الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثامنة والعشرون: ما لا يمكن التحرز منه يكون عفوا
.
هذه القاعدة أوردها الحصيري تعليلا1، وورد معناها ضمنا عند عدد من الفقهاء كالسبكي2، والسيوطي3، وابن تيمية4، والمقري5، وغيرهم.
ويمكن إدراج هذه القاعدة تحت عدد من القواعد كقاعدة ((المشقة تجلب التيسير)) 6، وقاعدة ((إذا ضاق الأمر اتسع)) 7، وقاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) 8، فقد
1 القواعد والضوابط المستخلصة ص456-457.
2 انظر: الأشباه والنظائر له 1/11، 49.
3 انظر: الأشباه والنظائر له ص432.
4 انظر: القواعد النورانية ص34.
5 انظر: القواعد للمقري 1/314.
6 راجع هذه القاعدة ص 425-435.
7 راجع هذه القاعدة ص 115-125.
8 راجع هذه القاعدة ص 287-296، وانظر في إمكان اندراجها في القواعد المذكورة: المراجع المتقدمة، وكتاب المشقة تجلب التيسير ص232-240.
عدّ الفقهاء العسر وعموم البلوى من أسباب التخفيف، ومثلوا له بالصلاة مع النجاسة المعفو عنها1.
معاني المفردات:
التحرز: التوقي يقال: احترزت من كذا، وتحرزت منه توقيته، والحرز الموضع الحصين2.
العفو: تقدم بيان معناه.
المعنى الإجمالي:
معنى هذه القاعدة أن الشرع يتسامح في القدر الذي يشق على المكلفين اجتنابه، ويعسر عليهم دفعه مما يكون الأصل فيه منع التلبس به.
ومنع التلبس بالشيء يأتي بمعنى تحريمه - من حيث هو - كتحريم الزنا وشرب الخمر، ويأتي بمعنى اشتراط عدمه أو زواله لصحة عبادة معينة أو تصرف شرعي معين مثل اشتراط زوال النجاسة لصحة الصلاة ونحوها من العبادات، وكما تنطبق هذه
1 انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص76، والوجيز ص168.
2 انظر: الصحاح 3/873. (حرز) .
القاعدة على العبادات تنطبق على المعاملات1.
وقد يكون ذلك من أجل يُسر ذلك القدر وقلّته وعموم البلوى به كالعفو عن قليل النجاسة، وقد يكون لأمر آخر ككون الشيء خارجا عن طاقة المكلف ولو كان كثيرا كجواز صلاة المستحاضة مع خروج الدم منها وإن كان كثيرا.
هذا ما تقتضيه هذه القاعدة بمنطوقها؛ لأن ما يجب الاحتراز عنه أصلا هو المحرم. لكن قد يدخل في معناها ترك القدر الذي لا يتمكن المكلف من فعله مما هو واجب أصلا.
ولعل مما يصح التمثيل به لهذا هو سقوط وجوب استحضار النية في كل جزء من أجزاء العمل المفتقر إلى النية؛ - لعسر ذلك على المكلفين وخروجه عن طاقتهم -، والاكتفاء في ذلك باستحضارها أول العمل مع أن الأصل لزوم وجودها في جميع أجزائه2؛ فإن للعفو مدخلا في ترك الواجب، كما أن له مدخلا في فعل الممنوع حيث قال صلى الله عليه وسلم: "
…
وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" 3.
1 انظر: القواعد والضوابط المستخلصة من كتاب التحريرلا ص458.
2 راجع ذلك مفصلا في القاعدة الخامسة والأربعون.
3 تقدم تخريج هذا الحديث ص99.
الأدلة:
أولا: الأدلة الدالة على أن ما لا يمكن التحرز عنه معفو عنه وهي تدل على القاعدة مباشرة ومنها:
الأحاديث الواردة في حكم المستحاضة وأنها تتوضأ لكل صلاة، وتصلي وإن استمر معها الدم كحديث عائشة رضي الله عنها قالت:"جاءت فاطمة بنت أبي حبيش1 إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إنما ذلك عِرْق وليس بحيض. فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي" قال الراوي: قال أبي2: "ثم نوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت"3.
1 هي: فاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب القرشية الأسدية. انظر: أسد الغابة 5/518، والإصابة 8/6.
2 الراوي هو محمد بن أبي معاوية، وأبوه هو معاوية الضرير. انظر: فتح الباري 1/396.
3 أخرجه الإمام البخاري، وقال ابن حجر:"إن هذه الزيادة مرفوعة وليست موقوفة، ولا مدرجة" صحيح البخاري مع الفتح 1/396 (الوضوء / غسل الدم) وانظر: فتح الباري 1/396، 488، والمنتقى 1/127، وعون المعبود 1/341-342.
ثانيا: يستدل لهذه القاعدة بما دل على إباحة بعض الأشياء ابتداء، بسبب عموم البلوى بها من حيث إثبات مراعاة الشرع لما تعم به البلوى والتخفيف فيه. من ذلك:
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 1 الآية.
قال ابن العربي: "طوافون عليكم، أي مترددون عليكم في الخدمة وما لا غنى بكم عنه منهم، فسقط الحرج عن ذلك وزال المانع كما قال صلى الله عليه وسلم في الهرة - حين أصغى لها الإناء -: "إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات"2.
وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات"3.
1 النور (58) .
2 أحكام القرآن لابن عربي 3/1399، وسيأتي قريبا تخريج الحديث.
3 أخرجه أصحاب السنن، وصححه البخاري والترمذي وغيرهما. سنن أبي داود مع عون المعبود 1/99 (الطهارة / سؤر الهرة) ، وسنن الترمذي مع التحفة 1/308-309 (الطهارة / ما جاء في سؤر الهرة) ، وسنن النسائي مع شرح السيوطي 1/55 (الطهارة / سؤر الهرة) ، وسنن ابن ماجه 1/131 (الطهارة / الوضوء بسؤر الهرة) ، وانظر تلخيص الحبير 1/41.
فقد حكم صلى الله عليه وسلم بعدم نجاستها وعلل ذلك بكونها من الطوافين عليهم والطوافات أي بكثرة دورانها في البيوت ودخولها فيها بحيث يصعب صون الأواني عنها1، ويتقوى الاستدلال بهذا الحديث على القاعدة باعتبار رأي بعض الفقهاء حيث يرى البعض أن الأصل في الهرة النجاسة فيدخل في الأدلة الدالة على القاعدة مباشرة2.
ثالثا: وهناك من الأدلة ما يدل لهذه القاعدة من وجه وذلك مثل حديث المرأة التي سألت أم سلمة3 رضي الله عنها فقالت: "إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في القذر فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطهره ما بعده" 4، وما في معناه من الأحاديث،
1 انظر: أعلام الموقعين 1/172، وعون المعبود سرح سنن أبي داود 1/98-99.
2 انظر: المنتقى 1/62، وعون المعبود 1/100، ونيل الأوطار 1/44.
3 هي: أم المؤمنين هند بنت أبي أمية (وهو حذيفة المعروف بزاد الركب) بن المغيرة القرشية المخزومية، هاجرت إلى الحبشة، وإلى المدينة، توفيت أول أيام يزيد بن معاوية، وقيل: إنها توفيت سنة 59هت.
4 أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني. سنن أبي داود مع عون المعبود 2/32 (الطهارة / الأذى يصيب الذيل) ، وسنن الترمذي مع التحفة 1/437 (الطهارة / الوضوء من الموطئ) ، وسنن ابن ماجه 1/177 (الطهارة / الأرض يطهر بعضها بعضا) ، وانظر صحيح سنن الترمذي 1/47.
فهذا الحديث، وما في معناه يدل على أن الثوب، وما في حكمه إذا لامس نجاسة من الطريق فإنه يطهر بمروره على ما بعد موضع النجاسة من الأرض، أو بفركه بالتراب، وهذا الظاهر معناه أن تلك النجاسة لم يُعفَ عنها وإنما خُفف في طريقة التطهير منها، إلا أن بعض العلماء قد وجه بعض هذه الأحاديث بما يقتضي دلالتها على القاعدة، فقد قال صاحب عون المعبود:"وأما طين الشارع يطهره ما بعده ففيه نوع من التوسع في الكلام؛ لأن المقام يقتضي أن يقال: هو معفو عنه أو لا بأس به، لكن عدل منه بإسناد التطهير إلى شيء لا يصلح أن يكون مطهرا للنجاسة فعلم أنه نعفو عنه"1.
وتجدر الإشارة إلى أن جمهور العلماء على أن هذا في النجاسة اليابسة. أما ما يمكن أن يعلق بالثوب فإنه لا يطهره إلا الغسل2.
وقد ذهب البعض إلى أن المراد هو أن مرور الثوب أو القدمين
1 عون المعبود 2/33-34.
2 انظر: المرجع السابق.
على الأرض الطاهرة بعد الأرض القذرة يخفي عين النجاسة، فلا يعلم المكلف بوجودها فلا يلزمه غسلها، ولو ظهرت لتعيّن غسلها1.
رابعا: ويدل على هذه القاعدة الأدلة العامة في رفع الحرج كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} 2 ونحوها.
عمل الفقهاء بالقاعدة:
لقد صرح عدد من فقهاء المذاهب الأربعة بهذه القاعدة، وهذا يدل على أنها محل اتفاق بينهم - من حيث الجملة - إلا أنه لابد من ملاحظة أن ما لا يمكن التحرز منه أمر نسبي يختلف الفقهاء فيه بين متوسع ومتشدد3، ولعل من أظهر ما يبرز فيه تطبيق هذه القاعدة هو باب النجاسات.
وهذه بعض النقول عن فقهاء المذاهب الأربعة في هذا الباب.
قال المرغيناني الحنفي: "
…
وقدر الدرهم، وما دونه من النجس المغلظ كالدم والبول والخمر وخرء الدجاجة وبول الحمار، جازت
1 انظر: المنتقى شرح الموطأ 1/64.
2 البقرة (286)، وانظر مزيدا من الأدلة في: كتاب المشقة تجلب التيسير ص233-240.
3 انظر: القواعد النورانية ص34.
الصلاة معه
…
إلى أن قال: لنا أن القليل لا يمكن التحرز عنه فيجعل عفوا"1.
وذكر الخرشي من المالكية أشياء كثيرة مما يعفى عنه من النجاسات ثم علل ذلك العفو بمشقة الاحتراز عنها2.
وقال الشيرازي من الشافعية: "
…
وأما الدماء فينظر فيها فإن كان دم القمل والبراغيث وما أشبهها فإنه يعفى عن قليله؛ لأنه يشق الاحتراز منه"3.
وقال ابن قدامة الحنبلي: "أكثر أهل العلم يرون العفو عن يسير الدم، والقيح، وذكر على ذلك أدلة، وعلل بمشقة الاحتراز منه4.
وفروع هذه القاعدة هي فروع قاعدة ((إذا ضاق الأمر اتسع)) .
وجه التيسير:
وجه التيسير ظاهر في هذه القاعدة فقد عفى الشارع عن
1 انظر: الهداية 1/37.
2 انظر: شرح الخرشي مع حاشية العدوي 1/106-113.
3 انظر: المهذب 1/60.
4 انظر: المغني 2/481-482.
بعض الأمور التي يكون الأصل فيها المنع؛ من أجل مشقة الاحتراز عنها، سواء ذلك في جانب المنهيات، أو في جانب المأمورات كما تقدم؛ وذلك مراعاة لأحوال المكلفين؛ ولئلا يقع تكليفهم بما يشق عليهم.