الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الحادية والثلاثون: المتولد من مأذون فيه لا أثر له
.
أورد هذه القاعدةالزركشي1، والسيوطي2، وابن سعدي3، وذكر أبو زيد الدبوسي4: أن الأصل عند أبي يوسف5، ومحمد6 أن ((ما حصل مفعولا بإذن الشرع كأنه حصل بإذن من
1 انظر: المنثور 3/163، ومختصره (رسالة) 2/687.
2 انظر: الأشباه والنظائر له ص141.
3 انظر: القواعد والأصول الجامعة ص50.
4 هو: عبيد الله بن عمر الدبوسي من كبار فقهاء الحنفية، توفي سنة 430هـ، وقيل: سنة 432هـ. من مؤلفاته كتاب [الأسرار]، و [تقويم الأدلة] . انظر: الجواهر المضية 2/499-500، وتاج التراجم ص36.
5 هو: يعقوب بن إبراهيم الأنصاري صاحب أبي حنيفة، وتوفي سنة 182هـ، وقيل: سنة 181هـ. من مؤلفاته [النوادر]، و [الخراج] . انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص134، وتاج التراجم ص81، والفوائد البهية ص225.
6 هو: محمد بن الحسن الشيباني، وهو وأبو يوسف هما اللذان نشرا علم أبي حنيفة، ولد سنة 131هـ، وتوفي سنة 189هـ. من مؤلفاته [السير الكبير]، و [السير الصغير] . انظر: تاج التراجم ص54، والفوائد البهية ص163.
له الولاية من بني آدم، وعند أبي حنيفة يكون ذلك بشرط السلامة)) 1، ونحوها قول السبكي:((إن المأذون في فعله من قِبَل الله - فيما تمحض حقا لله - كالمأذون في فعله من قبل العبد - فيما هو من حقوق العباد -)) 2، وأورد بعض العلماء قواعد أخرى قريبة المعنى من هذه القاعدة منها:
1-
قاعدة: ((الجواز الشرعي ينافي الضمان)) 3.
2-
وقاعدة: ((كل موضوع بحق إذا عطب به إنسان فلا ضمان على واضعه)) 4.
3-
وقاعدة: ((الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه)) 5.
1 انظر: تأسيس النظر المطبوع مع أصول الكرخي ص40.
2 انظر: الأشباه والنضائر للسبكي 2/297.
3 انظر خاتمة مجامع الحقائق مع شرحه ص318، والمجلة مع شرح سليم رستم 1/59-60، والفوائد البهية لمحمود حمزة ص138، والمدخل الفقهي 2/1033، وكتاب الفعل الضار والضمان فيه ص102.
4 انظر: المراجع السابقة.
5 انظر: الأشباه والنظائر للسبكي 1/152، الأشباه والنظائر للسيوطي ص141.
وقد أشار القرافي إلى هذا المعنى في موضعين1.
معاني المفردات:
المتولد: ما حصل عنه غيره يقال: تولد الشيء عن الشيء حصل عنه2.
المعنى الإجمالي:
معنى هذه القاعدة أن الفعل الذي أذن فيه الشارع - وهو ما ليس بمحرم - إذا نشأ عنه أمر آخر لم يأذن الشارع فيه - بمعنى أنه لا يجوز الإقدام عليه ابتداء - فإن الآثار التي تترتب على هذا الأمر - فيما لو فُعل ابتداء - تسقط في هذه الحال؛ لكون هذا الأمر ناشئا عما أذن فيه، ويشمل ذلك الأثر المترتب المتعلق بحق الله تعالى فيسقط الإثم، وما قد يترتب من جزاء3، ومثاله أن يتطيب من يريد الإحرام - قبل إحرامه -، ثم يسري الطيب إلى جزء آخر من جسمه بعد الإحرام فإنه لا إثم عليه ولا فدية4، كما يشمل الأثرَ المترتب في حق العباد حيث يسقط الضمان.
1 انظر: الفروق 1/195، 4/27-28.
2 انظر: مقاييس اللغة 6/143 (ولد) .
3 المراد بالجزاء هنا الفدية، أو الكفارة، أو نحوها.
4 انظر: مختصر قواعد الزركشي للشعراني (رسالة) 2/688.
ومثاله أن يقتص إنسان من آخر في طَرَف، فيسري ذلك إلى النفس، أو ما دونها، فإنه لا قصاص عليه ولا دية - عند الأكثرين - بشرط أن يكون قد اقتص على الوجه الشرعي1.
فقد قيد العلماء هذه القاعدة وما في معناها من القواعد بقيدين:
أولهما: أن لا يكون ذلك الفعل المأذون فيه مشروطا بسلامة العاقبة، فإن كان مقيدا بذلك ترتب عليه أثره مثل ضرب المعلم للصبي ونحوه2.
والثاني: ألا يكون عبارة عن إتلاف مال الغير لأجل نفسه3.
1 سيأتي - إن شاء الله - تفصيل القول في هذه المسألة.
2 هذه هو رأي الإمامين أبي حنيفة والشافعي بناء على أنه أمر مباح والإذن في المباح - عندهما - مقيد بشرط السلامة، أما الحنابلة، وصاحبا أبي حنبفة فإنهم يرون أنه لا ضمان عليه - أي لا يترتب عليه أثره -؛ لأنه مأذون فيه، ونسب ذلك إلى الإمام مالك، وللمالكية فيه تفصيل. انظر: حاشية رد المحتار 6/565، والمقدمات الممهدات 3/332، ومغني المحتاج 4/199، والمغني 12/528، والفقه الإسلامي وأدلته 6/211.
3 انظر: مختصر قواعد الزركشي للشعراني (رسالة) 2/689، وشرح القواعد الفقهية ص381، والمدخل الفقهي العام 2/1032-1033.
وأضاف بعضهم قيد عدم التفريط1.
والذي يظهر لي أن كلمة المأذون فيه، أو الجواز الشرعي تتضمنه وإن لم ينص عليه؛ لأن الإذن، أو الجواز مقيد - شرعا - بعدم التفريط.
وبالمقارنة بين قاعدة ((المتولد من مأذون فيه لا أثر له)) ، وبين القاعدة الأخرى التي دلت على كون الحكم مفوضا في حكم الضمان نجد أن صيغة ((المتولد من مأذون فيه
…
)) أشمل، وأدق. فهي أشمل من حيث كونها دالة على سقوط الأثر المترتب، سواء كان ضمانا أو غيره فإن الضمان يراد به - غالبا - ما يتعلق بحقوق العباد، وإن كان يصح إطلاق الضمان على ما يتعلق بحقوق الله تبارك وتعالى2.
وهي أدق - عبارة - حيث أن عبارة "المتولد من مأذون فيه" تُشعر بأن هذا المتولد أو الحادث غير مأذون فيه أصلا، ولا يظهر هذا المعنى في قولهم: "الجواز الشرعي
…
"بل إما أن يكون المراد بالمتصف بالجواز شرعا هو الفعل الأصلي المأذون فيه ابتداء،
1 انظر: فتح الباري 12/232.
2 انظر: المغني 5/133.
وحينئذ لا كلام في عدم ترتب أثره عليه، وإما أن يكون المراد به ما ينشأ عن الفعل الأصلي، وحينئذ يكون التعبير عن ذلك بأنه جائز شرعا محل نظر؛ لأنه لا يجوز شرعا الإقدام عليه ابتداء، وإنما يسقط أثره إذا وقع مرتبا على ما أذن فيه، والله أعلم.
وقد ذكر ابن رجب قواعد أخرى تندرج تحت هذه القاعدة منها:
قوله: "من أتلف شيئا لدفع أذاه له لم يضمنه، وإن أتلفه لدفع أذاه به ضمنه"1، وقوله:"من أتلف نفسا أو أفسد عبادة لنفع يعود إلى نفسه فلا ضمان عليه وإن كان النفع يعود إلى غيره فعليه الضمان"2، ويمكن اعتبارهما بمثابة القيدين لقاعدة ((الجواز الشرعي ينافي الضمان)) 3.
وكما هو ظاهر فإن كل واحدة من القاعدتين تضم شقين:
1 قواعد ابن رجب ص36.
2 المرجع السابق ص37.
3 كما تقدم فإن بين قاعدة ((الجواز الشرعي ينافي الضمان)) ، وبين قاعدة ((المتولد من مأذون فيه لا أثر له)) تقراب في المعنى من جهة، ونوع من الفرق من جهة أخرى؛ ولذا فإن الذي ظهر لي أن هاتين القاعدتين أقرب إلى كونهما مقيدتين لقاعدة ((الجواز الشرعي
…
)) من كونهما مقيدتين لقاعدة ((المتولد
…
)) ؛ لأن ما ذكر فيها من قبيل ما يجوز شرعا لا من قبيل ما يتولد عن مأذون فيه أو جائز شرعا. والله أعلم.
الأول منهما يطابق القاعدة المذكورة، والثاني منهما يقيدها فبالنسبة للقاعدة الأولى منهما نرى أن قول ابن رجب:((من أتلف شيئا لدفع أذاه له لم يضمنه)) مطابق للقاعدة من حيث عدم ترتب الضمان على ما يجوز فعله شرعا؛ لأنه - أي الصائل، وما في حكمه - قد اضطّر المكلّف إلى ذلك الإتلاف فلذلك لم يضمنه، وأما قوله:"وإن أتلفه لدفع أذاه به ضمنه"، فهو استثناء من القاعدة وقَيْد لها وذلك؛ لأن المكلف - هنا - قد دفع به عن نفسه مضرة من غير جهة المتلف فَضَمِنَه1.
وبالنسبة للقاعدة الثانية فإن قوله: "من أتلف نفسا، أو
1 انظر: الفروق 4/183، والاستغناء في الفروق والاستثناء 2/589، والذي يظهر من كلام الفقهاء - في بعض مسائل هذه القاعدة - أن جمهورهم يرى التقييد بها، حيث ذكر عدد من الفقهاء أن المحرم إذا قتل صائلا خشي منه الهلاك أو نحوه، فإنه لا فدية عليه، وإذا قتل الصيد مضطرا إلى أكله جاز له ذلك وعليه الفدية، ولم يفرق الشافعية بين الصورتين في عدم لزوم الفدية. انظر: الهداية 1/187، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 2/366-367، والمجموع 7/310، والمغني 5/369.
أفسد عبادة لنفع يعود إلى نفسه فلا ضمان عليه"، مطابق للقاعدة من حيث عدم ترتيب الضمان على ما جاز فعله شرعا؛ لأن الاضطرار يبيح له ذلك، وأما قوله: "وإن كان النفع يعود إلى غيره فعليه الضمان"، فهو استثناء من القاعدة؛ لأن المتلف في هذه الحالة ليس مضطرا بنفسه1، ويمكنه أن يدفع تلك المفسدة من جهة غيره والضمان إنما يسقط عن المضطر نفسه (على ما تقدم
1 انظر: المغني 4/394، والذي يظهر من كلام بعض الفقهاء أن التقييد بهذه القاعدة ليس محل اتفاق، حيث اتفقوا على أنه لا فدية على الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفا على نفسيهما، واختلفوا فيما إذا أفطرتا خوفا على ولديهما فذهب الحنفية إلى أنه لا فدية عليها - أي مع أن النفع متعلق بغيرهما، وذهب المالكية - في المشهور عنهم - إلى أن الفدية على المرضع التي تخاف على ولدها دون الحامل، وذهب الشافعية في إحدى الروايات وهي التي صححها الشيرازي إلى أنهما إن خافتا على ولديهما لزمتهما الفدية، وهو كذلك مشهور مذهب الحنابلة. وهم بهذا يعملون بهذا القيد؛ لأن المضرة التي دفعتها الحامل والمرضع على رأي الشافعية والحنابلة والتي دفعتها المرضع فقط - على رأي المالكية - تعلقت بغيرها فلزمتهما الفدية التي هي نوع من الضمان، والله أعلم. انظر: الهداية 1/137، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 2/261، والمهذب 1/178، والمغني 4/394.
بيانه في القاعدة الأخرى السابقة) .
الأدلة:
يدل لهذه القاعدة:
1-
ما روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلا عض يد رجل، فنزع يده من فمه، فوقعت ثنيتاه، فاخنصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"يعضُّ أحدكم أخاه كما يعض الفحل. لا دية له"1.
ووجه الاستدلال منه أن الرجل الذي نزع يده قد فعل شيئا مأذونا فيه، فترتب على ذلك الفعل ضرر أهدره الشارع.
قال الحافظ ابن حجر: "وفيه دفع الصائل، وأنه إذا لم يمكن الخلاص منه إلا بجناية على نفسه، أو على بعض أعضائه ففعل ذلك به، كان هدرا"2.
2-
الإجماع على أنه من شهر على آخر سلاحا؛ ليقتله؛ فدفع عن نفسه؛ فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه3.
1 أخرجه البخاري. صحيح البخاري مع الفتح 12/229 (الديات / إذا عض رجلا فوقعت ثناياه) .
2 فتح الباري 12/233.
3 نقل هذا الإجماع، واستدل به ابن حجر في: الفتح 12/232.
3-
كما يمكن الاستدلال على القاعدة بالأثر المروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قلا في الذي يموت في القصاص: "لا دية له"1.
4-
أن المكلف قد أقدم على ما هو مباح له مأذون له فيه، فلا يضمن ما ترتب عليه، ولا تلحقه تبعته2.
العمل بالقاعدة:
تقدم أنه قد ذكر هذه القاعدة بلفظها أو بمعناها عدد من فقهاء المذاهب الأربعة3، ويمكن التعرف على مدى عمل الفقهاء بهذه القاعدة من خلال النظر في حكم بعض المسائل الجزئية، فقد نقل النووي عن كثير من الفقهاء، أو الأكثرين منهم أنه لا ضمان على المجني عليه في مثل قصة حديث عمران بن حصين المتقدم4،
1 رواه البيهقي، وروي عن علي رضي الله عنه أيضا قوله:"من مات في حد فإنما قتله الحد فلا عقل له. مات في حد من حدود الله". السنن الكبرى 8/68 (الديات / الجل يموت في قصاص الجرح)، وانظر: تلخيص الحبير 4/20.
2 انظر: المغني 11/561، والهداية 4/517-518.
3 راجع ما تقدم في ص 413.
4 انظر: شرح صحيح مسلم 11/160.
ونسبه ابن حجر إلى الجمهور1، وروي عن الإمام أحمد أن عليه الضمان، وعلل بعضهم ذلك بأن الحديث لم يبلغه2، وصرح ابن جزي من المالكية، والشيرازي من الشافعية، وابن قدامة من الحنايلة بأنه لا ضمان على من اقتص في الطرف فسرى ذلك إلى نفس المقتص منه فمات3، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية، أما الإمام أبو حنيفة فقد نُقل عنه القول بأن عليه الدية ويسقط القصاص للشبهة، وعلل ذلك بأنه قتل بغير حق، وبأن المجني عليه غير ملزم بالقصاص. بل هو مندوب إلى العفو، أما الإمام، أو من يأمره الإمام فإنه لا يضمن؛ لأنه مكلف بالفعل، ومعنى هذا أنه يقصر حكم هذه القاعدة على ما إذا كان المأذون فيه واجبا. أما المباح فيتقيد بوصف السلامة4.
من فروع القاعدة:
1-
ماسبق ذكره من أن من اقتص من آخر في طرف، فسرى
1 انظر: فتح الباري 11/233.
2 انظر: شرح صحيح مسلم 11/160، وفتح الباري 11/233.
3 انظر: القوانين الفقهية ص301-302، والمهذب 2/188، والمغني 11/561.
4 انظر: الهداية 4/517-518، وانظر في بيان مأخوذهم في هذا: الأشباه والنظائر للسبكي 2/297.
ذلك إلى نفس المقتصِّ منه، فمات، فلا ضمان عليه عند الجمهور.
2-
مالو تطيب الإنسان قبل الإحرام، فسرى الطيب إلى موضع آخر بعد الإحرام1.
3-
مالو سبق ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى جوفه، وهو صائم دون مبالغة فإنه لا يفطر عند الشافعية والحنابلة وهو مقتضى القاعدة وذهب الحنفية والمالكية إلى أنه يفطر2.
وجه التيسير:
أن الشارع أسقط عن المكلف ضمان ما تلف بسبب فعل ما أُذن له فيه مع أن الأصل ضمان المتلفات، وأسقط عنه إثم وجزاء ما حصل منه مرتبا على فعل ما أذن له فيه مع أنه لو فعله ابتداء لترتب عليه أثره من ضمان ونحوه؛ وذلك تيسيرا من الله تعالى على عباده؛ إذ لو كلفهم بتبعة هذه الأمور لوقع الناس في حرج من فعل ما أباحه الشارع خشية عاقبته3، والله أعلم.
1 انظر: حاشية رد المحتار 2/544، وشرح الخرشي 2/352، والمجموع 7/196، والمغني 5/80.
2 انظر: حاشية رد المحتار 2/201، والقوانين الفقهية ص104، والمهذب 1/183، والمغني 4/365.
3 انظر: المدخل الفقهي 2/1032.