الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
التشريح لأغراض الانتفاع بأعضاء الميت لمصلحة الأحياء.
حكم التشريح:
ذهب جمهور الفقهاء المعاصرين إلى جواز التشريح في الجملة لا بالجملة؛ وذلك لما يترتب عليه من مصالح جمة تفوق المضار والمفاسد، والأحكام الشرعية إنما تبنى على الغالب، إذ ما من فعل إلا وتحيطه وتجتمع فيه المصالح والمفاسد، وبناء الحكم الشرعي وفق الراجح من النوعين، فليس في الكون مصلحة محضة ولا مفسدة محضة؛ ولأن مراعاة حرمة الحي أعظم من مراعاة حرمة الميت، واستدلالًا بقاعدة:"إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفاديًا لأشدهما". فالتشريح فيه مصلحة عامة متعارضة مع مصلحة قاصرة خاصة وهي حرمة الميت، فتقدم المصلحة العامة.
وتشريح الميت مفسدة خاصة؛ لما فيها من انتهاك لحرمته، وتركه فيه مفسدة عامة منتشرة على مجموع الناس، فترتكب المفسدة الأخف وهي التشريح درءًا وتلاشيًا من وقوع المفسدة الأعم والأشد، وهذا هو القول الأوّل في هذه النازلة.
ومما جاء في قرارات هيئة كبار العلماء بخصوص التشريح ما يلي: "كما جرى استعراض البحث المقدم في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وظهر أن الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: التشريح لغرض التحقق من دعوى جنائية.
الثاني: التشريح لغرض التحقق من أمراض وبائية لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها.
الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلمًا وتعليمًا: وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليه أعلاه قرر المجلس ما يلي:
* بالنسبة للقسمين الأوّل والثاني: فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقًا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا.
* وأما بالنسبة للقسم الثالث -وهو- التشريح للغرض التعليمي:
فنظرًا إلى أن الشريعة الإِسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان، وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة، فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة إلا أنه نظرًا إلى عناية الشريعة الإِسلامية بكرامة المسلم ميتًا كعنايتها بكرامته حيا؛ وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا"(1).
ونظرًا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسير الحصول على جثث أموات غير معصومة، فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر (2).
ومما جاء أيضًا في قرارات المجمع الفقهي لرابطة العالم الإِسلامي في دورته العاشرة في مكة: "بناء على الضرورات التي دعت إلى تشريح جثث الموتى، والتي
(1) سبق تخريجه (ص: 35).
(2)
مجلة البحوث الإِسلامية (61/ 123) الفتوى رقم (8693).
يصير بها التشريح مصلحة تربو على مفسدة انتهاك كرامة الإنسان الميت؛ قرر مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي ما يلي:
أولًا: يجوز تشريح جثث الموتى لأحد الأغراض التالية:
أ- التحقيق في دعوى جنائية؛ لمعرفة أسباب الموت، أو الجريمة المرتكبة، وذلك عندما يُشْكل على القاضي معرفة أسباب الوفاة، ويتبين أن التشريح هو السبيل لمعرفة هذه الأسباب.
ب- التحقق من الأمراض التي تستدعي التشريح؛ ليتخذ على ضوئه الاحتياطات الواقية، والعلاجات المناسبة لتلك الأمراض.
ج- تعليم الطب وتعلمه، كما هو الحال في كليات الطب.
ثانيًا: في التشريح لغرض التعليم تراعى القيود التالية:
أ- إذا كانت الجثة لشخص معلوم، يشترط أن يكون قد أذن هو قبل موته بتشريح جثته، أو أن يأذن بذلك ورثته بعد موته، ولا ينبغي تشريح جثة معصوم الدم إلا عند الضرورة.
ب- يجب أن يقتصر في التشريح على قدر الضرورة؛ كيلا يعبث بجثث الموتى.
ج- جثث النساء لا يجوز أن يتولى تشريحها غير الطبيبات، إلا إذا لم يوجدن.
ثالثًا: يجب في جميع الأحوال دفن جميع أجزاء الجثة المشرحة" (1).
القول الثاني في هذه النازلة: لا يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعليم، وهو لجماعة من العلماء والباحثين، واستدلوا لذلك بأدلة منها:
(1) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة. قرار رقم: 48 (1/ 10) بشأن موضوع (تشريح جثث الموتى).
أ- قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
وجه الدلالة: أن الآية الكريمة دلت على تكريم الله تعالى لبني آدم، وهذا التكريم عام شامل لحال حياتهم ومماتهم، وتشريح جثث الموتى فيه إهانة لها.
ب- أحاديث النهي عن المثلة، كما في حديث بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال:"اغْزُوا بسْمِ الله وَفِي سَبيلِ الله، قاتِلُوا مَنْ كفَرَ بالله، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تُمَثِّلُوا"(1).
وجه الدلالة: أن تشريح جثة الميت فيه تمثيل ظاهر، فهو داخل في عموم النهي الوارد في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي ورد فيها نهي النبي صلى الله عليه وسلم الموجب لحرمة التمثيل ومنعه.
ج- حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "إِنَّ كَسْرَ عَظْمِ المُؤْمِنِ مَيْتًا مِثْلُ كَسْرِ عَظْمِهِ حَيًّا"(2).
وجه الدلالة: أن هذا الحديث دلّ على حرمة كسر عظام المؤمن الميت والتشريح مشتمل على ذلك فلا يجوز فعله.
د- وكذلك قالوا بأن القواعد العامة التي جاءت بها الشريعة تدل على المنع
(1) رواه مسلم، كتاب الجهاد، باب تأمير الإِمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (4619).
(2)
رواه أحمد (6/ 58)، وأبو داود، كتاب الجنائز: باب في الحفَّار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان؟ رقم (3207)، وابن ماجه، كتاب الجنائز: باب النهي عن كسر عظام الميت، رقم (1616) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال النوويّ:"رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقيُّ بأسانيد صحيحة" قال ابن حجر: "رواه أبو داود بإِسناد على شرط مسلم" انظر: الخلاصة، رقم (3694)، بلوغ المرام، رقم (576).
من التشريح مثل قاعدة "الضرر لا يزال بالضرر"، وقاعدة "لا ضرر ولا ضرار".
فقد دلت القاعدتان على أن مفسدة الضرر ينبغي ألا تزال بمثلها، والتشريح فيه إزالة ضرر بمثله، وعلى حرمة الإضرار بالغير، والتشريح فيه إضرار بالميت فلا يجوز فعله.
والراجح هو جواز تشريح جثة غير المعصوم، وهذا هو اختيار سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله (1)؛ وذلك لما يلي:
أولًا: لأنّ الأصل عدم جواز التصرف في جثة المسلم إلا في الحدود الشرعية المأذون بها والتشريح ليس منها، فوجب البقاء على الأصل المقتضي للمنع، وهذا الأصل يسلم به القائلون بجواز التشريح وإن كانوا يستثنون التشريح اعتبارًا منهم للحاجة الداعية إليه.
ثانيًا: أن تشريح جثة المسلم يعطل عن فعل كثير من الفروض المتعلقة بها بعد الوفاة، من تغسيلها وتكفينها، والصلاة عليها، ودفنها، وهو مخالفة لما ثبتت به السنة من الأمر بالمبادرة بالجنائز والإسراع بها، فلا يجوز تعطيل جثة المسلم وتأخير هذه المصالح المطلوب فعلها بعد الوفاة مباشرة لمصلحة لا تتعلّق بالميت، ولم يتسبب في موجبها، وإنما هي من مصالح الغير المنفكة عنه (2).
(1) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله (22/ 349)
(2)
لمزيد بحث هذه النازلة يمكن مراجعة التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنساني للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، (ص: 21)، حكم تشريح الميت. فتوى: للشيخ يوسف الدجوي. نشرت في: مجلة الأزهر عام 1355 هـ. العدد/ 7 و 8، المجلد/ 9، حرمة التشريح. للشيخ: محمَّد عبد الوهاب بحيري. نشر في: مجلة نور الإِسلام. وهو رد على مقال: الشيخ الدجوي.