المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة السابعة والثلاثون: من صحت منه مباشرة الشيئ صح توكيله فيه غيره، وتوكله فيه عن غيره، ومن لا فلا - القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير - جـ ١

[عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌القسم الأول: القواعد

- ‌القاعدة الأولى: الاجتهاد لاينقض بالاجتهاد

- ‌القاعدة الثانية: اختلاف الأسباب بمنزلة اختلاف الأعيان

- ‌القاعدة الثالثة إذا اجتمع أمران من جنس واحد ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر غالباً

- ‌القاعدة الرابعة: إذا تزاحمت المصالح أو المفاسد روعي أعلاها بتححصيل أعلى المصالح وردء أعلى المفاسد

- ‌القاعدة الخامسة: إذا تعذر العدالة في الولاية العامة، أو الخاصة ـ بحيث لايوجد عدل ـ ولّينا أقلهم فسوقاً

- ‌القاعدة السادسة: إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق

- ‌القاعدة السابعة: "الإسلام يجب ما قبله

- ‌القاعدة الثامنة: الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم

- ‌القاعدة التاسعة: الأصل في العادات العفو

- ‌القاعدة العاشرة: الإكراه يُسْقط أثر التصرف، فعلا كان أو قولا

- ‌القاعدة الحادية عشر: الأمور بمقاصدها

- ‌القاعدة الثانية عشر: انقلاب الأعيان هل له تأثير في الأحكام أم لا

- ‌القاعدة الثالثة عشر: تعلق الحكم بالمحسوس على ظاهر الحس لا على باطن الحقيقة

- ‌القاعدة الرابعة عشر: تفويت الحاصل ممنوع بخلاف تحصيل ما ليس بحاصل

- ‌القاعدة الخامسة عشر: الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة

- ‌القاعدة السادسة عشر: حقوق الله مبنية على المسامحة

- ‌القاعدة السابعة عشر: الحوائج الأصلية للإنسان لاتعد مالاً فاضلاً

- ‌القاعدة الثامنة عشر: الضرر يزال

- ‌القاعدة التاسعة عشر: الضرورات تبيح المحظورات

- ‌القاعدة العشرون: العادة محكّمة

- ‌القاعدة الحادية والعشرون: العبادات الواردة على وجوه متعددة يجوز فعلها على جميع تلك الوجوه من غير كراهية

- ‌القاعدة الثانية والعشرون: الفعل الواحد يُبْنَى بعضه على بعض مع الاتصال المعتاد ولا ينقطع بالتفرق اليسير

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون: الفعل ينوب عن القول مع القرينة في صور

- ‌القاعدة الرابعة والعشرون: لا يجوز التفاسخ في العقود الجائزة متى تضمَّن ضررًا على أحد المتعاقدين أو غيرهما ممن له تعلق بالعقد إلا إذا أمكن تدارك هذا الضرر

- ‌القاعدة السادسة والعشرون: ما قبض أو عقد في حال الكفر فهو صحيح بعد الإسلام ويجب الوفاء به مالم يكن فيه شيئ محرم في الإسلام

- ‌القاعدة السابعة والعشرون ما لا يعلم إلا من جهة الإنسان فإنا نقبل قوله فيه

- ‌القاعدة الثامنة والعشرون: ما لا يمكن التحرز منه يكون عفوا

- ‌القاعدة التاسعة والعشرون ما وسعه الشرع فضيقه المكلف على نفسه هل يتضيق

- ‌القاعدة الثلاثون: ما يحصل ضمنًا إذا تُعُرِّض له لا يضر

- ‌القاعدة الحادية والثلاثون: المتولد من مأذون فيه لا أثر له

- ‌القاعدة الثانية والثلاثون: المشقة تجلب التيسير

- ‌القاعدة الثالثة والثلاثون: معظم الشيئ يقوم مقام كله

- ‌القاعدة الرابعة والثلاثون: من أطلق لفظاً لا يعرف معناه لم يؤخذ بمقتضاه

- ‌القاعدة الخامسة والثلاثون من تصرف مستندًا إلى سبب، ثم تبين أنه غيره وهو موجود فتصرفه صحيح

- ‌القاعدة السادسة والثلاثون: من تعلق به الامتناع من فعل متلبس به، فبادر إلى الإقلاع عنه لم يكن ذلك فعلا للممنوع منه في بعض الصور

- ‌القاعدة السابعة والثلاثون: من صحت منه مباشرة الشيئ صح توكيله فيه غيره، وتوكّله فيه عن غيره، ومن لا فلا

- ‌القاعدة التاسعة والثلاثون: من عليه فرض موسع الوقت يجوز له التنفل -قبل أدائه- من جنسه

- ‌القاعدة الأربعون: من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها وكان المقدور عليه غير مقصود في العبادة، أو كان جزءًا من العبادة. لكنه عند انفراده ليس بعبادة، لم يلزم الإتيان به

- ‌القاعدة الحادية والأربعون من له الحق على الغير وكان سبب الحق ظاهرا فله الأخذ من ماله بقدر حقه إذا امتنع أو تعذر استئذانه وإن كان السبب خفيا فليس له ذلك

- ‌القاعدة الثانية والأربعون النسيان والجهل مسقطان للإثم مطلقا

الفصل: ‌القاعدة السابعة والثلاثون: من صحت منه مباشرة الشيئ صح توكيله فيه غيره، وتوكله فيه عن غيره، ومن لا فلا

‌القاعدة السابعة والثلاثون: من صحت منه مباشرة الشيئ صح توكيله فيه غيره، وتوكّله فيه عن غيره، ومن لا فلا

.

القاعدة السابعة والثلاثون: من صحت منه مباشرة الشيء صح توكيله فيه غيرَه، وتوكُّلُه فيه عن غيره، ومن لا فلا.

ذكر هذه القاعدة - بهذه الصيغة - السيوطي1، وأوردها عدد من الفقهاء - في كتب القواعد بصيغة متعددة لا تعدو هذا المعنى2، كما أن كتب الفروع توردها في باب الوكالة3.

معاني المفردات:

صحّت: الصحة لغة ضد السَّقَم4.

وفي اصطلاح الفقهاء والأصوليين: عبارة عن كون الفعل مُسْقِطا للقضاء في العبادات، أو سببا لترتب الثمرة المطلوبة عليه

1 انظر: الأشباه والنظائر له ص463.

2 انظر: الفروق 2/104، 4/26، والأشباه والنظائر للسبكي 1/323، ومختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي 1/316، 2/417، والقواعد والضوابط المستخلصة من كتاب التحرير ص412.

3 انظر: الهداية 3/136، والكافي لابن عبد البر 2/786، والتنبيه ص108، والمغني 7/197، والوكالة في الشريعة والقانون ص135.

4انظر: الصحاح 1/381 (صحح) .

ص: 473

في المعاملات.

وهي عند المتكلمين بمعنى موافقة أمر الشارع وجَبَ القضاء أو لم يجب1.

المباشرة لغة: مفاعلة من (بشر) ، والبشرة ظاهر جلد الإنسان ومنه مباشرة الأمور أن تليها بنفسك2.

التوكيل لغة: مصدر وكّل ومادته في اللغة تدل على اعتماد غيرك في أمرِك3.

وفي الاصطلاح: عرَّف الفقهاء الوكالة -وهي بمعنى التوكيل- بعدة تعريفات منها: أنها استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة4.

المعنى الإجمالي:

معنى هذه القاعدة أن كل من توافرت فيه شروط الأهلية لمباشرة تصرف ما فإنه يصح له أن يقيم مقامه من يباشر ذلك

1 انظر: التعريفات ص132، والإحكام للآمدي 1/121.

2 انظر: مقاييس اللغة 1/251، والصحاح 2/590) بشر) .

3 انظر: مقاييس اللغة 6/136 (وكل) .

4 انظر: المبدع في الفروع 4/355.

ص: 474

التصرف، كما يصح أن يتوكل هو عن غيره في مباشرة ما يوكّله فيه. وظاهرُ عموم هذه القاعدة، وكلام الفقهاء عليها يدلان على أنها تشمل العبادات والمعاملات ويدل على ذلك أن بعض من أورد هذه القاعدة استثنى من عمومها بعض العبادات التي لا تصح فيها النيابة1.

إلا أن القاعدة ليست على إطلاقها فهي مقيدة بكونها فيما تصح فيه النيابة. وذلك أن العلماء قسّموا الأفعال من حيث قبولها للنيابة إلى قسمين:

قسم يقبل النيابة وهي الأفعال التي تتحقق مصلحتها بحصول الفعل مع قطع النظر عن فاعله كردّ الودائع، وقضاء الديون، وتفريق الزكوات، وأكثر العقود.

وقسم لا يقبل النيابة وهو ما لا تتحقق مصلحته إلا بمباشرة المكلف له كالصلاة، ونحوها من العبادات غير المالية2.

1 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص463.

2 انظر: الفروق 2/104، 4/26، والموافقات 2/227، وبدائع الصنائع 7/3449، وشرح منح الجليل 2/353، وبلغة السالك لأقرب المسالك 2/182، وروضة الطالبين 4/291، والمغني 7/197.

ص: 475

الأدلة:

أدلة هذه القاعدة هي الأدلة التي يذكرها الفقهاء على مشروعية الوكالة وهي كثيرة من أشهرها:

1-

قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} 1.

قال ابن العربي رحمه الله: "وهذا - أي الدليل - يدل على صحة الوكالة وهو أقوى آية في الغرض2.

2-

ما رواه عروة البارقي3 رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري له به شاتين فباع إحداهما بدينار فجاء بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو اشترى التراب لربح فيه"4.

1 الكهف (19) .

2 أحكام القرآن لابن العربي 3/1228.

3 هو عروة بن الجعد، أو ابن أبي الجعد البارقي وقيل: الأزدي رضي الله عنه سكن الكوفة. انظر: أسد الغابة 3/403، والإصابة 4/488.

4 أخرجه البخاري. صحيح البخاري مع الفتح 6/731 (المناقب / أحاديث علامات النبوة) .

ص: 476

3-

الإجماع. وقد نقله عدد من العلماء.

قال القرطبي رحمه الله: "ولا خلاف فيها في الجملة"1، وقال ابن قدامة:"أجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة"2، ونقل ابن المنذر الإجماع على عدد من صور الوكالة3.

4-

ومما يدل على صحة النيابة في بعض العبادات: حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنتهما قال: "جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع. فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة. فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: "نعم"4.

1 الجامع لأحكام القرآن 1/376.

2 المغني 7/197.

3 انظر: الإجماع ص80، وانظر مجموع ما استدل به على مشروعية الوكالة فيما مضى من المصادر، وفي كتاب الوكالة في الشريعة والقانون ص58-66.

4 متفق عليه، واللفظ للبخاري. صحيح البخاري مع الفتح 4/79 (الحج / الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة) ، وصحيح مسلم مع النووي 9/97-98 (الحج / الحج عن العاجز لزمانة أو نحوها) .

ص: 477

العمل بالقاعدة:

كما تقدم فقد أجمع العلماء على صحة الوكالة. وهو إجماع على صحة العمل بهذه القاعدة والخلاف إنما هو في صحة الوكالة في بعض الصور.

وذكر السبكي أن الأصل عند الحنفية أن النيابة لا تدخل المأمور إلا لمقتض، وعند الشافعية تدخل المأمور إلا لمانع1.

من فروع القاعدة:

1-

صحة التوكيل في البيع ونحوه ممن يصح منه البيع2.

2-

صحة التوكيل في النكاح3.

3-

عدم صحة توكيل الصبي ومن في حكمه4.

1 الأشباه والنظائر للسبكي 2/114.

2 انظر: الهداية 3/155، والقوانين الفقهية ص212، والتنبيه ص108، والمغني 7/198.

3 انظر: الهداية 1/220، وشرح الخرشي 6/68، والتنبيه ص108، والمغني 7/199.

4 انظر: الهداية 3/152، والقوانين الفقهية ص280، والتنبيه ص108، والمغني 7/198.

ص: 478

وجه التيسير:

وجه التيسير في هذه القاعدة أن من الناس من لا يستطيع مزاولة جميع أموره ومصالحه بنفسه لعجز في بدنه، أو اعدم إتقانه لبعض الأمور، أو لكثرة أعماله، أو نحو ذلك، فكان من تيسير الله تعالى أن شرع لعباده ما يمكنّهم من قضاء حوائجهم دون أن يباشروها بأنفسهم. بل أجاز ذلك في بعض العبادات عند العجز عنها، وعندما تكون المصلحة المطلوبة منها متحققة بفعل الوكيل ليحصل له بذلك الثواب1.

1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/1228، والمغني 7/198-200، وغمز عيون البصائر 1/258، والوكالة في الشريعة والقانون ص25، 70.

ص: 479

القاعدة الثامنة والثلاثون: من1 فعل عبادة في وقت وجوبها يظن أنها الواجب عليه، ثم تبيّن بأخَرَةٍ أن الواجب عليه كان غيرها، فإنه يجزئه.

هذه القاعدة ذكرها ابن رجب الحنبلي2، ثم قال:"ويلتحق بها ما إذا خفى الاطلاع على خلل الشرط ثم تبيّن فإنه يغتفر في الأصح"3.

معاني المفردات:

الأخَرَة: بمعنى الأخير يقال: جاء فلان بأخرة أي أخيرا4.

يجزئه: الإجزاء لغة مصدر أجزأ يجزئ وهو الكفاية يقال: جَزَاْتُ بالشيء جَزْءًا: أي اكتفيت به، وأجزأني الشيء كفاني5.

وفي الاصطلاح: عُرّف بأنه الأداء الكافي لسقوط التعبد به،

1 نص ابن رجب "إذا فعل

"، واستبدَلْتُ لفظ "إذا" بلفظ "من" لأنه أظهر في رأي في إفادة عموم الأفراد.

2 القواعد لابن رجب ص8.

3 المرجع السابق ص9.

4 انظر: الصحاح 2/577 (أخر) .

5 انظر: الصحاح 1/40 (جزأ) .

ص: 481

وقيل: هو سقوط القضاء1.

المعنى الإجمالي:

لكي يتضح معنى هذه القاعدة لابد أولا من إيضاح أن بعض التكاليف الشرعية تكون مطلوبة - أصلا على وجه معين، ثم قد يكون الواجب على المكلف أداؤها على وجه آخر - أيسر منه غالبا على سبيل البدل عن الوجه الأصلي تيسيرا عليه على حسب حاله.

وبالنظر في المسائل التي مثّل بها ابن رجب رحمه الله يتبين أن مراده بها أنه إذا دخل وقت عبادة ما والمكلف على حال تجب عليه فيها تلك العبادة على وجه من التخفيف والبدل عن المطلوب أصلا، فأدّى ذلك الواجب على وفق ما يجب عليه بحسب حاله، ثم تغير حاله بحيث أصبح ممن تجب عليهم هذه العبادة على الوجه الأصلي، فإن فعله ذلك يكون مجزئا حتى لو لم يخرج وقت تلك العبادة.

وبناء على هذا المعنى يتضح أن المكلف قد أدّى الواجب عليه بحسب حاله فيكون معنى قوله: "يظن أنها الواجب" أي

1 نهاية السول 1/101.

ص: 482

يغلب على ظنه أن تستمر حاله على تلك الصفة بحيث يكون ما فعله من البدل هو الواجب لو أخّره.

ويوضح ذلك المثالُ، فإنه إذا أقام المعضوب من يحجّ عنه لمرض أعجزه عن الحج بنفسه ثم برئ بعد أن حجّ عنه وكيله فإن ذلك الحج - على حسب هذه القاعدة يكون مجزيا - وذلك أنه ظن استمرار عجزه عن الحج بحيث لا يجب عليه إلا الإنابة ففعل ما يلزمه فلا يضره أن يزول سبب مشروعية البدل بعد وقوعه.

وعلى هذا فهي تخصيص لقاعدة ((لا عبرة بالظن البين خطؤه)) ؛ لأن المكلف قد فعل ما يجب عليه - بحسب حاله فاعتُبر الظن ولم يُلْغَ فإن لفظ "البيّن خطؤه" في القاعدة المذكورة يشمل صورتين:

الأولى: هي الصورة المذكورة في هذه القاعدة1.

والثانية: فعل المكلف غير ما طلب منه شرعا بناءً على ظن

1 يشمل خطأ الظن هذه الصورة باعتبار أن المكلف ظن استمراره على تلك الحال التي أدّى معها العبادة على وجه من التخفيف، ويؤيد هذا أن السيوطي قد استثنى مسألة من استناب في الحج ظانا أنه لا يُرجى برؤه فبرئ من قاعدة ((لا عبرة بالظن البين خطؤه)) فقال:"لا يجزئه ذلك" انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص157.

ص: 483

خاطئ.

الأدلة:

1-

يصح الاستدلال لهذه القاعدة بما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يُعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك"، وقال للذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين" 1.

ووجه الاستدلال منه أنه صلى الله عليه وسلم قال للذي لم يعد صلاته. بل اكتفى بما فعله من البدل على حسب حاله: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" مع أنه قد بنى صلاته على الظن أنه لن يجد الماء في الوقت فلم يضره تغير الحال.

1 أخرجه أبو داود، والنسائي واللفظ لأبي داود، وصححه الألباني. سنن أبي داود مع عون المعبود 1/368-369 (الطهارة / المتيمم يجد الماء بعد ما يصلي) ، وسنن النسائي مع شرح السيوطي 1/213 (الغسل والتيمم / التيمم لمن يجد الماء بعد الصلاة) ، وانظر صحيح سنن أبي داود 1/69.

ص: 484

قال السندي1: "وهذا تصويب لاجتهاده وتخظئة لاجتهاد الآخر"2.

أما قوله لمن أعاد: "لك الأجر مرتين" فقد تأوله بعضهم على أن له أجر الصلاة بالتيمم، وأجر الاجتهاد الذي أخطأ فيه، وقال بعضهم: أجر الصلاتين؛ لأن كلا منهما صحيحة، والله أعلم3.

2-

من حيث المعقول فإن المكلف قد أدّى العبادة الواجبة عليه على الوجه المطلوب منه في تلك الحال فبرئت ذمته4

1 هو: أبو الحسن محمد بن عبد الهادي التتوي المدني (نور الدين) السندي الأصل الحنفي، نزيل المدينة المنورة، توفي بها سنة 1139هـ، أو 1138هـ. له حواشي على الكتب الستة، وغيرها، بعضها لم يتم، وله [الآيات البينات] حاشية على شرح جمع الجوامع. انظر: فهرس الفهارس 1/148، والأعلام 6/253، ومقدمة سنن النسائي مع حاشية السندي عليها.

2 حاشية السندي على سنن النسائي 1/213.

3 انظر: عون المعبود 1/368، والتعليق الذي بحاشية نيل الأوطار 1/336.

4 انظر: المغني 1/321، 4/369، 5/21.

ص: 485

3-

أنه لو لمر بفعلها مرة أخرى لكان مؤديا لعبادة واحدة مرتين على سبيل الوجوب وقد ورد النهي عن أن يصلي المرء صلاة في يوم مرتين1. أي على سبيل الوجوب2. وهذا وإن كان نصا في الصلاة إلا أنه يمكن أن تؤيّد به هذه القاعدة3.

العمل بالقاعدة:

تقدم أن ابن رجب من الحنابلة قد نص على هذه القاعدة، ولم أقف حسب بحثي على من ينص عليها غيره إلا أنه يمكن اعتبارها بمثابة ما استثني من قاعدة ((لا عبرة بالظن البيّن خطؤه)) وقد استثنى بعض العلماء منها بعض الصور.

وبالنظر في بعض المسائل التي مثّل بها ابن رجب للقاعدة نجد أن الغالب على مذهب الحنابلة العمل بموجب هذه القاعدة فقد قالوا

1 أخرجه أبو داود، والنسائي عن عبد الله بن عمر أنه قال:"إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين"، وصححه الألباني، سنن أبي داود مع عون المعبود 2/201 (الصلاة / إذا صلى في جماعة ثم أدرك جماعة يعيد) ، وسنن النسائي مع شرح السيوطي 2/114 (الإمامة / السعي إلى الصلاة) ، وانظر صحيح سنن أبي داود 1/115.

2 انظر: عون المعبود 1/201، وحاشية السندي على سنن النسائي 2/114.

3 انظر نيل الأوطار 1/336.

ص: 486

في المعضوب يقيم من يحجّ عنه، ثم يبرأ بعد أن يُحجّ عنه: يجزئه هذا الحج ولا يلزمه أن يحج بنفسه1، وقالوا في المريض الذي لا يرجى برؤه إذا أطعم مكان الصيام، ثم برئ وقدر على الصيام لا يلزمه أن يصوم قضاء، وذكر ابن قدامة احتمالا آخر بلزوم الصيام2.

وذهبوا إلى من صلى يوم الجمعة ظهرا ممن لا تجب عليهم الجمعة، ثم أصبح ممن تجب عليهم قبل أن يصلي الإمام، فإن صلاته تجزئه ولا تلزمه الجمعة3، وكذلك الحال في مذهب الشافعية فإنهم يرون أن صلاة الظهر تجزئه في الصورة المذكورة على الرأي المشهور عندهم4.

ونقل الشيرازي في مسألة الحج عن المعضوب طريقين أحدهما

1 انظر: المغني 5/21، والفروع 3/34، ومنتهى الإرادات 1/238.

2 انظر: المغني 4/396-397، ومنتهى الإرادات 1/217.

3 انظر: منتهى الإرادات 1/133.

4 فرّق بعضهم بين الصغير إذا صلى الظهر، ثم بلغ قبل أن يصلي الإمام الجمعة، وبين غيره من أهل الأعذار إذا زال عذرهم فأوجب الجمعة على من بلغ دون غيره؛ لأن الصبي الذي صلى قبل أن يبلغ لم يؤدّ الفرض بخلاف غيره من أهل الأعذار. انظر المجموع 4/323.

ص: 487

أن فيها قولين، والثاني أنه تلزمه الإعادة1.

وذكروا في مسألة إجزاء الإطعام عن الصيام في حق من برئ وجهين2.

أما الحنفية، والمالكية ففروعهم تدل على أنهم أقل أخذا بهذه القاعدة فالحنفية يرون أنه يلزم من أقام من يحجّ عنه لمرضه، ثم برئ بعد أن حُجّ عنه أن يحج بنفسه ولا يجزئه حج الوكيل عنه3، وكذلك من أطعم، ثم قدر على الصيام يلزمه القضاء عندهم4. أما من صلى يوم الجمعة ظهرا لعذر، ثم زال عذره فإن صلاته تجزئه ولا تلزمه الجمعة ولا يكره له ذلك. بل إنها تجزئ عندهم

1 انظر: المهذب 1/199، والمجموع 7/57.

2 ولهم وجه لآخر أنه لا فدية عليه أصلا، والصحيح من مذهبهم لزوم الفدية أنظر: المجموع 6/212.

3 انظر: تحفة الفقهاء 1/385، وحاشية رد المحتار 2/459.

4 انظر: تحفة الفقهاء 1/385، ورد المحتار 2/427-428، وقد أوضح ابن عابدين الفرق بين هذه المسألة، ومسألة من وجد الماء في الوقت بعد أن تيمم وصلى بأن خلفية التيمم -أي بدليته عن الماء- مشروطة بمجرد العجز عن الماء لا بقيد دوامه، أما خلفية الإطعام عن الصيام فمشروطة باستمرار العجز عنه؛ لذا فقد رأوا إجزاء تلك الصلاة، وعدم إجزاء الإطعام في الصورة المذكورة.

ص: 488

عمّن تجب عليه الجمعة أصلا فصلاها ظهرا مع كونه قد ارتكب إثما بترك الجمعة1، وذهب المالكية إلى أن من صلى يوم الجمعة ظهرا لعذر، ثم وال عذره قبل أن يصلي الإمام فإن الجمعة تلزمه2.

وبالنسبة إلى فدية من لم يُطِق الصوم فإنها عندهم غير واجبة3 فلا يتوجّه فيها الخلاف، والحج عندهم لا يقبل النيابة أصلا ولا يجزئ الإنسان حجّ غيره عنه4.

أما المسألة التي ورد النص به وهي مسألة المتيمم الذي يجد الماء في الوقت بعد أن يصلي فإن غالب الفقهاء من المذاهب الأربعة يرون أنه لا إعادة عليه5.

وقد تقدم إيراد بعض فروع القاعدة وآراء الفقهاء فيها.

1 علّة إجزاء صلاة الظهر عمن تلزمه صلاة الجمعة عندهم أنه قد أتى بالأصل وهو الظهر. انظر الهداية 1/90، والبحر الرائق 2/151.

2 انظر: شرح الخرشي مع حاشية العدوي 2/81.

3 انظر: المدونة 1/210-211، وشرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 2/242-243، وحاشية العدوي على رسالة أبي زيد 1/395.

4 انظر: شرح الخرشي مع حاشية العدوي 2/296-299.

5 انظر: تحفة الفقهاء 1/45، والمدونة 1/42-43، والقوانين الفقهية ص38، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 1/195-196، والمهذب 1/36، والمغني 1/320.

ص: 489

وجه التيسير:

وجه التيسير في هذه القاعدة عند من يقول بها هو عدم إلزام المكلف بإعادة العبادة إذا كان قد فعلها على الوجه المطلوب منه حال عذره وإن زال هذا العذر؛ تيسيرا عليه؛ ولكونه قد أدى ما وجب عليه في تلك الحال.

ص: 490