الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النازلة الثلاثون: بنوك الحليب
تمهيد: بنوك الحلِيب فكرة مُسْتَحْدَثَة لم تكن معهودة من قبل، ثم أصبحت من قضايا العصر، وقد عقدت لأجلها عدَّة ندوات، فما هي فكرة بنوك الحليب، وما مدى مشروعيتها؟
أولًا: نشأتها والتعريف بها:
نشأت بنوك الحلِيب منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا في دول أوربا وأمريكا، وتتلخص الفكرة: في جمع اللَّبن من أمهات متبرعات، أو بأجر، ويؤخذ هذا اللَّبن بطريقة معقَّمة، ويحفظ في قوارير معقَّمة بعد تعقيمه مرَّة أخرى في بنوك الحلِيب.
فالبنك إذًا يقوم بجمع لبن الأمَّهات عن طريق التَّبَرُّع، أو البيع ثم تبريده، وحفظه في ثلاجات لمدَّة تصل إلى ثلاثة أشهر، أو تجفيفه، وإعطائه للأطفال المحتاجين للرَّضاعَة الطَّبيعيَّة.
ثانيًا: الحكم الشرعي لهذه النازلة:
لما كانت هذه المسألة من المسائل الحديثة، فقد اختلفت فيها أنظار أهل العلم فمنهم من أجازها بلا قيد ومنهم من أجازها بقيود منها:
1 -
أن تكون الأم صاحبة اللَّبن سليمة البدن ذات عقل راجح؛ لأن للرضاع تأثيرًا في نمو عقل الأطفال، فالمرضعة السكرى، أو المجنونة، أو الَّتي تتغذى على لحوم الخنازير، أو الَّتي تتناول المخدرات، وما إلى ذلك يجب اجتناب لبنها.
2 -
يجب التأكد بواسطة العلماء المختصِّين من احتواء اللَّبن على كل عناصر الغذاء المطلوبة لنمو الطِّفل وإلا لا فائدة من استعماله.
3 -
ألَّا يؤخذ من لبَن الأم المتبرعة أو المستأجرة أكثر من مرَّتين، حتَّى لا يكون في ذلك إضرار بالطِّفل صاحب اللبن، أما إذا فطمت الأم ولدها أو توفي أو أصيب بمرض منعه الرَّضاع، فلا حرج على الأم عندئذ أن تهب أو تبيع لبنها.
4 -
تدوين أسماء الأمهات المتبرعات، أو عمل سجل خاص بكل أم إن أمكن ذلك؛ لتتأكد الجهة المختصة من خلاله استيفاء جميع الضوابط المذكورة سابقًا، وحبذا استعمال أجهزة الحاسوب في ذلك.
5 -
تقوم الجهة المختصة بتقسيم اللَّبن إلى نوعين:
الأول: اللَّبن الطازج: وهو نوعان:
أ- نوع خاص: وذلك بجمع لبن كل أم في قارورة خاصة مع كتابة اسمها، وبياناتها عليها، أو تدوين ذلك في شهادة ميلاد الطِّفل بحيث يمكنه التحري -فيما بعد- من الوقوع في حرمة الزَّواج من أخواته من الرَّضاع وفي هذا النوع -إذا تم- لا تكون بحاجة إلى بيان حكم التحليل، أو التَّحريم ألبتة.
ب- الثَّاني نوع عام: وذلك بجمع لبن الأمهات مختلطًا عند تعذر الكتابة والتدوين، واستعماله حال الضرورة فيما لو كان اللَّبن الصناعي غير كاف، أو ملوثًا بمواد سامة، أو غير مناسب لتغذية هؤلاء الأطفال، أو عقب الكوارث الَّتي يقدرها الله سبحانه وتعالى على بعض الأقطار الإسلاميَّة كالزلازل الشديدة الَّتي تحول دون وصول المساعدات العاجلة، أو الحروب الَّتي تمنع وصول الألبان الصِّناعيَّة
…
إلخ.
الثَّاني: اللَّبن المجفف:
وهو ما يمكن الاحتفاظ به لفترات طويلة بعد معالجته، والاحتفاظ به في صورة (بودرة) تخلط بالماء عند الاستعمال، أو يخلط بالطعام أو الدواء، فيأخذ حكم اللَّبن
المشروب ويستعمل ضرورة للأطفال الخدج، أو الطبيعيين مع مراعاة الضوابط المذكورة سابقًا.
والذي نراه بعد النظر في الأقوال وأدلتها أن الصواب هو التحريم، فلا يجوز إنشاء هذه البنوك وذلك لعدة أوجه:
الأول: بإنشاء مثل هذه البنوك تعم الفوضى، فقد يتزوج الرجل امرأة يكون قد ارتضع منها أو من لبن ابنتها أو من لبن أمها وهذه مفسدة عظيمة تفضي إلى اختلاط الأنساب، فتمنع سدًّا للذريعة، وقد تقرر في القواعد أن سد الذريعة من أصول هذه الشريعة.
الثاني: أن حفظ النسل من الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بها، فأي سببٍ يفضي إلى ضياع النسل واختلاطه، فإنه لا بد أن يمنع محافظة على هذه الضرورة، وهذا اللبن في البنوك المسماة لا يعرف لبن أي امرأة ولا ندري من الطفل الذي سيرتضع منه، وحفظ النسل واجب والتسبب في اختلاطه وإضاعته محرم، وقد تقرر في القواعد أن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجب وفعله محرم.
الثالث: أن القول بجواز إنشاء هذه البنوك فيه إقدام على مفاسد متحققة من أجل مراعاة مفاسد متوهمة، فإن ارتضاع الطفل يمكن باستئجار مرضعة إن لم تكن أمه موجودة، أو عن طريق الحليب الصناعي فإنه يسد الغرض مع أنه لا يقوم مقام لبن الأم، وبناءً عليه فإنشاء هذه البنوك لا ضرورة تدعو له ولا حاجة لها أصلًا فالإقدام عليها إقدام على مفاسد متحققة من أجل دفع مفاسد متوهمة، والمتقرر في القواعد أنه لا يجوز الإقدام على المفاسد المتحققة من أجل دفع المفاسد المتوهمة وهذا واضح.
الرابع: أن الفائدة من إنشاء هذه البنوك إغاثة الأطفال ونفعهم بحليب النساء فإنه لا يقوم مقامه شيء في فائدته وله عوائده الطيبة في الحال والمآل، وهذا من باب
تحقيق المصلحة، فالقول بإنشائها فيه تحقيق مصلحة، والقول بإلغائها وسد أبوابها فيه دفع لمفسدة عظيمة وهي اختلاط النسل وضياع الأمور وفساد المجتمع، فالقول بجوازها فيه تحقيق مصلحة، والقول بعدمها فيه درء للمفسدة، وقد تقرر في القواعد أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (1).
وقد صدر من مجمع الفقه الإسلامي (2) قرار بحرمة بنوك الحليب ومما جاء فيه ما نصه:
1 -
أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية، ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها فانكمشت وقل الاهتمام بها.
2 -
أن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب، يحرم به ما يحرم من النسب بإجماع المسلمين، ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة.
3 -
أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج -إلقاء المرأة ولدها قبل أوانه لغير تمام الأيام، وإن كان تام الخلق- أو ناقص الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب. وبناء على ذلك قرر:
أولًا: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي.
الثاني: حرمة الرضاع منها.
(1) انظر كتاب: بنوك الحلِيب في ضوء الشريعة الإسلامية، دراسة فقهية مقارنة، د. عبد التواب مصطفى خالد معوض.
(2)
مجلة المجمع (ع 2، ج 1/ 383) قرار رقم 6 (6/ 2).