الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النازلة الثانية والعشرون: التحكم في جنس الجنين
أولًا: توصيف هذه النازلة طبيًّا:
لقد شغلت هذه النازلة العالم قديمًا وحديثًا، وتوصيف هذه النازلة طبيًا أن علماءَ الطبِّ قد توصلوا إلى سببِ حصول الأنوثة والذكورة في جنينِ الإنسان، وتوصيفُه أن بويضةَ المرأةِ تحملُ صبغة (x) وماءُ الرجلِ يحملُ صبغتين (x) و (y) فإذا لُقحت بويضةُ المرأةِ بحيوان منوي (x) خُلق المولودُ أنثى، وإذا لقحت بحيوان منوي (y) خُلق المولودُ ذكرا.
وبعد أن توصلوا إلى هذا السببِ وعرفوه انتقلوا إلى مرحلة ثانية، وهي دعوى قدرتُهم على اختيارِ جنس الجنين، وذلك عن طريقِ التخصيب الداخلي أو الخارجي بإحدى صبغتي الرجل (x) و (y)، فمن يرغبُ في ذكر يُخصب له بالصبغة (y)، ومن يرغبُ في أنثى يُخصب له بالصبغةِ (x)، وقالوا إن نسبةَ نجاحِ التخصيبِ والعلوقِ (25 %) فإذا تم التخصيبُ والعلوقُ كانت نسبةُ النجاحِ (99 %)، وقالوا إن هذا لا ينافي الإرادةَ الإلهيةَ، بل هو من جملةِ الأسبابِ.
ثانيًا: الحكم الشرعي في تحديد جنس المولود:
نقول اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على قولين:
الأول: أنه يجوز التدخل الطبي لاختيار أحد الجنسين، وهو أمر لا يخالف الشرع وما هو إلا اكتشاف لسنة من سنن الله الكونية، وهو من الأسباب التي خلقها الله وقدرها، ولا يكون تأثيرها إلا بإذن الله، وأن الأصل في اختيار جنس الجنين هو الإباحة، ومن الأدلة الشرعية على جواز تحديد جنس المولود ما يلي:
الدليل الأول: أن الأصل في الأشياء الإباحة والحل حتى يقوم دليل المنع والحظر؛
في قول جمهور أهل العلم؛ وليس لدى من قال بمنع العمل على تحديد جنس الجنين دليل يستند إليه، فيبقى الأصل محفوظًا مستصحبًا.
الدليل الثاني: أن طلب جنس معين في الولد لا محظور فيه شرعًا، فالله تعالى قد أقرَّ بعض أنبيائه الذين سألوه في دعائهم أن يهب لهم ذكورًا من الولد. فهذا نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام سأل الله تعالى أن يرزقه ولدًا ذكرًا صالحًا، فأجابه الله تعالى، وكذلك نبي الله زكريا عليه الصلاة والسلام دعا ربه أن يهبه غلامًا زكيًا، فأجابه الله تعالى ولو كان هذا الدعاء سؤالًا لمحرم لكان محرمًا ولمنعه الله تعالى ولما أقرَّه، فإن الدعاء بالمحرم محرم. فلما جاز الدعاء بطلب جنس معين في الولد، وهو سبب من الأسباب التي تُدرك بها المطالب، دل ذلك على أن الأصل جواز العمل على تحديد جنس الجنين بالأسباب المباحة؛ لأن ما جاز سؤاله وطلبه جاز بذل السبب لتحصيله.
الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن السبب الطبيعي الذي يُوجِب الإذكار أو الإيناث بإذن الله كما في صحيح الإمام مسلم من حديث ثوبان أن يهوديًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الولد. قَال صلى الله عليه وسلم: "مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ المَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنيُّ الرَّجُلِ مَنيَّ المَرْأَةِ أَذْكرَا بِإِذْنِ الله، وَإِذَا عَلَا مَنيُّ المَرْأَةِ مَنيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ الله". قَالَ اليَهُودِىُّ: لَقَدْ صَدَقْتَ وإنَّكَ لَنَبِيٌّ ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ سَأَلَني هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَني عَنْهُ وَمَا لِي عِلمٌ بِشَيءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِىَ اللهُ بِهِ"(1). وهذا يفيد أن الإذكار والإيناث في الجنين أمرٌ يستند إلى سبب طبيعي معلوم. وليس في الحديث ما يشعر بأنه مما استأثر الله به، بل هو كسائر الأسباب الطبيعية التي متى قدر الخلق على إيجادها، فقد أدركوا المقدمة التي يمكن أن يصلوا بها إلى النتيجة.
(1) رواه مسلم، كتاب الحيض، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة وأن الولد مخلوق من مائهما (473).
الدليل الرابع: قياس السعي في تحديد جنس الجنين على معالجة العقم الذي يمكن معالجته، فإنه لا خلاف بين أهل العلم في جواز السعي في معالجة العقم مع كونه سعيًا في إيجاد الحمل وأخذًا لأسباب حصوله، بل جواز أخذ أسباب تحديد جنس الجنين من باب أولى؛ لأنه عمل بالأسباب الممكنة لإدراك صفة في الجنين، وهو أسهل من أخذ أسباب الإيجاد والتكوين.
الدليل الخامس: قياس السعي في تحديد جنس الجنين على جواز العزل.
وقالوا بأن القول بجواز التدخل الطبي لاختيار أحد الجنسين إذا كان ذلك بالضوابط التالية:
الأول: أن لا يكون ذلك سياسة عامة للدولة ولكن يكون أمرًا فرديًّا؛ حتى لا يؤدي ذلك إلى الخلل في التوازن بين الإناث والذكور.
الثاني: أن يكون ذلك للحاجة كأن يكون الشخص قد أنجب مجموعة من أحد الجنسين دون الجنس الآخر أو بسبب مرض وراثي، أما من غير حاجة فلا يجوز، فمن فعل ذلك ابتداء من أول زواجه أو مع إنجابه لكلا الجنسين فلا يجوز.
الثالث: اتخاذ الضمانات اللازمة والتدابير الصارمة لمنع أي احتمال لاختلاط المياه المفضي إلى اختلاط الأنساب.
الرابع: التأكيد على حفظ العورات وصيانتها من الهتك، وذلك من خلال قصر الكشف على موضع الحاجة قدرًا وزمانًا، وأن يكون من الموافق في الجنس درءًا للفتنة ومنعًا لأسبابها.
الخامس: المراقبة الدائمة من الجهات ذات العلاقة لنسب المواليد وملاحظة الاختلال في النسب واتخاذ الإجراءات المناسبة من القوانين والتنظيمات لمنعه وتوقيه.
السادس: أن يكون تحديد جنس الجنين بتراضي الوالدين: الأب والأم؛ لأن لكل واحد منهما حقًّا في الولد فإن اختلفا، فالأصل بقاء الأمر على حاله دون تدخل في التحديد درءًا لمفسدة الشقاق.
السابع: اعتقاد أن هذه الوسائل ما هي إلا أسباب وذرائع لإدراك المطلوب لا تستقل بالفعل، ولا تخرج عن تقدير الله وإذنه، فلله الأمر من قبل ومن بعد {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50].
الثامن: إذا كانت المحاولات يسيطر عليها الغرور بالعلم لحل المشكلات وعدم الإيمان بأن إرادة الله غالبة، كما هو شأن الماديين، كانت محرمة باتفاق؛ لأنها إن لم تكن كفرًا فهي تؤدى إليه.
التاسع: إذا كان الغرض من هذه العملية هو الإكثار من أحد النوعين إلى الحد الذي يختل فيه التوازن ويؤدى إلى ارتكاب الفواحش والمنكرات كالمتعة بين الجنس الواحد، أو يؤدى إلى إرهاب الغير بكثرة الذكور مثلًا، أو إلى استغلال النوع الآخر لأغراض خبيثة كان ذلك حرامًا لا شك فيه.
العاشر: إذا كان من وسائل التحكم في نوع الجنين التعقيم النهائي الذي لا يكون بعده إنجاب كان ذلك محرمًا؛ لأن فيه تعطيلًا لقوة لازمة لعمارة الكون، وتظهر فيه المعارضة لحكم الله وتقديره.
القول الثاني: لا يجوز تحديد جنس الجنين واستدلوا لقولهم بأدلة منها:
الدليل الأول: أن العمل على تحديد جنس الجنين يتضمن منازعة الله تعالى في خلقه ومشيئته، وما اخْتَص به من علم ما في الأرحام، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6]. قال جماعة من
المفسرين منهم ابن مسعود وقتادة وغيرهما: ذكورًا وإناثًا.
الدليل الثاني: أن العمل على تحديد جنس الجنين ضرب من ضروب تغيير خلق الله تعالى الذي هو من عمل الشيطان كما دل عليه قوله تعالى عن إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119].
وكذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لَعَنَ اللهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوتَشِمَاتِ وَالمتنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلقَ الله"(1).
فإذا كان التغيير في صورة الخلقة على النحو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم محرمًا فكيف بالتغيير في الجنس؟ لا شك أنه أحق بالتحريم وأولى بالمنع.
الدليل الثالث: أن القول بجواز العمل على تحديد جنس الجنين يفضي إلى عدة مفاسد ومخاطر منها:
أ- الإخلال بالتوازن الطبيعي البشري في نسب الجنسين الذي أجراه الله تعالى في الكون لحكمة ورحمة؛ فإن كثيرًا من الناس قد يميل إلى جنس الذكور في المواليد.
ب- فتح المجال أمام العبث العلمي في خلق الإنسان وتكوينه، وهو أمر اتفق الناس على خطورته وشؤم عاقبته على البشرية.
ج- ما يمكن أن يقع من جراء بعض الطرق في عملية تحديد جنس الجنين من اختلاط الأنساب، وهذا من المفاسد الكبرى الناتجة عن هذه العملية.
د- هتك العورات بكشفها وعدم حفظها، وذلك أن من طرق تحديد جنس الجنين ما يتطلب كشف المرأة عن العورة المغلظة.
(1) أخرجه البخاريُّ في التفسير، باب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (4886)، ومسلمٌ في اللباس، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة (2125).
الترجيح: بعد ذكر القولين في هذه النازلة نقول بأن الذي يترجح لنا أن تحديد جنس المولود يمكن أن يتم بثلاث طرق:
الأولى: باستعمال أمور طبيعية كالنظام الغذائي، وهذا لا حرج فيه، إن أثبت أهل الاختصاص جدوى ذلك، دون أن تترتب عليه محاذير شرعية.
الثانية: بالتدخل الطبي لاختيار جنس الجنين، وهذا لا يجوز إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية، كما نص عليه قرار مجمع الفقه الإسلامي الآتي نصه:
ووجه المنع: أن التدخل الطبي بالتلقيح المجهري يترتب عليه محاذير شرعية، كالاستمناء، وكشف العورة المغلظة والنظر إليها، مع احتمال اختلاط الحيوانات المنوية أو البويضات في حالة إيداعها في بنوك مما يترتب عليه اختلاط الأنساب.
الثالثة: تحديد جنس الجنين أثناء عملية التلقيح الصناعي لمن احتاج إليه لعدم إمكان الإنجاب بالطريقة المعتادة، والظاهر أنه لا حرج فيه تبعًا لجواز التلقيح، فحيث وجد السبب المبيح للتلقيح الصناعي وروعيت فيه ضوابطه، فإنه يجوز تبعًا التدخل لتحديد جنس الجنين (1).
ومما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي:
أولًا: يجوز اختيار جنس الجنين بالطرق الطبيعية؛ كالنظام الغذائي، والغسول الكيميائي، وتوقيت الجماع بتحري وقت الإباضة؛ لكونها أسبابًا مباحة لا محذور فيها.
ثانيًا: لا يجوز أي تدخل طبي لاختيار جنس الجنين، إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية، التي تصيب الذكور دون الإناث أو بالعكس،
(1) انظر كتاب: رؤية شرعية في تحديد جنس الجنين، د. خالد المصلح، المختصر المفيد في تحديد جنس الوليد، د. عبد الرحمن عبد الله اليحيى.
فيجوز حينئذٍ التدخل بالضوابط الشرعية المقررة، على أن يكون ذلك بقرار من لجنة طبية مختصة، لا يقل عدد أعضائها عن ثلاثة من الأطباء العدول، تقدم تقريرًا طبيًّا بالإجماع يؤكد أن حالة المريضة تستدعي أن يكون هناك تدخل طبي حتى لا يصاب الجنين بالمرض الوراثي، ومن ثَمَّ يعرض هذا التقرير على جهة الإفتاء المختصة لإصدار ما تراه في ذلك.
ثالثًا: ضرورة إيجاد جهات للرقابة المباشرة والدقيقة على المستشفيات والمراكز الطبية، التي تمارس مثل هذه العمليات في الدول الإسلامية؛ لتمنع أي مخالفة لمضمون هذا القرار.
وعلى الجهات المختصة في الدول الإسلامية إصدار الأنظمة والتعليمات في ذلك.