الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثامنة: الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم
وردت هذه القاعدة بهذه الصيغة عند السيوطي1، وكذلك عند ابن خطيب الدهشة2، وأوردها ابن تيمية في سياق إثباته لكون الأصل في الأفعال العادية عدم التحريم3، وأوردها الزركشي، وابن نجيم بصيغة الاستفهام، وجعلها الزركشي مترددة بين الإباحة، والتحريم، والوقف4 ولم يشر
1 الأشباه والنظائر له ص60.
2 مختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي 1/103، 2/589-591، وانظر: المجموع المذهب (رسالة) 2/513.
3 انظر: القواعد النورانية ص222.
4 انظر: المنثور 1/176، ومختصره الشعراني (رسالة) 1/163.
والوقف لغة: مصدر وقف، ومادته أصل يدل على تمكث في شيء، ووقف الرجل دام قائما، ووقفتُ الدار حبستها.
والوقف، والتوقف في اصطلاح الأصوليين بمعنى واحد ويراد بهما أحد معنى ثلاثة:
الأول: أنه لا حكم في المسألة.
والثاني: عدم العلم بالحكم في المسألة (أي لا يُدرى هل في المسألة حكم أم لا وإذا كان لها حكم فهل هو حظر أم إباحة؟) .
والثالث: استواء الدليلين ولعله يرجع إلى أحد المعنيين السابقين، انظر: مقاييس اللغة 6/135، والقاموس المحيط 3/405، والمحصول ج1ق1/210-211، وروضة الناظر 1/118، ومختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي 2/591.
ابن نجيم إلى الوقف1 وقال بعضهم بالتفصيل، وقال البعض إنها على الحظر2 كما بحثها الأصوليون في مبحث
1 انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص66.
2 سيأتي بيان هذا عند عرض أقوال الفقهاء في المسألة إن شاء الله.
الاستصحاب1، وفي مبحث التحسين والتقبيح العقليين2. فهي على هذا قاعدة فقهية أصولية.
معاني المفردات:
الأصل: في الغة أسفل الشيء وأساسه، وهو ما يبتنى عليه غيره3.
1 الاستصحاب لغة: استفعال من الصحبة بمعنى طلبها، والصحبة المقارنة والمقاربة. انظر: مقاييس اللغة 3/335، والقاموس المحيط 1/91 (صحب) .
واختلفت عبارات الأصوليين في تعريفه اصطلاحا، فقال بعضهم: إنه الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على أنه كان ثابتا في الزمان الأول. وقال الغزالي: "هو عبارة عن التمسك بدليل عقلي، أو شرعي وليس راجعا إلى عدم الدليل. بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغيّر، أو مع ظن انتفاء المغيّر عند بذل الجهد في البحث والطلب. إلى غير ذلك من التعريفات التي لا تخرج عن هذا المعنى. المستصفى 1/223، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 3/377، وانظر: العدة 4/1262، وإحكام الفصول ص694، وأدلة التشريع المختلف فيها ص275-277.
2 ستأتي الإشارة 0 قريبا إن شاء الله – إلى وجه بحثهم هذه المسألة مع عدم قول جماهير العلماء بها.
ومراد القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين –وهم المعتزلة – بهذا المصطلح أن في الأشياء حسنا أو قبحا ذاتيا يدركه العقل، فإذا ورد الشرع بالأمر بالحسن، والنهي عن القبيح كان كاشفا عن دينك الوصفين ومع أن بعض المعتزلة ينص على أن الأحكام إنما تتلقى من الشارع إلا أن الظاهر من نقل جماهير الأصوليين أنهم يجعلون العقل حاكما قبل ورود الشرع. انظر تفصيل هذه المسألة في المستصفى 1/63، والمحصول مع حاشية المحقق ج2ق3/183 وما بعدها، وشرح التلويح 1/173، ومجموع الفتاوى 8/431-436 والمعتمد 2/886-889.
3 انظر: مقاييس اللغة 1/109، والقاموس المحيط 3/328 (أصل) .
وفي الاصطلاح: يطلق على عدة معان، والمراد هنا القاعدة المستمرة المنطبقة على جزئياتها أو الحالة القديمة1.
الإباحة في اللغة: مصدر أباح من البوح وهو الإظهار والإعلان، يقال: باح بسرّه أي أظهره، ويأتي بمعنى الإذن، فيقال: أبحتك الشيء أي أحللته لك2.
وفي الاصطلاح: هي الإذن في الفعل والترك من غير تخصيص أحدهما بمدح أو ذم. وهذا مأخوذ من تعريف الأصوليين للمباح حيث دأب أكثرهم على تعريفه، وقد عرّفوه بأنه ما أذن في فعله وتركه من حيث هو ترك له من غير تخصيص أحدهما باقتضاء مدح أو ذم، وعرّف بغير ذلك3.
الدليل في اللغة: فعيل بمعنى فاعل وهو: يطلق بمعنى الأمارة، وبمعنى المرشد4، وقال الأصوليون إذا أطلق بمعنى المرشد فيصح أن يراد به الناصب للدليل وهو الله تعالى، والذاكر للدليل، وما فيه
1 انظر: التعريفات ص18، وشرح الكوكب المنير 1/39، والكليات ص122، وشرح القواعد الفقهية ص43.
2 انظر: مقاييس اللغة 1/315، والصحاح 1/357 (بوح) .
3 انظر: العدّة 1/167، والتمهيد 1/67.
4 مقاييس اللغة 2/259 (دل) ، وتاج العروس7/334 (دلل) .
الدلالة والإرشاد (وهو الدليل عند الفقهاء) .
وفرّق بعض الأصوليين بين الدليل والأمارة، بأن الأمارة ما يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيها إلى الظن، وأما الدليل فهو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم.
وعرّفه كثير من الأصوليين اصطلاحا: بأنه ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري1.
التحريم لغة: مصدر حرّم، والحرمة لغة ما لا يحل انتهاكه2.
وفي الاصطلاح: يمكن أن يعرّف من خلال تعريف العلماء للحرام أو المحرّم، فيقال: هو النهي عن الشيء نهيا جازما، أو يقال: هو إيراد الشارع ما يدل على ذم فاعله، أو توعُّده بالعقاب. حيث عُرّف الحرام بأنه ما نهي عنه نهيا جازما، وعُرّف بأنه ما توعد بالعقاب على فعله شرعا3.
1 انظر: الإحكام 1/11، 95، والمحصول ج1ق1/106، وحاشيتا التفتازاني والجرجاني على مختصر ابن الحاجب 1/36، والبحر المحيط 1/34-35، ومذكرة الشيخ الأمين ص52، والتعريفات ص104.
2 انظر: مقاييس اللغة 2/45، والقاموس المحيط 4/34، (حرم) .
3 انظر: نهاية السول 1/79، والإيضاح لقوانين الاصطلاح ص27، ومذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين ص22
المعنى الإجمالي:
تشمل هذه القاعدة بلفظها حكم الأشياء قبل الشرع، وحكمها بعده فيما لم يرد فيه دليل. والمراد بها - هنا - ما كان بعد ورود الشرع؛ لأن الغالب أن الفقهاء إنما يبحثون هذه المسألة من هذا الجانب1. أما الأصوليون فيبحثون من هذا الجانب ومن جانب ما كان قبل ورود الشرع2 في مبحث
1 انظر: المنثور 1/176، 2/70، ومختصره للشعراني مع حاشية المحقق (رسالة) 1/163-167، والأشباه والنظائر للسيوطي ص60، ولابن نجيم ص66.
2 اختلف العلماء في إمكان خلو زمن من الأزمان عن التشريع فذهب قوم إلى أنه لا يخلو زمان عن التشريع مستدلين بأن الله تعالى أول ما خلق آدم قال لم: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ
…
} البقرة (35) فأمرهما ونهاهما عقب خلقهما، فكذلك كل زمان واستدلوا أيضا بنحو قوله تعالى:{أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} القيامة (36) . ومرادهم بهذا الرأي أنه لم يخل زمن من الأزمان عن وجود شريعة وحكم لله تعالى فإن شريعة آدم مثلا باقية إلى شريعة نوح، وهكذا فكل شريعة تبقى أي يبقى الأمر بالعمل بها إلى ورود شريعة تنسخها سواء كان ذلك في حق الجميع، أو في حق من أسرل إليهم الرسول.
وأما من قال بجواز خلو بعض الأزمان عن التشريع فمراده زمان الفترات التي تقع بين الرسل وتندرس فيها الشريعة بتقصير من الناس فيكون الناس على جهل بالأحكام الشرعية فيها واستدلوا على ذلك بورود النصوص بذلك كما قال الله تعالى: {
…
يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ
…
} المائدة (19) .
وكذلك من لم تبلغه الدعوة، فظهر أنه لا خلاف على التحقيق فإن التشريع باق في كل زمان ولو في بعض الأفراد مع وجود الفترة بالنسبة لبعض الأمم. ومنع بعض العلماء من فتور شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها خاتمة الشرائع وأجازه في غيرها ونقل الغزالي إجماع العلماء إلا الكعبي على ذلك.
انظر: المنحول ص484، والتمهيد لأبي الخطاب 4/271، والبحر الرائق 1/160، والقواعد والفوائد الأصولية ص109، وشرح الكوكب المنير 1/323، وتيسير التحرير 2/172، وفواتح الرحموت 1/49، وفتح الباري 7/325.
الاستصحاب1، كما بحثها بعضهم في مبحث التحسين
1 تقدم تعريف الاستصحاب قريبا، وانظر من كتب أصول الفقه، إحكام الفصول ص681، والمستصفى 1/217-218، وشرح الكوكب المنير 4/403-405، وتيسير التحرير 4/177.
والتقبيح العقليين1 وتعني أن حكم الأعيان والأفعال المتعلقة بها التي لم يرد دليل شرعي يمنع الإقدام عليها هو الإباحة أي الجواز الانتفاع بتلك الأعيان والإقدام على الأفعال المتعلقة بها، وهذا هو ما يطلق عليه البراءة الأصلية أو استصحاب العدم الأصلي2.
الأدلة:
استدل من يرى أن الأصل في الأشياء الإباحة، وكذلك من يرى أن الأصل في المنافع - دون غيرها - الإباحة بعدد من الأدلة منها:
1) قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً
…
} 3.
1 بحث بعض الأصوليين هذه المسألة – مع عدم صحة القول بالتحسين والتقبيح العقليين – تنزلا على رأي المعتزلة لبيان بطلان مذهبهم.
والتنزل لغة: النزول مهلة، والمراد به في الاصطلاح الافتراض وسمي به؛ لأن فيه تكلف الانتقال من مذهب الحق إلى مذهب الباطل. انظر: المستصفى 1/63، ومنتهى الوصول والأمل /32، ونهاية السول 1/275، والمعتمد 2/887، 994، وانظر: المعنى اللغوي في الصحاح 5/829 (نزل) .
2 انظر: شرح الكوكب المنير مع حاشية المحقق 4/405.
3 البقرة (29) .
ووجه الدلالة منها: أن الله تعالى ذكر هذا في سياق الامتنان على الإنسان بما خلق له، وأبلغ درجات الإمتنان الإباحة، وأنه تعالى أضاف ما خلق إلى الناس بالام وهي تفيد الملك وأدنى درجات الملك إباحة الانتفاع بالمملوك1.
2) قول الله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ
…
} 2.
ووجه الدلالة منها: الإنكار على من حرّم شيئا مما أخرج الله لعباده3.
3) قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
…
} 4.
ووجه الدلالة منها: أن المراد بالطيبات - هنا - ما يستطاب طبعا، وليس المراد بالطيبات الحلال وإلا لزم التكرار5.
1 انظر: التفسير الكبير للرازي 2/154، وأحكام القرآن للكليا الهراس 1/27، وفتح القدير 1/60، وتيسير الكريم الرحمن 1/31،.والمحصول للرازي ج1 ق3/31.
2 الأعراف (32) .
3 انظر: التفسير الكبير للرازي 14/63، وتيسير الكريم الرحمن 3/11.
4 المائدة (5) .
5 انظر: التفسير الكبير 11/142، وتيسير الكريم الرحمن 1/115-116.
4) وحديث سلمان1 رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم سئل عن الجبن والسمن والفراء2 فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عُفي عنه"3.
قال في تحفة الأحوذي: "وفيه أن الأصل في الأشياء الإباحة"4.
5) وحديث: "أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم
1 أبو عبد الله سلمان الفارسي رضي الله عنه ويعرف بسلمان الخير، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصله من فارس، وهو الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق لما اجتمع الأحزاب، وتوفي سنة 35هـ، وقيل: سنة 36هـ. انظر: أسد الغابة 2/328-332، والإصابة: 3/141-142.
2 الفراء: جمع فرو، وهو لبس ببطن بجلود بعض الحيوانات، انظر: الصحاح 6/2453 (فرا) ، ومحيط المحيط 688 (فرو) .
3 أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني. سنن الترمذي مع التحفة 5/396 (اللباس / ما جاء في لبس الفراء)، وسنن ابن ماجه 2/1117 (الأطعمة / أكل الجبن والسمن) وانظر: صحيح سنن الترمذي 2/145، وصحيح سنن ابن ماجه 2/240.
4 تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 5/397.
فحرِّم من أجل مسألته" 1.
قال ابن حجر: "وفي الحديث أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك"2.
6) استدل بعض من قال: إنها على الإباحة من جهة العقل، بأن خلق هذه الأعيان إما أن يكون لحكمة، أة لغير حكمة، وكونه خلقها لغير حكمة باطل، لقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} 3 فثبت أنها خلقت لحكمة ولا تخلو هذه الحكمة من أن تكون نفعا يعود إلى الخالق سبحانه أو نفعا يعود إلى الناس، والأول باطل لتنزه الله تعالى عن الانتفاع بشيء. فثبت أنها خلقت لينتفع بها من يحتاج إليها4
1 متفق عليه واللفظ للبخاري، صحيح البخاري مع الفتح 13/278 (الاعتصام / ما يكره من كثرة السؤال) . وصحيح مسلم مع النووي 15/110 (الفضائل/توقيره صلى الله عليه وسلم .
2 فتح الباري 13/283.
3 الدخان (38) .
4 قد يبدو هذا الاستدلال معارضا لما عليه أهل السنة من أن العقل لا يحسن ولا يقبح، ولذا فقد استدل كثير من العلماء على أن الأصل في الأشياء الإباحة بالنصوص فحسب، وقد جمع بعضهم بين الاستدلال بهذا وبين القول بعدم صحة التحسين والتقبيح العقليين بأجوبة منها: أنه إنما يمتنع التحسين والتقبيح بالعقل بعد ورود الشرع؛ لأننا بالشرع علمنا ذلك، وأما قبله فلا يمتنع القول بأن العقل يحسن ويقبح، أو يحظر ويبيح، والله أعلم.
انظر: في هذا الموضوع وفي مجموع أدلة القائلين بالإباحة وما عليها من أجوبة: التبصرة ص535-537، والتمهيد لأبي الخطاب 4/272، 294، وشرح تنقيح الفصول ص92، والمسودة /477-478، وشرح الكوكب المنير 1/325-330، وأحكام القرآن لابن العربي 1/13-14، والجامع لأحكام القرآن 1/151، ونيل الأوطار 8/272.
العمل بالقاعدة (أو أقوال العلماء فيها) :
لقد اختلف العلماء في صياغة هذه القاعدة - بناء على اختلاف مذاهبهم في هذه المسألة -بين جازم بأن الأصل في الأشياء الإباحة، وبين جازم بأن الأصل فيها هو الحظر، وبين مشير إلى الخلاف في الأصل فيها، هل هو الإباحة؟، أو الحظر؟، أو التوقف؟، وبين مفصّل بين المنافع والمضار1.
فالقائلون بأن الأصل فيها الإباحة هم الشافعية2، وأكثر الحنفية3، وبعض الحنابلة، وأومأ إليه الإمام أحمد4، وأبو الفرج من
1 تقدمت الإشارة إلى هذا في أول القاعدة.
2 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص60.
3 انظر: تيسير التحرير 2/168.
4 انظر: التمهيد 4/271، وشرح الكوكب المنير 1/325-326.
المالكية1. ونسبه بعض المتأخرين إلى الجمهور2.
وأما القول بأن الأصل فيها الحظر، فقد نُسب إلى الإمام أبي حنيفة3 وإلى بعض الشافعية4، وبعض الحنابلة5 وإلى الأبهري من المالكية6، وبعض المعتزلة7. ونقل بعضهم عن أكثر الفقهاء،
1 انظر: إحكام الفصول ص681.
وأبو الفرج هو: عمرو بن محمد الليثي البغدادي المالكي، توفي سنة 330هـ أو 331هـ. من مؤلفاته [الحاوي في مذهب مالك]، و [اللمع في أصول الفقه] . انظر: الديباج المذهب 2/127، وشجرة النور الزكية ص79.
2 انظر: إرشاد الفحول ص284، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص129.
3 انظر: المنثور 2/70، الأشباه والنظائر للسيوطي ص60.
4 انظر: التبصرة في أصول الفقه ص532، وإرشاد الفحول ص284.
5 انظر: التمهيد 4/271، وشرح الكوكب المنير 1/325-326.
6 انظر: إحكام الفصول ص681.
والأبهري هو: أبو بكر محمد بن عبد الله الأبهري المالكي، ولد قبل سنة 290هـ. وتوفي سنة هـ 375هـ. من مؤلفاته:[الأصول] و [إجماع أهل المدينة] . انظر: الديباج المذهب 2/206-210، وشجرة النور الزكية ص91.
7 انظر: التبصرة ص533، وتيسير التحرير 2/168.
القول بالتوقف بمعنى أن الأصل في الأشياء عدم الحكم أو عدم العلم بالحكم، فليست بمباحة ولا محظورة1.
وذهب الإمام الرازي2 إلى أنه لا حكم للأشياء قبل الشرع، وأما بعده فإن الأصل في المنافع الإباحة والأصل في المضار التحريم3، وبه قال العلائي، ونسبه إلى الشافعية وإلى جمهور أهل العلم4.
وبهذا العرض لأقوال العلماء يتبين أن هناك نوعا من الاضطراب في النقل عنهم وتقرير مذاهبهم ومردّ هذا - فيما أرى، والله أعلم - أمران:
أحدهما: التداخل بين المسألتين اللتين تتطرق إليهما تلك القاعدة، وهما، كون ذلك فيما قبل ورود الشرع، أو فيما بعده.
والثاني: الاختلاف في المراد بالإباحة، والتوقف، فلم تتوارد
1 انظر: إحكام الفصول ص681،والأشباه والنظائر لابن نجيم ص66.
2 هو: محمد بن عمر القرشي الرازي الشافعي (فخر الدين) ، ولد سنة 544هـ، وتوفي سنة 606هـ. من مؤلفاته:[التفسير الكبير] و [محصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين] . انظر: طبقات الشافعية الكبرى 8/81-96، وطبقات الإسنوي 2/260.
3 انظر: المحصول ج2 ق3/131.
4 انظر: المجموع المذهب في قواعد المذهب (رسالة دكتوراه) 2/515.
الأقوال على محل واحد ويمكن أن يقال - توفيقا - بين القول بالتوقف والقول بالإباحة - إنهما يئولان إلى نتيجة واحدة؛ لأن مراد من قال بالتوقف - غالبا - هو أنه لا يحكم عليها بحظر ولا إباحة قبل ورود الدليل الشرعي بذلك، ونتيجة هذا القول أنه لا حرج في الفعل ولا في الترك وهو بمعنى الإباحة، إلا أنهم تحاشوا التعبير بالإباحة؛ لأنها حكم شرعي لابد أن يقوم على دليل، وقد أشار إلى هذا المعنى عدد من الأصوليين.
قال الغزالي: "
…
وإن عنوا بكونه مباحا أنه لا حرج في فعله ولا تركه فقد أصابوا في المعنى وأخطأوا في اللفظ، فإن فعل البهيمة والصبي لا يوصف بكونه مباحا وإن لم يكن في فعلهم وتركهم حرج"1، وهذا الجمع يتأتى فيما كان قبل الشرع وفيما كان بعده2.
ويمكن أن يقال - توفيقا بين قول من قال إن الأشياء على الإباحة،
1 المستصفى 1/63.
2 انظر: البرهان 1/100، والمستصفى 1/63، 217-220، والإحكام الآمدي 1/86، 88، ومنتهى السول والأمل ص32، وانظر: ما تقدم من مراجع القائلين بالإباحة ص148-151.
وبين من فرّق بين المنافع والمضارّ -: إن من أطلق الحكم بالإباحة وعدم الحرج في الفعل أو الترك يعلل ذلك بعدم وجود الدليل المانع من الإقدام على الفعل، أو عدم العلم به، وأما من يفرق فإنه يبنى الحظر في المضارّ على ورود الدليل العام بحظرها؛ ولذا فإن القائل بالتفريق إنما يقول به بعد ورود الشرع، ويؤيد هذا أن من قال بالإباحة مطلقا يلتفت - في الاستدلال - إلى هذا المعنى1، وعلى هذا فالأكثرون على جواز الانتفاع بما لم يرد الدليل بتحريمه على ما تقدم بيانه وهو الذي يبدو راجحا بالأدلة.
وأما من قال بالحظر فقد استدل بأدلة، أجمل بعضها فيما يلي:
1) قول الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. ..} 2.
2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين وبينهما
1 انظر: ما تقدم من الاستدلال على أن الأصل في الأشياء الإباحة، وانظر: المحصول ج2 ق3/131، والمجموع المذهب (رسالة دكتوراه) 2/515، وشرح النووي على صحيح مسلم 9/101، والتمهيد لأبي الخطاب 4/272.
2 النحل (116) .
مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه
…
" 1.
ووجه استدلالهم بهذين الدليلين وما في معناهما أنه لا يجوز الحكم بإباحة شيء والإقدام عليه بدون دليل شرعي.
والجواب: كما أنه لا دليل على الإباحة فإنه لا دليل على التحريم فلا يجوز القول به بدون دليل أيضا.
3) واستدلوا من جهة العقل بأن التصرف في ملك الغير بغير إذنه لا يجوز، والقول بالإباحة تصرف في ملك الله بغير إذنه فهو باطل.
وأجيب عن ذلك، بأن ذها إنما هو في حق من يلحقه بذلك التصرف في ملكه ضرر، أما م لا ضرر فيه على مالكه ولا على المنتفع فلا يقبح وهذا متأتّ في حق الناس، ففي حق الله تعالى أولى، والله أعلم2.
1 متفق عليه واللفظ لمسلم. صحيح البخاري مع الفتح 1/153 (الإيمان / فضل من استبرأ لدينه) ، وصحيح مسلم مع النووي 11/27 (المساقاة / أخذ الحلال وترك الشبهات) .
2 انظر: هذه الأدلة وغيرها، والجواب عنها في: التمهيد 4/281-285، والبحر المحيط 6/12-13، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص133-134.
من فروع القاعدة:
فروع القاعدة كثيرة جدا ومنها على سبيل الإجمال:
1-
الحيوان المشكل أمره الذي لم ينص على تحريمه ولا حلّه، ولم يدخل في عموم الخبائث فإنه مباح عند جمهور أهل العلم1.
2-
سائر الأطعمة والنباتات التي لم يرد النص بحكمها فإنها على الإباحة2.
3-
جواز استعمال الآلات والصناعان الحادثة3.
1 انظر: حاشية رد المحتار 6/460، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص66، والقوانين الفقهية ص149، والمهذب 1/249، والمغني 13/316.
2 يصرح الفقهاء – غالبا – بما يحرم أكله ويسكتون عما عداه ومفهوم هذا أن ما عدا المنصوص على تحريمه مباح. انظر: الهداية 4/399، وغمز عيون البصائر 1/225، والقوانين الفقهية ص149 والتنبيه ص84، والمغني 13/343.
3 فإنها من باب العادات والعلماء لا ينصون – غالبا – على حكمها من حيث الجملة إلا أنه يرد في كلامهم عن صناعات أو آلات معيّنة ما يدل على إباحتها. انظر: أضواء البيان 3/198، والشرح الممتع على زاد المستقنع 2/274.
وجه التيسير:
التيسير في هذه القاعدة واضح حيث إنها تعني أن للإنسان أن ينتفع بكل ما سُخّر له في هذه الدنيا ما لم يدل دليل على تحريمه. وفي هذا إشارة إلى أن ما أباح الله تعالى للإنسان الانتفاع به سواء عن طريق الخطاب بالتخيير، أو البراءة الأصلية أكثر مما حظره عليه، ولله الحمد والفضل.