخمسة بزوج، فإنا حاكمون بسلب الزوجية عن جميع أفراد الخمسة، فنحن حاكمون بالسلب على العموم.
وقولنا: (كل عدد) نكرة، لأن لفظ (كل) نكرة وقد أضيفت إلى النكرة، والمضاف إلي النكرة نكرة، فيكون اللفظ نكرة في سياق النفي، مع أنه لا عموم فيه، وقد تقدم في باب سرد صيغ العموم أن هذا من خصائص لفظ (كل) وأنه متى تقدمه النفي كان كلا، لا كلية، وأن الحكم بالسلب حينئذ إنما هو على المجموع من حيث هو مجموع، لا على كل فرد منه، بخلاف (ما) إذا كان السلب متأخرا عنه لا ينوي به التقديم نحو قول الشاعر:
قد أصبحت أم الخيار تدعي
…
على ذنبا كله لم أصنع
برفع (كل)، فإن المبتدأ له صدر الكلام، فلا ينوي تقديم النفي عليه بخلاف (ما) / لو نصب لكان مفعولا متقدما على عامله، والأصل في عامل المفعول أن يتقدم عليه. وهذا هو السر في عدول الشاعر عن النصب، مع أن الفعل مفرغ للعمل، مقدرا بمن أن ينصب، فيكون السلب إنما ورد على الكل من حيث هو كل، وذلك لا يمنع أنه صنع البعض، بل مفهومه يقتضي
أنه فعل البعض، وهو مناقض للبراءة المطلقة التي هي مقصودة، وقد تقدم بسط هذا هنالك.
ومما يستثنى من النكرة في سياق النفي: النكرة إذا كانت مرفوعة مع (لا)، نحو: لا رجل في الدار، بالرفع، فإنه جواب لمن قال: هل في الدار رجل واحد؟ فيقال له: لا رجل في الدار بل اثنان (فهو) سلب لوجود الرجل بوصف الوحدة، لا له من حيث هو هو، فهو سلب جزئي، لا كلي، مع أنه نكرة في سياق النفي، كذلك نص عليه النحاة، قال سيبويه وابن السيد البطليوسي في إصلاح الخلل في شرح الجمل، ونص عليه: أنه لا يعم، بخلاف إذا نصبت النكرة مع (لا)، نحو: لا رجل في الدار، فإنها تعم عند المعممة، وقال النحاة: هو جواب لمن قال: هل من رجل في الدار؟ فسأل عن مطلق مفهوم الرحل، فقلنا له: لا رجل في الدار، أي هذا المفهوم
ليس في الدار، فكانت سالبة كلية، وهذا هو العموم، قالوا: ولذلك ثبتت النكرة مع لا، لتضمنها معنى (من) التي هي في كلام السائل، بخلاف الأول إنما سأل عن الرجل بوصف الوحدة، لا عن مطلق الرجل.
القسم الثالث: الذي استثني عن النكرة في سياق النفي فلا تكون للعموم، النكرات الخاصة، قال الجرجاني في شرح الإيضاح: واعلم أنه يقع من الحروف ما هو عامل لفظا ومعنى نحو (من) في النفي، تقول: ما جاءني رجل، ولا يوجب ذلك استغراق الجنس حتى تقول: ما جاءني من رجل بل أكثر، فإذا دخلت (من) فقلت: ما جاءني من رجل، أفادت استغراق الجنس، حتى لا يجوز أن تقول: ما جاءني من رجل بل أكثر، فقد علمت في اللفظ، وغيرت المعنى إلا أنها لم/ تبطل معنى الفاعلية، ولا يخرج رجل عن كونه محتملا إسناد الفعل إليه.
هذا نصه، وهو تصريح بعدم العموم في قولنا: ما جاءني رجل، وكذلك نص عليه الزمخشري في مثل قوله تعالى:{وما لكم من إله غيره} أن العموم مستفاد من لفظ (من) ولو قال: ما لكم إله غيره، لم يحصل
العموم، وهي في هذا الضرب مفيدة للعموم، بخلاف قولنا: ما جاءني من أحد، هي مؤكدة للعموم، لا مفيدة له.
وكذلك قوله تعالى: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم} إنما حصل العموم بلفظ (من)، ولو قال: ما تأتيهم آية، لم يكن عاما، وهو أن ما مع ذلك كله نكرة في سياق النفي، واستقراء كلام النحاة يقتضي أن النكرات الخاصة لا يحصل بها عموم في النفي، وهذا النوع عدد كثير جدا، فيخرج من هذه الدعوى وهو قولنا: النكرة في سياق النفي (تعم، ما لا يحصى كثرة، مع أن أكثر الفضلاء يستدل بالنكرة في سياق النفي) كيف وجدت.
والذي يتحقق أن العموم إنما يحصل من النكرة في سياق النفي، إذا كانت النكرة من النكرات الموضوعة للأجناس العالية نحو: شيء واحد، أو يراد بها ذلك، وأن اشتقاق اللفظ يقتضي أخص من ذلك، وقد نص ابن السكيت
في إصلاح المنطق، والكراع في المنتخب في اللغة (على) هذه الصيغ العامة التي تقتضي العموم في النهي، فردوها نيفا وعشرين صيغة، وهي هذه، فقالوا: ما بها أحد، ولا وابر، ولا ضافر، ولا غريب، ولا كتيع، ولا دبي، ولا دبيج ولا نافخ ضرمة،
ولا ديار، ولا طوري، ولا دوري، ولا تومري، ولا لاعي قرو، ولا أرم، ولا داع، ولا مجيب، ولا معرب، ولا أنيس، ولا ناهق، ولا ناصح، ولا ثاغ، ولا راغ ولا دعوي، هذا نص ابن السكيت، (وزاد الكراع على ابن الكسيت): ما بها طوي، أي ما بها أحد يطوى، وما بها آبن، وما بها أريم تامورة أي وماء، ولا عاين، ولا عين، وما لي منه بد.
قلت: وينبغي أن يلحق بهذه الألفاظ/ ما في معناها نحو: شيء، وموجود، ومعلوم، وما هو في هذا العموم المشار إليه، وقد تقدم في الباب العاشر أن (أحدا)(الذي يستعمل في النفي) ليس ألفه منقلبة عن واو، بخلاف (أحد) الذي يستعمل في الثبوت نحو قوله تعالى:{قل هو الله أحد} ، وإن كانت الوحدة تشملهما في ظاهر الحال، وأن الاشتقاق واحدـ والواو في الوحدة أصل، فينبغي أن تكون ألف الجميع منقلبة عن واو، وهو إشكال من حيث الاشتقاق، وهنالك بسط السؤال والجواب عنه، وأن (أحدا) هذا المستعمل في النفي مباين لـ (أحد) المستعمل في الثبوت بالكلية، ولا يجوز استعمال (أحد) هذا في الثبوت ألبتة، وهنالك معرفة الفرق، وبما يتميز به أحدهما عن الآخر حتى لا يحصل الغلط في استعمال (أحد) في الثبوت، فليطالع من هنالك.
فائدة: في بيان اشتقاق هذه الألفاظ التي تقدم سردها، وبيان معناها، الوابر مثل: لابن وتامر: أي: صاحب وبر، كما أن لابن صاحب لبن، وصافر: اسم فاعل من الصفير، وعريب: فعيل بمعنى فاعل، أي معرب عما في نفسه، وكتيع: من التكتع الذي هو الاجتماع، ومنه تكتع الجلد إذا ألقيته
في النار واجتمع، ومنه قولهم في التأكيد: أجمعون أكتعون، أي: اجتمعوا في الفعل المشار إليه، فهو فعيل بمعنى فاعل، والدبيج: المتلون، والضرمة: النار توقد، وديار: منسوب إلى الدار كحطاب وملاح، وكل ذي حرفة ينسب بهذه الصيغة، والطوري: منسوب إلى الطور الذي هو الجبل، أي ما فيها من ينسب إلى الجبل، والتومري: منسوب إلى التامور وهو دم القلب، ولاعي قرو: وقال الجوهري: لاحس عس [من قدح]، والقرو
والعس: القدح، والآرم: الساكن أو الهالك، والثاغي: الشاة، والراغي: البعير، والداعي: من الدعوة للطعام، والأريم: مثل الآرم، وعاين: صاحب عين، والبد: الانفكاك.
ولك في هذه الألفاظ طريقان:
أحدهما: أن تقول: الموصوف محذوف في الجميع تقديره ما بها أحد وابر، ولا صافر، إلى آخرها، فيكون العموم جاء من الموصوف المحذوف العام، لا من الصفة/ الخاصة، فإن الخاص لا يعم.
وثانيهما: أنا لا نلتزم الحذف، بل المجاز، ونقول في الجميع: عبر بلفظ الخاص عن العام مجازا، فاللفظ مدلوله من حيث الوضع والاشتقاق خاص نحو: صافر، ولاعي قرو، ونحوهما، والمراد بهذه الألفاظ المفهوم العام وهو أحد الذي معناه إنسان.
فهذا تلخيص جميع هذه الألفاظ التي تقتضي العموم، وما عدا هذه الألفاظ فمقتضى هذه النقول ألا تكون للعموم، وهو كثير جدا، لا
يحصى عددها، فكيف الحيلة في ضبط هذه الدعوى مع هذه المخصصات التي دخلتها، وكلها نكرات في النفي؟ !
والذي رأيته أن أقول- ها هنا-: قال النحاة في النسب والتصغير: هو على قسمين: مسموع، ومقيس، فكذلك ها هنا النكرة في سياق النفي على قسمين: مقيس، ومسموع، فالمقيس النكرة المفردة المبنية مع (لا)، فهذا هو مطرداته للعموم نحو: لا رجل في الدار، ومطولا منصوبا نحو: لا سائق إبل لك: أو: لا ثالم عرض لك، فهذا قياس مطرد، والمسموع ما عدا ذلك، وهو هذه الكلمات المحفوظة المعدودة التي تقدم ذكرها عن ابن السكيت وغيره، إلا ما أشاروا إليه بالمعنى نحو: شيء، وموجود، ونحو ذلك من الأجناس العامة، ويعرض عن كل ما هو أخص منها، فتحرر الدعوى على هذه الصورة، ولا تعمم، وتطلق في موضع التفصيل ولاسيما مع هذا التخصيص العظيم الذي لا يليق مثله بكلام الفضلاء المحققين، لاسيما في تمهيد القواعد الكلية، مع أن إمام الحرمين في البرهان قال: إن سيبويه قال: (إذا قلت:
ما جاءني من رجل، فهو يؤكد العموم، يعني: لفظ (من) وإذا قلت: ما جاءني رجل، فاللفظ عام، وهذا خلاف نقل الجماعة، وكشفت عن ذلك في (كتاب) سيبويه، وسألت من هو عالم بالكتاب معرفة جيدة فقال: لا اعلم سيبويه قال هذا، وأنا أيضا ما وجدته في الكتاب.
سؤال صعب: وهو أنا إذا فرعنا على هذا التقدير الذي تقوله النحاة كابن السكيت/ وغيره: أن النكرات الخاصة لا تعم، لا يستقيم استدلال الفقهاء بقوله عليه الصلاة والسلام:(لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده)، على أن كل مسلم لا يقتص منه بالذمي، فإنها نكرة خاصة، فإن المسلم أخص
من رجل الذي نصرا على أن العموم لا يحصل فيه، ونظائره كثيرة في الكتاب والسنة، مما يستدل به الفقهاء والفضلاء، فيلزم تغليطهم في ذلك كله، ويلزم أيضا بطلان أدلة العموم كلها، فإنها جارية في هذه النكرات التي نصوا على أنها لا تعم، فإذا قلنا: ما جاءني رجل، يصح استثناء أي رجل عنينا، وتقرر طريقة الاستدلال بالاستثناء إلى آخرها، وكذلك طريقة المبادرة للفهم، فإنها لا تفهم إلا العموم، وطريقة مدح الجاري في هذه النكرات على موجب الأمر، وطريقة ذم من لم يجر عليه في هذه النكرات.
وهذه الطرائق الأربعة التي هي: ذم التارك، وترك الاعتراض على الفاعل، والسبق إلى الفهم، وصحة الاستثناء، هي معظم ما يستدل به الأصوليون على أن اللفظ للعموم، ويطرد معها بقية الوجوه التي تجرى مجراها.
وإذا وجدت أدلة العموم بدون العموم كان ذلك نقضا عليها، وانخرمت الثقة بها، وأي ضابط يعدل ذلك في مواضع صحتها دون سقمها، وأي موطن يصح الاستدلال بها فيه دون غيره، فيسقط الباب كله من أيدينا، وهو فساد عظيم، لاسيما وباب الخصوص والعموم من أعظم أبواب الشريعة، وأعظم أصولها فهذا سؤال صعب.
جوابه: الذي أرى في الجواب عن هذا السؤال، وطريق الجمع بين شتات هذه المنقولات، وضبط هذه الأدلة وهذه القاعدة، أن تجري هذه الأدلة الدالة على العموم مجرى النصوص الشرعية، والأدلة المنصوبة في الشرعية إذا أجمعنا على مخالفتها أو مخالفة قاعدة من القواعد كالغرر والجهالة، والمشقة، وغير ذلك من القواعد الشرعية، التي أجمعنا على أنها قاعدة شرعية معتبرة، ومع ذلك فينعقد الإجماع/ في كثير من الصور على مخالفة تلك النصوص وتلك القواعد، ويخصص بالإجماع، ولا يمنع ذلك من صحتها، والاعتماد عليها بل نقول: هي معتبرة فيما عدا صور الإجماع، كذلك هاهنا نقول: بصحة الأدلة الدالة على العموم إلا فيما أجمعنا على عدم اعتبار العموم فيه، أو على ورود نص أئمة اللغة بخلافها، وجعل
نصوص أئمة اللغة كنصوص صاحب الشريعة إذا وردت على مخالفة دليل أو قاعدة، فإنا نقدم النصوص المختصة على غيرها، وكذلك هاهنا نقدم نصوص أئمة اللغة في عدم العموم على هذه الأدلة والقواعد العامة، ونعتقد صحة تلك الأدلة فيما عدا صور النصوص كما قلنا في قواعد الشريعة وأدلتها حرفا بحرف، ويندفع الإشكال، ويستقيم الاستدلال.
وأما سبق فهمنا للعموم من تلك الصور فنعده من غلطنا، فإنا لسنا قوما عرباء، فالغلط في لسان العرب جائز علينا، والأصل عدم غلطنا فيما عدا صور النصوص الموجبة لتخصيص هذه الدعوى، ونلتزم بطلان الاستدلال بالنصوص التي نكراتها خاصة، فنقول: إن الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر) على العموم باطل، إن ادعي العموم من حيث الوضع اللغوي، وإن ادعي قرينة أنه لسبق في تقرير قاعدة، وتمهيد باب عظيم في الشريعة متعلق بالدماء، وأن مثل هذا لا يليق بحكمة صاحب الشريعة تركه ممجمجا متلبسا، فتعين حمله على العموم نفيا لهذا اللبس، فإنه إذا كانت الصيغة لم يرد بها العموم كان المراد بها الخصوص، وإلا كان الكلام لغوا، وذلك الخصوص غير معلوم ولا مبين من جهة صاحب الشرع،
فيحصل اللبس، فهذا إن سلك أو نحوه أمكن أن يصح الاستدلال بهذا الحديث، وإن قصد أنه عام لغة غلطنا قاصد ذلك بنصوص أئمة اللغة كما تقدم، وحينئذ ينتظم باب العموم، وينتظم الإشكال.
فائدة: اختلف الناس في النكرة في سياق النفي إذا عمت، هل عمت لنفي الاشتراك، فحصل النفي في الخصوصات بطريق اللزوم، أو العرب وضعت هذه الصيغ لانتفاء الحكم عن كل فرد فرد حتى تتحقق الكلية بطريق المطابقة؟ الأول: مذهب الحنفية، والثاني: مذهب غيرها، / وقد تقدم بسط ذلك سؤالا وجوابا وتقريرا في الباب العاشر، فليطالع من هناك.
إذا تلخص محل النزاع في النكرة في سياق النفي، فالذي يدل عليه أنها للعموم- خلافا لمنكري العموم مطلقا- وجهان:
أحدهما: أن الإنسان إذا قال: أكلت اليوم شيئا، فمن أراد مناقضته وتكذيبه يقول: ما أكلت اليوم شيئا، فذكرهم هذا النفي عند تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضا له، فلو كان قوله: ما أكلت اليوم شيئا، لا يقتضي العموم لما تناقضا؛ لأن الإثبات الجزئي لا يناقض النفي الجزئي، مثاله في كتاب الله تعالى أن اليهود لما قالت:{ما أنزل الله على بشر من شيء} ، قال الله تعالى في الرد عليهم: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به
موسى}، وإنما أورد الله تعالى هذا الكلام نقضا عليهم، وهو إثبات جزئي، فدل ذلك على أن كلامهم سلب كلي، وهو العموم المطلوب، وإذا صبت ذلك في النكرة في النفي، وجب ثبوت العموم في بقية الصور المتفق على عدم الفرق بينها، وإلا لزم الفرق المنفي بالإجماع.
الثاني: أنه لو لم تكن النكرة في سياق النفي للعموم لما كان قولنا (إلا الله) يفيد العموم في نفي جميع الآلهة سوى الله تعالى، وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة وهي النكرة في سياق النفي، ثبت في جميع الصور، كما تقدم.
احتج منكرو العموم بوجوه:
الأول: أن العلم بكون هذه الصيغ للعموم إما أن يكون ضروريا، وهو باطل، وإلا لوجب اشتراك العقلاء فيه، أو نظريا، وحينئذ لابد من دليل، والدليل إما أن يكون عقليا، وهو محال؛ لأنه لا مجال للعقل في اللغات، أو نقليا، وهو إما أن يكون متواترا، أو آحادا، والمتواتر باطل، وإلا لعرفه الكل، والآحاد باطل؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، والمسألة علمية.
الثاني: أن هذه الألفاظ مستعملة في الاستغراق تارة، وفي الخصوص أخرى، وذلك يدل على الاشتراك، بيان المقدمة الأولى:
أن العاقل إذا قال: / من دخل داري أكرمته، فإنه قلما يريد به العموم، (وإذا قال: لقيت) العلماء فقد يريد به العموم تارة والخصوص أخرى.
بيان المقدمة الثانية من وجهين:
الأول: أن الظاهر من استعمال اللفظ في شيء: كونه حقيقة فيه، إلا أن يدل دليل على المجاز؛ لأنا لو لم نجعل هذا طريقا لكون اللفظ حقيقة في المسمى لتعذر علينا أن نحكم بكون لفظ ما حقيقة في معنى (ما)، إذ لا طريق لكون اللفظ حقيقة سوى ذلك.
الثاني: وهو أن الألفاظ لو لم تكن حقيقة في الاستغراق والخصوص لكان مجازا في أحدهما، واللفظ لا يستعمل مجازا إلا مع القرينة، والأصل عدم القرينة، وأيضا فتلك القرينة إما أن تعرف ضرورة أو نظرا، والأول باطل، وإلا لامتنع وقوع الخلاف فيه والثاني باطل؛ لأنا لما نظرنا في أدلة المثبتين لهذه القرينة لم نجد فيها ما يمكن التعويل عليه.
الثالث: أن هذه الألفاظ لو كانت موضوعة للاستغراق لما حسن أن يستفهم المتكلم فيها؛ لأن الاستفهام طلب الفهم، وطلب الفهم عند حصول المقتضى للفهم عبث، لكن من المعلوم أن من قال: ضربت كل من في الدار، يحسن أن يقال: أضربتهم بالكلية، وأن يقال: أضربت صديقك فيهم؟
الرابع: لو كانت هذه الصيغ موضوعة للعموم لكان تأكيدها عبثا؛ لأنه يفيد عين الفائدة الحاصلة بالمؤكدة، فهو تحصيل للحاصل.
الخامس: لو كانت هذه الصيغ للعموم لكان دخول الاستثناء عليها نقضا، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن المتكلم قد دل على الاستغراق أول كلامه، ثم بالاستثناء رجع عن الدلالة على الكل إلى البعض، فكان نقضا، وجاريا مجرى ما يقال: ضربت كل فرد في الدار، لم أضرب كل من في الدار.
الثاني: أن هذه الصيغ لو كانت موضوعة للعموم لجرت لفظة العموم مع الاستثناء مجرى تعديد الأشخاص، واستثناء الواحد- بعد ذلك في القبح- كما إذا قال: ضربت زيدا ضربت عمرا ضربت خالدا، ثم يقول: إلا زيدا/ ولما لم يكن كذلك، دل حسن الاستثناء على أن جنس هذه الصيغ ليست للاستغراق.
السادس: أن صيغة (من) و (ما) و (أي) في المجازاة يصح إدخال لفظ (الكل) عليها تارة، و (البعض) أخرى، فتقول: كل من دخل داري فأكرمه، بعض من دخل داري فأكرمه، ولو دلت (هذه) الصيغة على الاستغراق لكان إدخال الكل عليها تكريرا وإدخال البعض نقضا.
السابع: لو كانت لفظة (من) للاستغراق لامتنع جمعها؛ لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده الواحد. ومعلوم أنه ليس بعد الاستغراق كثرة فيفيدها الجمع، لكن يصح جمعه كقول الشاعر:
أتوا ناري فقلت منون أنتم
…
فقالوا الجن، قلت عموا ظلاما
الثامن: احتج أبو هاشم على أن الجمع المعرف باللام ليس للعموم، بأنه لو كان للعموم لزم إذا استعملت في اللام في العهد، إما المجاز أو الاشتراك، وهما على خلاف الأصل، فوجب ألا يفيد الاستغراق.
التاسع: لأبي هاشم أيضا، لو كان الجمع المعرف بلام الجنس للعموم، لكان قولنا: رأيت كل الناس أو بعض الناس خطأ؛ لأن الأول تكرير، والثاني نقض.
العاشر: له أيضا، قال: يقال جمع الأمير الصاغة، مع أنه ما جمع الكل، والأصل في الكلام الحقيقة، فهذه الألفاظ حقيقة فيما دون الاستغراق.
الحادي عشر: للإمام فخر الدين في المفرد المعرف باللام، فقال: إنه لا يفيد العموم، خلافا للجبائي والفقهاء والمبرد؛ لأن القائل إذا قال: لبست الثوب، وشربت الماء، لم يفهم العموم، والأصل في الكلام الحقيقة.
الثاني عشر: قال: إنه لا يؤكد بما يؤكد به الجموع، ولا ينعت، فلا يقال: جاءني الرجل كلهم، ولا الفقيه الفضلاء، وأما ما يروى من قولهم: أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر، فمجاز لعدم اطراده، ولو كان الدينار الصفر حقيقة، لكان الأصفر خطأ أو مجازا.
/الثالث عشر: له، قال: البيع جزء من مفهوم هذا البيع، فإحلال هذا البيع يتضمن إحلال البيع، فلو كان لفظ البيع للعموم، لزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع، وهو باطل.
الجواب عن الأول: لا نسلم أنه غير معلوم بالضرورة، فإنا بعد استقراء اللغات نعلم بالضرورة أن صيغة (كل) و (جميع) و (من) و (ما) و (أي) في
الاستفهام والمجازاة للعموم.
سلمناه: فلم لا يجوز أن يعرف بعد ذلك بالنقل المتواتر.
قوله: يلزم أن يعرفه الكل. قلنا: ذلك ممنوع؛ لأن التواتر بيس من شرطه أن يعم، فقد يتواتر أمر في الجامع من سقوط المؤذن عن المنارة، ولا يعلم ذلك في أطراف البلد، فضلا عن بلد آخر، وإذا لم يكن من شرط التواتر أن يشمل الناس جازت المخالفة معه من جهة من لم يبلغه التواتر.
والحق أن مسائل أصول الفقه معلومة- كما قال التبريزي- بالاستقراء التام من اللغات، فمن استقرأ أشعار العرب وخطبها ومحاوراتها ومواقع لغاتها علم أن صيغة العموم، وأن الأمر للوجوب، وغير ذلك من مسائل أصول الفقه.
ولما تعذر وضع ذلك المستقرأ في كتاب، اقتصر العلماء على أخبار آحاد، وظواهر عمومات، هي بعض ذلك الاستقراء تنبيها عليه، ومرادهم ذلك