الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة التاسعة: الأصل في العادات العفو
أورد هذه القاعدة ابن تيمية1، وأشار إليها الشاطبي بقوله: "الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني وعدم التزام النص، ومن ههنا أقرت الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالديّة2 والقسامة3
…
الخ كلامه"4،
1 انظر: القواعد النورانية ص134.
2 الدية لغة: حق القتيل، وهي مصدر الفعل وَدَىَ، أصله وَدْيُّ حذفت الواو من أوله وعوّض عنها التاء في آخره.
وفي الاصطلاح: اسم للمال الذي يعطى لوليّ المقتول بدلا عن نفسه، وقد تطلق على ما يعطى بدلا عما دون النفس. انظر: القاموس المحيط 4/399 (ودى) ، وشذا العرف ص38، وأنيس الفقهاء ص292.
3 القاسمة لغة: من القسم وهو اليمين.
وفي الاصطلاح: اسم عرفت بأنها الأيمان المكررة في دعوى القتل، وعرفت بأنها أيمان تقسم على المتهمين في الدم، والمراد واحد. انظر: الصحاح 5/2010، ولسان العرب 11/165 (قسم) ، والمغني 12/188، والتعريفات ص175، وأنيس الفقهاء ص295.
4 انظر: الموافقات 2/305-307.
ونص عليها ابن سعدي في رسالته في ((القواعد الفقهية)) 1.
وقريب من معناها ما ذكره ابن تيمية - أيضا - وغيره من أن الأصل في العقود والشروط - وهي من الأفعال العادية2 - الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا أو قياسا، وذكر قولا آخر بأن الأصل فيها الحظر3.
واهذه القاعدة علاقة قويّة بالقاعدة السابقة ((الأصل في الأشياء الإباحة)) بحيث يمكن اعتبار هذه القاعدة - أعني قاعدة ((الأصل في العادات العفو)) ، وما بمعناها مندرجة تحت قاعدة ((الأصل في الأشياء الإباحة)) .
يؤيد هذا أن من المؤلفين من بنى حكم بعض أنواع العقود المستحدثة والمعاملات الجديدة على قاعدة ((الأصل في الأشياء الإباحة)) 4.
1 انظر: رسالته المذكورة ص24.
2 انظر: القواعد النورانية ص222.
3 انظر: القواعد النورانية ص206، 210، 228، 230.
4 انظر: الوجيز ص136، وانظر: شرح الكوكب المنير 1/322-323.
فهذه القاعدة ((الأصل في العادات العفو)) مفروضة في الأفعال أكثر من كونها مفروضة في الأعيان1
معاني المفردات:
الأصل: تقدم بيان معناه2.
العادات لغة: جمع عادة، من العوْد والمعاودة، وهي بمعنى: الرجوع، وتثنية الشيء وتكراره.
جاء في معجم مقاييس اللغة: العين والواو والدال أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تثنية في الأمر، وذلك هو العَوْد3.
وفي اصطلاح الفقهاء والأصوليين هي: الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية4، وعرّفت بغير ذلك5 والمراد بها - هنا فيما يظهر - ما
1 انظر: القواعد النورانية ص222، والمحصول ج2 ق3/131.
2 انظر: ص93.
3 انظر: مقاييس اللغة 4/181-182، والقاموس المحيط 1/318 (عود) .
4 بهذا اعرفها صاحب التقرير والتحبير 1/282، وقد احترز بقيد من غير علاقة عقلية عما يتكرر بتكرر علّته، وارتضى هذا التعريف كثير من العلماء. انظر: المدخل الفقهي العام 2/838-840، والعرف وأثره في الشريعة والقانون ص44-45.
5 انظر: المرجعين المتقدمين، والتعريفات ص146، والكليات ص617.
يقابل العبادة من أفعال الناس وهو في معنى ما تقدم؛ لأنها تتكرر.
العَفْوُ لغة: الصفح وترك العقوبة، وله معان أخرى متضمنة هذا المعنى1.
وفي الاصطلاح: يطلق بمعنى المباح. ويطلق بمعنى نفي الحرج وعدم العقوبة؛ إذ يرى بعض العلماء أن الإباحة هي ما ورد من الشارع خطاب بالتخيير فيها بين الفعل والترك. والعفو، أو نفي الحرج هو ما سكت عنه الشرع2.
المعنى الإجمالي:
معنى هذه القاعدة أن تصرفات الناس في شئون حياتهم، ومعاملاتهم فيما بينهم وما قد يكون فيها من شروط كلها مباحة، أي لا عقاب في فعلها ولا تركها إلا ما ورد الدليل الشرعي بتحريمه وذلك بناء على بقائها على الأصل.
على أن لفظ "العفو" في القاعدة مقصود؛ لأن من العلماء من يرى أن الإباحة حكم شرعي لا يكون إلا بخطاب من الشارع
1 انظر: الصحاح 6/2431 (عفا) والقاموس المحيط 4/364 (عفو) .
2 انظر: البحر المحيط 1/276، وشرح الكوكب المنير 1/42428، والمسودة ص36، وتحفة الأحوذي 5/396، والقواعد النورانية ص222.
بالتخيير بين الفعل والترك، وهذه لم يرد فيها هذا النوع من الخطاب1.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية المراد من هذه القاعدة وكيفية العمل بها بقوله: "
…
فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط - جملة - وصحتها أصلان: الأدلة الشرعية العامة والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب وانتفاء المحرّم، فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع، أو المسألة هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا أما إذا كان المدرك2 الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي فقد أجمع المسلمون، وعُلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه
1 تقدمت الإشارة إلى هذا ص155 في القاعدة الثامنة، وانظر: المراجع المتقدمة قريبا.
2 المدرك لغة: مَفْعَل من دَرَك والإدراك في اللغة: لحوق الشيء بالشيء ووصوله إليه، ومنه الإدراك بمعنى العلم والإحاطة الشيء، ولم أقف على تعريف اصطلاحي له إلا أنه بفهم من اطلاق الأصوليين أنه وسيلة الإدراك وآلته فهو قريب المعنى من الدليل. انظر: مقاييس اللغة 2/269، ولسان العرب 4/334-336 (درك) ، وروضة الناظر، وتعليق المحقق، د/عبد الكريم النملة 1/131.
لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك1.
الأدلة:
استدل ابن تيمية على هذه القاعدة بعدد من الأدلة: منها ما هو دال على أن الأصل في العادات - بعمومها عقودا كانت أو غيرها - العفو، ومنها ما هو دال على أن الأصل في العقود والشروط - بخصوصها - العفو أيضا، فمن النوع الأول:
1) قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً
…
} 2 فلو قيل بتحريم شيء من تصرفات الناس، ومعاملاتهم دون دليل شرعي على التحريم لدخول القائل في عموم هذه الآية.
2) أن الله تعالى ذمّ المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرّموا ما لم يحرمه في قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ
1 القواعد النورانية ص232.
2 يونس (59) .
حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 1.
3) ما رواه الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم يومي هذه كل ما نحلْتُه عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم2 عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم
…
" 3الحديث.
فقد دل الحديث على أن ما لم يرد نص شرعي بتحريمه فهو حلال، وأن تحريم ما لم ينصّ على تحريمه إنما يأتي من قبل طاعة الشياطين. ومن النوع الثاني الدال على الإباحة في العقود والشروط.
1 الأنعام (138) .
2 اجتالتهم من الإجالة وهي اإدارة، والتجوال التطواف.
وقال الإمام النووي في شرح الحديث: "اجتالتهم أي استخفّوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطل". الصحاح 4/16662 (جول) ، وشرح صحيح مسلم 17/197.
3 أخرجه الإمام مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه 17/196-199 (الجنة وصفة نعيمها وأهلها / الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار) .
4) قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
…
} 1 الآية.
5) حديث: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها
…
وذكر منها وإذا وعد خلف" 2.
وقد بين ابن تيمية وجه استدلاله بهذين الدليلين ونحوهما يقوله: "وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به عُلم أن الأصل صحة العقود والشروط؛ إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده، ومقفصود العقد هو الوفاء به، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة3.
6) حديث: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرّم حلالا، أو أحل حراما، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرّم حلالا، أو
1 المائدة (1)
2 أخرجه البخارلاي ومسلم، واللفظ لمسلم. صحيح البخاري مع الفتح 6/322 (الجزية والموادعة / إثم من إذا عاهد غدر) ، وصحيح مسلم مع النووي 2/46 (الإيمان / خصال المنافق) .
3 انظر: القواعد النورانية ص219.
أحل حراما"1.
7) أن من تتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما ورد عن أصحابه عليهم رضوان الله علم أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين، ومعنى هذا أن العقود تصح بكل ما دل عليها وبكل صورة لم يرد الدليل بتحريمها.
8) واستدل من المعقول على أن الأصل صحة العقود بأن الأصل فيها رضى المتعاقدين وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد؛ لأن الله تعالى قال: {
…
إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ
…
} 2.
إلى غير ذلك من الأدلة3.
1 أخرجه: أبو داود والترمذي وابن ماجه من عدة طرق وهذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وليس في لفظ ابن ماجه ذكر الشروط. سنن أبي داود مع عون المعبود 9/372 (القضاء / الصلح) ، وسنن الترمذي مع التحفة 4/584 (الأحكام / ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس) ، وسنن ابن ماجه 2/788 (الأحكام / الصلح) .
2\ النساء (29) .
3 انظر: في مجموع هذه الأدلة وغيرها القواعد النورانية ص134-135، 214 فغما بعدها والإحكام لابن حزم 5/775-781، والموافقات 2/305-307.
ثم إنه قد تقدم أن هناك من يرى أن الأصل في العقود والشروط الحظر إلا ما دل الدليل على إباحته، وسأنقل - هنا - بعض أدلتهم مجملة، وهي في واقعها أدلة لمن يرى أن الأصل في العادات الحظر؛ لأن العقود والشروط من جملة العادات.
1) فمن أشهر ما استدلوا به على هذا حديث عائشة رضي الله عنها في قصة اعتاق بريرة رضي الله عنها وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "
…
ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وشرط الله أحق وأوثق "1.
قال ابن تيمية: "وحجتهم فيه من وجهين:
أحدهما: حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما لم يكن في كتاب الله من الشروط بالبطلان.
الثاني: قياس جميع الشروط التي تنافي موجب العقود على اشتراط الولاء.
1 أخرجه الشيخان بعدة ألفاظ، وهذا أحد الألفاظ التي رواها بها الإمام البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 5/219 (المكاتب / المكاتب ونجومه
…
) ، وصحيح مسلم مع النووي 10/139-147 (العتق / بيان أن الولاء لمن أعتق) .
2) ومما استدلوا به أيضا عموم قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1 ونحوها من الآيات، حيث يرون أن العقود والشروط التي لم تُشْرَع تعدٍّ لحدود الله وزيادة في الدين2.
العمل بالقاعدة:
تقدم أن العادات تشمل العقود وما قد يتعلق بها من شروط وتشمل العادات التي ليست بعقود ولا شروط3.
فأما ما ليس بعقد ولا شرط فقد صرح الشاطبي بأن مذهب الإمام مالك: أن الأصل فيها العفو، وأنه يلتفت فيها إلى المعاني لا إلى النصوص، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مذهب الحنابلة كما تقدم النقل عن ابن تيمية وعن الشاطبي في هذا4.
أما الحنفية والشافعية فإن الذي لي أن الحكم عندهم فيها
1 البقرة (229) .
2 انظر: هذه الأدلة وغيرهما، وأوجه الاستدلال منها في القواعد النورانية ص208-210، وانظر الإحكام لابن حزم 5/782 وما بعدها.
3 راجع ما تقدم ص164.
4 انظر: ما تقدم ص161.
مأخوذ من الحكم في القاعدة المتقدمة ((الأصل في الأشياء الإباحة أم الحظر)) 1؛ لأن الكثير من الفقهاء لم يفرد العادات أو العقود بقاعدة تدل على الأصل فيها، بل اكتفى ببيان الأصل في الأشياء عموما.
وأما ما كان منها من قبيل العقود والشروط فقد ذكر العلماء فيها من حيث الجملة مذهبين:
أحدهما: القول بأن الأصل فيها التحريم والبطلان، ما لم يدل دليل على صحة العقد أو الشرط.
وهذا القول قول الظاهرية فهم الذين طردوا هذا الحكم في كل عقد وشرط.
والثاني: أن الأصل فيها الإباحة والصحة ما لم يدل دليل على بطلان العقد أو الشرط2 وقد جعل بعض العلماء في مقابل أهل الظاهر - القائلين بالمنع - جمهور الفقهاء، أي أنهم يقولون بأن
1 راجع هذه القاعدة ص141-159.
2\ انظر: القواعد النورانية ص206، 210، والإحكام لابن حزم 5/571، والمحلى 8/542، 9/308، والمدخل الفقهي العام 1/476 وما بعدها، والفقه الإسلامي وأدلته 4/198-199.
الأصل فيها الجواز1.
لكن ذلك يحتاج إلى شيء من التفصيل فليس على إطلاقه؛ لأن المتأمل يجد بعض الاختلاف في بيات مذاهب الأئمة في هذا. فنجد ابن تيمية مثلا ينسب إلى الإمامين: أبي حنيفة، والشافعيّ أن كثيرا من أصولهما تنبني على أن الأصل في العقود والشروط المنع، ويقول عن الإمام مالك، والإمام أحمد: إن طائفة من أصولهما تنبني على ذلك أيضا. أما أكثر أصول أحمد المنصوصة عنه فإن أكثرها يجري على أن الأصل فيها الجواز، وقريب منه الإمام مالك إلا أن أحمد أكثر تصحيحا للشروط2 ثم نجد الشيخ مصطفى الزرقاء3 يفرق بين العقود والشروط فيرى أن
1 انظر: القواعد النورانية ص208، والفقه الإسلامي وأدلته 4/198-202.
2 انظر: القواعد النورانية ص206، 210
3 هو: مصطفى بن أحمد الزرقاء أحد العلماء المعاصرين في بلاد الشام تتلمذ على والده الشيخ أحمد الزرقاء. له من المؤلفات المطبوعة كتاب [المدخل الفقهي العام] في ثلاث مجلدات. راجع مقدمة كتاب شرح القواعد الفقهية للشيخ / أحمد الزرقاء والد المترجم له.
الأصل في العقود هو الجواز1، ثم يقول في شأن الشروط: "إن الاجتهاد الحنفي مبني على عدم مخالفة مقتضى العقد فليس للعاقدين أن يشترطا ما يخالف هذا المقتضى أو يضيفا إليه شيئا، أو يقيداه بقيد إلا إذا قام دليل شرعي يجيز التزامه ويوجب الوفاء به، ثم ذكر أن هذا مذهب المالكية والشافعية، ونقل عن الحنابلة أن الأصل في العقود والشروط الإباحة ما لم يكن في نصوص الشرع ما يمنع منها، ثم قال: ويقارنه أي الاجتهاد الحنفي نَظَرُ جمهور فقهاء المالكية، ثم الاجتهاد الشافعي، وقال: إن الاجتهاد الشافعي أكثرها تشددا وتضييقا لحرية الشروط2، ويمكن غزو هذا الاختلاف إلى أسباب منها:
1) أن في القاعدة حكما عاما مفروضا في العقود والشروط معا. مع أن ثمة فرقا بينهما من جهة أن العقد حكم ابتدائي، والشرط لاحق للعقد مغير لمقتضى العقد المطلق3.
1 انظر: المدخل الفقهي 1/464.
2 انظر: المرجع السابق 1/476.
3 انظر: القواعد النورانية ص214، والمدخل الفقهي 1/467، والفقه الإسلامي وأدلته 4/197، 201.
2) كثرة فروع ومسائل هذه القاعدة وتعدد أنواع الشروط1 بحيث لا يطرد المذهب في تلك المسائل بل تكثر الاستثناءات لعلل خاصة ويصعب مع ذلك الحكم بحكم عام من خلال هذه الفروع.
3) أن من الحنابلة - وهو الذين اشتهر عنهم أكثر من غيرهم أن الأصل في العقود والشروط الإباحة - من يستدل لصحة العقود، أو الشروط بما يدل عليها بخصوصها فيتوهم أنه لولا هذا الدليل لم يكن هذا العقد أو الشرط جائزا، كما أنهم قد يعللون فساد بعض الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد2 هذه الأمور هي مبنى قول القائلين بأن الأصل فيها التحريم3.
1 انظر: القواعد النورانية ص208، المدخل الفقهي العام 1/477.
2 انظر: القواعد النورانية ص206، 210، والمسائل الفقهية من كتاب الروايتين 1/435، والمغني 8/194، والمدخل الفقهي العام 1/482، والفقه الإسلامي وأدلته 4/199، 206.
3 راجع أدلة القائلين بأن الأصل فيها التحريم ص170-171.
4) اختلاف فقهاء المذاهب في بغض المصطلحات المتعلقة بالمسألة1، وتلخيصها لما مضى يمكن القول: إنه بالنسبة إلى العقود فإن الجمهور - وهو من عدا الظاهرية - على أن الأصل فيها الإباحة، وأما الشروط ففيها خلاف بينهم وأكثرهم تصحيحا لها هم الحنابلة، وقريبا منهم المالكية؛ إذ إن مذهبهم أن الأصل في العقود والشروط الإباحة ما لم يرد دليل بالمنع دون تقييد2.
1 من ذلك أن الحنابلة يوافقون الحنفية على أن الشرط المخالف لمقتضى العقد، فهو عند الحنفية، ومن وافقهم ما خالف مقتضى مطلق العقد فكل شرط تضمن منفعة زائدة على مقتضى العقد فهو – عندهم – مخالف لمقتضاه مفسد له بينما يرى الحنابلة، ومن وافقهم أن ما كان من الشروط مصلحة لأحد المتعاقدين فهو من مصلحة العقد ولا يخالف مقتضاه، وهذا الاختلاف في تفسير هذا المصطلح أدى إلى أن يصحح الحنابلة من العقود والشروط م لا يصح عند الحنفية مع الاتفاق على أن الشرط المخالف لمقتضى العقد باطل. انظر: الهداية 3/55، والقواعد النورانية ص208، وكشاف القناع 3/52، والمدخل الفقهي العام 1/477، 482-484، والفقه الإسلامي وأدلته 4/204، 208.
2 معنى القوا بأن الحنابلة يقولون بصحة الشروط دون تقييد مع كونهم يوافقون الحنفية في تقييد صحة الشرط بعدم مخالفته مقتضى العقد أنه بموجب تفسيرهم لهذا القيد فإنه لا ينطبق إلا على ما قل من الشروط، والله أعلم.
وفي مقابلهم الحنفية ومن يرى رأيهم من الشافعية فإن الشروط الصحيحة عندهم مقيدة بأن لا تخالف مقتضى العقد مع موافقتهم للحنابلة والمالكية في أن الأصل فيها الإباحة، والله أعلم.
من فروع القاعدة:
يتفرع على هذه القاعدة سائر العقود، والشروط، والتصرفات التي لم يرد النص بحكمها، ومنها:
1-
ما لو اشترى حنطة على أن يطحنها البائع، أو ثوبا على أن يخيطه، أو نحو ذلك1.
2-
لو شرط رجل لامرأته - عند العقد - أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو نحو ذلك2.
1 انظر آراء الفقهاء في ذلك في: تحفة الفقهاء 2/52، والقوانين الفقهية ص223، والمهذب 1/268، والمغني 6/165.
2 انظر آراء الفقهاء في هذا الشرط في: الهداية 1/226، والقوانين الفقهية ص89، والمهذب 2/46، والمغني 9/483.
وجه التيسير:
وجه التيسير في هذه القاعدة - عند القائلين بها - أن الله تعالى وسع على عباده فجعل ما يحتاجون إليه في معاملاتهم وشئون حياتهم معفوا عنه، والأصل فيه الجواز والصحة، إلا ما دل الدليل الشرعي على تحريمه، وفي هذا تيسير عظيم على المسلمين بحيث تستوعب الشريعة كل معاملة وعادة1 -تجدّ، ويكون فيها مصلحة - بالإباحة، ما لم تعارض نصا أو إجماعا2.
1 تقدم بيان أن المراد بالعادة ما يقابل العبادة.
2 انظر: المدخل الفقهي 1/500.