الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثالثة والثلاثون: معظم الشيئ يقوم مقام كله
…
القاعدة الثالثة والثلاثون: معظم الشيء يقوم مقام كله.
أورد هذه القاعدة بهذا اللفظ الزركشي1، وأورد – هو وغيره – قواعد أخرى تشترك مع هذه القاعدة في بعض معناها كقولهم:((ما قارب الشيء أعطي حكمه، أو هل يعطى حكمه)) ، وقولهم:((الأقل يتبع الأكثر)) 2، وقد أشار بعض الفقهاء إلى معناها تعليلا3، ونبّه القرافي على معناها بقوله:"إذا ذهب جل منفعة العين فعندنا يضمن الجميع"4.
1 المنثور 3/183، وانظر مختصره للشعراني (رسالة) 2/707.
2 انظر: الأشباه والنظائر لابن الوكيل 1/333، والقواعد للمقري 2/510 والأشباه والنظائر للسبكي 1/98، 275، والمنثور 3/144، وإيضاح المسالك ص170، ومختصر قواعد الزركشي للشعراي (رسالة) 2/662، والإسعاف بالطلب ص36.
3 انظر – على سبيل المثال -: كتاب الأصول 1/89-90، والمغني 4/341، والقواعد والفوائد الأصولية ص96-97، وانظر القواعد الفقهية للندوي ص343-345.
4 انظر: الفروق 4/30.
وساق ابن الوكيل1 فائدة نصها: "إعطاء كل عبادة حكم بعضها، في صور"، وهي في معنى هذه القاعدة المذكورة وذلك؛ لأن مراده بها ما إذا كانت العبادة بحيث يمكن أن يُفْعل بعضها على وجه فيه ثواب، وبعضها علة وجه لا ثواب فيه – من حيث الأصل – وذلك كالأضحية يأكل صاحبها بعضها، ويتصدق ببعض فهل يثاب على الكل أم على ما تصدق به؟، وقد ذكر في حكم هذه الصورة وجهين:
أحدهما أنه يحكم لكل العبادة – أي بجزئيها – بحكم بعضها الذي فيه الثواب، والآخر أن الثواب إنما هو على ذلك البعض دون غيره2.
المعنى الإجمالي:
المراد بهذه القاعدة أن الشرع قد يجعل لأكثر الشيء حكم كله في بعض المسائل، فإذا أتى المكلف بأكثر العبادة في تلك الصور
1 هو: محمد بن عمر بن مكي بن المرحّل الشافعي، وشهرته (ابن الوكيل) ، ولد سنة 665هـ، وتوفي سنة 716هـ. من مؤلفاته [الأشباه والنظائر] وهو من أشهر كتبه، وكتاب [شرح الأحكام] . انظر: طبقات الشافعية الكبرى 9/253-267، والدرر الكامنة 4/237.
2 انظر: الأشباه والنظائر لابن الوكيل 1/273.
كان له حكم من أداها تامة من حيث الثواب، وبراءة الذمة – في بعض الصور -، وإذا أدى أكثرها على وجه فيه زيادة فضل كان له أجر من أدّاها كلها على ذلك الوجه كمن أدرك ركعة مع الإمام تحصل له فضيلة صلاة الجماعة. وقُيّد هذا بما إذا لم يعارضه نص، فلا تتأدى الصلاة الرباعية مثلا بثلاث ركعات؛ لوجود المعارض وهو النص على كونها أربع ركعات1، ويمكن أن يقال: إن هذه القاعدة تجري في حالات منها:
1-
أن يدل على إعطاء الأكثر أو البعض حكم الكل – في شيء ما – دليل خاص كما في إدراك الركعة والصلاة بإدراك الإمام قبل الرفع من الركوع حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" 2، فقد أخذ جمهور العلماء منه أن من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة فلا يقضيها، ويكون قد أدرك بها فضل صلاة الجماعة3
1 انظر: القواعد الفقهية للندوي ص343.
2 أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحيح البخاري مع الفتح 2/68 (مواقيت الصلاة / من أدرك من الصلاة ركعة) . وصحيح مسلم مع النووي 5/104 (المساجد ومواضع الصلاة / من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة) .
3 انظر: فتح الباري 2/69، وعون المعبود 3/102.
2-
أن يدل العرف الشرعي، أو العرف العام على أن المراد بالعام البعض كما في قيام رمضان ونحوه.
قال النووي: "إن قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح"1، وقال ابن حجر – في بيان قيام رمضان -:"والمراد من قيام الليل ما يحصل به مطلق القيام"2، وقال الشوكاني:"وليس من شرطه استغراق جميع أوقات الليل"3. وأما تقييد حكم هذه القاعدة بكونه في أكثر الشيء أو معضمه فإنما هو – فيما يظهر لي – من باب النظر إلى الغالب وإلا فإن بعض الصور قد يقام فيها البعض مقام الكل وإن لم يكن ذلك البعض هو أكثر العمل4، والله أعلم.
الأدلة:
أولا: النصوص الواردة في إقامة الأكثر أو البعض مقام
1 انظر: شرح صحيح مسلم 6/39.
2 انظر: فتح الباري 4/295.
3 انظر: نيل الأوطار 3/60.
4 وذلك كإدراك فضيلة الجماعة بإدراك ركعة مع الإمام وإدراك وقت الصلاة، واعتبارها أداء بإدراك ركعة منها في الوقت. انظر: مختصر قواعد الزركشي (رسالة) 2/707.
الكل في بعض الصور. كقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة"1. وكقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"2.
قال النووي – في شأن هذين الحديثين -: "أجمع المسلمون أن هذا ليس على ظاهره وأنه لا يكون بالركعة مدركا لكل الصلاة وتكفيه وتحصل براءته من الصلاة بهذه الركعة. بل هو متأوَّل، وفيه إضمار تقديره فقد أدرك حكم الصلاة، أو وجوبها، أو فضلها"3، وقال ابن حجر:"فيه إضمار تقديره فقد أدرك وقت الصلاة، أو حكم الصلاة، أو نحو ذلك"4.
1 تقدم تخرجه قريباً.
2 أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ للبخاري. صحيح البخاري مع الفتح 2/67 (مواقيت الصلاة / من أدرك من الفجر ركعة) ، وصحيح مسلم مع النووي 5/104 (المساجد ومواضع الصلاة / من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) .
3 شرح النووي على صحيح مسلم 5/105.
4 فنح الباري 2/69.
وحديث: "
…
إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسب له قيام الليلة" 1 فإن هذه الأحاديث ونحوها تدل على أن من أصول الشريعة قيام بعض العبادة مقام كلها وإن لم يكن هذا مطردا في كل عمل2.
ثانيا: حديث: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراةَ فعملوا بها حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا،
1 أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي ذر رضي الله عنه بألفاظ متقاربة، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح".سنن أبي داود مع عون المعبود 4/174 (شهر رمضان / قيام شهر رمضان) ، وسنن الترمذي مع التحفة 3/520-521 (الصوم / قيام شهر رمضان) ، وسنن النسائي مع شرح السيوطي 3/83-84 (السهو / ثواب من صلى مع الإمام حتى ينصرف) ، وسنن ابن ماجه 1/420 (إقامة الصلاة / قيام شهر رمضان) .
2 يصح هذا الاستدلال سواء قيل: إن المراد بالصلاة صلاة الفرض – أي العشاء كما قال بعضهم – أو قيل: إن المراد بالصلاة صلاة التراويح كما قاله آخرون، ولعل القول الأخير أقوى؛ لأن الحديث في شأن صلاة التطوع والاستزادة منها. انظر: بذل المجهود في حل أبي داود 7/156، وتحفة الأحوذي 3/521.
ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيلَ، فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين. فقال أهل الكتابين: أيْ ربنا أُعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطا قيراطا ونحن كنا أكثر عملا. قال الله غز وجل: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. قال فهو فضلي أوتيه من أشاء"1.
وحديث: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا إلى الليل فعملوا إلى نصف النهار. فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر آخرين فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت فعملوا حتى إذا كان حين العصر قالوا: لك ما عملنا، فاستأجر قوما فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين" 2، فقد أورد الإمام البخاري
1 أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. صحيح البخاري مع الفتح 2/46 (مواقيت الصلاة / من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب) .
2 أخرجه البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه. صحيح البخاري مع الفتح 2/46 (مواقيت الصلاة / من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب) .
هذين الحديثين في باب (من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب) ، ونقل ابن حجر عن بعض العلماء أن وجه إيراد البخاري لهذين الحديثين في هذه الترجمة، الدلالة على أنه قد يُستحق بعمل البعض أجر الكل مثل الذي أعطي من العصر إلى الليل أجر النهار كله فهو نظير من يُعطى أحرَ الصلاة كلها ولو لم يدرك إلا ركعة – أي في وقت الصلاة1 -.
ثالثا: يضاف إلى ما سبق العرف اللغوي فكثيرا ما يطابق الكل – في اللغة – ويراد به البعض أو الأكثر2.
العمل بالقاعدة:
هذه القاعدة معمول بها في المذاهب الأربعة، فمن الفقهاء من نص على تقعيدها وقد تقدم ذكر بعض ذلك، ومنهم من علل بها في بعض المواضع من ذلم قول محمد بن الحسن للإمام أبي حنيفة: "أرأيت رجلا توضأ ومسح على خُفيه مرة واحد بإصبع أو بإصبعين؟ قال: لا يجزيه. قلت: أرأيت إن مسح بثلاثة أصابع أو أكثر من ذلك؟ قال: يجزيه. قلت: من أين اختلفنا؟ قال: إذا مسح
1 انظر: فتح الباري 2/47.
2 انظر: الإيضاح في علوم البلاغة 2/399.
بالأكثر من أصابعه أجزأه ذلك"1، وقال ابن اللحام الحنبلي: الأكل من مال من مالُه حرام هل يجوز أم لا؟ في المسألة أربعة أقوال:
أحدها: التحريم مطلقا، والثاني: إن زاد الحرام على الثلث حرُم الكل، والثالث: إن كان الأكثر الحرام حرُم وإلا فلا؛ إقامة للأكثر مقام الكل2
…
من فروع القاعدة:
1-
إدراك الركعة مع الإمام بإدراك الركوع معه3.
2-
قيام جزء من الليل في شهر رمضان قائم مقام قيام الليل4.
3-
إذا أتلف أكثر العضو، أو أذهب منفعته لزمته دية العضو كاملة إذا كان مما يوجب الدية (على تفصيل في ذلك)5.
1 انظر: كتاب الأصل 1/89-90.
2 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص96-97.
3 انظر: حاشية رد المحتار 1/594، والقوانين الفقهية ص65، والتنبيه ص38، والمغني 2/182.
4 انظر المسألة في: حاشية رد المحتار 2/25، وشرح الخرشي 1/8-9، والمهذب 1/84، والمغني 2/601.
5 انظر التفصيل في: الهداية 4/524، وشرح الخرشي 8/19، والمهذب 2/200، والمغني 12/140.
وجه التيسير:
يظهر وجه التيسير في هذه القاعدة عند تطبيقها على العبادات حيث يعطي الله تعالى بفضله الأجر على كل العمل وإن كان المُؤدى بعضه كما تقدم في شرح القاعدة1.
1 انظر: القواعد الفقهية للندوي ص343.