الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة التاسعة عشر: الضرورات تبيح المحظورات
.
…
القاعدة التاسعة عشرة: الضرورات تبيح المحظورات.
هذه القاعدة هي إحدى القواعد الكلية الفرعية؛ فقد أدرجها بعض العلماء تحت قاعدة ((الضرر يزال)) 1، وبعضهم تحت قاعدة ((المشقة تجلب التيسير)) ، أو تحت قاعدة ((إذا ضاق الأمر اتسع)) 2.
وقد أوردها الإمام الشافعي بنحو هذا اللفظ3، كما وردت في أكثر كتب القواعد بهذه الصيغة أو نحوها4، واعتبرها البعض
1 ممن أدرجها تحت هذه القاعدة السبكي، والسيوطي، وابن نجيم، وغيرهم. انظر: الأشباه والنظائر للسبكي 1/46، وللسيوطي ص84، ولابن نجيم ص85، وشرح الكوكب المنير 4/443-444.
2 انظر: الوجيز ص175، وكتاب المشقة تجلب التيسير ص374 وما بعدها.
3 انظر: الأم 4/66، 91، وأحكام القرآن للشافعي 2/91.
4 انظر: ما تقدم ذكره من كتب القواعد الفقهية إضافة إلى المنثور 2/317، وإيضاح المسالك ص365، والقواعد والأصول الجامعة ص22، ورسالة ابن سعدي ص20.
من القواعد الأصولية أيضا1.
وبمعناها قول ابن القيم، وابن سعدي:((لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة)) 2.
معاني المفردات:
الضرورات: جمع ضرورة، وقد مضى بيان معناها.
تبيح: من الإباحة، وقد مضى بيان معناها أيضا.
المحظورات: جمع محظور وهو اسم مفعول من حَظَ الشيء: منعه وحجره، والمحظور هو المحرّم3.
وفي الاصطلاح عُرّف بأنه: ما يذم – شرعا – فاعله، وقيل: ما يذم
1 تكون قاعدة أصولية باعتبار أن موضوعها دليل شرعي، فهي بمعنى قوله تعالى:{إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الأنعام (119)، أما باعتبار أن موضوعها فعل المكلف فهي قاعدة فقهية. انظر: القواعد النورانية ص201 وما بعدها، وإيضاح المسالك مع هامش التحقيق ص365، والقواعد الفقهية للندوي ص61.
2 انظر: أعلام الموقعين 2/41، والقواعد والأصول الجامعة ص22.
3 انظر: الصحاح 2/634، والقاموس المحيط 2/11 (حظر) .
فاعله ويمدح تاركه، وقيل: ما ينتهض فعله سببا للذم شرعا بوجه ما من حيث هو فعل له1.
المعنى الإجمالي:
معنى هذه القاعدة أن المحرم يصبح مباحا2 إذا عرض للمكلف ضرورة تقتضي ذلك بحيث لا تندفع تلك الضرورة إلا بارتكاب ذلك المحرّم، كما إذا اشتد الجوع بالمكلف وخشي الهلاك، فإنه يجوز له أكل الميتة ونحوها، وفي معنى هذا – أيضا – سقوط بعض الواجبات، أو تخفيفها بسب الضرورة3، ويشير إلى هذا المعنى القاعدة التي تقدمت قريبا ((لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة)) والمراد بالإباحة – هنا – ما يقابل التحريم؛ لأن بعض العلماء أوجبوا على المضطر الأكل من الميتة، وذهب بعضهم إلى أن
1 انظر: الإحكام للآمدي 1/106، ومناهج العقول 1/63-64، وإرشاد الفحول ص6.
2 اختلف العلماء فيما يجوز فعله للضرورة وأصله التحريم: هل يصير بالضرورة مباحا في حق المضطر أم يبقى على تحريمه ويسقط الإثم فيه عن المضطر؟ انظر: كشف الأسرار عن أصول البزودي 2/322، وحاشية العدوي على شرح الخرشي 3/28.
3 انظر: نظرية الضرورة الشرعية ص74، 279.
ذلك رخصة يجوز الأخذ بها وتركها1.
وهي بهذا المعنى أخص من قاعدة: ((المشقة تجلب التيسير)) ؛ لأن المشقة أعمّ من الضرورة، فليست كل مشقة راعاها الشرع تعتبر ضرورة بل منها ما هو دونها2.
وقُيّدت هذه القاعدة بقيود وقواعد أخرى منها:
قاعدة ((الضرورة تقدر بقدرها)) 3 فلا يباح للمضطر إلا بقدر ما يدفع الضرورة.
ومنها أن من العلماء من قيدها بألا تنقص الضرورة عن المحظور بمعنى ألا يكون المحظور حرمة مما قد يترتب على استمرار الضرورة من مفسدة، ومثّلوا لذلك بمن اضطر إلى أكل ميتة الآدمي
1 انظر: أحكام القرآن لابن عربي 1/56، والجامع لأحكام القرآن 2/227، وحاشية رد المحتار 5/338، والخرشي مع حاشية العدوي 3/28، والمهذب 1/250، والمغني 13/331-332، وشرح الكوكب المنير 1/479، ونظرية الضرورة الشرعية ص285-287.
2 انظر: نظرية الضرورة الشرعية ص218، والمشقة تجلب التيسير ص378.
3 أشار إلى التقييد بهذه القاعدة أكثر العلماء الذين أوردوا قاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) فانظر ما تقدمت الإحالة إليه من كتب القواعد.
– على القول بجوازه1 فإنه لا يجوز أن يأكل منها لو كان الميت نبيا، وإن أبيح له أكل غيره؛ لأن حرمة النبي في الشرع أعظم من نفس المضطر2، فتكون من باب دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما3.
1 صرّ ح بجواز ذلك الشافعية، وبه قال بعض المالكية، وبعض الحنابلة والمنصوص عليه عند المالكية عدم الجواز، وهو مذهب الحنابلة أيضا.
أما الحنفية فلم أقف على تصريح في كتبهم بحكم ذلك وإنما يتعرضون لحرمة قتل الإنسان اضطرارا وأصرح ما وجدت في الموضوع قول ابن عابدين: "وإن قال له آخر: اقطع يدي وكلها لا يحل؛ لأن لحم الإنسان لا يباح في الاضطرار لكرامته"، وقد نقل ابن قدامة عنهم القول بجواز الأكل من ميتة الآدمي اضطرارا، ونسب إليهم بعض الباحثين القول بعدم الجواز بناء على ما قالوه في حرمة الآدمي. والله أعلم. انظر: المبسوط 24/48، والبحر الرائق 8/84، وحاشية رد المحتار 6/238، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 2/145، 3/28، والمهذب 1/251، والأشباه والنظائر للسيوطي ص84، والمغني 13/339، وأحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية ص463.
2 صرّح بعض علماء الشافعية بهذا القيد وجعلوه من لفظ القاعدة، وهو قيد معتبر عند الجميع، وإن لم ينصوا عليه يتبين ذلك من فروع هذه القاعدة. انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص84، ولابن نجيم ص85، والوجيز ص179، والمشقة تجلب التيسير ص378.
3 انظر: المجموع المذهب (رسالة) 1/377، والوجيز ص18.
ومما قيدت به – أيضا – قاعدة ((الاضطرار لا يبطل حق الغير)) فيلزم من اضطر إلى أكل مال غيره، أو نحو ذلك ضمانه1.
الأدلة:
أولا: يدل لهذه القاعدة ما ورد من الآيات والأحاديث دالا على أن للمضطر حكما يخالف غيره، وأنه يباح له ما لا يباح لغيره، ومن ذلك:
1) قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 2.
2) وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.
3) وقوله سبحانه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 4.
4) وقوله عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ
1 انظر: الوجيز ص185، ونظرية الضرورة ص226.
2 البقرة (173) .
3 المائدة (3) .
4 الأنعام (119) .
رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
5) وقوله سبحانه: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.
6) من السنة ما وراه جابر بن سمرة3 رضي الله عنه: "أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت فإن وجدتَها فأمسكها فوجدها فلم يجد صاحبها، فمرضت، فقالت امرأته انحرها. فأبى فَنَفقَت4 فقالت: اسلخها حتى نقدّد5 شحمها ولحمها ونأكله. فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال: "هل عندك غنى يغنيك؟ " قال: لا.
1 الأنعام (145) .
2 النحل (115) ز وانظر: الجامع لأحكام القرآن 2/225.
3 هو: جابر بن سمرة بن جنادة العامري السُّوائي رضي الله عنه قال: كنيته: أبو خالد وقيل: أبو عبد الله، سكن الكوفة، قيل: إنه توفي سنة 74هـ، وقيل: سنة 66هـ. انظر: أسد الغابة 1/254، والإصابة 1/431.
4 نفقت الدابة نفوقا، ماتت. انظر: القاموس المحيط 3/286 (نفق) .
5 نقدد أي: نقطع والقدّ القطع المستأصل والشق طولا، والقديد هو اللحم المقدد. انظر: الصحاح 2/522 (قدد) ، والقاموس المحيط 1/325 (قدّ) .
قال: "فكلوها". قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر. فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحيت منك"1.
ثانيا: عموم الأدلة التي تدل على يسر الشريعة أصلا، وعلى التخفيف عند وجود العذر الطارئ، ومنها:
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2، وقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 3، وقوله عز وجل:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 4 الآية.
عمل الفقهاء بالقاعدة:
هذه القاعدة من القواعد المتفق عليها، فقد نص عليها الفقهاء من
1 أخرجه أبو داود، وحسنه الشيخ الألباني. سنن أبي داود مع عون المعبود 10/210-1-211، (الأطعمة / فيمن اضطر إلى الميتة)، وانظر: صحيح سنن أبي داود 2/724.
2 البقرة (185) .
3 الحج (78) .
4 النساء (43)، والمائدة (6) . وانظر: مزيدا من الأدلة في كتاب المشقة تجلب التيسير ص378-381.
المذاهب الأربعة في كتب القواعد، وفي كتب الفروع1، وصرّح الشيخ السعدي بالاتفاق عليها2، كما نقل ابن المنذر، وغيره الإجماع على إباحة الميتة للضرورة3، وهي إحدى مسائل هذه القاعدة.
من فروع القاعدة:
يتفرع على هذه القاعدة مسائل كثيرة منها:
1-
إباحة أكل الميتة للمضطر4.
2-
إباحة النطق بكلمة الكفر عند الاضطرار5.
1 انظر: ما تقدمت الإحالة إليه من كتب القواعد الفقهية، وانظر أحكام القرآن للشافعي 2/91، والقوانين الفقهية ص150، والمغني 13/332.
2 انظر: رسالة ابن سعدي في القواعد الفقهية ص20.
3 انظر: الإجماع لابن المنذر ص78، وأضواء البيان 1/92، والمغني 13/330.
4 انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص85، والقوانين الفقهية ص150، والمهذب 1/250، والمغني 13/330.
5 انظر: الهداية 3/310، والقوانين الفقهية ص313، والتنبيه ص231، والمغني 12/292.
3-
دفع الصائل ولو أدّى إلى قتله1.
وجه التيسير:
التيسير في هذه القاعدة واضح حيث جعل الله تعالى ما كان محرما في أصله مباحا عند الضرورة، لا إثم في الإقدام عليه.
قال ابن كثير2 رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.
قال: "غفور فيما أكل من اضطرار، ورحيم إذ أحلّ له الحرام في الاضطرار4.
1 انظر: الهداية 4/508، وشرح الخرشي 8/105، والتنبيه ص220، والمغني 12/531.
2 هو أبو الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القيسي الشافعي. اختلف في ولادته فقيل: سنة 700هـ، وقيل سنة 701هـ. له عدة مؤلفات منها:[البداية والنهاية] في التاريخ، و [الباعث الحثيث على معرفة علوم الحديث]، توفي سنة 774هـ. انظر: الدرر الكامنة 1/399-400، وطبقات المفسرين للداودي 1/110-112.
3 البقرة (173) .
4 انظر: تفسير القرآن العظيم 1/212.