الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة السادسة والثلاثون: من تعلق به الامتناع من فعل متلبس به، فبادر إلى الإقلاع عنه لم يكن ذلك فعلا للممنوع منه في بعض الصور
((صياغة)) .
ذكر هذه القاعدة ابن رجب بصيغة الاستفهام-، ثم قسم الأفعال التي يتعلق فيها الامتناع بالمكلف إلى أربعة أنواع:
النوع الأول: أن لا يتعلق به حكم الامتناع بالكلية إلا وهو متلبس به.
النوع الثاني: أن يمنعه الشارع من الفعل في وقت معين ويعلم بالمنع، ولكن لا يشعر بوقت المنع حتى يتلبس به.
النوع الثالث: أن يعلم قبل الشروع في الفعل أنه إذا شرع فيه ترتب عليه تحريمه وهو متلبس به.
النوع الرابع: أن يتعمد الشروع في فعل محرم عالما بتحريمه، ثم يريد تركه والخروج منه1.
ولم أجد هذه القاعدة مذكورة عند غير ابن رجب. إلا أن
1 انظر: القواعد لابن رجب ص104-107.
مسائلها قد تتخرج على قواعد أخرى1.
وقد بحث الأصوليون بعض صور هذه القاعدة2.
معاني المفردات:
متلبّس: أي مخالط، يقال: تلبس بالأمر وبالثوب اختلط3.
بادر: سارع يقال: بَدَرْتُ إلى الشيء ابدُرُ بُدُوْرًا أسرعت إليه، وتبادر القوم تسارعوا4.
الإقلاع: الكف5.
المعنى الإجمالي:
صورة هذه القاعدة أن المكلف قد يلزمه - شرعا - الامتناع من أمر معيّن والكفّ عنه6، والحال أنه متلبس به بحيث يكون
1 كقاعدة ((الأمور بمقاصدها)) ، وكقاعدة ((ما قارب الشيء هل يعطى حكمه)) ، ونحوهما.
2 انظر: البرهان 1/299، والمنخول ص129، والوصول 1/196، وشرح الكوكب المنير 1/397-400.
3 انظر: الصحاح 3/973، والقاموس المحيط 2/248 (لبس) .
4 انظر: الصحاح 2/586 (بدر) .
5 الصحاح 3/1270 (قلع) .
6 يتصور تعلق الكف بالمكلف من وجهين: الأول: ما يكون منهيا عنه شرعا إما مطلقا أو مقيدا بزمان أو مكان. الثاني: ما يُلزم المكلف نفسه بالكف عنه باليمين، أو بتعليق الطلاق ونحوه على أمر معين.
تصرفه أو تحركه للإقلاع عن ذلك الأمر واقعا في غير المستَحق له - زمانا أو مكانا - أي يكون طريقه إلى الترك بمثابة الجزء من الفعل المنهي عنه.
والمراد بيان الحكم المتعلق بالمكلف في مثل هذه الحال، هل يعتبر - في تركه - مرتكبا لما نهي عنه ويكون مؤاخذا به، أو يعتبر تاركا لما أمر بتركه غير مؤاخذ بذلك؟
والجواب الذي قرره ابن رجب - من خلال هذه القاعدة - أن لتلك الحالة عدة صور منها ما لا يعتبر المكلف فيها مرتكبا للمنهي عنه، ومنها ما هو محل خلاف.
الأدلة:
تقدم أن ابن رجب بين أن صور هذه القاعدة منها ما هو محل خلاف في المذهب. ولذا فإنه لابد من ذكر مستند من يرى أن المكلف في هذه الصور - أو بعضها - غير مرتكب للمنهي عنه من حيث الجملة أيضا.
فأما من يرى أنه غير مرتكب للمنهي عنه فيمكن الاستدلال
له بالآتي:
1-
ما جاء في الحديث: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة قد أهل بالعمرة، وهو مصفّر لحيته ورأسه، وعليه جبّة فقال: يا رسول الله إني أحرمت بالعمرة وأنا كما ترى فقال: "انزع عنك الجبّة واغسل عنك الصفرة وما كنت صانعا في حجّك فاصنعه في عمرتك"1.
قال الحافظ ابن حجر: "واستُدل به على أن من أصحابه طيب في إحرامه ناسيا أو جاهلا، ثم علم فبادر إلى إزالته، فلا كفارة عليه، وعلى أن المحرم إذا صار عليه المخيط نزعه ولا يلزمه تمزيقه ولا شقُّه"2.
2-
إن اعتبار الإقلاع عن الذنب في هذه الحال معصية يؤدي إلى المكلف التكليف بالمحال؛ لأنه يتوجه إلى المكلف أمر ونهي متعلقان بفعل واحد في وقت واحد3.
1 أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ له. صحيح البخاري مع الفتح 3/460 (الحج / غسل الخلوف ثلاث مرات من الثياب) ، وصحيح مسلم مع النووي 8/80 (الحج / ما يلبسه المحرم) .
2 فتح الباري 3/463.
3 انظر: المستصفى 1/89، وفواتح الرحموت المطبوع معه 1/110.
3-
عموم قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} 1.
4-
أن ذلك معتبر بالنية، فإن المكلف إذا فعل ذلك بقصد الإقلاع عن الذنب ولرفع أكثر المعصيتين -وهي الاستمرار- بأقلهما وهي ترك المتضمن لفعل شيء من المنهي عنه، لم يكن حاله كحال من يفعل ذلك بقصد البقاء على ما نهي عنه2.
وأما القول بأنه يعتبر فاعلا لما نهي عنه في بعض الصور فهو مبني على تحقق ذلك منه فعلا وقطع النظر عن قصده في ذلك.
العمل بالقاعدة:
إن بيان آراء الفقهاء في هذه القاعدة يحتاج إلى تفصيل يناسب ما ذكره ابن رجب من تفصيل فيما تشمله هذه القاعدة.
فقد ذهب جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة إلى أن من أحرم وعليه قميص أو نحوه فبادر إلى نزعه، أو أصابه طيب فبادر إلى إزالته، أنه لا فدية عليه3.
1 البقرة (286) .
2 انظر: شرح الكوكب المنير 1/399.
3 انظر: حاشية رد المحتار 2/545-547، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/62، والأم 2/130، والمغني 5/109.
كما ذهب الجمهور إلى أن من حلف أن لا يسكن دارا وهو ساكنها، أو أن لا يلبس ثوبا وهو لابسه، أو نحو ذلك، فإنه يلزمه الخروج من الدار، ونزع الثوب ولا يحنث إذا لم يتراخ في ذلك1.
وهاتان المسألتان تمثلان النوع الأول مما ذكره ابن رجب وهو من لا يتعلق به حكم الامتناع بالكلية إلاّ وهو متلبس به.
وأما النوع الثاني وهو ما إذا مُنع المكلف من الفعل في وقت معين، وعلم بالمنع، لكنه لم يشعر بوقت المنع حتى تلبس به فمن مسائله من جامع في ليل رمضان فأدركه الفجر وهو مجامع فنزع في الحال، وقد ذهب الحنفية إلى أن ذلك لا يُفسد الصوم2، وقال الخرشي من المالكية:"إنه لا شيء عليه على المشهور"3، ونقل ابن جزي خلافا في وجوب القضاء، وقال:"إن سببه أن النزع هل يعد جماعا أم لا؟ "4 وإلى صحة صومه ذهب الشافعية
1 انظر: الهداية 2/361، والقوانين الفقهية ص142، والتنبيه ص195، والمغني 13/547.
2 انظر: حاشية رد المحتار 2/397.
3 انظر: شرح الخرشي مع حاشية العدوي 2/259.
4 انظر: القوانين الفقهية ص106.
أيضا1، أما الحنابلة، فقد نقل ابن قدامة عن بعض فقهاء المذهب أن عليه الكفارة، وعن بعضهم أنه لا قضاء عليه ولا كفارة2.
ومن مسائل النوع الثالث وهو ما إذا علم المكلف قبل الشروع في فعل أنه إذا شرع فيه ترتب عليه تحريمه وهو متلبس به أن يقول الرجل لزوجته: إن وطأتك فأنت طالق ثلاثا، فهل يعتبر نزعه بعد وقوع الطلاق فعلا للمنهي عنه (أي استمتاعا بأجنبية؟) .
قال المرغيناني من الحنفية: "ولو قال لإمرأته: إذا جامعتك فأنت طالق ثلاثا، فجامعها، فلما التقى الختانان طلقت ثلاثا وإن لبث ساعة لم يجب عليه المهر، وإن أخرجه ثم أدخله وجب عليه المهر"3، ويرى المالكية أن النزع حرام، والمخلص منه أن ينوي ببقية وطئه الرجعة إذا كان الطلاق رجعيا. فإن كان ثلاثا ونحوها فقال بعضهم يُعَجَّل عليه الحنث، وقال بعضهم تضرب له مدة الإيلاء4.
1 انظر: التنبيه ص67.
2 انظر: المغني 4/379.
3 هكذا لفظه، وظاهره أنه لم يرتكب بالنزع منهيا عنه. الهداية 1/276، وانظر حاشية رد المحتار 3/378.
4 انظر: شرح الخرشي مع حاشية العدوي 4/92.
وقال النووي: "الصحيح أنه لا يمنع من الوطء بل يقال له: عليك النزع. بمجرد تغيب الحشفة"1، ونقل ابن قدامة عن الحنابلة روايتين:
إحداهما: لا يجوز له الوطء ويؤمر بالطلاق.
والثانية: تجوز له الفيأة2 والوطء؛ لأن النزع تركُ للوطء وترك الوطء ليس وطئا3.
والنوع الرابع: أن يتعمد الإنسان الشروع في فعل محرم عالما بتحريمه، ثم يريد تركه والخروج منه وقد مثل له ابن رجب بمن توسط أرضا مغصوبة ثم تاب وندم وأخذ في الخروج منها. وهذه
1 انظر: روضة الطالبين 1/234.
2 الفيأة لغة: الرجوع. يقال: فاء يفيء أي رجع. وفي الاصطلاح: رجوع الزوج إلى زوجته. وفي الإيلاء وهو حلف الزوج أن لا يطأ امرأته أربعة أشهر أو أكثر (على خلاف بين العلماء في ذلك) يراد بها أي الفيأة: رجوع الزوج إلى جماع زوجته قبل انتهاء مدة الإيلاء. انظر: الصحاح 1/63 (فيأ) ، والمغني 11/31، وتفسير القرآن العظيم 1/275، والجامع لأحكام القرآن 3/109، والقاموس الفقهي ص292
3 انظر: المغني 11/40.
المسألة قد بحثها علماء الأصول، ونقل ابن برهان1 الاتفاق على أنه إذا تاب صحت توبته، ووجب عليه أن يبتدر إلى الخروج مسرعا من أقرب الطرق فإذا فعل ذلك فلا إثم عليه2، وصرح بهذا الحكم الإمام الشافعي3، ولم أتمكن من الوقوف على هذا الفرع الفقهي من كتب الفروع.
وقد تقدم ذكر عدد من الفروع الفقهية المخرجة على هذه القاعدة.
وجه التيسير:
يظهر التيسير في هذه القاعدة إذا ما قيل: إن من يبادر إلى ترك المنهي عنه لا يكون فاعلا له وذلك من وجهين:
الأول: عدم حصول التكليف بالمحال.
الثاني: تسهيل ترك الذنب والإقلاع عنه؛ حثا للمكلف على الامتناع من المعصية، والله أعلم.
1 هو: أبو الفتح أحمد بن علي بن محمد بن بَرهان، ولد سنة 479هـ على الأرجح، وتوفي سنة 518هـ. من مؤلفاته في أصول الفقه [الأوسط]، و [الوجيز] . انظر: طبقات الشافعية الكبرى 6/30-31، وطبقات الشافعية الإسنوي 1/207-208.
2 انظر: الوصول إلى الأصول 1/169، وانظر البرهان 1/299، وشرح الكوكب المنير 1/397-400، وفواتح الرحموت 1/110.
3 انظر: الأم 2/154.