الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب البيع عند تحديد شروط المبيع، وعند الحديث عن مدى جواز الانتفاع بأجزاء هذا الجسد سواء كان هذا الانتفاع لصاحب الجسد نفسه أو لغيره، وعند الكلام عن بعض القواعد الفقهية كقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وقاعدة ارتكاب أخف الضررين.
رابعًا: الحكم الشرعي لهذه النازلة:
لا تخلو هذه النازلة من صورتين:
الصورة الأولى: نقل الأعضاء من إنسان حي إلى آخر.
الصورة الثانية: نقل الأعضاء من إنسان ميت إلى آخر حي.
أما الصورة الأولى فقد اختلف الفقهاء المعاصرون في حكمها على قولين:
القول الأول: الجواز فلا مانع شرعًا من أخذ عضو من إنسان حي لزرعه في إنسان آخر محتاج إليه لإنقاذ حياته إذا اضطر إلى ذلك، وأمنت الفتنة في نزعه لمن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه ممّن سيزرع فيه.
وقد صدرت فتاوى كثيرة من المجامع الفقهية ودوائر الإفتاء والهيئات العلمية (1) تبيح كلها نقل الأعضاء من إنسان حي إلى آخر بشروط هي:
1 -
الضرورة القصوى للنقل، بحيث تكون حالة المريض سيئة للغاية، ولا ينقذه من ذلك إلا نقل عضو سليم إليه من إنسان آخر.
2 -
أن يكون المأخوذ منه وافق على ذلك حالة كونه بالغًا عاقلًا مختارًا.
(1) انظر في ذلك: فتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإِسلامي، الدورة الثامنة المنعقدة في مكة المكرمة في 28/ 4 - إلى 7/ 5 / 1405 هـ ، وقرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم 99 في 6/ 12 / 1402 هـ ، وفتوى مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي في مؤتمره الرابع المنعقد في مدينة جدة من 18 - 23 جمادي الآخرة 1408 هـ.
3 -
أن يكون نقل العضو محققًا لمصلحة مؤكدة للمتلقي أو يغلب على الظن تحقيق هذه المصلحة.
4 -
ألا يضر أخذ العضو من المتبرع به ضررًا يخل بحياته العادية، فلا يجوز مثلًا نقل الأعضاء المفردة كالكبد أو القلب من حي إلى مريض؛ لأن في ذلك هلاكًا للأول، والقاعدة الشرعية تقول: إن الضرر لا يزال بمثله، ولا بأشد منه، ولأن التبرع حينئذ يكون من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وهو أمر غير جائز شرعًا.
5 -
أن يكون هذا النقل بدون مقابل.
6 -
ألا يكون العضو المنقول مؤديًا إلى اختلاط الأنساب بأي حال من الأحوال، فلا يجوز نقل الخصية والمبيض منعًا لاختلاط الأنساب.
7 -
صدور إقرار كتابي من اللجنة الطبية قبل النقل بالعلم بهذه الضوابط مع إعطائه لذوي الشأن من الطرفين، المنقول منه العضو والمنقول إليه قبل إجراء العملية الطبية، على أن تكون هذه اللجنة متخصصة ولا تقل عن ثلاثة أطباء عدول وليس لأحد منهم مصلحة في عملية النقل.
وقد استدل أصحاب هذا القول، أي -المجيزون لنقل الأعضاء- بما فهموه من عموم قواعد الشريعة مثل الضرورات تبيح المحظورات، والضرر يزال، وتحقيق أعلى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين، وإذا تعارضت مفسدتان تدرأ أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما ضررًا، إلى غير ذلك من الأدلة.
القول الثاني: لا يجوز للإنسان أن يتصرف في أعضاء جسده ولو بالتبرع؛ لأن أعضاء جسد الإنسان هي جميعها ملك لله سبحانه. والقاعدة في ذلك: "من لا يملك التصرف لا يملك الإذن فيه"(1).
(1) وممن ذهب إلى هذا القول من الفقهاء: سماحة شيخنا ابن باز، وشيخنا ابن عثيمين، والدكتور أنور محمود
ومما قاله سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله في هذه النازلة:
"المسلم محترم حيًّا وميتًا، والواجب عدم التعرض له بما يؤذيه أو يشوه خلقته، ككسر عظمه وتقطيعه، وقد جاء في الحديث: "كسْرُ عَظْمِ الميتِ ككَسْرِهِ حَيًّا" (1). ويستدل به على عدم جواز التمثيل به لمصلحة الأحياء، مثل أن يؤخذ قلبه أو كليته أو غير ذلك؛ لأن ذلك أبلغ من كسر عظمه. وقد وقع الخلاف بين العلماء في جواز التبرع بالأعضاء وقال بعضهم: إن في ذلك مصلحة للأحياء لكثرة أمراض الكلى وهذا فيه نظر، والأقرب عندي أنه لا يجوز للحديث المذكور، ولأن في ذلك تلاعبًا بأعضاء الميت وامتهانًا له، والورثة قد يطمعون في المال، ولا يبالون بحرمة الميت، والورثة لا يرثون جسمه، وإنما يرثون ماله فقط"(2).
والذي يترجح عندنا هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، أي: يجوز نقل الأعضاء من إنسان حي إلى آخر، ولا يكون ذلك إلا بالشروط المذكورة عند أصحاب هذا القول.
أما الصورة الثانية وهي: نقل الأعضاء من إنسان ميت إلى آخر حي.
والمراد بالميت هنا هو من فارقت روحه بدنه بانقطاعها عن بدنه انقطاعًا تامًا من توقف دقات قلبه واستكمال أمارات الموت الأخرى التي سبق بيانها في نازلة الموت الدماغي، فهذه هي الوفاة التي تترتب عليها أحكام مفارقة الإنسان للدنيا من انقطاع أحكام التكليف، وخروج زوجته من عهدته، وماله لوارثه، وتغسيله، وتكفينه،
= دبور، والدكتور عبد الرحمن العدوي، والدكتور صفوت حسن لطفي وغيرهم كثير.
(1)
رواه أحمد (6/ 58)، وأبو داود، كتاب الجنائز: باب في الحفَّار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان؟ رقم (3207)، وابن ماجه، كتاب الجنائز: باب النهي عن كسر عظام الميت، رقم (1616) من حديث عائشة. قال النووي:"رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقيُّ بأسانيد صحيحة". قال ابن حجر: "رواه أبو داود بإِسناد على شرط مسلم". انظر: الخلاصة، رقم (3694)، بلوغ المرام، رقم (576).
(2)
مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله (13/ 363).
والصلاة عليه، ودفنه.
أما الميت دماغيًّا كما يعبر عنه أهل المعرفة بالطب، فقد سبق أنه لا يسمى ميتًا شرعيًّا؛ ولذلك هو ليس مرادًا في هذه النازلة.
حكم نقل الأعضاء في هذه الصورة: اختلف فيها الفقهاء على قولين:
الأول: لا يجوز نقل الأعضاء من ميت إلى حي حتى لو أوصى بذلك قبل موته، بل لو أذن ورثة الميت بذلك لا يجوز؛ وذلك لأن جسد الآدمي ملك لله سبحانه وتعالى، وبالتالي لا يجوز للإنسان وهو حي أن يوصي أو يتبرع بشيء من أعضائه بعد موته، كما لا يجوز لأحد أقاربه أو النيابة العامة أو أي جهة أخرى الإذن بالمساس بجسد هذا الميت لأخذ عضو منه أو أكثر.
ومما قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في هذه المسألة "نرى أنه لا يجوز، لا قبل الموت ولا بعد الموت، حتى لو أوصى به الميت وقال: إذا مت فأعطوا قرنية عيني فلانًا، أو كليتي فلانًا، أو كبدي فلانًا أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز أن تنفذ هذه الوصية؛ لأنها وصية بمحرم، والوصية بمحرم لا تنفذ، وقد ذكر ذلك أهل العلم. . ." إلى أن قال: "فالحاصل أن هذا هو رأيي، وكذلك هو رأي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز كما سألته في مجلس هيئة كبار العلماء وقال هكذا: إنه حرام.
كل من تأمل النصوص وجد أنه حرام، ثم فيه مفسدة الآن: في بلادٍ أخرى يسطون على الصغار في الأسواق، يأخذ الصغير ويذبحه ويأخذ كبده ويبيعها بملايين الدراهم؛ لأنهم لا يخافون الله ولا يرحمون عباد الله" (1).
القول الثاني: يجوز نقل أي عضو من إنسان ميت إلى إنسان حي في حاجة إليه بشروط معينة هي:
(1) انظر: مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله (13/ 363).
1 -
موافقة الميت على نزع عضو من أعضائه بعد وفاته، أو موافقة ورثته على ذلك.
2 -
موافقة ولي أمر المسلمين أو من ينوب عنه في حالة الجثة المجهولة.
3 -
أن يغلب على ظن الطبيب استفادة المريض بالجزء المنقول إليه.
4 -
أن تكون المصلحة المترتبة على نقل العضو أعظم من المفسدة التي اقتضت حظره.
5 -
أن يكون القصد من ذلك رعاية المصلحة للمريض المتلقي وأن يكون ضروريا لذلك.
6 -
ألا يترتب على الاستقطاع تشويه كبير بالجثة.
7 -
أن لا يكون المضطر ذميًّا، أو معاهدًا، أو مستأمنًا إذا كانت جثة الميت لمسلم.
8 -
أن يكون المنقول له مسلمًا إذا كان العضو المنقول من مسلم.
ومما جاء في قرارات مجمع الفقهي الإِسلامي التابع لمنظمة مؤتمر العالم الإِسلامي (1) ما يلي:
من حيث الأحكام الشرعية:
أولًا: يجوز نقل العضو من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه، مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له، أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسيًّا أو عضويًّا.
ثانيًا: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائيًّا، كالدم والجلد، ويراعى في ذلك كون الباذل كامل الأهلية،
(1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة، ع 4، (1/ 89) قرار رقم 26 (1/ 4) بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًّا كان أو ميتًا.
وتحقق الشرعية المعتبرة.
ثالثًا: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر، كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية.
رابعًا: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان إلى إنسان آخر.
خامسًا: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها، كنقل قرنية العينين كلتيهما، أما إن كان النقل يعطل جزءًا من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة.
سادسًا: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك، بشرط أن يأذن الميت قبل موته أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة وليّ أمر المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له.
سابعًا: وينبغي ملاحظة: أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها مشروط بأن لا يتم ذلك بوساطة بيع العضو، إذ لا يجوز إخضاع الإنسان للبيع بحال ما. أما بذل المال من المستفيد؛ ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريمًا، فصل اجتهاد ونظر.
ثامنًا: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة مما يدخل في أصل الموضوع فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية.
الراجح هو: القول بجواز نقل الأعضاء وفقًا لما جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمجلس التعاون الإِسلامي.
ويرى الشيخ الطيار تقييد الجواز بكون المنقول منه العضو كافرًا وذلك للأسباب الآتية:
أولًا: صحة ما ذكره القائلون بجواز النقل من وجود الحاجة التي بلغت مقام الضرورة، وما في حكمها، وهذا المقام شهدت نصوص الشرع وقواعده باعتباره مستثنى من التحريم، ولكن بقدر ما تندفع به تلك الضرورة والحاجة.
واعتبار هذه النصوص والقواعد الفقهية محلّ إجماع بين أهل العلم رحمهم الله فكم استثنوا بها من المحرمات المتعلقة بالعبادات والمعاملات.
ثانيًا: أن حديث جابر رضي الله عنه في قصّة الرجل الذي قطع براجمه واضح في الدلالة على عدم اعتبار المصلحة الحاجية بقطع شيء من الجسد، وأن ذلك يوجب نوعًا من العقوبة في الآخرة، ومن ثم فإنه لا يجوز الإقدام على قطع شيء من جثة المسلم طلبًا لدفع الحاجة المتعلقة بالغير؛ لأنه إذا لم يجز ذلك للشخص نفسه فمن باب أولى ألا يجوز لغيره
…
وأما الكافر فإنه لا يدخل ضمنه؛ لأنّ تعذيبه في الآخرة مقصود شرعًا، فمن ثم جاز أخذ شيء من جثته لسد حاجة المسلم.
ثالثًا: أن الأصل يقتضي حرمة المساس بجسد المسلم بالجرح والقطع حيًّا أو ميتًا، فوجب عليه البقاء عليه حتى يوجد الدليل الموجب للعدول والاستثناء منه.
رابعًا: أن أدلة القائلين بالمنع لم تسلم من ورود القوادح عليها، وإن سلمت فإن جلها يتعلق بالمسلم، وأما الكافر فإنه يمكن نقل العضو منه إعمالًا للدليل المخالف وبهذا يمكن الجمع بين الأدلة (1). والله أعلم.
(1) لمعرفة المزيد عن هذه النازلة يمكن مراجعة كتاب نقل الأعضاء الآدمية بين التحليل والتحريم د. رضاء الطيب، رد شبه المجيزين لنقل الأعضاء من الناحيتين الدينية والطبية د. محمود محمَّد عوض سلامة.