الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النازلة الثانية: في حكم تضمين الطبيب
الطب: ذلك العمل الإنساني الخطير قد ينتحله بعض من لا يحسنه، وقد يقوم به من لا خلاق له من دين أو خلق، ومن أجل ذلك بين الفقه الإِسلامي الأحكام الصارمة الرادعة لمن يزاوله ولا يتقنه، ومن لا يرعى فيه الحقوق الإنسانية حق رعايتها.
ومن ذلك هذه النازلة التي تكلم عليها العلماء في الزمن السابق، وكذلك تكلم عليها العلماء في الوقت الحاضر، وعقد لها شيء من المؤتمرات والندوات، وكثر فيها الكتابات؛ لأن الطب الآن بسبب كثرة الناس وترقي الاكتشافات الطبية أصبح الناس يحتاجون إليه كثيرًا، وأصبح يرد على عيادة الطبيب كثير من المرضى، وقد يقوم بإجراء عمليات يوميًا أو أسبوعيًّا، فقد يحدث من هؤلاء الأطباء شيء من الأخطاء، فقد تكون هذه الأخطاء مقرونة بالتعدي والتفريط وقد لا تكون كذلك.
والمراد بهذه النازلة (تضمين الطبيب): أي تضمينه ما حصل من تلف تحت يده سواء كان هذا التلف لنفس أو عضو أو منفعة.
ولا تخلو هذه النازلة من أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون المتطبب جاهلًا ولا يعلم المريض بعدم حذقه، وقد يكون الطبيب حاذقًا في مرض غير حاذق في مرض آخر، فيقدم على العلاج في هذا المرض وهو غير حاذق فيه والمريض لا يعلم، فقام بالمداواة فتلف تحت يده نفس أو عضو أو منفعة.
وحكم هذه الحالة أنه يضمن ما أتلفه بالإجماع.
والدليل على ذلك: قول الله عز وجل: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]، وهذا ظالم، فكونه يباشر مداواة هذا المرض وهو لا يعلمه يعدُّ ظالمًا، وكذلك الحديث
المتقدم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيد عدم الضمان بالعلم، فمتى لم يوجد العلم ضمن.
الحالة الثانية: أن يكون المتطبب جاهلا والمريض يعلم أنه جاهل.
وقداختلف فيها العلماء على قولين:
فذهب أكثر أهل العلم أنه ضامن؛ واحتجوا لذلك بالأدلة السابقة فالله عز وجل يقول: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} وهذا ظالم، ولكونه أقدم على المعالجة وهو جاهل لا يعلم، وكذلك ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وذهب البعض أنه لا يضمن، واستدل بالحديث المتقدم وفيه قوله:"وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ"(1)، فدل ذلك على أنه إذا كان المريض يعلم حاله فإنه لا ضمان عليه.
والأقرب عندنا في هذه المسألة هو القول الأول، وهو قول الجمهور من أهل العلم.
الحالة الثالثة: أن يكون الطبيب حاذقًا، وقد أذن له وأعطى الصنعة حقها، لكنه أخطأ، وهذه الحالة هي التي يكثر فيها أخطاء الأطباء.
وهذه يقسمها العلماء إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون هناك تعدٍّ أو تفريط من الطبيب.
وضابط التعدي: "فعل ما لا يجوز"؛ كأن يزيد في جرعة المخدر أو في كمية الدواء تهاونًا منه، وضابط التفريط:"ترك ما يجب"، كما لو لم يشخص حالة المريض كما ينبغي.
وحكم هذه الحالة، أي: فيما إذا تعدى أو فرط أنه يضمن بالاتفاق للأدلة السابقة. فقوله تعالى: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]، فهذا الطبيب ظالم لكونه
(1) سبق تخريجه (ص: 9).
تعدى أو فرط فيضمن، وكذا ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فإذا كان الجاهل يضمن فكذلك من باب أولى أن يضمن المتعدي أو المفرط.
القسم الثاني: أن لا يتعدى الطبيب ولا يفرط.
فهو لم يفعل شيئًا لا يجوز، ولم يترك شيئًا وجب عليه، بل اجتهد وفعل الواجب عليه.
والحكم في هذه الحال أنه اختلف فيها أهل العلم هل يضمن الطبيب أو لا؟ على قولين:
والأقرب في هذه المسألة عدم الضمان للأدلة السابقة؛ ولأن الطبيب مؤتمن على بدن هذا المريض فلا ضمان عليه، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، وهنا لم يحصل منه تعد ولا تفريط.
الحالة الرابعة: إذا كانت مداواة الطبيب بلا إذن من المريض أو وليه.
وهذه الحالة يقسمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين:
الأول: أن يكون الطبيب غير متبرع بأن يكون مستأجرًا، فإذا كان كذلك فلا بد من رضا المريض وأهليته للإذن بأن يكون بالغًا عاقلًا، فإن لم يكن أهلًا للإذن فلا بد من إذن وليّه؛ لأن عقد الإجارة يعتبر فيه الرضا لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، والإجارة تجارة.
وكذلك يعتبر فيه أهلية العاقد، فلا يصح عقد الإجارة من الصبي أو المجنون؛ لأنه محجور عليهما في تصرفاتهما.
وعلى هذا إذا كان الطبيب مستأجرًا وداوى غير المكلف بلا إذن وليّه، أو داوى
المكلف بلا إذنه فإنه يضمن.
الثاني: أن يكون الطبيب متبرعًا غير مستأجر، فداوى المريض بلا إذنه أو داوى الصغير أو المجنون بلا إذن وليه فهل يضمن لو حصل تحت يده تلف أو لا يضمن؟
فيه قولان لأهل العلم: الأقرب؛ أنه لا ضمان عليه، والدليل على ذلك قوله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، وهذا محسن.
وأيضًا لأمره صلى الله عليه وسلم بالمداواة فقال: "تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ الله لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضْعَ لَه دَوَاءً"(1)، والطبيب امتثل أمر الشارع، فالشارع قد أذن له بالمداواة.
(1) رواه الترمذيُّ في كتاب الطب (2038)، وأبو داود في كتاب الطب (3855)، وابن ماجه الطب (3436).