الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الحادية والعشرون: العبادات الواردة على وجوه متعددة يجوز فعلها على جميع تلك الوجوه من غير كراهية
.
…
القاعدة الحادية والعشرون: العبادات الواردة على وجوه متعددة يجوز فعلها على جميع تلك الوجوه من غير كراهة.
ذكر هذه القاعة ابن رجب، ونص على أنها قاعدة في مذهب الإمام أحمد1 وذكرها كذلك ابن تيمية عند حديثه عن الأذان حيث قال: "
…
وهذا أصل مستمر له - أي للإمام أحمد - في جميع صفات العبادات: أقوالها وأفعالها يستحسن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير كراهة لشيء منه مع علمه بذلك، واختياره للبعض أو تسويته بين الجميع"2.
وأشار إليها فقهاء المذاهب الأخرى3.
معاني المفردات:
العبادات: جمع عبادة، والعبادة لغة: الطاعة، وهي من التعبيد، وهو التذليل. وأصل العبودية الخضوع والذل4.
1 انظر: القواعد لابن رجب ص14.-
2 القواعد النورانية ص41، وانظر: مجموع الفتاوى 22/66-67.
3 سيأتي ذكر شسء من ذلك عند بيان عمل الفقهاء بهه القاعدة، إن شاء الله.
4 انظر: الصحاح 2/503 (عبد) .
وفي الاصطلاح عرّفت بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، وعرفت بغير ذلك1.
كراهة: مصدر كرِهَ، وقد مضى بيان معناه اللغوي.
والمكروه في الاصطلاح عرّف بأنه: ما يمدح تاركه ولم يذمّ فاعله. وقد يطلق ويراد به المحظور، وقد يطلق ويراد به ترك الأولى2.
المعنى الإجمالي:
المراد بهذه القاعدة أن بعض العبادات قد تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم على
1 انظر: كتاب العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص5، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص14.
2 قال الزركشي: خلاف الأولى أهمله الأصوليون، وذكره الفقهاء وهو واسطة بين الكراهة والإباحة، وذكر أن من العلماء من فرق بين المكروه وخلاف الأولى بأن المكروه يكون فيه نهي مقصود، وخلاف الأولى لا يكون فيه نهي مقصود كترك المستحبات، ثم قال: والتحقيق أنه قسم من المكروه ودرجات المكروه تتفاوت. انظر في تعريف المكروه: المحصول ج1 ق1/131، وشرح الكوكب المنير 1/، وانظر في بيان الفرق بينه وبين خلاف الأولى: البحر المحيط 1/302-303، وشرح الكوكب المنير مع هامش المحقق 1/419.
وجوه وصور متعددة، فيكون صلى الله عليه وسلم قد سنّ كلا منها فإذا ثبت نقل هذه الوجوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم جاز للمكلف أن يفعل تلك العبادة على أي صورة من هذه الصور، ولا يكره له شيء منها. مثال ذلك: الأذان والإقامة، فقد روي بألفاظ متعددة1، وكذلك صلاة الخوف حيث وردت السنة بثبوتها عنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مواضع متعددة على صور متعددة2، وكذلك ألفاظ التشهد3.
الأدلة:
1) أن كل تلك الأوجه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها قد ثبتت عنه، فبأيها عمل المسلم كان عاملا بالسنة، مقتديا النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بعضها بأولى من بعض إلا لسبب معيّن. فالأخذ ببعضها
1 انظر ما ورد في ألفاظ الأذان والإقامة في: صحيح مسلم وشرح النووي عليه 4/80-81، ونيل الأوطار 2/15 وما بعدها.
2 انظر الأوجه الواردة في صلاة الخوف في: صحيح مسلم وشرح النووي عليه 6/124 وما بعدها، ونيل الأوطار 4/2-9.
3 انظر ما ورد في ألفاظ التشهد في: صحيح مسلم وشرح النووي عليه 4/115-122، ونيل الأوطار 2/312-316.
دون البعض مع منع أو كراهة الأخذ ببعض تحكُّم1.
2) أنه قد نُقل الإجماع على صحة الأوجه المتعددة في بعض المسائل كما نقله النووي رحمه الله في ألفاظ التشهد، حيث قال:"واتفقت العلماء على جوازها كلها واختلفوا في الأفضل"2.
عمل الفقهاء بالقاعدة:
صرّح أصحاب الإمام أحمد بأن هذه قاعدته فيما ثبت نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجوه متعددة كما تقدم، وقد سئل الإمام أحمد عن الرجل يرجِّع3 في أذانه فقال: "إن رجّع فلا بأس، وإن لم يرجّع فلا
1 انظر: نيل الأوطار 4/3. والتحكّم لغة: يراد به اختيار أحد المتساويين أو المتساوين مع المنع من غيره دون دليل. وهذا ما يدل عليه استعمال الأصوليين وغيرهم لهذا المصطلح، وعرفع صاحب معجم مصطلحات أصول الفقهي أنه: الدعوى المجردة عن دليل. انظر: المعجم الوسيط 1/189، ومعجم مصطلحات أصول الفقه ص123.
2 شرح النووي على صحيح مسلم 4/115.
3 الترجيع لغة: من الرجوع وهو العَوْد. وفي الاصطلاح: هو العود إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت. انظر: مقاييس اللغة 2/490 (رجع) ، وشرح النووي على صحيح مسلم 4/81، والمنتقى 1/135.
بأس"1 وكذلك في صلاة الخوف فقد نقل الشوكاني2 عنه قوله: "ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث، أو سبعة، أيها فعل المرء جاز"3.
والإمام أحمد قد يختار بعض هذه الوجوه لسبب ما، ولكنّه لا يكره غيره من الوجوه.
هذا فيما يتعلق بمذهب الإمام أحمد الذي اشتهرت عنه هذه القاعدة. أما بقية الأئمة فقد نقل عنهم ابن تيمية أنهم يختارون بعض ذلك
1 انظر: مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص27.
2 هو: محمد بن علي الشوكاني الصنعاني، ولد سنة 1173هـ، وتوفي سنة 1255هـ. من مؤلفاته:[السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار] في الفقه، وغير ذلك كثير....
انظر: البدر الطالع 2/214-225، ونيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر 2/297-302.
3 انظر: نيل الأوطار 4/3.
ويكرهون بعضه1.
وقد وجدت من كلام الإمام الشافعي ما يدل على أنه يرى جواز العمل بكل الوجوه دون كراهة، فقد قال - في شأن التشهد، وما ورد فيه من الروايات-: "ما في التشهد إلا تعظيم الله، وإني لأرجو أن يكون كل هذا فيه واسعا
…
، ومثل هذا يمكن في صلاة الخوف فيكون إذا جاء بكمال الصلاة على أي الوجوه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه
…
، ولكن كيف صِرْتَ2 إلى اختيار حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد دون غيره قلتُ: لما رأيته واسعا، وسمعته عن ابن عباس صحيحا كان عندي أجمع وأكثر لفظا من غيره، فأخذته به غير معنّفٍ لمن أخذ بغيره مما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"3.
1 انظر: القواعد النورانية ص42، ومجموع الفتاوى 2/70.
2 هكذا لفظ الرسالة وكأنه سؤال مقدر من المخاطب بالكلام الأول.
3 انظر: الرسالة ص275-276 (بشيء من الاختصار) .
إلا أنه كره التثويب1 والصبح وقال: "لأن أبا محذورة2 لم يَحْكِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالتثويب، فأكره الزيادة في الأذان3. وقال النووي: "قال أصحابنا: يسن التثويب قولا واحدا، وإنما كره ذلك في الجديد؛ لأن أبا محذورة لم يحكه"4.
وصرّح الحنفية بكراهة بعض الوجوه بناء على ترجيح بعض الروايات على بعض، فكرهوا الترجيع في الأذان5، وكرهوا أن يزاد على
1 التثويب لغة: مصدر ثوّب، ويأتي التثويب لعة معان في اللغة، منها: التعويض، والدعاء إلى الصلاة، وتثنية الدعاء. والمراد به - هنا - قول المؤذن - في أذان الفجر -: الصلاة خير من النوم (مرتين) وقد يطلق بمعنى الترجيع وقد تقدم بيان معناه، وقد يطلق على الإقامة. انظر: القاموس المحيط 1/42 (ثوب) ، وفتح الباري 2/102، والمنتقى 1/132-133.
2 هو: سمرة بن مِعْيَر الجمحي رضي الله عنه (المؤذن) غلبت عليه كنيته (أبو محذورة) قيل اسمه: سمرة، وقيل: أوس، وقيل: غير ذلك، وتوفي بمكة سنة 79هـ. انظر: أسد الغابة 2/356، والإصابة 7/365.
3 انظر: الأم 1/73-74.
4 انظر: المجموع 3/89.
5 انظر: المبسوط1/28، وحاشية رد المحتار 1/386.
تشهد ابن مسعود1 رضي الله عنه أو ينقصَ منه ونقل ابن عابدين ذلك عن الإمام أبي حنيفة في التشهد ثم بين - في الموضعين - أن الكراهة كراهة تنزيه2.
وأما صلاة الخوف فقد قال ابن عابدين فيها: "اعلم أنه ورد في صلاة الخوف روايات كثيرة وأصحها ست عشرة رواية واختلف العلماء في كيفيتها، وفي المستصفى أن كل ذلك جائز والكلام في الأولى3، واختاروا أن يجعل الإمام طائفة تجاه العدو ويصلي بالأخرى ركعة فتذهب هذه الطائفة إلى مواجهة العدو فيصلي بالطائفة الأخرى الركعة الثانية ثم يسلم ثم تصلي الطائفة الأولى ركعة أخرى بغير قراءة، ثم تسلم، ثم تصلي الطائفة الثانية
1 رواية ابن مسعود رضي الله عنه هي قوله: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى به كفَّيْه - التشهد كما يعلمني الصورة من القرآن، التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله ويركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" متفق عليه، واللفظ للبخاري. صحيح البخاري مع الفتح 11/58 (الاستئذان / الأخذ باليد
…
) ، وصحيح مسلم مع النووي 4/118 (الصلاة / التشهد في الصلاة) .
2 انظر: حاشية رد المحتار 1/510، 386.
3 انظر: المرجع السابق 2/186.
الركعة الأخرى بقراءة ثم تسلم ورجحوا ذلك بكونه الأقرب إلى ظاهر القرآن1.
وأما الإمام مالك فإنه يرجّح - في هذه الحال - بعض الروايات على بعض ويختار منها حتى مع صحة أسانيدها فيرجح بالسند، ويرجح بموافقة عمل أهل المدينة، ويرجح بغير ذلك.
فقد اختار في الأذان والإقامة ما عليه العمل عند أهل المدينة2،
1 انظر: بدائع الصنائع 2/626-627، والهداية 1/95، وحاشية رد المحتار 2/186.
2 وذلك هو تثنية الأذان، وإفراد الإقامة فلفظ الأذان [الله أكبر الله أكبر/ أشهد أن لا إله إلا الله (مرتين) ، أشهد أن محمدا رسول الله (مرتين) ، ثم يرفع بهما صوته مرة أخرى (مرتين مرتين) ، حيّ على الصلاة (مرتين) ، حيّ على الفلاح (مرتين) ، الله أكبر (مرتين) ، لا إاه إلا الله. فإن كان في صلاة الصبح (زاد الصلاة خير من النوم) ، وهو الموافق لما روى مسلم عن أبي محذورة رضي الله عنه.
ولفظ الإقامة (الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله) . انظر: الموطأ 1/71، والكمونة 1/57، وصحيح مسلم مع النووي 4/80، والمنتقى شرح الموطأ 1/134-135.
واختار في التشهد تشهد عمر رضي الله عنه1، واختار في صلاة الخوف رواية القاسم بن محمد2 عن صالح بن خوّات3.
1 هو ما أخرجه الإمام مالك من طريق عبد الرحمن بن عبد القاري (أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر يعلم الناس التشهد، يقول:"قولوا: التحيات لله الزاكيات لله. الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله".
الموطأ 1/90 (الصلاة / النداء)، وقال الزيلعي:"إسناده صحيح" انظر: نصب الراية 1/421-422.
2 هو: أبو عبد الرحمن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه من سادات التابعين، توفي سنة 102هـ، وقيل: غير ذلك، انظر: تقريب التهذيب، والثقات لابن حبان البستي 5/302.
3 هو: صالح بن خوّات بن جبير بن النعمان الأنصاري المدني تابعي، قال عنه ابن حجر: ثقة من الرابعة. انظر: تقريب التهذيب ص149، والطبقات الكبرى 5/259
والروزاية عنه أن سهيل بن أبي حثمة حدثه (أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه، ثم يقوم فإذا استوى قائما ثبت، وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم فيكونون وِجَاه العدو، ثم يُقْبِل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم الركعة، ويسجد ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون) هذا لفظ الإمام مالك في الموطأ 1/183 (كتاب صلاة الخوف)، وانظر: الموطأ 1/185.
والحديث قد أخرجه الشيخان مع بعض الاختلاف في الصفة، انظر: صحيح البخاري مع الفتح 7/486 (المغازي / غزوة ذات الرقاع
…
) ، وصحيح مسلم مع النووي 6/128 (صلاة المسافرين وقصرها / صلاة الخوف) .
ولم أجد تصريحا بكونه يكره شيئا مما روي إلا أن الذي يظهر من كلام بعض المالكية وجوب الأخذ بما اختاره الإمام في هذه المواضع1.
من فروع القاعدة:
تقدم ذكر عدد من الفروع الفقهية المندرجة تحت هذه القاعدة وهي:
1-
ألفاظ الآذان2.
2-
ألفاظ التشهد3.
1 انظر: المنتقى 1/71، 167، 323.
2 انظر أقوال الفقهاء في ألفاظ الآذان في: الهداية 1/44-45، والقوانين الفقهية ص45-46، والمهذب 1/55-56، والمغني 2/56-57.
3 انظر أقوال الفقهاء في لفظ التشهد في: الهداية 1/55، وشرح الخرشي 1/276، والمهذب 1/78، والمغني 2/220-221.
3-
صور صلاة الخوف1.
وجه التيسير:
تعدّ هذه القاعدة من قواعد التيسير لما تتضمنه من التوسعة على المكلفين بجواز الأخذ بأي وجه مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن التخيير أيسر وأوسع من التعيين.
قال الإمام الشافعي - في سياق كلامه عن اختلاف ألفاظ التشهد -: فإذا كان الله لرأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف معرفة منه بأن الحفظ قد يزلّ ليحلّ لهم قراءته وإن اختلف اللفظ ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى، كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يحل معناه"2.
وما يقال في اختلاف اللفظ يقال في اختلاف الوجوه التي تروى بها العبادة الواحدة، والله أعلم.
1 انظر أقوال الفقهاء في صورة صلاة الخوف في: الهداية 1/96، وشرح الخرشي 2/94-95، والتنبيه ص41-42، والمغني 3/298 وما بعدها.
2 الرسالة ص274.