المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة العاشرة: الإكراه يسقط أثر التصرف، فعلا كان أو قولا - القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير - جـ ١

[عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌القسم الأول: القواعد

- ‌القاعدة الأولى: الاجتهاد لاينقض بالاجتهاد

- ‌القاعدة الثانية: اختلاف الأسباب بمنزلة اختلاف الأعيان

- ‌القاعدة الثالثة إذا اجتمع أمران من جنس واحد ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر غالباً

- ‌القاعدة الرابعة: إذا تزاحمت المصالح أو المفاسد روعي أعلاها بتححصيل أعلى المصالح وردء أعلى المفاسد

- ‌القاعدة الخامسة: إذا تعذر العدالة في الولاية العامة، أو الخاصة ـ بحيث لايوجد عدل ـ ولّينا أقلهم فسوقاً

- ‌القاعدة السادسة: إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق

- ‌القاعدة السابعة: "الإسلام يجب ما قبله

- ‌القاعدة الثامنة: الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم

- ‌القاعدة التاسعة: الأصل في العادات العفو

- ‌القاعدة العاشرة: الإكراه يُسْقط أثر التصرف، فعلا كان أو قولا

- ‌القاعدة الحادية عشر: الأمور بمقاصدها

- ‌القاعدة الثانية عشر: انقلاب الأعيان هل له تأثير في الأحكام أم لا

- ‌القاعدة الثالثة عشر: تعلق الحكم بالمحسوس على ظاهر الحس لا على باطن الحقيقة

- ‌القاعدة الرابعة عشر: تفويت الحاصل ممنوع بخلاف تحصيل ما ليس بحاصل

- ‌القاعدة الخامسة عشر: الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة

- ‌القاعدة السادسة عشر: حقوق الله مبنية على المسامحة

- ‌القاعدة السابعة عشر: الحوائج الأصلية للإنسان لاتعد مالاً فاضلاً

- ‌القاعدة الثامنة عشر: الضرر يزال

- ‌القاعدة التاسعة عشر: الضرورات تبيح المحظورات

- ‌القاعدة العشرون: العادة محكّمة

- ‌القاعدة الحادية والعشرون: العبادات الواردة على وجوه متعددة يجوز فعلها على جميع تلك الوجوه من غير كراهية

- ‌القاعدة الثانية والعشرون: الفعل الواحد يُبْنَى بعضه على بعض مع الاتصال المعتاد ولا ينقطع بالتفرق اليسير

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون: الفعل ينوب عن القول مع القرينة في صور

- ‌القاعدة الرابعة والعشرون: لا يجوز التفاسخ في العقود الجائزة متى تضمَّن ضررًا على أحد المتعاقدين أو غيرهما ممن له تعلق بالعقد إلا إذا أمكن تدارك هذا الضرر

- ‌القاعدة السادسة والعشرون: ما قبض أو عقد في حال الكفر فهو صحيح بعد الإسلام ويجب الوفاء به مالم يكن فيه شيئ محرم في الإسلام

- ‌القاعدة السابعة والعشرون ما لا يعلم إلا من جهة الإنسان فإنا نقبل قوله فيه

- ‌القاعدة الثامنة والعشرون: ما لا يمكن التحرز منه يكون عفوا

- ‌القاعدة التاسعة والعشرون ما وسعه الشرع فضيقه المكلف على نفسه هل يتضيق

- ‌القاعدة الثلاثون: ما يحصل ضمنًا إذا تُعُرِّض له لا يضر

- ‌القاعدة الحادية والثلاثون: المتولد من مأذون فيه لا أثر له

- ‌القاعدة الثانية والثلاثون: المشقة تجلب التيسير

- ‌القاعدة الثالثة والثلاثون: معظم الشيئ يقوم مقام كله

- ‌القاعدة الرابعة والثلاثون: من أطلق لفظاً لا يعرف معناه لم يؤخذ بمقتضاه

- ‌القاعدة الخامسة والثلاثون من تصرف مستندًا إلى سبب، ثم تبين أنه غيره وهو موجود فتصرفه صحيح

- ‌القاعدة السادسة والثلاثون: من تعلق به الامتناع من فعل متلبس به، فبادر إلى الإقلاع عنه لم يكن ذلك فعلا للممنوع منه في بعض الصور

- ‌القاعدة السابعة والثلاثون: من صحت منه مباشرة الشيئ صح توكيله فيه غيره، وتوكّله فيه عن غيره، ومن لا فلا

- ‌القاعدة التاسعة والثلاثون: من عليه فرض موسع الوقت يجوز له التنفل -قبل أدائه- من جنسه

- ‌القاعدة الأربعون: من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها وكان المقدور عليه غير مقصود في العبادة، أو كان جزءًا من العبادة. لكنه عند انفراده ليس بعبادة، لم يلزم الإتيان به

- ‌القاعدة الحادية والأربعون من له الحق على الغير وكان سبب الحق ظاهرا فله الأخذ من ماله بقدر حقه إذا امتنع أو تعذر استئذانه وإن كان السبب خفيا فليس له ذلك

- ‌القاعدة الثانية والأربعون النسيان والجهل مسقطان للإثم مطلقا

الفصل: ‌القاعدة العاشرة: الإكراه يسقط أثر التصرف، فعلا كان أو قولا

‌القاعدة العاشرة: الإكراه يُسْقط أثر التصرف، فعلا كان أو قولا

.

ذكر هذه القاعد السبكي بهذا اللفظ في موضعين1، وذكرها الزركشي بنحوه2، وأشار إليها السيوطي، وابن نجيم حيث ذكرا جملة من أحكام المكره ولم يصرحا بنص القاعدة3.

وقد فصل الأصوليون في ذلك عند بيانهم أحكام المكلفين وشروط التكليف4.

معاني المفردات:

الإكراه لغة: مصدره أكْره يُكْرِه، والكريهة: الشدة في الحرب.

1 انظر: الأشباه والنظائر للسبكي 1/150، 2/7-16.

2 انظر: المنثور 1/188، وانظر مختصره للشعراني (رسالة) 1/174.

3 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص193-194، ولابن نجيم ص282.

4 ستأتي الإحالة إلى كتب أصول الفقه لاحقا إن شاء الله.

ص: 179

والكُرْه: خلاف المحبة والرضا، وأكرهته على كذا: حملته عليه كُرْها1.

وفي الاصطلاح: عرّفه العلماء بعدة تعريفات: منها حمل ((الغير)) على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه ويصير ((الغير)) خائفا فائت الرضا بالمباشرة2.

التصرّف: من الصّرف وهو: الرجوع، وردُّ الشيء عن وجهه.

والصرف: التقلب والحيلة، يقال: فلان يصرف ويتصرّف ويصطرف لعياله، أي يكتسب لهم، ومنه التصرف في الأمور3.

المعنى الإجمالي:

المراد بهذه القاعدة أن ما صدر عن الإنسان من الأقوال أو الأفعال

1 انظر: مقاييس اللغة 5/172، والصحاح 6/2247 (كره) .

2 انظر: كشف الأسرار عن أصول البزدوي 4/382، ومناهج العقول 1/185-186. وانظر: تعريفات أخرى للإكراه في كتاب الإكراه وأثره في التصرفات ص40-41.

3 انظر: مقاييس اللغة 3/342-343، ولسان العرب 7/328-329. (صرف) .

ص: 180

حال كونه مكرهاً - أي مدفوعاً من قبل غيره بتهديد بقتل أو نحوه - فإنه لا يترتب على تلك التصرفات أثرها الذي يترتب عليها لو صدرت منه مختاراً.

ومن ذلك سقوط الإثم عمن يُقدِم على فعل محرّم مُكرها.

هذا هو معنى القاعدة إجمالا. بيد أن هذا الحكم ليس على إطلاقه، وبيان ذلك يقتضي شيئا من التفصيل؛ ذلك أن العلماء قسموا المكرَه - بسحب وسيلة الإكراه - إلى أقسام:

أوّلها: الملْجأ وهو - عند جمهور الفقهاء - من كان مسلوب الإرادة لا اختيار له، بحيث يكون أداة محضة في يد المكرِه كالسكين في اليد القاطع، كأن يوثق ويحمل إلى دار حَلَفَ أن لا يدخلها، أو يُلقى من شاهق على إنسان فيقتله الملْقَى بثقله أو نحو ذلك. وهذا النوع لا يتصور إلا في الأفعال.

أما عند الحنفية فإن الملْجأ هو من هُدّد بإتلاف نفسه، أو عضو من أعضائه بحيث يعْدِم هذا الإكراه رضا المكرَه ويفسد اختياره.

وثانيها: غير الملجأ وهو - عند الجمهور - من أكْره على فعل فإتلاف نفسه أو عضو من أعضائه، أو بالضرب الشديد أو

ص: 181

نحو ذلك.

وعند الحنفية هو من نقصت درجة إكراره عن إتلاف النفس أو العضو كمن أكره بالضرب، أو الحبس أو نحوهما.

وأضاف بعض الحنفية قسما ثالثا وهو: من أكره بما يتعلق بغيره، كحبس الأب، أو الابن أو من يجري مجراهما، وقد اعتبر الجمهور وبعض الحنفية ذلك من قبيل القسم الثاني.

ومما مضى يتبين أن الحنفية لم يعدّوا من يصبح كالأداة في يد مُكْرِهِه مُكْرَها فهو لا يدخل في تعريف الإكراه عندهم1.

1 وإن كان النسفي قد أشار إلى حكم من أصبح كالأداة في يد مكرهه من حيث إنه غير مكلف وأن بينه من بقي له الاختيار فرقا. انظر - في هذا، وفي تقسيم العلماء للإكراه -: كشف الأسرار للنسفي 2/569-574، وكشف الأسرار للبخاري 4/382-383، والتقرير والتحبير 2/206، ونشر البنود 1/25، والإحكام للآمدي 1/142، ونهاية السول وحاشية سلم الوصول 1/321-322، والبحر المحيط 1/362، وحاشية المعطار على جمع الجوامع 1/102، وشرح الكوكب المنير 1/509، وعوارض الأهلية ص478-479، والإكراه وأثره في التصرفات ص60-61.

ص: 182

وقد استثنى العلماء من هذه القاعدة بعض الصور كمن أكْرِه بقتله إن لم يقتل غيره فإنه لا يجوز له الإقدام على ذلك، ولا يسقط عنه الإثم؛ لأن فيه إيثارا للنفس1.

الأدلة:

يستدل لسقوط الإثم عن المكرَه - من حيث الجملة - بما يلي:

1) قول الله عز وجل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2.

قال الإمام الشافعي - بعد ذكر هذه الآية -: "وللكفر أحكام: بفراق الزوجة، وأن يقتل الكافر، ويُغْنم ماله. فلما وضع الله تعالى عنه ذلك سقطت أحكام الإكراه عن القول كله؛ لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه"3.

1 انظر: البحر المحيط 1/255، 363-364، وعوارض الأهلية ص488 وما بعدها.

2 النحل (106) .

3 معرفة السنن والآثار عن الإمام الشافعي للبيهقي 11/69-70. وانظر – في وجه دلالة الآية أيضا – أحكام القرآن لابن عربي 3/1180-1181، والجامع لأحكام القرآن 10/181-182، والبحر المحيط 1/358.

ص: 183

2) قول الله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 1.

روى القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان"2.

3) حديث: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"3.

4) قوله عز وجل: {

قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ

} 4.

فإن الإكراه نوع من الاضطرار، كما جاء في الأثر عن عليّ رضي

1 آل عمران (28) .

2 انظر: الجامع لأحكام القرآن 4/57.

3 أخرجه ابن ماجه في سننه 1/659 (الطلاق / طلاق المكره والناسي) ، وصححه الشيخ الألباني، ويرد في كتب كثير من الفقهاء والأصوليين بلفظ "رفع عن أمتي

" وهو غريب بهذا اللفظ، وقد روي بألفاظ أخرى. انظر: تلخيص الحبير 1/281، والمقاصد الحسنة ص369، وإرواء الغليل 1/123.

4 الأنعام (119) .

ص: 184

الله عنه حيث أتى عمر رضي الله عنه بامرأة جهدها العطش فمرّت على راعٍ فاستسقت فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت، فشاور الناس في رجمها فقال علي رضي الله عنه:"هذه مضطرة أرى أن تخلى سبيلها، ففعل"1.

وقال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: "الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة"2، وكذلك قاله الرازي3.

5) عموم قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} 4 وما في معناها من الآيات5.

1 أخرجه البيهقي في سننه 8/236 (الحدود / من زنى بامرأة مستكرهة) ، وأخرج آثارا في الموضوع نفسه، وأخرجه عبد الرزاق بنحو هذا اللفظ في المصنف 7/407 (باب الحد في الضرورة) .

2 الجامع لأحكام القرآن 2/225.

3 انظر: التفسير الكبير 5/12.

4 البقرة (286) .

5 راجع الأدلة على قاعدة إذا ضاق الأمر اتسع ص119-123.

ص: 185

العمل بالقاعدة:

اتفق العلماء على أن الإكراه أثرا في إسقاط الإثم عمن أقدم على ما لا يحل فعله، وعلى تغيير بعض الأحكام المترتبة على القول أو الفعل المكره عليهما1، وإن كانوا قد اختلفوا في بعض التفصيل، حيث اختلفوا في تكليف المكره، فذهب الجمهور إلى أن الإكراه لا يُعدم أهلية التكليف لكنه يَنْقُصها ويبقى المكره مكلفا2.

قال ابن العربي3: "اتفق أهل السنة على جواز تكليف المُكْرَه،

1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 10/182، والإكراه وأثره في التصرفات ص28-29.

2 انظر: منتهى السول والأمل ص44، ونشر البنود 1/26، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4/383، والمستصفى 1/90، ونهاية السول 1/323، وشرح الكوكب المنير 1/508.

3 هو: أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري المالكي، وشهرته (ابن العربي) ولد سنة 468هـ، وتوفي سنة 543هـ. من مؤلفاته [أحكام القرآن] و [عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي] . انظر: الديباج المذهب 2/252-256، وشجرة النور الزكية ص136-138.

ص: 186

وخالف في ذلك بعض المبتدعة"1.

وقيّده بعضهم بما إذا لم يصل الإكرته إلى حدّ الإلجاء.

قال ابن الحاجب2: "والمختار أنه إن بلغ حدًّا ينفي الاختيار لم يجز تكليفه"3.

1 المحصول في أصول الفقه لابن العربي (رسالة ماجستير) ص682، وانظر: كشف الأسرار للنسفي 2/570، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4/383.

2 هو: أبو عمر عثمان بن عمر بن أبي بكر الكردي الدويني المالكي، شهرته (ابن الحاجب) ؛ لأن أباه كان حاجبا للأمير عز الدين موسك الصلاحي، اختلفت المصادر في سنة ميلاده ففي كثير منها أنها سنة 570هـ أو 571هـ، وفي الديباج المذهب أنها سنة 590، وتوفي سنة 545هـ. من مؤلفاته [جامع الأمهات] في الفقه، و [الكافية] في النحو. انظر: الديباج المذهب 2/86-89، وشجرة النور الزكية ص167-168، وشذرات الذهب 5/234-235، وحسن المحاضرة 1/456.

3 منتهى السول والأمل ص44: المستصفى 1/90، والبحر المحيط 1/358، والقواعد والفوائد الأصولية ص39، وشرح الكوكب المنير 1/508، وكشف الأسرار للنسفي 2/574.

ص: 187

وأطلق ابن جزي1 المالكي الحكم بعدم تكليف المكرَه وقال: "إنه الأشهر في مذهب مالك"2، ونُسِبَ القول بعدم تكليفه إلى الحنفية. وما في كتبهم يخالفه3. ولعل السبب في هذا الاختلاف في النقل عن الإمام أبي حنيفة وغيره، الاختلاف في المراد بالإكراه، فقد يطلق بعضهم أنه مكلف وهو يريد بالمكره مَن لم يفسد اختياره، ويطلق بعضهم أنه غير مكلف ويريد بذلك الملجأ الذي لا اختيار له.

وذهب المعتزلة إلى أن المكره غير مكلف في عين ما أكره عليه4.

1 هو أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الكلبي المالكي، وشهرته (ابن جُزَيّ) نسبة إلى أحد أجداده، ولد سنة 693هـ، وتوفي سنة 741هـ. من مؤلفاته [القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية]، و [التسهيل في علوم التنزيل] وهو تفسير للقرآن الكريم. انظر: الديباج المذهب 2/274، وشجرة النور الزكية ص213، ومقدمة النحقيق لكتابه تقريب الوصول ص13-24.

2 تقريب الوصول إلى علم الأصول ص104.

3 انظر: البحر المحيط 1/360، وكشف الأسرار للنسفي 2/570، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4/383.

4 هذا ما ذكره علماؤهم، ومرادهم بذلك – كما نصوا عليه وكما ذكره المحققون – أن العبادة التي يفعلها الإنسان مكرها لا يكون فيها مكلفا بناء على أصلهم في وجوب إثابة المكلف على عمله، وقد أطلق بعض العلماء نسبة القول بعدم تكليف المكره إليهم. انظر: المغني للقاضي عبد الجبار المعتزلي 11/393، والبرهان 1/106، والبحر المحيط 1/359-361.

ص: 188

وإيضاحا لما قاله الجمهور من أن المكره مكلف أقول: إن مرادهم أن شروط التكليف - وهي: سلامة العقل، والبدن، والقدرة على الاختيار - موجودة فيه، ولم يرتبوا على القول بتكليفه تأثيمه بل قالوا: إنه وإن كان مكلفا فإنه لا يأثم إذا أكره على محرّم رخصة من الله تعالى1.

أما من حيث الآثار المترتبة على أقوال المكرَه وأفعاله فإن الأصل الذي يبنى عليه الحنفية ذلك يتلخص في ثلاثة أمور:

أولها: نوع الإكراه من حيث كونه مفسدا للرضا وللاختيار - وهو الإكراه بالإلجاء -، أو مفسدا للرضا دون الاختيار وهو

1 هذا ما عليه الأكثرون، وذهب الشيخ محمد الأمين إلى أن القول بتكليفه يعني تأثيمه ولعل هذه وجهة من أطلق الحكم بعدم التكليف. انظر: البحر المحيط 1/365، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 2/315-316، ومذكرة الشيخ محمد الأمين ص32، وعوارض الأهلية ص473، والإكراه وأثره ص64.

ص: 189

ما لا يصل إلى حد الإلجاء1.

ثانيها: نوع الفعل المكره عليه من حيث إمكان نسبته إلى مكرِه أو عدمه2 وهذا في الأفعال دون الأقوال.

ثالثها: نوع القول المكره عليه من حيث كونُه قابلا للفسخ، ويشترط فيه الرضا، أو ليس كذلك وهذا في الأقوال دون الأفعال3.

أما الشافعية فالأصل - عندهم - في ذلك أن الإكراه إما أن يكون بحق فتترتب لآثاره عليه، وإما ألا يكون بحق فإن كان

1 هذا على حد تعريف الحنفية للإلجاء كما تقدم، والفرق بين الرضا والاختيار – عندهم – أن الاختيار هو القصد المجرد إلى القول أو الفعل، وأما الرضا فهو الرغبة فيما يترتب عليه من آثار، وعند غيرهم الاختيار هو القصد الدال على الرضا.

انظر: كشف الأسرار عن أصول البزدوي 4/383، والتقرير والتحبير 2/206، والإكراه وأثره في التصرفات ص68-69.

2 المراد بما يمكن نسبته إلى المكره ما ينعدم فيه اختيار المكرَه من الأفعال وهي التي يكون الإكراه فيها ملجئا. انظر: الإكراه وأثره ص72.

3 انظر: في بيان هذا الأصل: كشف الأسرار للنسفي 2/569-570، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4/384-385، والتقرير والتحبير 2/206، والإكراه وأثره في التصرفات ص71-74.

ص: 190

مما أباح الشارع الإقدام عليه بسبب الإكراه لم تترتب لآثاره عليه في حق الفاعل، بل في حق المكرِه إن أمكن نسبة الفعل إليه وإلا فلا.

وإن لم يبح الشارع الإقدام عليه فإن آثاره تترتب عليه كالقتل والزنا1.

ويوافق المالكية، الحنابلة والشافعية فيما ذهبوا إليه من أن الإكراه إن كان بحق ترتبت آثاره عليه، وإن لم يكن بحق لم تترتب، وفروعهم دال على هذا.

قال الخرشي المالكي2: "وإن أكره على الطلاق فلا يلزمه شيء لا

1 انظر: البحر المحيط 1/364، والأشباه والنظائر للسبكي 2/14، والمراجع المتقدمة.

2 هو: محمد بن عبد الله الخرشي – على اختلاف في ضبط هذه الكلمة – فقيل: بكسر الخاء وقيل: بفتحها، وقال الزركلي إنه – أي فتح الخاء والراء – هو ما وجد بخطه، وقال بعضهم: هو الخراشي، المالكي، ولد سنة 1010، وتوفي سنة 1101هـ، وهو أول من تولى مشيخة الأزهر. من مؤلفاته [الشرح الكبير]، و [الشرح الصغير] كلاهما على مختصر خليل في الفقه المالكي. انظر: شحرة النور الزكية ص317، والأعلام 6/240.

ص: 191

في القضاء ولا في الفتوى"1، وقال: "تنبيه: الإكراه الشرعي بمنزلة الطّوع"2.

وقال الشيخ محمد الأمين3: "

وأما في غير حق الغير فالظاهر أن الإكراه عذر يُسقط التكليف

" الخ4.

وقال ابن قدامة من الحنابلة: "

وإن كان الإكراه بحق نحو إكراه الحاكم المولي على الطلاق بعد التربص إذا لم يفئ

وقع الطلاق؛ لأنه قول حُمِل عليه بحق

"الخ5.

1 انظر: الخرشي مع حاشية العدوي 1/33.

2 المصدر السابق 1/34، وانظر المنتقى للباجي 2/31، ومذكرة الشيخ الأمين ص32-33.

3 هو: الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الشنقيطي الجنكي، ولد سنة 1325هـ، وتوفي بمكة المكرمة سنة 1393هـ. من مؤلفاته [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن]، و [أدب البحث والمناضرة] . انظر: آخر الجزء العاشر الملحق بكتاب أضواء البيان / ط / عالم الكتب، وكتاب ترجمة الشيخ محمد الأمين لعبد الرحمن السديس / مواضع منه.

4 انظر: مذكرة الشيخ الأمين في أصول الفقه ص32-33.

5 انظر: المغني 10/351.

ص: 192

في القضاء ولا في الفتوى"1، وقال: "تنبيه: الإكراه الشرعي بمنزلة الطّوع"2.

وقال الشيخ محمد الأمين3: "

وأما في غير حق الغير فالظاهر أن الإكراه عذر يُسقط التكليف

" الخ4.

وقال ابن قدامة من الحنابلة: "

وإن كان الإكراه بحق نحو إكراه الحاكم المولي على الطلاق بعد التربص إذا لم يفئ

وقع الطلاق؛ لأنه قول حُمِل عليه بحق

"الخ5.

1 انظر: الخرشي مع حاشية العدوي 1/33.

2 المصدر السابق 1/34، وانظر المنتقى للباجي 2/31، ومذكرة الشيخ الأمين ص32-33.

3 هو: الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الشنقيطي الجنكي، ولد سنة 1325هـ، وتوفي بمكة المكرمة سنة 1393هـ. من مؤلفاته [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن]، و [أدب البحث والمناضرة] . انظر: آخر الجزء العاشر الملحق بكتاب أضواء البيان / ط / عالم الكتب، وكتاب ترجمة الشيخ محمد الأمين لعبد الرحمن السديس / مواضع منه.

4 انظر: مذكرة الشيخ الأمين في أصول الفقه ص32-33.

5 انظر: المغني 10/351.

ص: 193

2-

من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافرا، ولا يحكم عليه بأحكام المرتد1.

3-

عدم صحة لإقرار المكرَه2.

وجه التيسير:

وجه التيسير في هذه القاعدة أن الله تعالى قد أسقط عن الإنسان الإثم إذا ما فعل محرما أو ترك واجبا وهو مكروه، ولم يجعل الله سبحانه وتعالى آثار ما يصدر عنه من فعل أو قول تترتب عليه مع أن مقومات التكليف من الفهم والقدرة على الاختيار موجودة فيه، وذلك رخصة من الله تعالى؛ لكون الإنسان - في تلك الحال - ناقص الأهلية فهو إنما يفعل دفعا عن نفسه فلم يلزمه الله تعالى بالصبر على ما هدد به من قتل أو نحوه حتى في أصل الشريعة وهو الإيمان صيانة لنفسه وحفظا لها فلله الحمد والمنّة3.

1 انظر: تحفة الفقهاء 3/274، وشرح الخرشي 8/70، والمهذب 2/221، المغني 2/292.

2 انظر: تحفة الفقهاء 3/277، وشرح الخرشي 6/87، والمهذب 2/343، والمغني 12/362.

3 انظر: البحر المحيط 1/365.

ص: 194