الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة السادسة والعشرون: ما قبض أو عقد في حال الكفر فهو صحيح بعد الإسلام ويجب الوفاء به مالم يكن فيه شيئ محرم في الإسلام
.
…
القاعدة السادسة والعشرون: ما قُبِض أو عُقِد في الحال الكفر فهو صحيح بعد الإسلام ويجب الوفاء به مالم يكن فيه شيء محرم في الإسلام ((صياغة))
أورد كثير من الفقهاء هذه القاعدة بعدة صيغ.
فقد أشار إليها ابن عبد السلام1، كما أوردها ابن تيمية عند كلامه عن العقود2، وأوردها الزركشي، والشيوطي، وابن نجيم في أحكام الذميين، وما يجري على الكفار من أحكام المسلمين، وما يستثنى من ذلك3، وأوردها المقري، وابن اللحام، والونشريسي، وغيرهم، وبنوها على مسألة مخاطبة الكفار بفروع الشريعة4، وأوردها القرافي عند بيانه ما يُقَر من أنكحة الكفار
1 انظر: قواعد الأحكام 1/64.
2 انظر: القواعد النورانية ص226.
3 انظر: المنثور 3/97، ومختصره للشعراني (رسالة) 2/618-619، 829، والأشباه والنظائر للسيوطي ص255، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص325.
4 انظر: قواعد المقري 2/470، والقواعد والفوائد الأصولية ص49-55، وإيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص283، والتمهيد في تخريج الفروع على الأصول ص128-132.
وما لا يقر منها1، وساق السبكي ضابطا بهذا المعنى فيما يتعلق بالنكاح2.
معاني المفردات:
القبض لغة: الأخذ، وهو خلاف البسط. يقال: صار الشيء قبضتك أي في ملكك3. وفي الاصطلاح: وضع اليد الممَكِّن من التصرف بالمقبوض4.
العقد: تقدم بيان معناه5.
الكُفر: - بضم الكاف - الستر والتغطية، وكذلك الكَفر - بفتح الكاف - وهما مصدر كَفَرَ، وقال بعض أهل اللغة: الكَفر - بالفتح - الستر، وبالضم ضد الإيمان، وسمي الكُفر كُفرا؛ لأنه تغطية للحق6.
وفي الاصطلاح: يطلق بمعنى الجحود، وبمعنى عدم الإيمان وهو
1 انظر: الفروق 3/132، وتهذيبه 3/217.
2 انظر: الأشباه والنظائر للسبكي 1/374.
3 انظر: الصحاح 3/1100 (قبض) .
4 انظر: معجم لغة الفقهاء ص356.
5 راجع ص 342.
6 انظر: مقاييس اللغة 5/191، والمفردات ص433 (كفر) .
الأكثر.
قال الراغب: والكافر على الإطلاق متعارف فيمن جحد الوحدانية، أو النبوة، أو الشريعة، أو ثلاثتها1.
المعنى الإجمالي:
إذا حصل من الكافر عقد؛ أو قبض في حال كفره ثم أسلم، فإن ذلك العقد أو القبض يقع صحيحا، ويجب الوفاء به مع أنه قد حصل بغير إذن الشرع، إلا أن بعض العلماء قد فصلوا في ذلك بعض التفصيل فقالوا: إن كان العقد الواقع في حال الكفر قد وقع على صورة صحيحة شرعا فهو صحيح بعد الإسلام مطلقا سواء حصل التقايض أو لم يحصل. أما إذا وقع على نحو محرم فإنه لا يكون صحيحا بعد الإسلام إلا إذا كان قد تم التقايض فيه قبل الإسلام فإن لم يتم التقايض فإنه يفسخ بعد الإسلام. وهذا في المعاملات المالية دون النكاح فإنه يصح وإن لم يتم القبض2، كما قيدوا ذلك بقيد آخر وهو أن لا يكون متضمنا - بعد إسلام العاقد أو المتعاقدين - لما هو محرّم.
1 انظر: المفردات ص434 (كفر) ، والكليات ص763.
2 المراد بالقبض في النكاح الدخول. انظر: القواعد النورانية ص227، ونيل الأوطار 6/303.
وفُسر ذلك - في النكاح - بأن يكون العقد على من يصح العقد عليها في الإسلام، أو بألا يكون السبب المحرم موجودا عند الإسلام - أي عند إسلام المتعاقدين - فإن كان السبب المحرّم قائما لم يصح العقد كأن يكون متزوجا أكثر من أربع، أو من ذوات محارمه أو نحو ذلك مما هو موجود وقائم بعد الإسلام، ومثال مالم يكن سبب التحريم فيه موجودا أن يقع عقد النكاح دون شهود، أو دون ولي1، أو نحو ذلك فإنهما إذا أسلما صح عقدهما2.
وهذا يزيل ما قد يظهر من تعارض بين قول الفقهاء يصح العقد بعد الإسلام ولو لم يكن على الصورة المشروعة وبين قولهم: بشرط أن لا يكون فيه بعد الإسلام شيء محرم، وقد جاء في كلام القرطبي ما يدل على أن هذا الحكم ينطبق - أيضا - على ما عقده
1 انظر: بداية المجتهد 2/36-37، والقواعد النورانية ص227.
2 يستقيم التمثيل بهذين المثالين على القول بعدم صحة النكاح بدون ولي، وعدم صحته بدون شهود، وإليه ذهب الشافعية، والحنابلة، واشترط الحنفية الشهود ولم يشترطوا الولي، واشترط المالكية الولي ولم يشترطوا الشهود في العقد، لكن لا يصح الدخول عندهم إلا بالشهود حتى لو دخلا بدون شهود فسخ. انظر: حاشية رد المحتار 3/22، 55، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 3/167-168، 172، والمهذب 2/35، 40، والمغني 9/344-347.
المسلم أو قبضه في حال إسلامه مما لم يكن محرما، ثم نزل تحريمه فإنه لا يفسخ1.
الأدلة:
يدل على هذه القاعدة أدلة من الكتاب ومن السنة، ويدل عليها الإجماع.
1-
فمن الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2
2-
زمن السنة ما جاء في خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث قال صلى الله عليه وسلم: "
…
وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله
…
"3.
ووجه الاستدلال من الآية والحديث واحد ففي الآية أمر بترك ما بقي من الربا أي مالم يقبض، أما ما قبض فهو معفو عنه.
وفي الحديث أمرهم صلى الله عليه وسلم بوضع وترك ما بقي من الربا في الذمم
1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/362-363.
2 البقرة (278) .
3 هذا جزء من الحديث الطويل الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخرجه الإمام مسلم. صحيح مسلم مع النووي 8/170-194 (الحج / حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
مما لم يقبض ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا. بل أمضاه لهم1.
3-
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل قسم قُسِم في الجاهلية فهو على ما قُسم، وكل قَسمٍ أدركه الإسلام فإنه على قسم الإسلام"2.
قال الخطابي: "فيه بيان أن أحكام الأموال والأنساب والأنكحة التي كانت في الجاهلية ماضية على ما وقع الحكم منهم فيها أيام الجاهلية لا يرد منها شيء في الإسلام"3.
4-
وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية ولم يستفصل هل عقد به في عدة أو في غير عدة؟ بولي أو بغير ولي؟ بشهود أو بغير شهود؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته إلا أن يكون السبب المحرم
1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/362، وشرح النووي على صحيح مسلم 8/182، وعون المعبود 5/262، والقواعد النورانية ص227.
2 أخرجه أبو داود، وابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنه وصححه الشيخ الألباني. سنن أبي داود مع عون المعبود 8/98 (الفرائض / من أسلم على ميراث)، وسنن ابن ماجه 2/831 (الرهون / قسمة الماء) . وانظر: صحيح سنن أبي داود 2/563.
3 معالم السنن المطبوع مع سنن أبي داود 3/330.
موجودا وقائما حين الإسلام على ما تقدم إيضاحه.
كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي1 رضي الله عنه الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن2، وكما أمر فيروز الديلمي3 رضي الله عنه الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق الأخرى4.
1 هو: غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي رضي الله عنه، أسلم بعد فتح الطائف، وتوفي في آخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر: أسد الغابة 4/172-173، والإصابة 5/330-337.
2 أخرجه الترمذي، وصححه الشيخ الألباني، وورد عند أبي داود وغيره في حق غير غيلان، وكلها صححها الألباني. سنن الترمذي مع التحفة 4/278 (النكاح / الرجل يسلم وعنده عشرة نسوة) . انظر: صحيح سنن الترمذي 1/329، وصحيح سنن أبي داود 2/422.
3 هو: أبو عبد الله، أو أبو عبد الرحمن فيروز الديلمي رضي الله عنه وهو من أبناء فارس من فرس صنعاء وهو الذي قتل الأسود العنسي الذي ادّعى النبوة، توفي رضي الله عنه في خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: أسد الغابة 4/186، والإصابة 5/379-381.
4 أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني. سنن أبي داود مع عون المعبود 6/236 (الطلاق / من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان) ، وسنن الترمذي مع التحفة 4/279 (النكاح / الرجل يسلم وعنده أختان)، وسنن ابن ماجه 1/627 (النكاح / الرجل يسلم وعنده أختان) . وانظر: صحيح سنن أبي داود 2/422، وصحيح سنن ابن ماجه 1/330.
قال الشوكاني: "وفي ترك استفصاله عن المتقدمة منهما من المتأخرة دليل على أنه يحكم لعقود الكفار بالصحة وإن لم نوافق الإسلام"1.
5-
الإجماع حيث نقل عدد من الفقهاء اتفاق المسلمين على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين2.
عمل الفقهاء بالقاعدة:
نقل عدد من الفقهاء الإجماع على أن الكفار يقرّون على أنكحتهم التي عقدوها في حال كفرهم إذا أسلموا ما لم تتضمن محرما - بالمعنى الذي تقدم بيانه3 -، ونص على ذلك كثير من
1 نيل الأوطار 6/303، وانظر: شرح ابن القيم على سنن أبي داود المطبوع مع عون المعبود 8/88.
2 انظر: بداية المجتهد 2/37، والمغني 10/5، وانظر في مجموع الأدلة: القواعد النورانية ص226-227.
3 انظر: المغني 10/5، وبداية المجتهد 2/37.
فقهاء المذاهب الأربعة1، وأشار بعضهم - ضمن ذلك - إلى أن ذلك يجري في سائر العقود2.
ولا ينافي هذا أن بعض الفقهاء قد نص على فساد أنكحتهم كما نص عليه الخرشي من المالكية حيث قال: "إنه مشهور مذهبهم؛ لأنه أراد بالفساد أن تلك الأنكحة ليست صحيحة أصلا، إلا أن أصحابها يقرون عليها إذا أسلموا"3.
كما أن القيد المتقدم - وهو أن لا يكون سبب التحريم قائما وموجودا - لا ينافي ما نقله صاحب الدر المحتار عن بعض الحنفية من كون النكاح الذي يعقد في حال الكفر على من ليست محلا للنكاح شرعا4 ينعقد صحيحا؛ لأن مراد من قال ذلك، صحته
1 انظر: الهداية 2/237-238، وحاشية رد المحتار 3/184-185، والقوانين الفقهية ص170، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 3/226-227، والمغني 10/33.
2 انظر: المغني 10/33-34.
3 انظر: شرح الخرشي مع حاشية العدوي 3/226-227.
4 المراد بمن ليست محلا للنكاح شرعا من يبقى سببه تحريمها قائما إما لكونها من المحارم، أو لكونها أخت الزوجة، أو أمها، أو عمتها، أو خالتها، أو لكونها خامسة فما فوق أو نحو ذلك. انظر: الدر المختار مع حاشية رد المحتار 3/185.
في حال كفرهما، وبطلانه بعد إسلامهما1، وذلك بناء على القول بمخاطبة الكفار بالفروع، أو عدمه. ويبدو أن من قال بفساد تلك الأنكحة بناه على القول بتكليفهم بالفروع2، ومن قال بصحتها بناه على القول بعدم تكليفهم بالفروع.
وقال ابن اللحام من الحنابلة: "إن بناء هذه القاعدة على مخاطبة الكفار بالفروع، أو عدمه غير منضبط3، وذلك أن الجمهور القائلين بمخاطبتهم بالفروع ذهب أكثرهم إلى صحة هذه العقود مع أن المناسب للقول بمخاطبتهم فساد تلك الأنكحة، ومن قال بعدم مخاطبتهم - وهم أكثر الحنفية - قد ذهب بعضهم إلى فسادها مع أن المناسب للقول بعدم مخاطبتهم صحة تلك الأنكحة، والله أعلم.
1 انظر: الدر المختار مع حاشية رد المحتار 3/185-200.
2 أشار إلى هذا المرغيناني في الهداية 3/238.
3 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص55.
من فروع القاعدة:
1-
صحة أنكحة الكفار، وإقرارهم عليها إذا أسلموا على ما تقدم بيانه1.
2-
صحة عقود الكفار، وقبضهم حال كفرهم إذا أسلموا ولو كان العقد أو القبض وقت وقوعه - أي في حال كفرهم - غير صحيح في الإسلام2.
وجه التيسير:
من المعلوم أن الناس في جاهليتهم كانوا يتعاقدون، ويتناكحون، وكان كثير من ذلك على غير الوجه الشرعي3 فلو أن الإسلام ألغى كل هذه المعاملات وأمر من أسلم أن ينقض ما عقده من تلك العقود لحصل من ذلك الحرج الشديد بسبب تقادم تلك
1 تقدم هذا قريبا.
2 يذكر الفقهاء ذلك - غالبا- على سبيل الإجمال، ولذا فإن كل عقد من العقود هو فرع لهذه القاعدة. انظر: بداية المجتهد 2/37، والمغني 10/33-34.
3 انظر بعض أنواع البيوع، والأنكحة التي كانت سائدة في الجاهلية على غير الوجه الشرعي في نيل الأوطار 5/243 وما بعدها، و6/300.
العقود وكثرتها، ولكان ذلك تنفيرا من دين الله مع أن المقصود اجتلاب الناس إلى خيري الدنيا والآخرة باتباع شرع الله فكان في إقرار الشرع لهم على عقودهم - إلا ما كان سبب تحريمه قائما - تيسير عظيم1.
1 انظر: المنتقى 4/122-123، وقواعد الأحكام 1/64.