الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الحادية عشر: الأمور بمقاصدها
…
القاعدة الحادية عشرة: الأمور بمقاصدها1.
هذه القاعدة هي إحدى القواعد الكبرى التي عليها مدار الفقه، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب القواعد الفقهية، أو من كتب الفقه من نص عليها، أو إشارة إلى معناها كما أنها قد وردت في بعض كتب الأصول2.
وألف في موضوعها - وهو النية - كتب مستقلة3.
1 لهذه القاعدة جانبان أحدهما تكليفي وهو كون المعل لا يصح ولا يحصل به الثواب إلا بالنية والإخلاص. والآخر تيسيري وهو المقصود هنا وسيأتي بيانه إن شاء الله.
2 انظر: - على سبيل المثال – الأشباه والنظائر للسبكي 1/5، وللسيوطي ص8، ولابن نجيم ص27، والإسعاف بالطلب ص63، ورسالة ابن سعدي في القواعد الفقهية ص10، وشرح الكوكب المنير 4/454.
3 منها: 1) الأمنية في إدراك النية للقرافي وهو جزء صغير.
2) ونهاية الإحكام في بيان ما للنية من الأحكام لأحمد بك الحسيني وهو كتاب صغير أيضا.
3) ومقاصد المكلفين أو النيات في العبادات للدكتور / عمر بن سليمان الأشقر وهو مجلد واحد.
4) والنية وأثرها في الأحكام الشرعية للدكتور / صالح بن غانم السدلان وهو في مجلدين.
ويندرج تحت هذه القاعدة عدد من القواعد والضوابط الأخرى التي تقيدها أو توضح معناها منها:
قاعدة ((لا ثواب إلاّ بنية)) ، وقاعدة ((ما تميّز بنفسه لا يحتاج إلى نية)) ، وقاعدة ((الصريح لا يحتاج إلا نية)) وغيرها1.
معاني المفردات:
الأمور: جمع أمر، وقد تقدم بيان معناه، وهو هنا بمعنى: الشيء، والشأن2.
بمقاصدها: المقاصد جمع مقْصَد، أو مقصِد وهو: مصدر ميمي للفعل قَصَد، والقصد يطلق في اللغة بمعنى الأمّ وإتيان الشيء، ويطلق بمعنى: التوسط بين الإفراط والتفريط، وبمعنى: استقامة الطريق، ومعان أخرى3 والمراد - هنا - المعنى الأول. فالقصد هنا
1 انظر: مجموع هذه القواعد في الأشباه والنظائر للسبكي 1/56 وما يعدها، وللسيوطي ص12 وما بعدها.
2 انظر: ص117.
3 انظر: الصحاح: 2/524-525، والمفردات ص404، والقاموس المحيط 1/327 (قصد) .
بمعنى النية فكأن الناوي يؤّم بقلبه الشيء ويتوجه إليه للإتيان به.
ويحسن هنا بيان معنى النيّة؛ لأنها مدار هذه القاعدة.
فالنية لغة: مصدر نوى، وهي بمعنى: العزم، والقصد، وهي أيضا الوجه الذي ينويه المسافر1. وعرّفها بعض الفقهاء اصطلاحا بما لا يعدو المعنى اللغوي فمن ذلك قولهم: هي: القصد إلى الشيء والعزيمة على فعله، وهذا التعريف للنية ونحوه إنما هو باعتبار العرف العام.
أما في اصطلاح الشرع فقد عُرفت بأنها: الإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله تعالى، وامتثالا لحكمه2.
المعنى الإجمالي:
المقصود بهذه القاعدة بيان أن الأعمال من قول وفعل تنبني - من حيث آثارها المترتبة عليها - على المقصود من ذلك العمل،
1 انظر: الصحاح 6/2516 (نوى) .
2 انظر: هذه التعريفات وغيرها في الأمنية في إدراك النية ص9-10، والأشباه والنظائر للسيوطي ص30، وغمز عيون البصائر 1/104، ونهاية الإحكام ص7، والنية وأثرها في الأحكام الشرعية 1/89-96.
ونيّة العامل.
فالعبادات - من حيث الجملة - لا تصح ولا تجزئ إلا مقترنة بالنية، ولا ثواب عليها إلا على أساس النية.
والعمل المباح قد يثاب عليه الإنسان إذا ما أحسن نيته فيه، وقد يعاقب إذا أساء نيته، واللفظ لا يدل على معناه إلا إذا اقترن بنية ذلك المعنى
…
وهكذا، ويستثنى من ذلك ما كان صريحا1.
الأدلة:
1) الأصل في هذه القاعدة هو حديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى
…
" 2 الحديث.
والحديث - بعمومه - دال على جانب التكليف والتيسير في القاعدة.
1 انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص19، وشرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقاء ص5، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص67.
2 أخرجه الشيخان، وهو عند البخاري بهذا اللفظ، وبألفاظ أخرى مقاربة. صحيح البخاري مع الفتح 1/15 (بدء الوحي / كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحيح مسلم مع النووي 13/53 (الإمارة / قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات) .
قال ابن دقيق العيد1: "إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى"، يقتضي أن من نوى شيئا يحصل له - يعني إذا عمله بشرائطه - أو حال دون عمله ما يعذر شرعا بعدم عمله، وكل ما لم ينوه لم يحصل له"2.
2) ومما يدل على جانبها التيسيري ما رواه جبر3 رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم
1 هو: محمد بن علي بن وهب القشيري المنفلوطي المالكي ثم الشافعي، ولد في شعبان سنة 625هـ، وتوفي سنة 702هـ. من مؤلفاته [الإلمام في أحاديث الأحكام]، و [شرح العنوان] في أصول الفقه. انظر: طبقات الشافعية الكبرى 9/207، والديباج المذهب 2/318-319.
2 انظر: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 1/51.
3 هو: الصحابي الجليل جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنه يكنى أبا عبد الله على الأصح، وقيل: إنه شهد بدرا، وأحدا، وقيل: لم يشهدهما، وشهد كثيرا من المواقع غيرهما توفي سنة 74هـ، وقيل: سنة 77هـ وعمره 94 سنة، وكان من المكثرين، الحفاظ للسنن. انظر: اسد الغابة 1/256-258، والإصابة 1/434-436.
المرض" 1.
وفي رواية أخرى: "
…
إلا شرِكوكم في الأجر" 2.
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: "وفي الحديث فضيلة النية في الخير، وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات فعرض له عذر منعه حصل له ثواب نيته
…
"الخ كلامه3.
3) حديث: "من مات ولم يغزُ ولم يحدّث به نفسه مات على شعبة من النفاق"4.
ووجه الدلالة منه: أنه لا يتوجه إلى من نوى فعل عبادة فمات
1 أخرجه الإمام مسلم. صحيح مسلم مع النووي 13/57 (الإمارة / ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر) . وأخرجه البخاري من طريق أنس رضي الله عنه بنحو هذا اللفظ. صحيح البخاري مع الفتح 1/732 (المغازي / باب 81) .
2 أخرج هذه الرواية الإمام مسلم أيضا في الموضع المتقدم قريبا.
3 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 13/57.
4 أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحيح مسلم مع شرح النووي 13/56 (الإمارة / ذمّ من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو
…
) .
قبل فعلها من الذم ما يتوجه إلى من مات ولم ينوها1.
4) حديث: "ما من امرئ تكون له صلاة بليْل يغبله عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة"2.
ودلالة الحديث على أن أجره إنما هو على النية ظاهرة، إذ لم يقيّد ذلك بقضائه3.
5) ومما يدل على أن العمل المباح يحصل به ثواب إذا أحسنت فيه النية ما رواه أبو ذر4 رضي الله عنه أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله ذهب أهل
1 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 13/56.
2 أخرجه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنه وصححه الألباني. سنن أبي داود مع عون المعبود 4/139 (قيا الليل / من نوى القيام فنام)، وانظر: صحيح سنن أبي داود 1/244.
3 انظر: عون المعبود 4/139.
4 هو: أبو ذر الغفاري اشتهر بكنيته، واختلف في اسمه اختلافا كبيرا، وأشهر ما قيا فيه: إنه جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه من كبار الصحابة وفضلائهم قديم الإسلام توفي سنة 31هـ أو 31هـ. انظر: أسد الغابة 5/186-188، والإصابة 7/127.
الدثور1 بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال:"أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون. إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بُضْعِ2 أحدكم صدقة" قالوا: "يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ " قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له الأجر"3.
قال النووي رحمه الله: "وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات"4.
1 الدثور: جمع دَثْر وهو المال الكثير، وأصل الدثار هو الثوب الذي يكون فوق الشعار. انظر: الصحاح 2/655، ولسان العرب 2/290 (دثر) .
2 البُضع في اللغة: النكاح، والمباضعة: المجامعة. الصحاح 3/1187 (بضع) .
3 أخرجه الإمام مسلم، صحيح مسلم مع النووي 7/91-92. (الزكاة / كل نوع من المعروف صدقة) .
4 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 7/92.
والأحاديث الدالة على أهمية النيّة في العمل، وقيامها - عند العذر - مقام العمل كثيرة وما تقدم فيه كفاية إن شاء الله.
العمل بالقاعدة:
لا خلاف بين العلماء في اعتبار هذه القاعدة والعمل بها - من حيث الجملة - إذ إنها أصل من أصول الشرع، وقائمة على أدلة صحيحة ثابتة، وقد نقل عدد من العلماء الإجماع على مشروعية النيّة في مواضع كثيرة1.
ولا يقدح في هذا الاتفاق كون العلماء قد اختلفوا في كون النية ركنا في العبادة، أو شرطا لها، ولا كونهم قد استثنوا بعض المواضع التي لا تحتاج إلى نية.
فقد استثنى العلماء من حكم هذه القاعدة:
1) العبادات التي تتميز بنفسها عن العادات؛ وذلك لأن من
1 انظر: على سبيل المثال الإجماع لابن المنذر ص8-15، وطرح التثريب 2/11، وبداية المجتهد 1/6، وانظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص9-11، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص19، وكتاب النية وأثرها في الأحكام الشرعية 1/169-175.
الأغراض المقصودة بالنية تمييز العبادة عن العادة1، فما لم يكن فيه حاجة إلى التمييز بينهما فإنه لا يحتاج إلى نية التقرب إلى الله بل يكفي مجرد القصد إلى الفعل ليخرج الذاهل، ومثلوا لذلك بالعبادات القلبية المتعلقة بالله تعالى كالخوف من الله تعالى، ورجائه، ومحبته ونحو ذلك.
2) النية: فإنها عبادة لكنها لا تحتاج إلى نية وإلا تسلسل الأمر.
3) أداء الديون وردّ المغصوب، ونحوها من الحقوق المالية لتحقق المراد دون نية، وإن كانت النية الحسنة تزيد على الأداء بتحصيل الثواب.
4) العادات كالأكل والشرب ونحوها فإنها في الأصل مشمولة
1 فإن من العبادات ما يمكن أن تقع من المكلف صورتها على سبيل العادة كترك الطعام والشراب وسائر المفطرات فإنها قد تترك حِمْيَة، أو نحوها فهو حينئذ عادة لا تحتاج إلى نية فإذا أريد بهذا الترك الصوم وهو عبادة احتاج ذلك إلى نية لتمييزه عن العادة. انظر: الأمنية في إدراك النية ص20-23، وقواعد الأحكام 1/207، والأشباه والنظائر للسبكي 1/59-60، وجامع العلوم والحكم ص7، 15، والأشباه والنظائر للسيوطي ص12، ولابن نجيم ص29.:
بعموم كلمة الأمور ويقال فيها ما قيل في أداء الديون1.
أما التروك: فقد اختلف العلماء في اشتراط النية لصحتها فذهب طائفة من العلماء إلى اشتراطها وذهب آخرون إلى عدم اشتراطها، وبنوا ذلك على كون الترك يعتبر فعلا أو لا يعتبر.
وجمع بعض العلماء بين القولين بجمع حسن؛ حيث قال: "إنه من حيث الخروج عن عهدة النهي فإنه لا تشترط النية بل يخرج المكلف عن عهدته ولو كان ذاهلا عنه، ولكنها تحتاج إلى نية التقرب إلى الله تعالى باعتبار حصول الثواب فإنه لا ثواب إلا بنيّة"2. إلا أنه يمكن القول: إنه قد يكفي في ذلك النية العامة بمعنى أنه لا يشترط أن يستحضر المكلف في ذهنخ كل نهي وينوي بتركه التقرب إلى الله تعالى ليحصل له الثواب. بل يكفيه في ذلك نيّة عامة بأن ينوي تجنب كل منهي عنه تقربا إلى الله تعالى وإن لم يستحضر في ذهنه أفراد المنهيات، والله أعلم.
1 انظر: ما يحتاج إلى نية وما لا يحتاج إليها في: الأمنية في إدراك النية ص27-28، والأشباه والنظائر للسبكي 1/59-60، وللسيوطي ص12، ولابن نجيم ص26، 30، وجامع العلوم والحكم ص7.
2 انظر: المراجع السابقة – قريبا – عدا الأشباه والنظائر للسيوطي.
من فروع القاعدة:
يتفرع على هذه القاعدة مسائل كثيرة جدا1 فمن فروعها:
1-
اشتراط التعيين فيما يلتبس كالصلوات المفروضة2.
2-
ومنها اللقطة إن التقطها الملتقط بنية التملك دون تعريف كان ضامنا، فرّط أو لم يفرّط، وإن التقطها بنية تعريفها لم يضمن إلا أن يفرط فيها أو يجد صاحبها بعد تمام تعريفها إن كان قد انتفع بها3.
3-
ومنها القتل فإن قَصَد الفاعل القتل كان عمدا ووجب فيه القصاص إذا لم يعف الولي، وإن لم يقصد القتل لم يكن
1 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص14-15.
2 ذهب بعض العلماء إلى عدم اشتراط التعيين فيكفي أن ينوي الصلاة وتتعين الصلاة بتعين الوقت. انظر أقوال العلماء في المسألة في الهداية 1/48، وشرح الخرشي 1/265-266، والتنبيه ص30، والمغني 2/132، والشرح الممتع على زاد المستقنع 2/286.
3 انظر المسألة في: حاشية رد المحتار 4/276، والقوانين الفقهية ص293-294، والمهذب 1/430-431، والمغني 8/307-313، 316.
عمدا، ولم يجب فيه القصاص1.
وجه التيسير:
هذه القاعدة - كما قدمت - لها وجه تيسير ووجه تكليف فأما وجه التيسير فهو أنه قد يحصل للمكلف ثواب العمل وإن لم يعمله إذا نواه وعزم عليه ثم عرض له ما يمنعه منه، وأن الإنسان يؤجر على الفعل المباح الذي يفعله الناس بداعي الطبع وذلك إذا أحسن نيته فيه، كما للنية أثرا في إسقاط الإثم عمن لم يعمل الواجب وذلك إذا كان وقته موسعا وأخّره عازما على فعله2.
1 انظر المسألة في الهداية 4/501، والقوانين الفقه9ية ص295، والتنبيه ص214، والمغني 11/457.
2 انظر: المغني 2/45، ومقاصد المكلفين ص360.