الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة السادسة عشر: حقوق الله مبنية على المسامحة
.
…
القاعدة السادسة عشرة: حقوق الله مبنيّة على المسامحة.
ذكر هذه القاعدة – بهذه الصيغة - الزركشي1، وألمح إليها عدد من العلماء تعليلا لتقديم حقوق العباد على حقوق الله تعالى2 كما أشار إليها بعضهم عند تفصيل القول في القاعدة ((الإسلام يجب ما قبله)) حيث قُيّدت بكون ذلك فيمت يتعلق بحقوق الله تعالى3.
ويستفاد معناها من مجموع قاعدتي ((الضرورات تبيح المحظورات)) ، و ((الاضطرار لا يبطل حق الغير)) حيث يتبين أن إباحة المحظور في حال الاضطرار مطلقا إنما هو فيما يتعلق بحق
1 المنثور 2/59، وانظر مختصره للشعراني (رسالة) 1/271.
2 انظر: الفروق 2/203-204، 3/185، والأشباه والنظائر لابن الوكيل 1/419، وقواعد المقري 2/513، 495، ومنتهى الوصول والأمل ص116.
3 راجع ذلك في تلك القاعدة ص129-130 من هذا الكتاب.
الله سبحانه، أما فيما يتعلق بحق الآدمي فإنه وإن أبيح في حال الضرورة إلا أنه مشروط بضمانه1.
معاني المفردات:
حقوق: جمع حق يقال: حقّ الشيءُ، أي وجب، وأحققتُ لشيءَ أوجبته، والحق: نقيض الباطل، ومادة (حق) في أصلهاتدل على إحكام الشيء وصحته2.
المسامحة: هي المساهلة، والسماح والسماحة: الجود3.
المعنى الإجمالي:
المراد بهذه القاعدة أن ما يلزم المكلف من حقوق الله تعالى فإن مبناها على المسامحة بحيث إذا شق على المكلف أداء ذلك الحق مشقّة معتبرة سقط عنه من الحق بقدر تلك المشقة؛ لأن الله تعالى لا يلحقه ضرر بنقصان تلك الحقوق، أو عدم أدائها.
وهذه التكاليف إنما هي لتمييز المطيع من العاصي.
ومفهوم هذه القاعدة أن حقوق العباد مبنيّة على المشاحّة والمطالبة:
1 راجع ذلك في ص292 من هذا الكتاب.
2 انظر: مقاييس اللغة 2/15 (حق) ، ولسان العرب 2/255 (حقق) .
3 انظر: الصحاح 1/376 (سمح)
وذلك لحاجة الناس إليها، فلا تسقط إلا بإسقاط أصحابها لها، وقد صرّح البعض بهذا المفهوم1.
والمراد بهذه القاعدة ما هو حق خالص لله تعالى، وذلك أنه قد تتداخل حقوق العباد مع حق الله تعالى في بعض المواضع2.
الأدلة:
يستدل لهذه القاعدة بعدة أمور منها:
أولا: وقوع الرخص والتخفيفات في حقوق الله تعالى كقصر الصلاة والجمع بين الصلاتين في السفر، وكالتيمم عند عدم الماء، وكتأخير الصيام للمسافر في شهر رمضان إلى أيام أخر
…
، وغير ذلك كثير.
1 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 8/27، وما تقدم من المصادر التي ذكرت القاعدة نصا أو تعليلا.
2 قسّم القرافي الحقوق من جهة من هي له إلى ثلاثة أقسام:
حق لله تعالى فقط كالإيمان، وتحريم الكفر، وحق للعباد فقط كالديون، والأثمان، وقسم اختلف فيه هل يغلّب فيه حق الله أو حق العبد كحد القذف، ثم قال: ونعني بحق العبد: ما لو أسقطه لسقط وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه". انظر: الفروق 1/140-141، وانظر: قواعد المقري 2/416-417.
ثانيا: حديث: "ادرؤا الحدود بالشبهات"1.
وما في معناه من الأحاديث الدالة على دفع الحدود بالشبهات المحتملة2.
1 أخرجه الإمام الترمذي مرفوعا بلفظ: "ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"، وضعفه الألباني.
وروي موقوفا عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم بعدة ألفاظ. قال الحافظ ابن حجر: "وأصح ما فيه عن عبد الله بن مسعود: "ادرؤا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم".
وقال صاحب تحفة الأحوذي: "وما في الباب وإن كان فيه المقال المعروف فقد شدّ في عضده ما ذكرناه فيصلح بعد ذلك للاحتجاج به على مشروعية درء الحدود بالشبهات المحتملة". انظر: سنن الترمذي، ومعه تحفة الأحوذي 4/688-690 (الحدود / درء الحدود) ، وتلخيص الحبير 4/56-57، وضعيف سنن الترمذي للأباني ص63.
2 من ذلك ما رواه الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم فيّ كتاب الله، قال: "أليس قد صليت مهنا؟ " قال: نعم، قال: "فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال حدك". صحيح البخاري مع الفتح 12/136 (الحدود / إذا أقرّ بالحدّ ولم يبين
…
) ، وصحيح مسلم مع النووي 17/81 (التوبة، قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} واللفظ المذكور للبخاري.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لماعز رضي الله عنه لما اعترف بالزنا: "لعلك قبلبت أو غمزت أو نظرت
…
".
أخرجه البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 12/138 (الحدود / هل يقول الإمام للمقرّ: لعلك لمست أو غمزت؟) ، انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 17/81، وفتح الباري 12/137-139، وكتاب الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي ص198.
ثالثا: ما يدل بعمومه على رفع الحرج كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1، وكقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2.
رابعا: أن العلماء قد ذكروا للتوبة – فيما يتعلق بحقوق الله تعالى – ثلاثة شروط، وهي: الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العود، والندم على ما مضى.
1 الحج (78) .
2 البقرة (185) .
وزادوا – فيما يتعلق بحقوق العباد – شرطا رابعا وهو أن يؤدي ذلك الحق إلى صاحبه، أو يتحلله منه1.
فتبيّن بذلك أن حقوقه سبحانه قد بناها على المسامحة بحيث لا يلزم للتوبة من التفريط فيها ما يلزم في حقوق العباد.
عمل الفقهاء بالقاعدة:
اتفقت آراء الفقهاء على القول بهذه القاعدة والعمل بمقتضاها من حيث الجملة. وإن كانوا قد اختلفوا في بعض الصور التي تجتمع فيها حقوق الله تعلى مع حقوق الآدميين ولم يمكن الوفاء بها جميعا، أيهما يقدم؟ 2.
وهذه بعض نصوص الفقهاء الدالة على العمل بهذه القاعدة فيما إذا
1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 18/199-200، وشرح صحيح مسلم للنووي 17/25.
2 من تلك الصور ما إذا اجتمعت في تركة الميت حقوق مالية متعلقة بذمته لله تعالى، كالزكاة، وحقوق متعلقة بذمته للآدميين كالديون ولم تف التركة بها جميعا فإن المالكية يرون تقديم دين الآدمي على وفق هذه القاعدة، ويرى الحنفية أن حقوق الله تعالى المتعلقة بالذمة تسقط بموت من وجبت في ذمته إلا إذا أوصى بإخراجها، أو تبرع غيره بأدائها عنه، ومعنى سقوطها عنه: عدم لزومها في ماله بعد موته، مع بقاء المؤاخذة بها إذا كان مفرطا. وللشافعية في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها تقديم حقوق الله، والثاني تقديم حقوق المخلوقين، والثالث: تساويهما، ورجح النووي الأول منها.
وذهب الحنابلة إلى تساوي الحقين فإذا اجتمعت في التركة ديون الله وديون الآدميين ولم تف التركة بها فإنهم يتحاصصون على نسبة ديونهم. وإنه ليظهر من تعليل بعض الفقهاء أنهم إنما قدّموا حقوق الله تعالى – هنا – لأنها حقوق مالية والحق المالي لا يسقط بالشبهة كما صرح بذلك النووي فدل على أن هذه الصورة خرجت عن الأصل لسبب خاص، والله أعلم. انظر: فتح الباري 4/79، وشرح صحيح مسلم 8/27، وتبيين الحقائق للزيلعي 6/236-240، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص360، والعذب الفائض 1/15، والحقوق المتعلقة بالتركة ليوسف قاسم ص39-40، والفقه الإسلامي وأدلته 8/274.
اجتمع حقان: أحدهما لله تعالى والآخر للعبد وهي من أوضح صور تطبيق هذه القاعدة.
فقد جاء في قواعد المقّري1: "إن مذهب مالك تقديم حق الآدميين"، ومثّل بالحقوق المالية، وقال الخرشيّ من المالكية: "
…
لكن ديون الآدميين مقدمة على هدي التمتع إذا مات المتمتع بعد أن رمى العقبة
…
" الخ كلامه2.
1 2/513.
2 انظر: شرح الخرشي مع حاشية العدوي 8/197، وانظر في اجتماع الحدود التي لله تعالى مع التي للآدميين حاشية الدسوقي 4/347.
وجاء في كتاب المبسوط1 من كتب الفقه الحنفي: "إذا اجتمع القصاص في اليد اليمنى وحد السرقة فقد اجتمع في اليد حقّان: أحدهما لله تعالى، والآخر للعبد، فيقدم حق العبد لحاجنه إلى ذلك".
وجاء في بدائع الصنائع2: "حكم الحدود إذا اجتمعت أن يقدم حق العبد في الاستفاء على حق الله عز وجل، لحاجة العبد إلى الانتفاع بحقه، وتعالى الله عن الحاجات".
وجاء في روضة الطالبين3 في الفقه الشافعي: "
…
لو قَطَعَ يسارَ إنسان وسرق قطعت يساره قصاصا، وأمهل إلى الاندمال4، ثم تقطع يمينه عن السرقة
…
، وقدم القصاص لأن العقوبة التي هي حق آدمي آكد من التي هي حق لله تعالى؛ لأنها تسقط بما لا تسقط به عقوبة الآدمي".
وجاء في الكافي5 من كتب الحنابلة: "وإن اجتمعت حدود لله
1 9/185.
2 10/162، وانظر: شرح السراجية في الفرائض ص5.
3 10/162، وانظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص335.
4 الاندمال: بُرء الجرح والتحامه. انظر: لسان العرب 4/407 (دمل) .
5 4/240.
تعالى، وللآدميين ولا قتل فيها استوفت كلها، إلا أن يتفق الحقان في محل واحد كالقطع للقصاص والسرقة فإنه يقدم القصاص؛ لأنه حق آدمي
…
"الخ.
من فروع القاعدة:
يتفرع على هذه القاعدة مسائل كثيرة جدا، وسائر الرخص تندرج تحت هذه القاعدة:
1-
مشروعية التيمم عند فقد الماء، أو العجز عن استعماله1.
2-
ومنها سقوط الحج عن غير المستطيع2.
3-
ومنها درء الحدود بالشبهات مثل حد الزنا3.
وجه التيسير:
التيسير في هذه القاعدة ظاهر، وذلك أن حق الله تعالى
1 انظر: الهداية 1/26، والقوانين الفقهية ص37، والتنبيه ص20، والمغني 1/311.
2 انظر: الهداية 1/145، والقوانين الفقهية ص112، والتنبيه ص69، والمغني 5/6.
3 انظر: الهداية 2/382، والقوانين الفقهية ص302، والتنبيه ص242، والمغني 1/362.
على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، كما قال سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} 1 وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
…
وحق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا
…
" 2. وعبادته تكون باتباع شرعه، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه وهو حق عظيم بالنظر إلى أهميته وعاقبته، ويسير – على من يسّر الله عليه – إذا ما قورن بأن الله تعالى خالق الإنسان من العدم، ومربيه بالنعم.
ولما كان الله تعالى في غاية الغنى عن عباده، وهم في غاية الضعف والحاجة إليه بنى تلك الحقوق على ما يناسب غناه تعالى وحاجتهم إلى المسامحة والتخفيف، إذا ما وجد ما يقتضي ذلك.
1 الذاريات (56) .
2 متفق عليه من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، واللفظ للبخاري، صحيح البخاري مع الفتح 10/412 (اللباس / إرداف الرجل خلف الرجل) ، وصحيح مسلم مع النووي 1/231-233 (الإيمان / حق الله على العباد) .