الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الرابعة والثلاثون: من أطلق لفظاً لا يعرف معناه لم يؤخذ بمقتضاه
.
…
القاعدة الرابعة والثلاثون: من أطلق لفظًا لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه.
ذكر هذه القاعدة بهذا النص العز بن عبد السلام1، وعدّ السيوطي من شروط النية العلم بالمنوي، ثم قال: ومن فروع هذا الشرط ما لو نطق بكلمة الطلاق بلغة لا يعرفها وقال: قصدت بها معناها بالعربية فإنه لا يقع الطلاق في الأصح، وعلل ذلك بأن "ما لا يُعْلم لا يصح قصده"2، وأشار إلى معنى هذه القاعدة ابن رجب حيث قسم الألفاظ إلى ما يعتبر فيه اللفظ والمعنى، وما يعتبر فيه المعنى دون اللفظ، وما يعتبر فيه اللفظ عند القدرة عليه3، وأشار بعض الفقهاء إلى هذا المعنى تعليلا4، ومما يشير إلى معنى هذه القاعدة ما قرره بعض الفقهاء من أن العبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ عند اختلافهما5.
1 قواعد الأحكام 2/120.
2 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص37، والمغني 10/373.
3 انظر: قواعد ابن رجب ص13.
4 انظر: شرح الخرشي مع حاشية العدوي 4/33، والمغني 10/373.
5 قطع بعض الفقهاء بهذا، وجعل بعضهم الحكم مترددا بين اعتبار المعنى واعتبار اللفظ مختلفا باختلاف الفروع. انظر: القواعد لابن رجب ص49، ومختصر من قواعد العلائي وكلام الأسنوي 1/253، 2/457، والأشباه والنظائر للسيوطي ص166، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص207، وكتاب القاعدة الكلية إعمال الكلام أولى من إهماله ص203-204.
معاني المفردات:
أطلق: الإطلاق ضد التقييد. يقال: أطلقت الأسير أي خليته، وأطلقت الناقة من عقالها1، والمراد أنه تكلم.
لفظا: أي كلاما. يقال: لفظت بالكلام وتلفظت به أي تكلمت به2، وهو في اصطلاح النحويين: جنس يشمل الكلام والكلمة، والكَلِم ويشمل المستعمل والمهمل3.
1 الصحاح 4/1518 (طلق) .
2 انظر: الصحاح 3/1178 (لفظ) .
3 فالكلام ما أفاد فائدة يحسن السكوت عليها. والكلمة هي اللفظ الموضوع لمعنى مفرد. والكلم ما تركب من ثلاث كلمات فأكثر، أفاد فائدة يحسن السكوت عليها، أو لم يفد. والمستعمل ماله معنى، والمهمل ما لا معنى له. انظر: شرح ابن عقيل 1/14-16.:
مقتضاه: مقتضى اللفظ هو ما يدل عليه. جاء في المصباح المنير: اقتضيت منه حقي: أخذتُ، واقتضى الأمر الوجوب أي دلّ عليه. وأصله من القضاء وهو الحكم1، وهو عند الأصوليين ما تتوقف استقامة الكلام، أو صحته العقلية أو الشرعية على تقديره2.
المعنى الإجمالي:
معنى القاعدة أن من تكلم بلفظ وهو لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ به، ولا تترتب آثار ذلك اللفظ عليه، سواء كان هذا اللفظ دالا على عقد – من نكاح أو غيره – أم كان دالا على طلاق، أم كان دالا على غير ذلك؛ لأنه لم يقصد المعنى؛ إذ قَصْد معنى اللفظ متوقف على معرفته، ومالم يعلم معناه لم يصح قصده3. وإذا كان العلماء قد جعلوا علة هذه القاعدة أن المتكلم لم يقصد المعنى فإن لفظ القاعدة يكون أشمل لو قيل:((من لم يقصد معنى اللفظ لم يؤاخذ بمقتضاه)) ؛ ليشمل حكم القاعدة المكرَهَ فإنه غير
1 انظر: مقاييس اللغة 5/99، والمصباح المنير ص193 (قضى) .
2 انظر: تيسير التحرير 1/241، وإرشاد الفحول ص131، والتعريفات ص226.
3 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص37.
مؤاخذ بمقتضى ما يتلفظ به – وإن علم معناه -؛ لأنه لم يقصد، فعدم قصد معنى اللفظ يكون بسبب عدم العلم بالمعنى، أو بسبب الإكراه على اللفظ1. لكن الذي يبدو أن اختيار عبارة "
…
لا يعرف معناه" مراد بها إخراج الهازل؛ لأنه يعلم معنى ما يتلفظ به فهو مؤاخذ بما يتلفظ به ولو ادعى أنه لم يقصد معناه2. ولم ينص الشيخ عز الدين على دخول المكرَه تحت حكم هذه القاعدة إلا أن تعليله بعدم القصد إلى المعنى3 دال على شمول حكم القاعدة له فالمكره – وإن كان يعلم معنى ما يتلفظ به – فإن إكراهه على التلفظ بما لا يريد دليل ظاهر على عدم قصده معنى ذلك اللفظ، فيكون قصده إنما هو دفع الأذى عن نفسه فلا يترتب على اللفظ حكمه.
1 انظر: أعلام الموقعين 3/62.
2 تصرفات الهازل فيها تفصيل خلاصته أن نكاحه، وطلاقه يقعان ويصحان منه عند الجمهور، وأما البيع ونحوه من العقود فإنها لا تقع عند الحنفية وتقع عند باقي الأئمة. انظر: حاشية رد المحتار 3/16، 4/507، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 4/32، 5/8، وروضة الطالبين 3/336، 8/54، والمغني 6/308، 9/463، 10/372-373.
3 انظر: قواعد الأحكام 2/121.
الأدلة:
بنى العلماء هذه القاعدة على أن المتلفظ هنا لم يلتزم مقتضى اللفظ، ولم يقصده؛ لذا فإنه يصح الاستدلال لهذه القاعدة بما يلي:
1-
عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات
…
"، فالقول هو عمل اللسان1.
2-
حديث: "
…
لَلَّه أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من شدّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح"2.
ووجه الدلالة منه أنه لم يؤاخذ بما قال وإن كان كفرا؛ لأنه لم يقصده.
3-
"قصة قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المرأة التي قالت لزوجها: سمّني، فسماها الظبية. قالت: ما قلت
1 انظر جامع العلوم والحكم ص17-18.
2 أخرجه الإمام مسلم بعدة ألفاظ ومن عدة طرق. صحيح مسلم مع النووي 17/63-64 (التوبة / رقم الحديث 7) .
شيئا. قال: فهات ما أسمّيك به. قالت: سمّني خليَّة. طالق. فقال لها: فأنت خلية طالق. فأتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: إن زوجي طلقني. فجاء زوجها فقص عليه القصة فأوجع عمر رأسها، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها"1.
العمل بالقاعدة:
يقرّ جمهور الفقهاء هذه القاعدة ويعملون بموجبها.
قال ابن القيم رحمه الله في معرض كلامه عن اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ -: "فلا بد من إرادتين إرادة التكلم باللفظ اختيارا، وإرادة موجبه ومقتضاه
…
إلى أن قال: وهو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام"2، ويدل على إعمال الفقهاء لهذه القاعدة أن جمهورهم على أن من تلفظ بالطلاق وهو لا يعرف معناه، أنه لا يقع طلاقه، وقال الحنفية: تطلق زوجته ديانة لا قضاء3.
1 اخرج هذه القصة ابن حزم في المحلى 10/200، وأورد نحوها ابن القيم في أعلام الموقعين 3/64.
2 انظر: أعلام الموقعين 3/62، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه ص80.
3 انظر: حاشية رد المحتار 3/241، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 4/33، والمهذب 2/84، والمغني 10/373، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص80.
من فروع القاعدة:
1-
ما لو تلفظ بالطلاق وهو لا يعرف معناه فإن عدم علمه بالمعنى له تأثير، في عدم المؤاخذة. فمن الفقهاء من يرى أن هذا الطلاق لا يترتب عليه أثر أصلا، ومنهم من يقول: تطلق في القضاء لأنه يُبنى على الظاهر، ولا تطلق ديانة.
2-
ما لو تلفظ بكلمة: "بعت"، ونحوها ولم يكن يعرف معناها فإنه لا ينعقد1.
3-
ما لو نطق الإنسان بكلمة الكفر وهو لا يعرف معناها لم يعد مرتدا2.
1 لم أقف على صورة هذه المسألة وإنما يبحث الفقهاء اشتراط التراضي في البيع ونحوه، وبيع الهازل ونحوهما. انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص24، وحاشية الدسوقي 4/4-6، والمجموع 9/148، 170، والإقناع 2/56-57.
2 يبحث الفقهاء – في الغالب – حكم ردة المجنون، ومن لا يعقل، ومن في حكمها، ولعله يدخل في ذلك من ينطق بكلمة الكفر وهو لا يعلم معناها. انظر: بدائع الصنائع 7/134، وشرح منح الجليل 7/477، وروضة الطالبين 10/71-73، والمغني 10/373.
وجه التيسير:
وجه التيسير أن الشارع لم يؤاخذ المكلف باللفظ الذي يتكلم به دون معرفة معناه، ولم يرتب على ذلك اللفظ آثاره؛ لأنه لم يتحقق فيه القصد إلى معنى ذلك القول، والله أعلم.