الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الأربعون: من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها وكان المقدور عليه غير مقصود في العبادة، أو كان جزءًا من العبادة. لكنه عند انفراده ليس بعبادة، لم يلزم الإتيان به
.
ذكر هذه القاعدة ابن رجب رحمه الله بصيغة استفهام، ثم بيّن أن ما يقدر عليه المكلف يكون على أقسام أربعة ولكل قسم حكمه:
فالقسم الأول منها: ما ليس مقصودا في العبادة بل هو وسيلة محضة إليها كتحريك اللسان في القراءة، وإمرار الموسي على الرأس في الحلق في الحج والعمرة.
والقسم الثاني: ما وجب تبعا لغيره وهو قسمان:
أحدهما: ما كان وجوبه احتياطا للعبادة ليتحقق حصولها كغسل المرفقين في الوضوء، وكإمساك جزء من الليل في الصوم.
والآخر: ما وجب تبعا لغيره على وجه التكميل واللواحق مثل رمي الجمار، والمبيت بمنى لمن لم يدرك الحج.
والقسم الثالث: ما هو جزء من العبادة وليس بعبادة في نفسه بانفراده كصوم بعض اليوم لمن قدر عليه وعجز عن باقيه، أو كان
غير مأمور به لضرر كعتق بعض الرقبة في الكفارة1.
والقسم الرابع: ما هو جزء من العبادة وهو عبادة مشروعة في نفسه كالقدرة على القيام في الصلاة مع العجز عن القراءة ونحوها، وبيّن أن ما كان من القسم الأول، والثالث فلا يلزم الإتيان به.
وأن القسم الثاني محل خلاف بين فقهاء الحنابلة. وأن القسم الرابع هو الذي يجب الإتيان به2.
وقريب من هذا التقسيم ما ذكره الزركشي فقد قسّم المقدور عليه -من حيث الوجوب وعدمه- أربعة أقسام:
الأول منها: ما يجب قطعا.
والثاني: ما يجب على الأصح.
والثالث: ما لا يجب قطعا.
والرابع: ما لا يجب، والمجموع المذهب (رسالة) على الأصح.
ثم قال: والأحسن في الضبط أن يقال: إذا كان المقدور عليه ليس مقصودا من العبادة بل هو وسيلة لم يجب قطعا. وإن كان
1 الذي يبدو أن المراد بالضرر هنا ما يلحق الشريكين للزوم عتق البعض الآخر من المعتَق وضمان المعتِق له. انظر: المغني 4/352، وعون المعبود 10/317، 331.
2 انظر: القواعد لابن رجب ص10، وانظر جامع العلوم والحكم ص84-85.
مقصودا نُظر فإن كان لا بَدَلَ له وجب كستر العورة، وغسل النجاسة. وإن كان له بدل ينظر فإن كان اسم المأمور به يصدق على بعضه وجب أيضا كالماء؛ لأن القليل منه يطلق عليه اسم الماء، وإن كان لا يصدق لم يجب كبعض الرقبة1 وقد أشار كثير من العلماء إلى هذه القاعدة ضمنا عند بيان ما يستثنى من قاعدة ((الميسور لا يسقط بالمعسور)) 2.
وبحث علماء الأصول شيئا من مباحث هذه القاعدة في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب3
المعنى الإجمالي:
معنى هذه القاعدة أن من العبادات ما إذا قدر المكلف على بعضها وعجز عن بعض لم يلزمه الإتيان بما قدر عليه، استثناءً من
1 انظر: المنثور 1/227-233.
2 انظر: قواعد الأحكام 2/7، والفروق 3/198، والمجموع المذهب (رسالة) 2/564-572، والأشباه والنظائر للسبكي 1/158، والمنثور 3/198، والأشباه والنزائر للسيوطي ص159-160، والمواهب السنية بهامش الأشباه والنظائر للسيوطي ص270 ط / دار الفكر، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص348.
3 انظر: شرح الكوكب المنير 1/360، والقواعد والفوائد الأصولية ص94-104.
الأصل الذي هو لزوم المكلف ما قدر عليه من العبادة وسقوط ما عجز عنه الذي عبّر عنه بعض العلماء بقاعدة ((الميسور لا يسقط بالمعسور)) وذلك فيما إذا كان المقدور عليه ليس بجزء من العبادة ولا مقصودا لذاته، أو كان جزءا من العبادة لكنه عند انفراده عن بقية تلك العبادة لا يكون عبادة في نفسه هذا فيما ذكره ابن رجب.
الأدلة:
لما كان الأصل أن الميسور لا يسقط بالمعسور، وأن من قدر على بعض العبادة دون بعض لزمه الإتيان بما قدر عليه لعموم قول الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1 وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "
…
وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" 2 كانت هذه القاعدة بمثابة المستثنى من الأصل.
وبناء على هذا فإن لكل نوع أو قسم عدَّهُ الفقهاء ممالا يجب الإتيان بالمقدور عليه منه وجه أو تعليل خاص به.
فقول ابن رجب: إن مات ليس مقصودا في العبادة، أو ما ليس بعبادة إذا انفرد لا يلزم الإتيان به وإن قدر عليه. يتضمن التعليل
1 التغابن (16) .
2 تقدم تخريجه، وانظر فتح الباري 13/276، وشرح النووي لصحيح مسلم 9/102.
لذلك بأنه إذا انتفى الأصل لم تلزم وسيلته، وإذا لم يُقدر على العبادة تامة لم يلزم الجزء الذي ليس بعبادة وهكذا.
قال النووي رحمه الله في مسألة إمرار الموسى على رأس الأصلع: "يستحب للأثر1 ولا يجب؛ لأنه -أي الحلق- قُرية تتعلق بمحل فسقطت لفواته كغسل اليد إذا قطعت"2، وكذلك قال ابن قدامة3.
وذهب بعض علماء المالكية إلى أنه لا يجب على من لم يحسن الفاتحة أن يقف ساكتا، وعلّل ذلك بأن الوقوف لم يكن لنفسه وإنما هو لقراءة القرآن فإن لم يحسن ذلك صار القيام لغير فائدة4.
1 المراد به الأثر المروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بفعل ذلك حيث روى ابن أبي شيبة، والبيهقي "أن ابن عمر كان رجلا أصلع فكان إذا حج أو اعتمر أمرّ على رأسه الموسى" وقال النووي:"هو موقوف ضعيف"، وروى ابن أبي شيبة آثارا أخرى نحوه عن بعض السلف. مصنف ابن أبي شيبة القسم الأول من الجزء الرابع ص217 (الجزء المفقود)(كتاب الحج) ، والسنن الكبرى 5/103 (الحج / الأصلع أو المحلوق يمر الموسى على رأسه) .
2 انظر: المجموع 8/146.
3 انظر: المغني 5/306.
4 انظر: حاشية الدسوقي 1/138.
وهكذا نجد لكل مسألة لم يلزم الإتيان فيها بالمقدور عليه تعليل يناسبها، وتفصيلُ ذلك في كل مسألة مبسوطة في كتب الفقه.
العمل بالقاعدة:
تقدم أن ابن رجب من الحنابلة، والزركشي من الشافعي قد ذكرا هذه القاعدة وبيّنا أن من العبادات مالا يجب الإتيان فيها بالمقدور عليه -على ما تقدم من تفصيل- وعلى هذا تدل تعليلاتهم في بعض الفروع، وكذلك المالكية فقد تقدم النقل عن بعض علمائهم أنهم يرون عدم لزوم القيام لمن لا يحسن القراءة.
أما الحنفية فالذي وقفت عليه عندهم من فروع هذه القاعدة هو مسألة إمرار الموسى على رأس الأصلع حيث يقولون بالوجوب فيها، ويعللون ذلك بالأثر المروي عن ابن عمر، وبأنه قدر على بعض النسك وهذا هو المشهور عندهم، ونقل ابن عابدين قولا بالاستحباب1.
لكن الذي يظهر أن هناك من المسائل مالا يُختلف في عدم لزوم المقدور عليه منها كمن يستطيع أن يصوم بعض اليوم من رمضان ويعجز عن باقيه فإنه لا يلزمه الصيام وإن كان كثير من
1 انظر: بدائع الصنائع 3/128، وحاشية رد المحتار 2/516.
الفقهاء لا ينص على هذا فذلك فيما يبدو لظهوره؛ لأن الصيام إنما يطلق شرعا على الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بشروطه المعتبرة.
من فروع القاعدة:
1-
من وجد من الماء ما يكفي بعض أعضاء الوضوء فهل يستعمله ويتيمم أم ينتقل إلى التيمم؟ 1.
2-
من عجز عن النطق بالتكبير أو القراءة هل يلزمه تحريك لسانه؟ 2.
3-
من حج وهو أصلع، أو حليق الرأس فهل يشرع له أن يُمرّ الموسى على رأسه؟ 3.
1 انظر أقوال الفقهاء في هذه المسألة في: تبيين الحقائق 1/45، وشرح الخرشي 1/186، والمهذب 1/34-35، والمغني 1/315.
2 انظر آراء الفقهاء في المسألة في: حاشية رد المحتار 1/48، وشرح الخرشي 1/270، والقوانين الفقهية ص56، وروضة الطالبين 1/337، والمغني 2/130.
3 انظر آراء الفقهاء في المسألة في: حاشية رد المحتار 2/516، وتقريرات الشيخ عليش على حاشية الدسوقي 2/268، والمهذب 1/228، والمغني 5/306.
وجه التيسير:
وجه التيسير في هذه القاعدة أنها تتضمن تخفيفا لبعض التكاليف، واستثناءً لبعض ما ورد الأمر العام بفعله إذا وُجد ما يقتضي ذلك مما تقدمت الإشارة إليه1.
هذا مع أن القاعدة العامة المأخوذة من الآية الكريمة والحديث النبوي المتقدم ذكرهما وهي ((الميسور لا يسقط المعسور)) لا تخلو من معنى التيسير؛ لأن من معناها أنْ يسقط عن المكلف مالا يقدر عليه2 وإن كانت بضيغتها هذه أقرب إلى تقرير التكليف منها إلى التخفيف.
ومما يوضح تضمّنها لمعنى التيسير صياغة ابن عبد السلام لها حيث قال: "من كُلّف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه فإنه يأتي بما قدر عليه ويسقط عنه ما عجز عنه"3، وقول القرافي أن:"المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف"4.
1 انظر: قواعد الأحكام 2/7.
2 الذي دعا إلى إفراد هذه القاعدة بالذكر مع كونها مستثناة من قاعدة أعم هو ظهور معنى التيسير فيها أكثر ونصُّ بعض العلماء على اعتبارها قاعدة مستقلة.
3 المرجع المتقدم.
4 الفروق 3/198.