الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة الرابعة في أسانيدي إلى الحافظ الإِمام مسلم رحمه الله تعالى
ولي أسانيدُ عديدةٌ إِلى المؤلف، النازلُ منها إِلى أربع وعشرين واسطة، والعالي منها إِلى تسع وسائط، والمتوسِّطُ منها كثيرٌ منها إِلى خمس عشرة واسطة، ومنها إِلى ثماني عشرة واسطة، ومنها إِلى غير ذلك، ونذكر هنا سَنَدَينِ خوفًا من الإِطالة.
الأول منها: ما ذكرته بقولي:
الحمدُ للهِ الذي جَعَلَ الأسانيدَ من خواصّ هذه الأُمَّة، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدنا ونبيِّنا وإمامنا وقدوتنا مُحَمَّدٍ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإِحسانٍ إِلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فيقولُ العبدُ الفقيرُ خويدمُ العلمِ في دار الحديث الخيرية -بمكة المكرمة نحو عشرين سنة، وفي الحبشة نحو سبع وعشرين سنة- محمدُ الأمينُ بن عبد الله الهرري ثم المكي: أروي الجامع الصحيح للإِمام الحافظ حُجَّة الإِسلام مسلم بن الحَجَّاج عن الشيخ المُسْنِد محمد ياسين بن محمد عيسى الفاداني المكي (1)، عن الشيخ المُعَمَّر جمعان بن سامون الجاوي الأندنوسي (2)، عن الشيخ نووي بن عمر الأندنوسي المكي (3)، عن الشيخ عبد الصمد بن عبد الرحمن الفلمباني الأندنوسي (4)، عن الشيخ محمد بن عثمان العقيلي الحلبي (5)، عن خليل بن علي المرادي (6)، عن محمد بن فضل الله الدمشقي (7)، عن أبي إِسحاق إِبراهيم بن سليمان نزيل دمشق (8)، عن الفقيه خير الدين بن أحمد العليمي الفارقي الرملي (9)، عن أحمد بن محمد الأمين بن عبد العال الحسيني الدمشقي (10)، عن أبيه (11)، عن الزين القاضي زكرياء بن محمد الأنصاري (12)، عن الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حَجَر العَسْقَلاني (13)، عن أبي إِسحاق إِبراهيم بن أحمد التنوخي المعروف بالبُرْهان الشامي (14)، عن المُسْنِد المُعَمَّر أحمد بن أبي طالب الحجَّار (15)، عن الأنجب بن أبي السعادات الحِمَّاني (16)، قال: أخبرنا أبو الفرج مسعود بن الحسن الثقفي (17)، عن الحافظ عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن مَنْدَه
(18)
، عن الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الله الجوزقي الشيباني (19)، عن أبي الحسن مكي بن عبدان التميمي النيسابوري وأبي حامد أحمد بن محمد بن الحسن المعروف بابن الشرقي (25)، كلاهما عن مؤلِّفه الحافظ مسلم بن الحَجَّاج القُشَيري النيسابوري قال: حدثنا قُتَيْبَة بن سعيدٍ (1)، قال: حَدَّثَنَا أبو عَوَانة (2)، عن زياد بن عِلاقة (3)، عن المغيرة بن شُعْبة (4): أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى حتى انْتفَخَتْ قدماه، فقيل له: أتكلف هذا وقد غُفِرَ لك ما تَقَدَّمَ من ذَنْبكَ وما تأَخَّرَ؟ ! قال: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا".
فعلى هذا السَّنَدِ: يكون بيني وبين مسلم عشرون واسطة، وبيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم خمس وعشرون واسطة، وهذا السند من الأسانيد النازلة عندي.
والثاني منهما: ما ذكرتُه بقولي:
وأروي أيضًا هذا الجامع عن المحدِّث الفقيه الشيخ أحمد بن إِبراهيم الهرري (1)، قراءةً عليه عن الشيخ المعمَّر الكبير عبد الله بن آدم الهرري (2)، عن الشيخ عَلي شَنْدَا اليماني (3)، عن الشيخ إِبراهيم البيجوري (4)، عن الشيخ عبد الله الشرقاوي (5)، عن الشيخ محمد بن سالم الحفني (6)، عن الشيخ عبد العزيز الزيادي (7)، عن الشيخ محمد بن العلاء البابلي (8)، عن الشيخ سالم بن محمد السَّنْهُوري (9)، عن الشيخ محمد بن أحمد الغَيْطي (15)، عن القاضي زكرياء بن محمد الأنصاري (11)، عن الشيخ رضوان بن محمد العقبي (12)، عن محمد بن محمد المعروف بالكُوَيك (13)، عن عبد الرحمن بن عبد الحميد المقدسي (14)، عن أبي العباس أحمد بن عبد الدائم النابلسي (15)، عن محمد بن علي الحراني (16)، عن محمد بن فضل الفراوي (17)، عن عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي (18)، عن محمد بن عيسى الجلودي (1)(19)، عن أبي
(1) قوله: (الجلودي) بضم الجيم نسبة لسكة الجلود بين نيسابور الدارسة، وقيل بفتحها نسبة لجلودا اسم قرية فيها.
إِسحاق إِبراهيم بن محمد بن سفيان الزاهد المروزي (20)، عن جامعه الإمام الحافظ مسلم بن الحَجَّاج القُشَيري رحمه الله تعالى.
فعَلَى هذا السَّنَدِ: يكون بيني وبين الإِمام مسلم عشرون واسطة، وهذا السند وكذا السند الذي بيني وبين المؤلف خمس عشرة واسطة من الأسانيد المتوسّطة مما يُوجَدُ عندي من أسانيده.
وعندي من الأسانيد العالية ما يكون فيها بيني وبين الإمام مسلم تسعُ وسائط فما فوقها، ومن الأسانيد النازلة ما يكون فيها بيني وبين الإِمام مسلمٍ ثلاث وعشرون واسطةً فأكثر، فاقتصرتُ هنا على هذين السندين؛ لأنَّ خيرَ الأمورِ أوسطُها.
وأعلى ما وقع له في جامعه الرباعيات كما مرَّ مثالهُ آنفًا، وليس لهُ حديثٌ ثلاثيٌّ، وقد أفرد بعضُ العلماءِ رباعياته في مُؤَلَّفٍ خاصٍّ به، وسنشيرُ إِليها إِنْ شاء الله تعالى في داخل الكتاب في مواضعها؛ لنجمعها في كتابِ مُؤَلَّفٍ بعد فراغنا من هذا الشرح بعون الله تعالى.
***
شرح صحيح مسلم
المسمَّى
الكوكب الوهاج والرَّوْض البهَّاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج
جمع وتأليف
محمد الأمين بن عبد الله الأرمي
العلوي الهرري الشافعي
نزيل مكة المكرمة والمجاور بها
بسم الله الرحمن الرحيم
ــ
والآن نشرع في المقصود فنقول: وبالسندَينِ المذكورينِ وبغيرهما ممَّا هو مُدَوَّن عندي قال الإِمام الحافظ أبو الحُسَين مسلم بن الحَجَّاج القُشَيري النيسابوري رحمه الله تعالى:
(بسم الله الرحمن الرحيم) بَدَأَ المؤلِّفُ رحمه الله تعالى "جامعَه" بالبسملة ابتداءً حقيقيًّا، وهو الذي لم يُسْبَقْ بشيءٍ ما؛ اقتداءً بالقرآن العزيز في ابتدائه بها كسائر الكتب المنزلَة من السماء، كما يَشْهَدُ لذلك قولهُ صلى الله عليه وسلم:"بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة كل كتاب"(1).
ولذلك جَرَى بعضُهم على أنها ليستْ من خصوصيات هذه الأمة، وعملًا بخبرِ؛ "كُلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبْدَأُ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم .. فهو أقطع" رواه الخطيب البغدادي، وعبد القادر الرهاوي (2).
فالكلام على التشبيه البليغ؛ أَي: فهو كالأقطع الذي قُطع منه الأطراف.
والمعنى: مُنْقَطِعُ البركةِ وقليلُ النَّفْعِ؛ فإِنه وإنْ تَمَّ حِسًّا .. فلا يَتِمُّ في المعنى.
ولا يُعَارَضُ هذا الخبرُ المذكورُ بخبرِ: "كُلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبْدَأُ فيهِ بالحمدُ للهِ .. فهوَ أَقْطَع"(3)؛ لأن الابتداء نوعان:
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في كتاب "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(1/ 194)، عن أبي جعفر محمد بن علي، وهو مُعْضَل كما في "فيض القدير" للمناوي (3/ 191) نقلًا عن الحافظ السيوطي، وفيهما:"مفتاح" بدل: "فاتحة".
(2)
قال الحافظ السخاوي: (هذا حديث غريب أخرجه الخطيب في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1232)، ومن طريقه أخرجه الرهاوي في خطبة "الأربعين" له، وقال الحافظ: في سنده ضعف، وسقط بعض رواته). انظر "الفتوحات الربانية"(3/ 290)، و "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (1/ 12)، و"شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 43)، و"إِتحاف السادة المتقين"(3/ 466)، و "الفتاوى الحديثية" للسخاوي حديث رقم (48).
(3)
رواه أبو داود في "سننه"(5/ 172) في كتاب الأدب (21 - باب الهَدْي في الكلام) حديث =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حقيقيٌّ: وهو الابتداء بما تقدّم أمام المقصود ولم يسبقه شيء.
وإضافيٌّ: وهو الابتداء بما تقدّم أمام المقصود وإنْ سَبَقَه شيءٌ.
فيُحمل حديثُ البسملةِ على الحقيقيِّ، وحديثُ الحمدلةِ على الإِضافيِّ، ولم يعكس؛ تأسّيًا بالكتاب العزيز وعملًا بالإِجماع.
= رقم (4840)، والنَّسائيُّ " عمل اليوم والليلة" حديث رقم (494 - 496)، وابنُ ماجه في "سننه"(1/ 610) في كتاب النكاح (19 - باب خطبة النكاح) حديث رقم (1894)، وابنُ حِبَّان في "صحيحه" كما في "الإحسان"(1/ 173 - 175) حديث رقم (1 - 2)، وأبو عوانة في "مسنده" كما في "إِتحاف المهرة"(16/ 72) حديث رقم (20404)، والدارقطنيُّ في "سننه"(1/ 229) في أول كتاب الصلاة، والبيهقيُّ في "السنن الكبرى"(3/ 208 - 209)، والخليليُّ في "الإِرشاد"(1/ 448)، وابنُ الأعرابي في "معجمه"(1/ 381) حديث رقم (361)، والسبكيُّ في "طبقات الشافعية الكبرى"(1/ 5 - 8)؛ كُلُّهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظُ أكثرهم:"كُلُّ أَمْرٍ ذي بالِ لا يُبْدَأُ فيهِ بالحمدُ لله أقطعُ"، من غيرِ إِدخال الفاءِ على خبر المبتدإ، وعند ابن ماجه:"بالحمدِ"، وعند أبي داود:"فهو أجذم"، وعند النسائي والخليلي وابن حبَّان في الرواية الأولى وابن الأعرابي:"فهو أقطع".
قال الإِمام النووي رحمه الله تعالى: (رُوّينا هذه الألفاظ كُلّها في كتاب "الأربعين" للحافظ عبد القادر الرهاوي، وهو حديثٌ حَسَنٌ، وقد رُوي موصولًا ومرسلًا، وروايةُ الموصولِ إسنادها جيد).
انظر "الفتوحات الربانية"(3/ 290 - 291)، و"شرح صحيح مسلم"(1/ 43)، و"إِتحاف السادة المتقين"(3/ 466).
وقال الحافظ السخاوى: (وهذا الحديث تَبعَ ابنَ الصلاح على تحسينه الإمامُ النوويُّ في "أذكاره"، وشيخُ شيوخِنا العراقيُّ، وادَّعَى بعضُهم الصحَّة. اهـ
قال ابن علان: غَفَلَ عن ذِكر شيخه الحافظ ابن حجر فيمن حَسَّنه) "الفتوحات الربانية"(3/ 288) و"الفتاوى الحديثية" حديث رقم (48).
وقد تتبع الإمام ابنُ السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى"(1/ 5 - 24) طرق هذا الحديث، واختلاف ألفاظه ورواياته ورواته، وشرح ألفاظه، واختصره الإمام الزبيديُّ في (إِتحاف السادة المتقين" (3/ 466 - 467)، وابنُ علّان في "الفتوحات الربانية"(3/ 287 - 292) مع زيادات وإضافات، فانظره إِذا شئت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال بعض الشُّرَّاح: والدليلُ على كون المؤلف قال البسملةَ. . نَقْلُ الثقات؛ فإنهم نَقَلُوا أنها مكتوبة بخطه في أول المتن، والغالبُ أَنَّ مَنْ كتَبَ شيئًا يَتَلَفَّظُ به خصوصًا مع النَّظَرِ لجلالة المؤلِّف رحمه الله تعالى، فحاشاه أنْ لا يعملَ بما رُويَ من قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذا كتبتم كتابًا. . فاكتبوا في أوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وإِذا كتبتموها. . فاقرؤوها"(1).
وجاء في الحثّ على تجويدِ البسملة وتحسينِ خَطِّها أحاديثُ، منها ما رُويَ أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاويةَ كاتبِ وَحْيِه:"يا معاوية؛ أَلقِ الدواة، وحَرِّف القلم، وانصب الباء، وفرّق السين -أي: فَرِّقْ أسنانَها- ولا تُعَوِّر الميم، وحَسِّن الله، ومُدَّ الرحمن، وجَوِّد الرحيم، وضَعْ قلمَك على أُذنك اليسرى؛ فإنه أذكرُ لك"(2).
قال العلّامة البيجوري: (واعْلَمْ أَن البسملَة تُسَنُّ على كُلِّ أمرٍ ذي بالٍ -أي: ذي حالٍ- وشأنٍ عظيمٍ بحيث يهتمّ به شرعًا؛ للحديث المارّ، وتحرم على المحرَّم لذاته كشرب الخمر، وتكره على المكروه لذاته كنظره لفرج زوجته، بخلاف المُحَرِّم لعارضٍ كالوضوء بماءٍ مغصوبٍ والمكروهِ لعارضٍ كأكل البصل؛ فتُسَنُّ عليهما، وتَجِبُ في الصلاة عند الشافعية؛ لأنها آيةٌ من الفاتحة عندهم، فتعتريها أحكامٌ أربعة.
وبقيت الإِباحة، وقيل: إِنها تُباح في المباحات التي لا شرف فيها كنَقْلِ متاعٍ من مكانٍ إِلى آخر، فعلى هذا: تعتريها الأحكامُ الخمسة) اهـ (3)
وأراد المؤلفُ رحمه الله أن يبتدئ ثانيًا بالحمدلة ابتداءً نسبيا -وهو الذي لم يسبق بشيءٍ من المقصود- تأسّيًا بالقرآن الكريم، وعملًا بما رواه أبو داود والنسائي -وحَسَّنَه
(1) أورده العلّامة محمد بن علي الصبّان في "الرسالة الكبرى في البسملة"(ص 37) بغير إِسناد.
(2)
أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس" كما في "الدّر المنثور"(1/ 10)، و"كنز العمال"(10/ 314) حديث رقم (29566).
(3)
"حاشية البيجوري على ابن قاسم"(1/ 2).
الْحَمْدُ للهِ
ــ
ابنُ الصلاح- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ كلامٍ لا يُبْدَأُ فيهِ بحمدِ اللهِ. . فهو أجذم"، وفي رواية ابن ماجه:"لا يُبْدَأُ بالحمدِ أقطع"، ورُوي:"بذكرِ اللهِ"(1)، فقال:
(الحمدُ) والحمدُ لغةً: الثناءُ باللسان على الجميل الاختياري، سواء كان في مقابلة نعمةٍ أم لا، وعُرْفًا: فعلٌ يُنْبِيءُ؛ أي: يَدُلُّ على تعظيمِ المُنْعِم بسبب كونهِ مُنْعِمًا، سواء كان قولًا باللسان بأنْ يُثْني عليه بها، أو اعتقادًا بالجَنان بأن يعتقد اتّصافَه بصفات الكمال، أو عملًا وخدمةً بالأركان والأعضاء بأن يجهد نفسَه في طاعته، فموردُ العرفي -أي: محلّه- عامٌ، ومُتَعَلَّقهُ -أي: سببُه الباعثُ عليهِ وهو النعمة- خَاصٌّ.
قال بعضهم:
أفادْتكمُ النعماءُ مني ثلاثةً
…
يَدِي ولسانِي والضميرَ المُحَجَّبا
أي: جنس الاتصاف بجميع الكمالات في الذات والصفات والأفعال مستحقّ (للهِ) سبحانه وتعالى، ولم يعطف جملة الحمدلة على جملة البسملة إِشارةً إِلى استقلالِ كُلٍّ منهما في حصول التبرُّك به؛ أي: الحمد بأقسامه الأربعة، التي هي:
حمدُ قديمٍ لقديمٍ وهو حمدُ اللهِ تعالى نفسه بنفسه أزلًا؛ كقوله: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} .
وحمدُ قديم لحادثٍ، وهو حمدُ اللهِ تعالى لعباده؛ أي: لأنبيائه وأوليائه؛ كقوله في نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
(1) رواه الإِمام أحمد في "مسنده"(2/ 359) من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ومن طريقه أورده السبكيُّ في "طبقات الشافعية الكبرى"(1/ 15 - 16)، والسخاويُّ في "الفتاوى الحديثية" رقم (48) بلفظ:"كُلُّ كلامٍ أو أَمْرٍ ذِي بالٍ لا يُفتح بذِكْرِ الله. . فهو أبتر" أو قال: "أقطع"، ورواه الدارقطني في "سننه" (1/ 229) في أول كَتاب الصلاة بلفظ:"كُلُّ أَمْرٍ ذِي بالٍ لا يُبدأ فيه بذِكْرِ اللهِ أقطع"، ورواه النسائي في "عمل اليوم والليلة" برقم (497) مرسلًا عن الزهري بلفظ:"كُلُّ كلامٍ لا يُبدأ في أوله بذِكْرِ اللهِ. . فهوَ أبتر".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وحمدُ حادثٍ لحادثٍ، وهوَ حمدُ العبادِ بعضِهم لبعضٍ؛ كقول النبيِ صلى الله عليه وسلم في حق أبي بكرٍ الصّدّيق:"ما طَلَعَتِ الشمسُ من بعدي ولا غرَبَتْ على رجلٍ أفضلَ من أبي بكرٍ الصّدّيق"(1) وكذلك قال في عُمَرَ ما قال (2).
(1) هذا الحديث روي بألفاظ متقاربة من طريق ابن جُرَيج عن عطاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشي أمام أبي بكر، فقال:"يا أبا الدرداء؛ أتمشي أمام مَنْ هو خيرٌ منك في الدنيا والآخرة؟ ! ما طلعت الشمسُ ولا غربت على أحدٍ بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر".
أخرجه الإِمام عبد الله بن أحمد بن حنبل في "كتاب فضائل الصحابة" برقم (135) و (137) و (662)، وابنُ أبي عاصم في "كتاب السنَّة"(ص 562) حديث رقم (1224)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 325) وقال:(غريبٌ من حديث عطاءِ عن أبي الدرداء، تفرَّد به عنه ابنُ جُرَيج، ورواه عنه بقِيَّةُ بن الوليد وغيرهُ عن ابن جُرَيج)، والطبرانيُّ كما في "مجمع الزوائد"(9/ 44)(باب جامع في فضل أبي بكر الصدِّيق)، وقال الهيثميُّ:(وفيه بقِيَّةُ وهو مُدَلِّسٌ، وبقيةُ رجالهِ وُثِّقوا)، وابنُ عساكر وابنُ النجار وأبو نعيم في "فضائل الصحابة" كما في "كنز العمال"(11/ 556 - 557) حديث (326220 - 32622).
وأخرجه الحافظ الطبراني أيضًا في "المعجم الأوسط"(8/ 150 - 151) حديث رقم (7302) من طريق إِسماعيل بن يحيى التيمي، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا الدرداء يمشي بين يَدَي أبي بكر الصدِّيق فقال: "يا أبا الدرداء؛ تمشي قُدَّامَ رجلِ لم تطلُع الشمسُ بعد النبيين على رجل أفضل منه؟ ! " فما رُئِيَ أبو الدرداء بعد ذلك يمشي إلا خلفَ أبي بكر. لم يَرْو هذا الحديث عن ابن جُرَيج عن عطاءٍ عن جابرٍ إلا إِسماعيلُ بن يحيى، تَفَرَّدَ به رُويم بن يَزيد المقرئ، ورواه غيرهُ عن ابن جُريج، عن عطاء، عن أبي الدرداء.
(2)
رواه الترمذي في "سننه" في كتاب المناقب (18 - باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديث رقم (3684): عن محمد بن المثنى، عن عبد الله بن داود الواسطي أبي محمد، عن عبد الرحمن ابن أخي محمد بن المنكدر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قال عُمر لأبي بكر: يا خيرَ الناس بعد رسول الله، فقال أبو بكر: أَمَا إِنك إِنْ قلت ذاك. . فلقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما طلعت الشمسُ على رجلٍ خير من عُمر". قال الترمذي: (هذا حديث غريبٌ لا نَعْرِفُه إلا من هذا الوجه، وليس إِسنادُه بذاك). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وحمدُ حادثٍ لقديم، وهو حمدُنا لله سبحانه وتعالى.
وأل في (الحمد) إِمَّا للاستغراق أو للجنس أو للعهد، واللام في (لله) إِمَّا للاستحقاق أو للاختصاص أو للملك، فيتحصَّل من ذلك احتمالات تسعة قائمة من ضَرْبِ ثلاثةٍ في ثلاثةٍ.
والأَوْلَى منها: أن تكون أل للجنس واللامُ للاختصاص، فالمعنى حينئذٍ: جنسُ الحمد مختصٌّ لله، ويلزم من اختصاص الجنس اختصاص الأفراد؛ إِذْ لو خرج فردٌ منها لغيره تعالى. . لخرج الجنس في ضمنه، فهو في قوة أن يدعي أَنَّ الأفراد مختصة بالله بدليل اختصاص الجنس به، فهو كدعوى الشيء ببينةٍ، فالدعوى: هي اختصاصُ الأفراد، والبيّنةُ: هي اختصاصُ الجنس (1).
ويمتنع منها واحدٌ، وهو جَعْلُ اللام للملك مع جَعْلِ أل للعهد إِذا جعل المعهود الحَمْدَ القديمَ فقط؛ لأن القديم لا يُمْلَكُ، فتضرب هذه الاحتمالاتُ التسعةُ في أقسام الحمد الأربعةِ بستٍّ وثلاثين، والأَوْلَى منها أربعةٌ، والممتنعُ أربعةٌ أيضًا، والجائزُ ثمانيةٌ وعشرون.
وأركانُ الحمدِ خمسةٌ: حامدٌ، ومحمودٌ، ومحمودٌ به، ومحمودٌ عليه، وصيغةٌ، فإذا قلت: زيدٌ عالمٌ لكونه كرمك: فأنت حامدٌ، وزيدٌ محمودٌ، والعلم محمودٌ به، والكرم محمود عليه، والصيغةُ هي قولك: زيدٌ عالمٌ (2) فتضرب هذه الخمسةُ في الستة والثلاثين بمائة وثمانين، والممتنعُ منها عشرون، والأَوْلَى أيضًا عشرون، والجائزُ مائة وأربعون.
وعلى كُلٍّ منها: فالجملةُ إِمَّا خبريةٌ لفظًا إِنشائيةٌ معنىً، أو خبريةٌ لفظًا ومعنىً،
= ورواه الحاكم في "المستدرك"(3/ 90) في كتاب معرفة الصحابة من طريق عبد الله بن داود الواسطي. قال الحافظ الذهبي: (عبد الله بن داود ضَعَّفُوه، وعبد الرحمن مُتكَلَّمٌ فيه، والحديث شِبْه موضوع). وانظر "فيض القدير" للحافظ المناوي (5/ 454).
(1)
"حاشية البيجوري على ابن قاسم"(1/ 12).
(2)
"حاشية البيجوري على ابن قاسم"(1/ 12).
رَبِّ الْعَالمِينَ،
ــ
فتَضْرِبُ هاتين الصورتين في الحاصلِ يتخرَّج بثلاثمائة وستين، فالممتنعُ منها أربعون، وكذا الأَوْلى أربعون، والجائزُ منها مئتان وثمانون.
وقال ابن الأنباري: الحمدُ مقلوب المدح، والمعنى: الحمدُ بأقسامهِ الأربعةِ مستحقٌّ لله سبحانه وتعالى، أو مختصٌّ به، أو مملوكٌ له تعالى.
تنبيه:
وقَرَنَ الحمد بالجلالة الدالَّةِ على استجماعهِ تعالى لصفات الكمال، واستحقاقهِ الحمدَ لذاته؛ لئلا يُتوهّمَ اختصاصه بصفةٍ دون أخرى، لأن تعليقَ الحكم بمشتق يُؤْذِنُ بعلِّيَّة ما منه الاشتقاقُ.
وآثَرَ -كغيره- كلمةَ الحمدِ على الشُّكْرِ؛ لأن الحمدَ يَعُمُّ الفضائلَ، وهي الصفاتُ التي لا يَتَعَدَّى أثَرُها للغير، كالحُسْنِ والعلمِ والشجاعةِ، والفواضلَ وهي الصفاتُ المتعدية للغير كالكَرَم، والشكر يختص بالأخيرة.
ولفظُ الجلالةِ: عَلَمٌ على الذات الواجب الوجود، الموصوف بجميع صفات الكمال، وهو أعرفُ المعارفِ على الإِطلاق، والمشهورُ: أَنَّ جملةَ الحمدلةِ خبريةٌ لفظًا إِنشائيةٌ معنىً، ويَصِحُّ أن تكون خبريةً لفظًا ومعنىً؛ لأنَّ الإِخبارَ بالحمد حَمْدٌ، فيحصلُ الحمدُ بها وإِنْ قَصَدَ بها الإخبار.
(رَبِّ العالمين) أي: مالكِ جميعِ الخَلْقِ من الإِنس والجنّ والملائكة وغيرِهم، أو معبودِهم، أو جامعِهم، أو مُصْلِحِهِم مثلًا.
قال البيجوري: (وأصلُ ربٍّ: رَابِبٌ؛ بناءً على أَنَّه اسمُ فاعل، فحُذفت الألفُ وأُدغمت الباءُ في الباء، ويَصِحُّ أن يكونَ صفةً مشبهةً فلا حذف، وهو من التربية، وهي تبليغُ الشيءِ حالًا فحالًا إِلى الحدّ الذي أراده المُربّي)(1).
ويختصُّ المُحَلَّى بال وهو الربُّ بالله سبحانه، بخلاف المضاف لغير العاقل كما في قولهم: ربُّ الدار، وأمَّا المضافُ للعاقل. . فهو مختصٌّ به تعالى كما يَدُلُّ له ما ورد
(1) المصدر السابق (1/ 13 - 14).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في "صحيح مسلم"(1): "لا يَقُلْ أحدُكم: ربّي، ولْيَقُلْ: سَيِّدِي مولاي" أي: لا يَقُلْ أحدُكم على غير الله تعالى: ربّي، بل سَيِّدِي ومولاي.
ولا يَرِدُ قولُ نبي الله يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} ؛ لأنَّ ذلك مختصٌّ بزمانه كالسُّجُودِ لغيره تعالى، فكان ذلك جائزًا في شريعته، وإِنما سُمِّي المالكُ بالربِّ؛ لأنه يُرَبّي ما يملكه.
وقد أَتَى (الربُّ) لمعانٍ نَظَمَها بعضُهم في قوله:
قريب محيط مالك ومدبر
…
مربّ كثير الخير والمُول للنعم
وخالقنا المعبود جابر كسرنا
…
ومصلحنا والصاحب الثابت القِدَمْ
وجامعنا والسيدُ احفظ فهذه
…
مَعَانٍ أَتَتْ للربِّ فادْعُ لِمَنْ نَظَمْ
رحمه الله تعالى.
قوله: (العالمين) أصلُه من العلامة كما قال أبو عبيدة؛ لأنه ما مِنْ نوعٍ من العالم إلا وفيه علامةٌ على وجود خالقه، أو من العِلْم كما قاله غيرُه، فيَخْتَصُّ بأُولي العلم وهم الإِنسُ والجِنُّ والملائكة؛ لاختصاص العِلْم بهم، وهو بفتح اللام: اسمُ جمعٍ خاصٌّ بمَنْ يَعْقِلُ كما قال ابنُ مالك:
أولو وعَالمُون عِلِّيُّونا
…
وَأَرَضُونَ شَذَّ والسِّنُونا
لا جمعٌ ومفردُه عالم بفتح اللام؛ لأنه اسم عامّ لِمَا سوى اللهِ تعالى (2)، والجمعُ خاصٌّ بمَنْ يَعْقِلُ، إذًا فهو اسمُ جمعٍ لا جَمْعٌ، والراجحُ: أنه شاملٌ للعاقلِ وغيرِه؛ تغليبًا للعاقل على غيره، أو تنزيلًا لغير العاقل منزلةَ العاقل.
والتحقيقُ: أَن العالمين جمعٌ لعالمٍ لاسمُ جَمْعٍ له؛ لأنه كما يُطلق على ما سوى الله .. يُطلق على كُلِّ جنسٍ وعلى كُل نوعٍ وصِنْفٍ فيُقال: عالم الإنس وعالم الجنّ وعالم
(1) في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها (3 - باب حكم إِطلاق لفظ العبد والأَمَة والمولى والسيد) حديث رقم (2249/ 15).
(2)
قال الإِمام النووي: (والمختار عند الجماهير من أصحاب التفسير والأصول وغيرهم: أَنَّ العالمَ اسمٌ للمخلوقاتِ كُلِّها، والله أعلم). "شرح صحيح مسلم"(1/ 43).
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدٍ
ــ
الملك، وبهذا الإِطلاق يَصِحُّ جمعُه على عالمين، لكنه جَمْعٌ لم يستوف الشُّروطَ؛ لأنه يشترط في المفرد: أن يكون عَلَمًا أو صفةً، وعالمٌ ليس بعَلمٍ ولا صفةٍ، بل قيل: إنه جمع استوفى الشروط؛ لأن العالم في معنى الصِّفة، لأنه علامة على وجود خالقه.
واحترزنا بقولنا؛ (بفتح اللام) عن العالِمين بكسر اللام؛ لأنه جمع عالِمٍ بالكسر أيضًا، وليس مرادًا هنا.
فائدة:
والفرق بين اسمِ الجمع والجمع، واسمِ الجنس الإِفراديّ واسم الجنس الجَمْعِيّ، أَنَّ اسمَ الجَمْعِ: ما دَلَّ على الجماعة كدلالةِ المُرَكَّب على أجزائه كقَوْمٍ ورَهْطٍ، وأمَّا الجمعُ: فهو ما دَلَّ على الآحادِ المجتمعةِ كدلالة تكرار الواحد بحرف العطف كالزيدِين في (جاء الزيدون)؛ فإنه في قوة (جاء زيدٌ وزيدٌ وزيدٌ).
واسمُ الجنس الإِفراديّ: ما دَلَّ على الماهية بلا قيدٍ؛ أي: مِنْ غير دلالةٍ على قِلَّةٍ أو كثرةٍ كماءٍ وترابٍ.
واسمُ الجنس الجمعيّ: ما دلَّ على الماهية بقيد الجمعية كثَمَرٍ. اهـ
وقولُه: (والعاقبةُ للمتقين) ساقطٌ في نُسَخ أكثر الشُّرَّاحِ كالأُبّي والسنوسي؛ أي: والجزاءُ الحَسَنُ مستحقٌّ للممتثلِين، أي: والجزاءُ الحَسَنُ مستحقٌّ للممتثلين أوامرَه تعالى والمُجْتَنِبين نواهيَه.
و(العاقبةُ): مصدرٌ لِعَقَب الثُّلاثيِّ من بابَي ضَرَب ونصر، يُجْمَعُ على عواقب، و (المتقين): جمعُ سلامةٍ للمُتقِي اسمِ فاعلٍ من التقوى، وهي امتثالُ المأمورات واجتنابُ المنهيات.
وقولهُ هذا مقتبسٌ من الكتاب العزيز تبرُّكًا به، والاقتباسُ عند البديعيين: أن يُضَمِّنَ المتكلِّمُ كلامَه شيئًا من القرآن أو الحديث لا على أنه منه.
(وصَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ) وثَلَّثَ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إِذْ ذاك عادة العلماء في تآليفهم.
قال بعضُهم: وإِثباتُ الصلاةِ والسلامِ في صدر الكُتُب والرسائل حَدَث في زمن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولاية بني هاشم، ثم مَضَى العملُ على استحبابه، ومن العلماء مَنْ يَخْتِمُ كتابَه بهما أيضًا فيَجْمَعُ بين الصلاتَينِ رجاءً لقبول ما بينهما؛ فإنَّ الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم مقبولة ليست مردودةً، واللهُ أكرمُ من أنْ يَقْبَلَ الصلاتَينِ وَيرُدَّ ما بينهما. اهـ
"بيجوري على ابن قاسم"(1/ 15).
وإِنما ثَلَّثَ بها لما رُويَ في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} عن مجاهدٍ قال: (لا أُذْكَرُ إلا ذُكِرْتَ معي: أشهدُ أنْ لا إِلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ)(1).
قال النوويُّ: (ورُوِّينا هذا التفسير مرفوعًا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن ربِّ العالمين). اهـ (2)
وقد بَقِيَ على الإِمام مسلم رحمه الله تعالى أنْ يَشْفَعَ الصلاةَ بالتسليم عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى أَمَرَ بها في كتابه العزيز.
قال البيجوري: (ولَعَلَّهُ تَرَكَ السلامَ لكونهِ من المتقدِّمين الذين لا يَرَوْن كراهةَ الإِفراد، وهُمْ -وكذا السلفُ-: مَنْ كانوا قبلَ أربعمائة من الهجرة، والمتأخرون -وكذا الخَلَفُ-: مَنْ كانوا بعدها)(3).
ورَجَّحَ النوويُّ ومَنْ تَبعَه من المتأخرين كراهةَ الإِفراد بشروطٍ ثلاثةٍ:
الأول: أن يكون مِنَّا، بخلاف ما إِذا كان منه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه حَقُّه.
(1) رواه الإِمام الشافعي في "الرسالة"(ص 16) عن ابن عُيَينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ به، ونقله عنه الإِمام النووي في "شرح صحيح مسلم"(1/ 43 - 44)، والسبكيُّ في "طبقات الشافعية الكبرى"(1/ 151)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 209) في كتاب الجمعة (باب ما يُستدلُّ به على وجوب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة) وزاد: ويُذكر عن محمد بن كعب القرظي مثل ذلك.
(2)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 44)، وقال العلّامة السبكي:(في كتاب الترغيب والترهيب). "طبقات الشافعية الكبرى"(1/ 151).
(3)
"حاشية البيجوري"(1/ 14 - 16)، وانظر "شرح صحيح مسلم"(1/ 44)، و"الفتوحات الربانية"(3/ 331)، و"مقدمة ابن الصلاح"(ص 168) النوع الخامس والعشرون، و"فتح المغيث"(2/ 163 - 164)(مبحث كتابة الحديث وضبطه)، و"فتح الملهم بشرح صحيح مسلم"(1/ 110).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الثاني: أن يكون في غير الوارد، أمَّا فيه. . فلا يُكره الإِفراد.
الثالث: أن يكون من غير داخل الحجرة الشريفة، أمَّا هو. . فيقتصر على السلام بأن يقول بأدبٍ وخشوعٍ: السلامُ عليك يا رسول الله، فلا يُكره في حقِّه الإِفراد.
وأتى بالعاطف هنا؛ إِشارةً إِلى عدم الاستقلال، وإِنما يظهر العطفُ إِذا جعلنا كُلًّا من الجملتَين خبريةً لفظا إِنشائيةً معنىً، بخلاف ما لو جُعلت جملةُ الحمدلةِ خبريةً لفظا ومعنىً، وجملةُ الصلاةِ خبريةً لفظًا إِنشائيةً معنىً، فإنَّ الصحيحَ عدمُ جوازِ عطفِ الإِنشاءِ على الإِخبار كعكسه، فتجعل الواو للاستئناف.
والصلاةُ من الله: الرحمةُ المقرونةُ بالتعظيم، ومن الملائكة: الاستغفارُ، ومن غيرهم؛ التضرُّعُ والدعاء، ودَخَلَ في الغير جميعُ الحيوانات والجمادات؛ فإنه قد وَرَدَ: أنها صَلَّتْ وسَلَّمَتْ على سيِّدنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، كما صَرَّحَ به العلَّامةُ الحلبيُّ في "سيرته" كالعلامة الشَّنَواني في "شرح البسملة"، خلافًا لِمَنْ مَنَعَ ثبوتَ الصلاة من الحيوانات والجمادات، وعلى هذا: فهي من قبيل المشترك اشتراكًا لفظيًّا، وهو ما اتَّحَدَ لفظُه وتَعَدَّدَ معناه، كلفظ (عين)؛ فإنه وُضع للباصرةِ بوَضْعٍ وللجارية بوضعٍ وللذهب والفضة بوضعٍ وهكذا.
واختار ابنُ هشام في "مغنيه"(2/ 607) أَنَّ معناها واحدٌ، وهو العطف بفتح العين، لكنه يختلفُ باختلاف العاطف، فهو بالنسبة لله الرحمةُ، وبالنسبة للملائكة الاستغفارُ. . . إِلخ، وعلى هذا: فهي من قَبيل المشترك اشتراكًا معنويًّا، وهو ما اتَّحَدَ لفظُه ومعناه واشتركتْ فيه أفرادُه كأَسَدٍ؛ فإنَّ لفظَه واحدٌ ومعناه واحدٌ، وهو الحيوان المفترس واشتركتْ فيه أفرادُه.
والسَّلامُ: هو السلامةُ من النقائص والآفات، ولكن المُرادَ هنا: التحيَّةُ الدائمةُ اللائقةُ به صلى الله عليه وسلم، وهو تأمينُه مما يَخَافُه على أُمَّته لا على نفسه؛ لأنه قد غُفِرَ له ما تَقدَّمَ من ذَنْبِه وما تأخَّر.
والمعنى: وأُنشئ الرحمةَ المقرونةَ بالتعظيم والتحيةَ الدائمةَ اللائقةَ به صلى الله عليه وسلم على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
خَاتَمِ النَّبِيِّينَ،
ــ
و(مُحَمَّدٌ) عَلَمٌ لا صفةٌ، منقولٌ لا مُرْتَجَل، من اسم مفعول حُمِّد المُضَعَّف العين.
وضابطُ المنقولِ: هو الذي سَبَقَ لهُ استعماذ في غير العلمية ثم نُقِلَ إِليها، وضابطُ المُرْتَجَلِ: هو الذي لم يَسْبِقْ له استعمالٌ في غير العلميةِ، فالأول كمُحَمَّد، والثاني كسُعاد.
وهو في الأصل: اسمُ مفعولٍ من حُمِّد المُضَعَّفِ العين المبنيِّ للمجهول، ومعناه: مَنْ كَثُرَ حَمْدُ الناسِ لهُ بكثرةِ خصالهِ الحميدة، فلذلك سُمِّيَ به نبيُّنا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم (1).
وقد قيل لجدّه عبد المطلب -وقد سَمَّاه في سابع ولادته لموت أبيه قبلها-: لِمَ سَمَّيتَ ابنَك مُحَمَّدًا وليس من أسماء آبائه ولا قومك؟ فقال: رَجَوْتُ أَنْ يُحْمَدَ في السماء والأرض. وقد حَقَّقَ اللهُ رجاءَه كما سَبَقَ في عِلْمِهِ. اهـ بزيادة ما بين الشرطتين.
(خَاتَمِ النبيين) أي: آخرِهم بَعْثًا وشَبَحًا -أي: ذاتًا- وأولهم فَضْلًا وقُرْبا، فلا نبيَّ بعدَه بل ولا مَعَه؛ لقوله لعليٍّ رضي الله عنه:"أنتَ منِّي بمنزلة هارون من موسى إِلَّا أنه لا نَبِيَّ بعدي" أخرجه الشيخان (2).
(1) قال الإِمام أبو العباس القرطبي: (ومُحَمَّدٌ: مُفَعَّل من الحمد، وهو الذي كَثُرَتْ خصالُه المحمودةُ، قال الشاعر:
.........................
…
إِلى الماجدِ القَرْمِ الجوادِ المُحَمَّدِ
ولمَّا لم يكن في الأنبياء ولا في الرُّسُل مَنْ له من الخصال المحمودة ما لنبيِّنا. . خَصَّهُ اللهُ من بينهم بهذا الاسم، كيف لا؟ ! وهو الذي يَحْمَدُه أهلُ المَحْشَر كُلُهم، وبيده لواءُ الحمدِ تحتَه آدمُ فمَنْ دونه) "المفهم"(1/ 87 - 88).
(2)
اللفظ المذكور أخرجه الإِمام مسلم في "صحيحه"(4/ 1870) في كتاب فضائل الصحابة (4 - باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه حديث رقم (2404/ 30) عن سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وأخرجه الإِمام مسلمٌ أيضًا في الموضع المذكور برقم (2404/ 31 - 32)، والبخاري في "صحيحه"(7/ 71) بشرح "فتح الباري" في كتاب=
وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ
ــ
هذا إِذا قرأنا بكسر التاء، وأمَّا بفتحها. . فمعناه: أي الذي خُتِمُوا به، فهو صلى الله عليه وسلم كالخاتَم والطابَع لهم كما ذكرناه في "الهداية"، وهو نعتٌ لـ (مُحَمَّدٍ)، أو عطفُ بيانٍ له، أو بَدَلٌ منه.
والنبيّون: جمع نبيٍّ جمع سلامة (1).
(و) صلَّى اللهُ سبحانه (على جميعِ الأنبياء) أي: كُلِّهم، جمع نَبيّ جمع تكسير، وهو إِنسانٌ أُوحي إِليه بشرعٍ ولم يُؤْمَرْ بتبليغِه، وقيل: هو الذي يأمر بشرع مَنْ قبله كأنبياء بني إِسرائيل من بعد موسى إِلى عيسى.
وعبارة "حدائق الروح والريحان" نقلًا عن "روح البيان": (والرسولُ: مَنْ جاء بشرعٍ جديدٍ كموسى وعيسى ومُحَمَّدٍ صلى الله عليهم وسلّم، والنبيُّ: مَنْ جاء لتقرير شرعٍ سابقٍ كأنبياء بني إِسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام اهـ منه.
وجملتهم: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، وفي رواية: مئتا ألف وأربعة وعشرون ألفًا على الراجح.
(و) جميعِ (المُرْسَلِين) أي: كُلِّهم، جمع مُرْسَل بفتح السين جمع سلامة، وهو إِنسانٌ أُوحِيَ إِليه بشَرْعٍ وأُمِرَ بتبليغه، وقيل: هو مَنْ أُمِرَ بتبليغِ شرعٍ أُرْسِلَ به كموسى وعيسى عليهما السلام.
= فضائل الصحابة (9 - باب مناقب عليِ بن أبي طالب رضي الله عنه حديث رقم (3706) عن سَعْد بن أبي وقاص بلفظ: "أَمَا تَرْضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"، زاد مسلم:"غيرَ أنه لا نبيَّ بعدي".
ورواه البخاريُّ أيضًا في كتاب المغازي (8/ 112)(78 - باب غزوة تبوك) حديث رقم (4416) بلفظ: "أَلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبيٌّ بعدي".
(1)
وقال الإِمام السنوسي: (قولُه: "خاتم النبيين" بفتح التاء وكسرها؛ أي: هو آخرهم فلا نبيَّ بعده. وإِنما قال: "خاتم النبيين" ولم يَقُل: المرسلين وإنْ كان خاتمًا لهم أيضًا؛ لِمَا عُلِم أَنَّ النبوةَ أعمُّ من الرسالة باعتبار البشر، ونَفْيُ الأَعَمِّ يستلزم نَفْيَ الأخصِّ، فَلزِمَ من كونه خاتَم النبيين. . بمعنى لا نبيَّ بعدَه-: أنه خاتم المرسلين أيضًا؛ أي: لا رسولَ بعده، بخلاف العكس، فلو ذَكَرَ المرسلين مع النبيين. لكان حَشْوًا). "مكمل إكمال الإِكمال"(1/ 3).
أَمَّا بَعْدُ،
ــ
وجملتهم: ثلاثمائة وثلاثة أو أربعة أو خمسة عشر على الخلاف، لكن الصحيح: عدمُ حَصْرِهم بعددٍ؛ لقوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ} .
قال السنوسيُّ: (وعَطْفُ المرسلين على النبيين عطفُ خاصٍّ على عامٍّ للتشريف لهم، ويحتملُ أن يكون لإِدخال المرسلين من الملائكة كجبريل وميكائيل عليهما السلام؛ فإنَّ المَلَكَ يُقالُ فيه: رسولٌ؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} ولا يُقال فيه: نَبيٌّ؛ بناءً على أَنَّ بين النبي والرسول عمومًا وخصوصًا من وجه) اهـ (1) والتحقيق الأَول.
ومعنى كونِ الملائكةِ رُسُلًا: أنهم واسطةٌ بين الله وبين الخَلْق من البشر.
وتَرَكَ الصلاةَ والسلامَ على الآلِ والصَّحْبِ؛ لأنهم تَبَعٌ له صلى الله عليه وسلم، فيُغتفر في التابع ما لا يُغتفر في المتبوع؛ لأن الصلاة عليهم ليستْ بطريق الأصالة (2).
فائدة:
وينبغي عند أرباب التصانيف في ديباجتهم ثمانيةُ أمور:
أربعة على سبيل الوجوب الصناعي: البسملة، والحمدلة، والصلعمة، والشهادتان.
وأربعةٌ على سبيل الندب الصناعي: أمَّا بعدُ، وتسميةُ الكتاب، وتسميةُ نفسِه، وبراعةُ المطلع وهو: أن يأتي المصنفُ في طالعة كتابه بما يُشْعِرُ بالفن الذي سيَشْرَعُ فيه، ولم يأتِ المؤلِّفُ بها هنا؛ لأنه من المتقدِّمين وليستْ هذه الأمورُ مُعْتَبَرةً عندهم.
(أمَّا بعدُ) يَتَعَلَّقُ بها تسعةُ مباحث: الأول: في أمَّاها (3)، الثاني: في موضعها، الثالث: في معناها، الرابع: في إِعرابها، الخامس: في العامل فيها، السادس:
(1)"مكمل إكمال الإكمال"(1/ 3).
(2)
انظر "الفتوحات الربانية"(3/ 340 - 341).
(3)
أي: في لفظ (أما) من (أما بعد)، فالضمير عائد إلى لفظة (أما بعد).
فَإِنَّكَ
ــ
في أصلها، السابع: في حكم الإِتيان بها، الثامن: في أول مَنْ تَكَلَّمَ بها، التاسع: في الفاء بعدها.
فأمَّا أمّاها: فهي لمجرد التأكيد، وقد تكون للتأكيد مع التفصيل في غير ما هنا.
وأمَّا موضعُها: فيُؤخَذُ من قولهم: هي كلمةٌ يُؤتَى بها للانتقال من أسلوبٍ إِلى آخَرَ؛ أي: من غَرَضٍ إِلى آخر.
وأمَّا معناها: فهو نقيض قَبْلُ، وتكون ظرفَ زمانٍ كثيرًا، ومكانٍ قليلًا، وهي هُنا للزمان لا غيرُ على الأصحّ، وقيل: هي صالحة هنا للزمان باعتبارِ أَنَّ زمنَ النُطْقِ بما بعدها بعد زمن النُّطْق بما قبلها، وللمكان باعتبار أَنَّ مكان رقم ما بعدها بعد مكان رقم ما قبلها.
وأمَّا إِعرابُها: فلها أربعة أحوال:
تُعرب في ثلاثة: إِحداها: أن تكون مضافةً فتُعرب إِمَّا نصبًا على الظرفية أو خفضًا بِمِنْ.
وثانيها: أن يُحذف المضافُ إِليه ويُنْوَى ثبوتُ لفظِه فتُعْرَبُ الإِعرابَ المذكورَ ولا تُنَوَّنُ؛ لنية الإضافة.
وثالثها: أنْ تُقْطَعَ عن الإِضافة لفظًا ولا يُنْوَى المضافُ إِليه فتُعْرَبُ أيضًا الإعرابَ المذكورَ لكنْ تُنَوَّنُ؛ لأنها حينئذٍ اسمٌ كسائر الأسماء النكرات.
وتُبنى في حالة: وهي أنْ يُحْذَفَ المضافُ إِليهِ وينْوَى معناه دون لفظهِ، فتُبْنَى على الضمّ كما هنا.
وأمَّا العاملُ فيها: فهو فعلُ الشرط إِنْ قلنا: إِنها من متعلّقات الشرط، والتقديرُ: مهما يَكُنْ من شيءِ بعد ما تَقَدَّمَ من البسملة والحمدلة والصلعمة (فـ) أقولُ (إنك) أيها المخاطَبُ الذي يطلبُ مني التأليفَ. . . إِلخ، وجوابُ الشرط إِنْ قلنا: إِنها من متعلَّقات الجزاء، والتقديرُ: مهما يكن من شيء (فـ) ـأقولُ بعد ما تقدّم من البسملة والحمدلة وغيرِهما (إِنك) أيها المخاطب. . . إِلخ.
يَرْحَمُكَ اللهُ
ــ
وجعلُها من متعلّقات الجزاءِ أَوْلَى؛ لأنه يكون وجودُ المؤلَّف معلَّقًا على وجودِ شيءٍ مطلق.
وأمَّا أصلُها: فهو (مهما يَكُنْ من شيءِ. . .) كما تقدّم.
وأمَّا حُكْمُ الإِتيانِ بها: فالاستحبابُ؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يأتي بأمَّا بعدُ في خُطَبِه ورسائلِه.
وأمَّا أولُ مَنْ تَكَلَّمَ بها: فقد نَظَمَ الخلافَ فيهِ بعضُهم بقوله (1):
جرى الخلف أمَّا بعدُ مَنْ كان بادئًا
…
بها خمس أقوال وداود أقربُ
وكانت له فصل الخطاب وبعده (2)
…
فقُسٌّ فسَحْبان فكعب فيَعْرُبُ (3)
وأمَّا الفاءُ: فإنها رابطةٌ لجواب أمَّا بشرطها.
والخطابُ في قوله: (فإِنَّكَ) وفيما بعدَه من جميع الخُطْبة لأحد تلاميذه الذي طَلَبَ منه كتابةَ صحيحهِ الجامع (4)، وهي عادةٌ قديمةٌ بأن يذكر المؤلِّفُ سببَ التأليف، والكافُ ضميرُ المخاطَب في محل النصب اسم إِنَّ.
وقولُه: (يَرْحَمُكَ اللهُ) أي: أَحْسَنَ اللهُ سبحانه إِليك، جملةٌ دعائيةٌ خبريةٌ لفظًا إِنشائية معنىً لقصده بها الإنشاء فلا تفيد الإنشاء إِلا بالقصد؛ لأنَّ الجملةَ المضارعيةَ موضوعةٌ للإِخبار، فتَتوَقَّفُ إِفادتُها الإِنشاءَ على القصد.
(1) انظر "حاشية البيجوري على ابن قاسم"(1/ 8)، وفيه: مَنْ كان قائلًا لها. . .
(2)
قلتُ: قد ذكر هذه الأقوال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(2/ 404) وزاد عليها، ثم قال:(والأول أشبه، ويُجمع بينه وبين غيره بأنه بالنسبة إِلى الأولية المحضة، والبقية بالنسبة إِلى العرب خاصّة، ثم يُجمع بينها بالنسبة إِلى القبائل).
(3)
قوله: (فقُسٌّ) هو ابنُ سَاعِدة، و (سَحْبان) هو ابن وائل، و (كعب) هو ابن لؤي، و (يَعْرُبُ) هو ابنُ قَحْطان. اهـ مؤلفه
(4)
قلتُ: لعلّه أحمد بن سلمة بن عبد الله، أبو الفضل البزّار المعدِّل النيسابوري، المتوفى سنة ستّ وثمانين ومائتين، فقد قال الخطيب البغدادي في ترجمته في "تاريخ بغداد" (4/ 186):(رَافَقَ مسلمَ بنَ الحَجَّاج في رحلتهِ إِلى قتُيبة بن سعيد، وفي رحلتِه الثانية إِلى البصرة، وكتب بانتخابه على الشيوخ، ثم جَمَعَ له مسلمٌ الصحيحَ في كتابه)، والله أعلم.
بِتَوْفِيقِ خَالِقِكَ، ذَكَرْتَ أَنَّكَ هَمَمْتَ بِالْفَحْصِ عَنْ تَعَرُّفِ
ــ
وقولُه: (بتوفيقِ خَالِقِكَ) متعلِّقٌ بقوله: (ذَكَرْتَ) وهو خبرُ إِنَّ؛ أي: فأقولُ لك أيها الطالب رحمك الله سبحانه وتعالى: إِنَّك ذكرتَ وأخبرتَ لي بسبب توفيق خالقك إِياك.
والتوفيقُ: خَلْقُ قدرةِ الطاعة في العبد وتسهيلُ سبيل الخيرِ له.
وعبارةُ السنوسي هنا: (قولُه: "بتَوْفِيقِ خَالِقِكَ" يَصِحُّ تَعَلُّقه بـ (يَرْحَمُكَ) قبلَه، أو بـ (ذَكَرْتَ) بعدَه، فعلى الأولِ: دعا له برحمةٍ مخصوصةٍ، وهي المتعلِّقةُ بالتوفيق، وعلى الثاني: دعا له بمُطْلَقِ الرحمة، وأخبره أَن ذِكْرَهُ ما ذَكَرَ إِنما كان بتوفيق الله تعالى) اهـ (1).
وقولُه: (أنَّك هَمَمْتَ) مفعولُ ذَكَرْتَ، وهو بفتح الميم الأولى المُخَفّفة وسكون الثانية؛ أي: أَنَّك قصدتَ واعتنيتَ، يُقال: همَّ بالشيءِ همًّا من باب نَصَرَ إِذا قَصَدَه وعَزَم عليه.
وقولهُ: (بالفَحْصِ) متعلِّقٌ بالتعرُّف في قوله: (عن تَعَرُّفِ) وهو مفعول هَمَمْتَ، و (عن) زائدة في المفعول، وفي "السنوسي" إِيماءٌ إِلى أَنَّ قوله:(بالفَحْصِ) متعلِّقٌ بـ (هَمَمْتَ) حيث قال: (وَتَعَلَّقَ هَمُّكَ بالفَحْصِ)(2) والأوضحُ ما قُلْنا.
(1)"مكمل إِكمال الإِكمال"(1/ 4)، وقال القاضي عياض:(يحتملُ أن يكون دعا له بأن يرحمه الله بتوفيقه وهدايته؛ فإنها من جملة رحمةِ الله وفَضْلِه، ويحتملُ أن يعلَّق قوله: "بتوفيق خالقك" إِمَّا إِلى ما ذَكَرَه أو هَمَّ به من الفحص، والله أعلم). "إكمال المعلم"(1/ 88).
وقال العلّامة السِّنْدي: (قولُه: "بتوفيق خالقك" متعلِّقٌ بقوله: "ذَكرْت"، وقُدِّمَ؛ لاشتماله على ذِكْرِ اسم الله تعالى، وجعلهُ متعلِّقًا بقوله: "يرحمك الله" غيرُ مناسب لفظًا ومعنىً، أنا لفظًا: فلأنَّ الظاهر حينئذٍ: بتوفيقه، وأمَّا معنىً: فلأنَّ إِطلاقَ الرحمةِ أحسنُ وأولى من تقييدها). "الحلّ المفهم لصحيح مسلم"(1/ 3).
(2)
"مكمل إِكمال الإِكمال"(1/ 4). ونصُّ عبارته: "أي: قصدتَ واعتنيتَ وتَعَلَّقَ هَمُّكَ بالفحص"، فليُحرر.
جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سُنَنِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ،
ــ
و(الفَحْصُ): شِدَّةُ الطلبِ والبحثُ عن الشيء، وبيانُ مَاهِيَّتِه والتنقيبُ عنه، وهو المرادُ هنا، وفي "اللسان":(ويُستعمل لشدَّةِ الطلب؛ لأن الدجاجةَ أو القَطَاةَ إِذا فَحَصَتْ في التراب. . فإنما تَطْلُبُ النهايةَ بسرعة) اهـ منه
و(التعرُّفُ): تطلُّبُ معرفةِ الشيء، يُقال: تَعَرَّفَ الشيءَ إِذا تَطَلَّبَهُ حتى عرفه، والمرادُ به هنا: المعرفة.
وعلى ما قُلْنا: ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو الأوضحُ الظاهرُ كما مرَّ، والتقديرُ: أمَّا بعدُ: فإنك أيها الطالبُ رَحِمَكَ اللهُ تعالى ذَكَرْتَ وأَخْبَرْتَ لي بتوفيق خالقي وخالقِك أَنَّك هَمَمْتَ وقَصَدْتَ معرفةَ (جُمْلَةِ الأخبارِ المأثورة) وجميعِ الأحاديثِ المنقولةِ (عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالبحث والتفتيش عنها عند مَنْ يعرفُها حَقَّ المعرفة.
وجُمْلَةُ الشيءِ جماعتُه؛ أي: جميعُه، يُجمع على جُمل، و (الأخبارُ): جمعُ خَبَر وهو لغةً: ضِدُّ الإنشاء، واصطلاحًا: ما أُضيفَ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم قولًا أو فعلًا أو تقريرًا كما مَرَّ في المقدمة.
وقولُه: (في سُنَنِ الدِّينِ) متعلِّقٌ بالماثورةِ؛ أي: المنقولةِ عنه صلى الله عليه وسلم في بيان طُرُق الدِّين والإِسلام (و) شرائعهِ؛ أي: (أحكامِهِ) التي شَرَعَها اللهُ سبحانه وتعالى لعباده المُكَلَّفين على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، وعَطْفُ الأحكامِ على السُّنَنِ عطفٌ تفسيريٌّ، والإِضافةُ في (سُنَنِ الدِّينِ) للبيان.
وفي "السنوسي": (وعطفُ الأحكامِ على السُّنَنِ من عطف العامّ على الخاص؛ إِذِ السُّنَنُ من أحكام الدِّينِ، والمرادُ بـ"الدِّين": الإِسلامُ، وبـ"السُّنَنِ": المندوباتُ وما لم يَصِلْ إِلى حَدِّ الوجوب، و"الأحكامُ " تَشْمَلُ سائرَ الأحكام الخمسة وما يتعلَّقُ بها من خطاب الوَضْع) اهـ (1).
(1)"مكمل إِكمال الإِكمال"(1/ 4).
وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الْأَشْيَاءِ بِالْأَسَانِيدِ
ــ
واعْلَمْ: أَن الدِّينَ هو ما شَرَعهُ اللهُ تعالى من الأحكام على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، سُمِّيَ دِينًا لأنَّنا نَدِينُه ونَمْتَثِلُه، وشريعةً لأنَّ اللهَ شَرَعَهُ وبَيَّنَه، فالدِّينُ والمِلَّةُ والشَّرْعُ والشريعةُ بمعنىً واحد.
وقولُه: (وما كان منها) معطوفٌ على قوله: (جُمْلَةِ الأخبار) أي: فإنَّك أخبرتَ لي أَنَّك قَصَدْتَ معرفةَ جميع الأخبارِ المأثورةِ في سُنَنِ الدِّين وأحكامهِ، وقَصَدْتَ معرفةَ ما كان من الأخبارِ مَأثورًا عنه صلى الله عليه وسلم (في) شأنِ (الثوابِ) كثرةً وقِلَّةً، وهو إِيصالُ الخيرِ إِلى العبد في مقابلة الطاعة، (و) مأثورًا في شأنِ (العقابِ) شِدَّةً وخِفَّةً، وهو إِيصالُ الشرِّ إِلى العبد في مقابلة المعصية.
وفي "السنوسي"(قولُه: "وما كان منها في الثواب والعقاب" أي: وما كان من الأخبار المأثورة في بيان الثواب والعقاب، أي: في جنسِهما أو مقدارِهما) اهـ (1).
(و) مأثورًا في شأن (الترغيبِ) تأكيدًا وضِدًّا، وهو الحَثُّ على ما فيه الثواب، (و) مأثورًا في شأن (الترهيبِ) مبالغة وضِدًّا، وهو الحذرُ عمَّا فيه العقاب.
وفي "السنوسي": (قولُه: "والترغيبِ والترهيبِ" الترغيبُ: الحضّ على الشيء بذِكْرِ ما يُوجبُ الرغبةَ فيه والميلَ إِليه من ثواب أو مصلحةٍ دنيويةٍ أو أُخروية، والترهيبُ: التخويفُ من فِعْلِ الشيء بذِكْرِ عقوبته أو ما فيه من مفسدةٍ دنيويةٍ أو أُخرويةٍ، فالترغيبُ والترهيبُ أَعَمُّ من أحاديث الثواب والعقاب) اهـ (2).
(و) ما كان منها مأثورًا في شأن (غيرِ ذلك) المذكور (من صُنُوفِ الأشياءِ) اللائي يهتم بها وأنواعها كالأمثال والقصص والتفسير والقراءة كقوله: "مَثَلُ المؤمنِ مَثَلُ الأترجة. . ." إِلخ مثلًا.
وقولُه: (بالأسانيدِ) متعلِّقٌ بالتعرُّفِ؛ أي: ذَكَرْتَ لي أَنَّك قَصَدْتَ معرفةَ جملةِ
(1)"مكمل إكمال الإِكمال"(1/ 4).
(2)
"مكمل إكمال الإِكمال"(1/ 4).
الَّتِي بِهَا نُقِلَتْ، وَتَدَاوَلَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ،
ــ
الأخبارِ المأثورةِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسانيدِ (التي بها) أي: بتلك الأسانيدِ (نُقِلَتْ) الأخبارُ وأُخِذَتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: مَعْرِفَتها برجالِ الصحابة أو التابعين التي بواسطتها نُقِلَتْ تلك الأخبارُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و(الأسانيدُ): جمع إِسنادِ، والمرادُ به: ذِكْرُ الراوي الذي وَقَفَ السَّنَدُ عنده كالصحابيِّ في المرفوع والتابعيِّ في الموقوف.
(و) معرفتها بالأسانيد التي (تَدَاوَلَها) وتَنَاقَلَهَا (أهلُ العِلْمِ) والحديثِ؛ أي: معرفتها برجال الرواة من أتباع التابعين فمَنْ بعدَهم، التي تَنَاوَلَها أهلُ علمِ الحديثِ بعضُهم عن بعضٍ وتَنَاقَلُوها (فيما بينَهم) أي: في أنواع الحديث التي اشْتَهَرَتْ بينهم كالصحيحِ والحَسَنِ وغيرِهما، والمرادُ بالإسنادِ هنا: حكايةُ الطريقِ المُوصِلَةِ إِلى المتن.
والحاصلُ: أَنَّ الأسانيدَ قسمان: أسانيدُ متناقلةٌ وهم الصحابة والتابعون، وأسانيدُ متداولةٌ وهُمْ مَنْ بعدَهم إِلى بداية السَّنَدِ.
وأشارَ إِلى الأُولى بقوله: (التي بها نُقِلَتْ)، وإِلى الثانيةِ بقوله:(وتَدَاوَلَها أهلُ العِلْمِ) هذا ما ظَهَرَ لي بفهمي السقيم، يُقال: تداولوا الشيءَ بينهم إِذا تَنَاقَلُوهُ وتَنَاوَبُوا فيهِ، وفي "المختار":(تَدَاوَلَتْه الأيدي: إِذا أَخَذَتْهُ هذه مرّةً وهذه مَرَّةً أُخرى) اهـ.
فائدتان:
الأُولى منهما: قال السنوسيُّ: (واعْلَمْ: أَن الأسانيدَ جمعُ إِسنادٍ، وهو ذِكْرُ طريق الحديث، ويُسَمَّى ذلك الطريقُ في الاصطلاح: سندًا، والحديثُ الذي وَصَلَ إِليه: مَتْنًا)(1).
وأشارَ بجَمْعِ الأسانيد إِلى تَنَوُّعِها واختلافِها بحسب اختلاف وُجُوهِ السماع من
(1)"مكمل إكمال الإِكمال"(1/ 4 - 5).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الرُّواة، فمَرَّةً يقتضي السماعُ أنْ يُقَال في الأسانيد: حَدَّثَنِي، ومَرَّةً يقتضي أن يُقال: حَدَّثَنَا، ومَرَّةً يقتضي: أخبرني، ومَرَّةً يقتضي: أخبرنا، ونحو ذلك ممَّا سيأتي -إِنْ شاء الله تعالى- بيانُه.
ولمَّا كان الفَرْقُ في ذلك بحسب اصطلاح أهل العلم من المحدثين. . أشارَ إِلى ذلك بقوله: (وتَدَاوَلَهَا أهلُ العِلْمِ)، وكما تختلف الأسانيدُ بهذا المعنى. . تختلفُ أيضًا باختلاف الرُّواة، وكُلُّ ذلك في الحديث الواحد أو في الأحاديث، فجمع الأسانيد بحسب ذلك، وقولهُ:(التي بها نُقِلَتْ) راجعٌ إِلى تلك الاختلافات كُلِّها، وقوله:(وتَدَاوَلَها أهلُ العلمِ فيما بينَهم) راجعٌ إِلى الاختلافات التي يقتضيها الاصطلاح.
الثانية: اخْتُلِفَ في معنى المُسْنَد على ثلاثة أقوال:
فقيل: هو الذي اتَّصَلَ إِسنادُه من مبدئه إِلى منتهاه، سواءٌ وَصَلَ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم أو لا، ذَكَرَهُ أبو بكرٍ الخطيبُ الحافظُ عن أهل الحديث، قال:(وأكثرُ ما يُستعمل فيما جاءَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دونَ ما جاء عن الصحابة وغيرِهم)(1).
وذكر أبو عُمر بن عبد البَرّ: (أَنَّ المُسنَدَ: ما رُفِعَ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصّةً، وقد يكون متصلًا، وقد يكون منقطعًا)(2).
وحكى أبو عُمر عن قومٍ: أَنَّ المُسْنَدَ لا يَقَعُ إلا على ما اتصَلَ مرفوعًا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابنُ الصلاح:(وبهذا القول قَطَعَ الحاكمُ الحافظُ)(3).
ومما يتعلَّقُ بمعرفة المُسْنَد: معرفةُ المتّصل والمرفوع والموقوف والمقطوع.
فالمُتَّصِلُ -ويُقال فيه أيضًا: الموصول-: هو ما اتَّصَلَ إِسنادُه بأنْ سَمِعَهُ كُلُّ واحد من رُوَاتِهِ من فوقه، من مبدئه إِلى منتهاه، سواءٌ كان مرفوعًا أو موقوفًا.
(1)"الكفاية في علم الرواية"(ص 21).
(2)
"التمهيد"(1/ 21 - 23).
(3)
"علوم الحديث"(ص 40) و"معرفة علوم الحديث"(ص 17).
فَأَرَدْتَ، أَرْشَدَكَ اللهُ أَنْ تُوَقَّفَ عَلَى جُمْلَتِهَا مُؤَلَّفَةً مُحْصَاةً،
ــ
والمرفوعُ: هو ما أُضِيفَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّةً، فهو والمُسْنَد على القول الثاني مترادفان، والمُسْنَدُ أَخَصُّ منه على القول الثالث، وبينهما عمومٌ وخصوصٌ على القول الأول.
وقال الحافظُ أبو بكر: (المرفوعُ: ما أَخْبَرَ به الصحابيُّ عن قولِ الرسول صلى الله عليه وسلم أو فِعْلِه)(1) فخصصه بالصحابة، قال ابنُ الصلاح:(ومَنْ جَعَلَ من أهل الحديث المرفوعَ في مقابلة المرسل. . فقد عَنَى بالمرفوع المُتَّصِلَ)(2).
والموقوفُ: ما يُرْوَى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم وأفعالهم، والأَثَرُ يُرَادِفُهُ عند جماعةٍ من العلماء.
والمقطوع: هو ما جاء عن التابعين موقوفًا عليهم من أقوالهم وأفعالهم، وهو خلافُ المُنْقَطِع الذي سَقَطَ منه راوٍ فأكثرُ، ويُجْمَعُ على مقاطيع ومقاطع بياء قبل آخره وبدونها. اهـ "سنوسي".
والفاءُ في قوله: (فَأَرَدْت) عاطفةٌ سببيةٌ على قوله: (هَمَمْتَ).
وقولُه: (أَرْشَدَكَ اللهُ) سبحانه وتعالى؛ أي: هداك اللهُ سبحانه إِلى كُلِّ مطلوبٍ وخيرٍ، جملةٌ دعائيةٌ؛ أي: فبسبب هَمِّكَ تَعَرُّفَها أردتَ وأحببتَ (أنْ تُوَقَّفَ) بصيغة المجهول، قال النووي:(ضبطناه بفتح الواو وتشديد القاف، ولو قُرِئَ بتسكين الواو وتخفيف القاف. . لكان صحيحًا)(3) أي: فبسبب هَمِّكَ معرفتَها أردتَ وأحببتَ أنْ تُوقَّفَ وتطلع وتظهر (على) جميع تلك الأخبارِ و (جُمْلَتِها) حالةَ كونها (مُؤَلَّفَةً) ومجموعةً في كتابٍ جامعٍ لها، وحالةَ كونِها (مُحْصَاةً) أي: محصورةً بعددٍ يحصرُها ومضبوطةً بضابط يضبطها.
وفي "السنوسي": (قوله: "مُؤَلَّفَةً" أي: مجموعةً على وَجْهٍ لا يَدْخُلُ فيه
(1)"الكفاية"(ص 21).
(2)
"علوم الحديث"(ص 41).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 45).
وَسَأَلْتَنِي أَنْ أُلَخِّصَهَا لَكَ فِي التَّأْلِيفِ بِلَا تَكْرَارٍ يَكْثُرُ، فَإِنَّ ذَلِكَ زَعَمْتَ مِمَّا يَشْغَلُكَ
ــ
ما ليس بحديثٍ؛ كاستِنباطِ فِقْهِ، أو نَقْلِ آراءِ العلماءِ، أو عاضدٍ من كتابٍ أو أَثَرٍ كما فعل البُخَارِيُّ رحمه الله تعالى.
قولُه: "مُحْصَاةً" أي: مجتمعةً كُلَّها) اهـ (1).
وقولُه: (وَسَأَلْتَنِيِ) معطوفٌ على قوله: (ذَكَرْتَ) أي: أمَّا بعدُ: فأقول لك: إِنك بتوفيق خالقك ذَكرْتَ لي أَنَّك هَمَمْتَ. . . إِلخ، وأقول لك: إِنك بتوفيق خالقك سألتَني وطَلَبْتَ مني (أنْ أُلَخِّصَها) أي: أنْ أذكرَ خلاصةَ تلك الأخبارِ المأثورةِ عنه صلى الله عليه وسلم؛ أي: التي خلصت من اختلاط أقوال الفقهاء وآراء العلماء والآيات القرآنية والتراجِم فيها، كما خلط البخاريُّ ذلك في "صحيحه" أي: سَألْتَنِي أنْ أَذْكُرَ خالصَ الأخبارِ من ذلك المذكور وصافيَها من مزج ذلك فيها وأُبيِّنَها (لَكَ) ولغيرك أيضًا، وأَجْمَعَها (في التأليفِ) أي: في الكتاب المؤلَّفِ الجامعِ لها، فالمصدرُ بمعنى اسم المفعول.
وقولُه: (بلا تَكْرَارٍ) ولا تَرْدَادٍ متعلِّقٌ بـ (أُلَخِّصَ) أي: سَأَلتَنِي تلخيصها وتبيينَها لك بلا حصولِ تكرارٍ وإِعادةٍ لما ذُكِرَ أولًا وثَانيًا وَثَالِثًا في موضعٍ أو مواضعَ متعددةٍ وتراجِمَ مختلفةٍ.
وقولُه: (يَكْثُرُ) عُرْفًا صفةٌ لتكرارٍ؛ أي: تلخيصَها لك بلا حصولِ تكرارٍ كثيرٍ في تلك الأخبار المبينة لك بلا غرض، فلا يَضُرُّ تكرارٌ يسيرٌ عُرْفًا لغرضٍ ما، كتكرارِ السَّنَدِ لبيان المتابعات، وتكرارِ المتن لحصول الزيادة في الرواية الثانية، أو حصول مخالفتها للرواية الأُولى في بعض الألفاظ.
والفاءُ في قوله: (فإنَّ ذلك) التكرارَ (زَعَمْتَ)(2) وقلتَ: إِنه (مِمَّا يَشْغَلُكَ)
(1)"مكمل إكمال الإِكمال"(1/ 5).
(2)
انظر "شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 45)، والمصدر السابق.
وقال الإِمام ابنُ الصلاح: (وقوله: "أَنَّك تَزْعُمُ" مع تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم له دالٌّ على أَن زَعَمَ ليس مخصوصًا بالكذب وبما ليس بمُحَقَّق، بل قد يجيءُ بمعنى =
عَمَّا لَهُ قَصَدْتَ مِنَ التَّفَهُّمِ فِيهَا، وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا،
ــ
ويَصْرِفُكَ ويمنعُك (عَمَّا له قَصَدْتَ) أي: عن تحصيل المطلوب الذي قصدتَه حال كون ذلك المقصودِ والمطلوب لك (من التفهُّمِ) والتفقُّهِ (فيها) أي: في معاني تلك الأخبار منطوقًا ومفهومًا (والاستنباطِ منها) أي: استنباطِ الأحكام الفقهية واستخراجِها منها (1): مُعَلِّلَةٌ لعدم التكرار.
والزعمُ في قوله: (زَعَمْتَ) بمعنى الاعتقاد والقول من غير تقييدِ أَنَّ هذا القولَ غَيرُ مَرْضِي؛ لأن الزعمَ في العُرْف: القولُ الفاسدُ أو القولُ بلا دليلٍ، ومن استعماله في القول الصحيح قولُ ضِمام بن ثعلبة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم:(زَعَمَ رسولُك) أي: قال، وقد أَكْثَرَ سيبويه في "الكتاب" من قوله: زعم الخليلُ كذا في أشياءَ يرتضيها.
= قال، مُستعملًا في الحق المُحَقَّقِ وفي غيرِه، وقد نقل مصداقَ ذلك أبو عُمر الزاهد في "شرحه للفصيح" عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللُّغة من الكوفيين والبصريين، قال أبو العباس: ومنه قولُ الفقهاء: زَعَمَ مالكٌ، زَعَمَ الشافعيُّ، قال: معناه كُلُّه: قال، والله أعلم). "صيانة صحيح مسلم"(ص 143).
وقال الإِمام الأُبّي: (الزُّعمُ بالضم -أي: بضم الزاي المعجمة-: اسمٌ، وبالفتح: مصدرُ زَعَمَ إِذا قال قولًا حقًّا أو كذبًا أو قولًا غيرَ موثوقٍ به.
فمن الأول: حديث: "زعم جبريل"، ومن الثاني: قولُه تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، ومن الثالث: بيتُ الأعشى:
ونُبِّئتُ قيسًا ولم أبلُه
…
كما زعموا خيرَ أهل اليمن
فقال الممدوح: وما هو إلا الزعم، وأَبَى أن يُثيبه.
وأمَّا حديثُ: "بئس مَطِيَّةُ الرجل زَعَمُوا" فَجَعَلَهُ ابنُ عطية من الثاني. واختُلف في قول سيبويه: زَعَمَ الخليلُ، فَجَعَلَهُ النوويُّ من الأول، وجَعَلهُ ابنُ عطية من الثاني). "إِكمال إِكمال المعلم"(1/ 55).
(1)
قال الإِمام عبد الحق الإِشبيلي رحمه الله تعالى في "الجمع بين الصحيحين"(1/ 6 - 7) ما يلي:
(إِذِ التفقُّهُ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السبيلُ التي تشرق سناها، والثمرةُ التي يُستشفى بجناها، ومَنْ لم تَسْتنِر له تلك السبيل، ولا دَلَّ به ذلك الدليل. . فلم يحصل من العلم بالإِضافة إلا على النَّزْر اليسير والشيء القليل).
وَلِلَّذِي سَأَلْتَ -أَكْرَمَكَ اللهُ-
ــ
قال السنوسي: (وقوله: "يَشْغَلُكَ" هو بفتح الياء والغين المعجمة: مضارع شَغَلَ الثلاثي من باب فتَحَ، وهو اللغة الفصيحة الشهيرة، وعليها قولُه تعالى: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا}، وفيها لغةٌ رديئةٌ حكاها الجوهريُّ: أشغلَه يُشْغِلُه، فعَلَى هذه اللغةِ: يَصِحُّ أَنْ يُضْبَطَ قولهُ: "يشغلك" بضمِّ الياء وكسر الغين) اهـ (1)
وفي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنى: وإِنما لَخَّصْتُها لك بلا تكرارٍ؛ لأنك زَعَمْتَ وقُلْتَ: إِنَّ ذلك التكرارَ (ممَّا يَشْغَلُكَ) أي: من المانع الذي يصرفك ويمنعك (عَمَّا قَصَدْتَه) أي: عن تحصيل المهِمِّ الذي قصدتَه وأَردتَ تحصيلَه.
وقولُه: (من التفهُّمِ) حالٌ من العائد المحذوف من قَصَدْتَ؛ أي: حال كون ذلك الذي قصدتَه من التفهُّم والإِدراك لمعنى الألفاظ الواردة (فيها) أي: في تلك الأخبار (والاستنباطِ منها) معطوفٌ على التفهُّم؛ أي: حالةَ كونِ المُهِمِّ الذي قصدتَه من التفهُّمِ والإِدراكِ لمعانيها منطوقًا ومفهومًا واستنباطِ الأحكام الفقهية واستخراجِها منها.
و(الاستنباطُ): استخراجُ الشيءِ من الشيءِ، يُقال: استنبط الماءَ إِذا استخرجَه من مَنْبَعِه بِحَفْرٍ.
قال السنوسيُّ: (وقولُه: "ولِلَّذي سَأَلْتَ" هو باللامِ الجارَّةِ خبرٌ مُقَدَّمٌ لقوله الآتي: "عاقبةٌ محمودةٌ" وكثيرًا ما يُوجَدُ في النُّسخ مُصَحَّفًا بحذف لام الجرّ)(2).
أي: وللتلخيص الذي سألُتنيه (أَكْرَمَكَ اللهُ) سبحانَه بالعِلْمِ النافعِ، والظرفُ في
(1)"مكمل إِكمال الإِكمال"(1/ 5)، وبعضه من كلام النووي في "شرح صحيح مسلم"(1/ 45).
(2)
"مكمل إِكمال الإكمال"(1/ 5)، وانظره في "شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 46)، وقال العلَّامة السّنْدي: (قوله: "ولِلَّذِي سَأَلْتَ" بكسر اللام، والجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدَّم لقوله:"عاقبةٌ".
ونَصَّ النوويُّ رحمه الله تعالى على أَنَّ الفتحَ غلطٌ، ويُمكن توجيهه على أنه مبتدأ، خبرُه:"عاقبةٌ" بتقدير المضاف؛ أي: ذو عاقبة. وكأنه لكونه تكلُّفًا بلا حاجةِ عدَّه غلطًا، والله تعالى أعلم) "الحلّ المفهم"(ص 5).
حِينَ رَجَعْتُ إِلَى تَدَبُّرِهِ، وَمَا تَؤُولُ بِهِ الْحَالُ إِنْ شَاءَ اللهُ عَاقِبَةٌ مَحْمُودَةٌ وَمَنْفَعَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَظَنَنْتُ حِينَ سَأَلْتَنِي تَجَشُّمَ ذَلِكَ أَنْ لَوْ عُزِمَ لِي عَلَيْهِ،
ــ
قوله: (حينَ رَجَعْتُ إلى تَدَبُّرهِ) وتَفَكُرِهِ متعلِّقٌ بالاستقرار الذي تَعَلَّقَ بهِ الخبرُ المذكورُ؛ أي: وللتلخيصِ المسؤول لك حين رَجَعْتُ وَوَجَّهْتُ قصدي إِلى التدبُّر والتأمُّل في كيفيته.
وقولُه: (وما تَؤُولُ بهِ الحالُ) والشأنُ إِليه في محل الجرِّ معطوفٌ على الموصول في قوله: (وللَّذي سَأَلْتَ) أي: وللكتاب المُؤَلَّفِ الذي تَؤُولُ وتَرْجِعُ إِليهِ حالُ التلخيصِ المسؤولِ لك وشَأنُه ومآلُه.
وقيّد بقوله: (إنْ شاءَ اللهُ) سبحانه وتعالى رجوعي إِليه؛ امتثالًا لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} .
وقولُه: (عاقبةٌ محمودةٌ) مبتدأٌ مؤخَّرٌ للخبر المذكور، وهو راجعٌ إِلى قوله:(وللَّذِي سَألْتَ).
وقولُهُ: (ومَنْفَعَةٌ موجودةٌ) معطوفٌ على هذا المبتدإ، وهو راجعٌ إِلى قوله:(وما تَؤُولُ به الحالُ)، والمعنى: ومآلٌ حسنٌ محمودٌ عندَ اللهِ سبحانه وتعالى وعندَ الناسِ حاصلٌ للتلخيص الذي سأَلتَنِيه حينَ رَجَعْتُ إِليه، وانتفاعٌ مرجؤٌ وُجُودُه عند الناس ثابتٌ للكتاب الذي تَؤُولُ إِليهِ حالُ التلخيصِ المسؤول لك حين رَجَعْتُ إِليه.
وقولهُ: (وظَنَنْتُ) بضم التاء للمتكلِّم -أي: أيقنتُ- جملةٌ مستأنفةٌ، وبه يتعلَّقُ الظرفُ في قوله:(حينَ سَأَلْتَني تَجَشُّمَ ذلك) أي: تَكَلُّفَه والتزامَ مشقتِه، والتجشُّمُ: التكلُّفُ، وأرادَ به المؤلِّفُ رحمه الله تعالى مُجَرَّدَ الفعلِ وإِنْ كان الفعلُ لا يخلو عن التكلُّف، يُقال: جَشِمَ الأمرَ من باب فَهِمَ، وتَجَشَّمَه أي: تَكَلَّفَه على مشقةٍ، وجَشَّمَه الأمرَ تجشيمًا وأجشمه أي: كَلَّفه إِياه. اهـ "مختار".
أي: وأيقنتُ أيُها السائلُ حين سألتَني تَكَلُّفَ مشقةِ ذلك التلخيص وتَحَمُّلَها، وأَنْ في قوله:(أنْ لو عُزِمَ) وقُضِيَ (لي عليه) أي: على ذلك التلخيص: مُخَفَّفَةٌ من الثقيلةِ، واسمُها ضميرُ الشأن؛ أي: وظننتُ حين سألتَني تَحَمُّلَ مشقةِ ذلك التلخيص أَنَّه لو قُدِّرَ لي من الله سبحانه العزمُ والجزمُ عليه؛ أي: على ابتداء ذلك التلخيص
وَقُضِيَ لِي تَمَامُهُ، كَانَ أَوَّلُ مِنْ يُصِيبُهُ نَفْعُ ذَلِكَ إِيَّايَ خَاصَّةً قَبْلَ غَيْرِي مِنَ النَّاسِ؛
ــ
(وقُضِيَ لي) أي: حُكِمَ لي من الله سبحانه (تمامُه) أي: تمامُ ذلك التلخيصِ الذي عَزَمْتُ على ابتدائه (. . كان أَوَّلُ مَنْ يُصِيبُه) ويَصِلُ إليه (نَفْعُ ذلك) التلخيصِ وثمرتُه وفائدتُه، برَفْعِ (أَوَّلُ) على أنه اسمُ كان (أيَّايَ) لا غيري، يعني نَفْسَه، وهو في محل نصب خبر كان.
وقولُه: (خاصَّةً) مصدرٌ في محلّ الحال من ضمير إيَّاي، ولكنه على تأويل مشتق؛ أي: كان أولُ مَنْ يُصِيبُه نفعُ ذلك إياي حالةَ كوني مخصوصًا بوصول نفع ذلك التلخيص إليَّ أولًا (قبلَ) وصوله إِلى (غيري من) سائرِ (النَّاسِ) الذين أنتَ منهم أيها السائل لهذا التلخيص.
وعبارة السنوسي هنا: (قولُه "عُزِمَ" بضم العين، وظاهرٌ أَنَّ الفاعلَ المُسْنَدَ إِليه العزمُ في الأصل هو الله تعالى؛ وتُعقّب بأنه لا يُسْنَدُ العزمُ إِلى الله تعالى؛ إِذِ المتبادرُ من العزم حصولُ خاطِر تصميمٍ في الذهن لم يكن قبلُ، قلتُ: ولهذا فَشَّرُوه بالجزم بعد التردُّد، وهذا مُحَالٌ في حقّه عز وجل، وأُجيبَ بأَنَّ المُرَادَ: لو سُهِّلَ لي سبيلُ العَزْمِ وخُلِقَ فيَّ قدرةٌ عليه، قلتُ: فيكون مجَازًا من باب التعبير بالمسبّب عن السبب، فإنَّ العَزْمَ ناشئٌ عن خَلْق الله تعالى ومسبّب له.
وقيل: هو عبارةٌ عن الإِرادة فيكون المعنى: لو أراد اللهُ تعالى لي ذلك، وقيل معناه: المرادُ لو أُلْزِمْتُ؛ فإن العزيمة بمعنى اللُّزوم) اهـ (1).
وجملةُ كان من اسمها وخبرها جوابُ لو الشرطيةِ، وجملةُ لو من فعلِ شرطِها وجوابِها خبرُ أنِ المخفَّفة، وجملةُ أنِ المخففة من اسمِها وخبرها في تأويلِ مصدرٍ سادٍّ مسدَّ مفعولَي ظَنَّ، تقديرُه: وظَنَنْتُ حين سألتَني تَحَمُّلَ مشقَّةِ ذلك التلخيصِ كوني خاصة أول مَنْ يُصِيبُه نَفْعُ ذلك لو عُزِمَ لي على ابتدائه وقُضِيَ لي تمامه من الله تعالى.
(1)"مكمل إِكمال الإِكمال"(1/ 5)، وانظر "صيانة صحيح مسلم"(ص 119 - 120)، و"شرح مسلم" للنووي (1/ 46)، و"المعلم بفوائد مسلم"(1/ 182)، و"إكمال المعلم"(1/ 89).
لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْوَصْفُ، إِلَّا أَنَّ جُمْلَةَ ذَلِكَ أَنَّ ضَبْطَ الْقَلِيلِ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ، وَإِتْقَانَهُ، أَيْسَرُ عَلَى الْمَرْءِ مِنْ مُعَالَجَةِ الْكَثِيرِ مِنْهُ،
ــ
وإِنما كنتُ أوَّل من يصيبه نَفْعُ ذلك (لأسبابٍ) وأمورٍ (كثيرةٍ) تَخُصُّني عن غيري (يَطُولُ بذِكْرِها) أي: بذكر تلك الأسبابِ وتفصيلِها وتَعْدَادِها (الوَصْفُ) أي: الكلامُ، والمُرَادُ بـ (ذِكْرِها): ذِكْرُها على سبيل التفصيل، وإِلَّا. . فهو قد تَعَرَّضَ لها على سبيل الجملة.
وتلك الأسبابُ كاعتنائي بذلك التلخيص، والبحثِ عن خَفِيّ معاني المتون وعِلَل الأسانيد، والفِكْرِ في ذلك، ودوامِ الاعتناء به، ومراجعةِ أهل المعرفة؛ فإنه يُثَابُ على ذلك كُلِّه.
وكلمةُ إِلَّا في قوله: (إلَّا أَنَّ جُملَةَ ذلك) استدراكيةٌ بمعنى لكنْ، اسْتَدْرَكَ بها على جملة قوله:(أَنَّك هَمَمْتَ بالفَحْصِ عن تَعَرُّفِ جُمْلَةِ الأخبارِ. . .) إِلخ.
وجملةُ أَنَّ في قوله: (أَنَّ ضَبْطَ القليلِ) في محلِّ جرٍّ بلام التعليل المقدّرة معطوفة على علَّةٍ محذوفةٍ لخبرِ أَن المحذوفِ من قوله: (أَنَّ جُمْلَة ذلك)، والتقديرُ: لكنْ أَنَّ تَعَرُّفَ جملة ذلك المذكور من الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفةَ جميعه غيرُ ضروري وغيرُ مطلوب؛ لعُسْرِه وصعوبتِه على كثيرِ من الناس.
وَلِـ (أَنَّ ضَبْطَ القليلِ) وإِثباتَه في الصُّدُورِ والسُّطُورِ (من هذا الشَّأْنِ) والعلمِ يعني: علمَ الحديثِ روايةً (وإِتقانَه) أي: وإِتقانَ القليلِ منه وإِحكامَه وإِيقانَه بتحقيق مُتُونِه وأسانيدهِ صِحَّةً وضَعْفًا (أَيسَرُ) وأسهلُ (على المَرْءِ) والطالبِ؛ لِقِلَّتِه وخِفَّتِه على الأذهان (من مُعَالجَةِ الكثيرِ) أي: من محاولةِ الكثير ومطالبةِ جَمْعِه (منه) أي: من هذا الشأن والفنِّ؛ لكثرتِه وثقَلِ حِفْظِه على الأذهان.
يُقال: ضَبَطَ الكلامَ يَضْبطُه من باب ضَرَبَ إِذا حَفِظَهُ حفظًا بليغًا، وضَبَطَ الكتابَ إِذا صَحَّحَه وشَكَلَه، والضَّبْطُ هنا قسمان:
إِمَّا ضبطُ صَدْرٍ، وهو: أنْ يُثْبِتَ ما سمعه بحيث يتمكَّنُ من استحضاره متى شاء.
أو ضبطُ كتابٍ، وهو: أن يَصُونَه لديه منذ سَمعَ فيه وصَحَّحَه إِلى أن يروي منه.
وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ لَا تَمْيِيزَ عِنْدَهُ مَنِ الْعَوَامِّ، إِلَّا بِأَنْ يُوَقِّفَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ غَيْرُهُ،
ــ
ويُقال: أَتْقَنَ الأَمْرَ إِتْقانًا إِذا أَحْكَمَهُ وأجَادَهُ، ويُقال: عَالجَ الأمرَ معالجةً وعِلاجًا إِذا زاولَه ومارسَه وحاولَه وطَالبَه.
(ولا سِيَّما) أي: ولا مِثْلَ ضبطِ القليل الذي استقرَّ (عندَ مَنْ لا تمييزَ) ولا تفصيلَ (عندَه) بين صحيحِ الأحاديث وسقيمِها موجودٌ، وقولُه:(من العَوَامِّ) بيانٌ لـ (مَنْ) الموصولةِ؛ أي: حالةَ كون مَنْ لا تمييزَ عنده من جنس العوامّ الذين لم يُرْزَقُوا بعضَ التيقُّظِ والمعرفةِ بأسبابِها وعِلَلِها.
وكلمةُ (لا سِيَّما) تُفِيدُ أَنَّ ما بعدها أَوْلَى بالحُكْم ممَّا قبلها، فيكون ما بعدها كالمُخْرَج عن مساواة ما قبلها إِلى التفضيل، والمعنى هنا: واحتياجُ مَنْ لا تمييزَ عنده إِلى ضبطِ القليل وإِتقانِه أَشَدُّ وآكَدُ من احتياجِ غيره إِليه، وليسَتْ أداةَ استثناء.
والسِّيُّ -بتشديد الياء وقد تُخَفَّفُ- بمعنى المِثْل، ولا عاملةٌ عملَ إِن، سِيَّ: اسمُها منصوبٌ، وما: موصولةٌ في محل الجرّ مضاف إِليه، وهي واقعةٌ على ضبطُ القليل كما أشرنا إِليه في الحلّ.
والظرفُ في قوله: (عندَ مَنْ لا تمييزَ) صلةٌ لِما الموصولة، وخبرُ لا محذوفٌ تقديرهُ: ولا مِثْلَ ضبطِ القليل الذي اسْتَقَرَّ عندَ مَنْ لا تمييزَ عنده موجودٌ؛ أي: وضبطُ القليلِ عند مَنْ لا تمييزَ عنده آكَدُ وأَشَدُّ وأَهَمُّ في المطلوبية من ضبط القليل عند غيره.
وقد بسطنا الكلام في (لا سِيَّما) إِعرابًا ومعنىً في كتابنا "جواهِر التعليمات في شرح التقريظات"، فراجعْه إِن شئتَ الخوضَ فيه.
والعوامُّ: جمع عامّة، والعامَّةُ: اسمُ فاعلٍ من عَمَّ الثلاثي، وهو خلاف الخاصّ، والعامَّة مؤنّث العام، وعامَّةُ الناسِ خلافُ خاصّتهم كما ذكرناه في "الهداية".
وكلمةُ إلا في قوله: (إلَّا بأَنْ يُوَقِّفَه) أداةُ استثناءٍ مُلْغَاةٌ لا عملَ لها، والجارُّ والمجرورُ في قوله:(بأَنْ) متعلِّقٌ بالتمييز في قوله: (عندَ مَنْ لا تمييزَ عندَه) أي: لا تمييز عنده إِلا بواسطة أنْ يُوقِفَه ويُطْلِعَه (على التمييزِ) والتفصيلِ بين أنواع الأحاديث (غيرُه) من أرباب المعرفةِ والتمييزِ بينها.
فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي هَذَا كَمَا وَصَفْنَا، فَالْقَصْدُ مِنْهُ إِلَى الصَّحِيحِ الْقَلِيلِ أَوْلَى بِهِمْ مِنَ ازْدِيَادِ السَّقِيمِ، وَإِنَّمَا يُرْجَى بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ
ــ
وقوله: (يُوَقِّفَه) بفتح الواو وتشديد القاف المكسورة لا غير على الأفصح الأشهر، قال النوويُّ:(فلا يَصِحُّ أن يُقرأ هنا بالتخفيف؛ لأنَّ اللغةَ الفصيحةَ الشهيرةَ: وَقَّفْتُ فلانًا على كذا بالتشديد، فلو كان مخففًا. . لكان حَقُّه أن يُقال: بأنْ يَقفَه على التمييز، بخلاف ما قَدَّمناه في قوله: "تُوَقَّفَ على جُمْلَتِها")(1) أي: فإنه بالتخفيف والتشديد معًا.
والفاءُ في قوله: (فإذا كان الأَمْرُ) فاءُ الفصيحة؛ لأنها أفصحتْ عن جواب شرطٍ مُقَدَّرٍ، تقديرُه: إِذا عَرَفْتَ ما ذكرتُه لك وأردتَ بيان ما هو الأَوْلَى والأَحْرَى. . فأقول لك: إِذا كان الأمرُ المرغوبُ والشأْنُ المطلوبُ (في هذا) الفنُ والشأنِ كائنًا (كما وَصَفْنا) هُ؛ أي: كائنًا كالحُكْم الذي ذَكَرْناه آنفًا مِن أَنَّ ضبطَ القليلِ أيسرُ على المَرْءِ من معالجة الكثير.
وأَتَى المصنِّفُ بنون العظمة؛ إِشارةً إِلى استحقاقه العظمةَ؛ لكونه من أهل العلم على سبيل التحدُّث بالنِّعْمة، وجوابُ إِذا مذكورٌ بقوله:(فالقَصْدُ) أي: فالتوجُّهُ بالجَنَانِ والاشتغالُ باللِّسان.
وقولُه: (منه) مُقَدَّمٌ على محلِّه؛ لأنه صفةٌ للقليل المذكور بعدَه، والجارُّ والمجرورُ في قوله:(إلى الصحيحِ) متعلِّقٌ بالقَصْد؛ أي: فالقصدُ والتوجُّهُ بالقلب إِلى الصحيح (القليلِ) الكائنِ منه؛ أي: من هذا الفنّ، والاشتغالُ به باللسان؛ أي: صرفُ الهمَّة إلى تحصيلِ القليل منه وضَبْطِه (أَوْلَى) وأَحْرَى وأَحَقُّ (بهم) أي: بالعوامِّ الذين لا تمييزَ عندهم؛ لسهولتِه عليهم (من ازديادِ) واستكثار الحديث (السَّقِيمِ) والضعيف؛ لعدم معرفتهم بأسبابِه وعِلَلِه، وعدمِ صلاحيتهم للتمييزِ بين مراتبه، (وإنَّما يُرْجَى) ويطمع (بعضُ المنفعةِ) أي: حصولُ شيءٍ من المنفعة والفائدة.
(1)"شرح صحيح مسلم"(1/ 46).
فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ، وَجَمْعِ الْمُكَرَّرَاتِ مِنْهُ لِخَاصَّةٍ مِنَ النَّاسِ
ــ
وقولُه: (في الاستكثارِ) متعلِّقٌ بـ (يُرْجَى)، أو بمحذوفٍ صفةِ لـ (المنفعة) على أَنَّ أَلْ في (المنفعة) جنسيةٌ، فهو بمنزلة النكرة، والسينُ والتاءُ في (الاستكثار) زائدتان أو للطلب؛ أي: وا نما يُرْجَى حصولُها في الاستكثار (من هذا الشَّأْنِ) والفنِّ، يعني: عِلْمَ الحديث.
قال النوويُّ: (والمرادُ من عِلْم الحديث: تحقيقُ معاني المتون، وتحقيقُ علم الإِسناد، ومعرفةُ المُعَلَّل منه، لا مُجرَّدُ السماع والإِسماع والكتابة، والمرادُ بالإِكثارِ منه: الاعتناءُ بتحقيقه، والبحثُ عن خَفِيِّ معاني المتون وعِلَلِ الأسانيد، والفِكْرُ في ذلك، ودوامُ الاعتناء به، ومراجعةُ أهل المعرفة به، ومطالعةُ كُتُبِ أهل التحقيق فيه، وتقييدُ ما حَصَّلَ من نفائسه وغيرها، فيحفظُها الطالب بقَلْبِه، ويُقَيِّدُها بالكتابة، ثم يُدِيمُ مطالعةَ ما كتَبَه، ويتحرَّى التحقيق فيما يكتبُه ويَتَثبَّتُ فيه، فإنه فيما بعد ذلك يصيرُ معتمدًا عليه، ويُذَاكِرُ بمحفوظاته مِنْ ذلك منْ يشتغل بهذا الفنّ، سواءٌ كان مِثْلَه في المرتبة أو فوقَه أو تحتَه؛ فإنَّ بالمذاكرة يثبتُ المحفوظ ويتحرَّرُ ويتأكدُ ويتقرَّرُ ويزدادُ بحسب كثرة المذاكرة، ومذاكرةُ حاذِقٍ في الفن ساعةً أنفعُ من المطالعة والحفظ ساعاتٍ بل أيامًا.
ولْيَكُنْ في مُذاكراتِه متحرِّيًا الإِنصافَ، قاصدًا الاستفادةَ أو الإفادةَ، غيرَ مُتَرَفِّعٍ على صاحبه بقَلْبه ولا بكلامه، ولا بغير ذلك من حالهِ، مُخَاطِبًا له بالعبارةِ الجميلةِ اللّينةِ، فبهذا ينموَ عِلْمُه، وتَزْكُو محفوظاتُه، والله أعلم) اهـ (1)
وقوله: (وجَمْعِ المُكَرَّرات) معطوفٌ على (الاستكثار).
وقوله: (منه) أي: من هذا الشأن والعلم.
وقولهُ: (لخاصَّةٍ من الناس) متعلِّقٌ بـ (يُرْجَى) أي: وإِنما يُرْجَى حصولُ بعض المنفعةِ والفائدةِ في الاستكثار من هذا العلم وفي جميع الأحاديث المُكَرَّرات منه لخاصَّةٍ من الناس الذي هو ضدُّ العامة، وبيَّنَ الخاصَّةَ بقوله: حالة كون الخاصَّة
(1)"شرح صحيح مسلم"(1/ 47 - 48).
مِمَّنْ رُزِقَ فِيهِ بَعْضُ التَّيَقُّظِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِأَسْبَابِهِ وَعِلَلِهِ، فَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ يَهْجُمُ
ــ
(مِمَّنْ رُزِقَ) وأُعْطِيَ (فيه) أي: في هذا العلم (بعضَ التيقُّظِ والمعرفةِ)، أو الكائن ذلك الخاصّ ممَّن رُزِقَ وأُعْطِيَ في هذا العلم شيئًا من التيقُّظ والتنبُّه على غوامضه، وشيئًا من المعرفة والإِدراك (1) (بأسبابهِ وعِلَلِه) أي: بأسباب هذا العلم وعِلَلِه (2).
والمرادُ بـ (أسبابه): الواقعةُ التي وَرَدَ فيها الحديثُ، والمرادُ بـ (عِلَلِه): أسبابٌ خَفِيَّةٌ تقتضي ضَعْفَ الحديثِ مع أَن ظاهرَه السلامةُ منها، وتَقَعُ تارةً في الإسناد وهو الأكثرُ، وتارةً في المتن.
قال ابنُ الصلاح: (معرفةُ عِلَلِ الحديثِ من أَجَلِّ علوم الحديث وأَدَقِّها وأَشْرَفِها، وإِنما يَضْطَلعُ بذلك أهلُ الحِفْظِ والخِبْرَةِ والفَهْمِ الثاقب) اهـ (3)
وسيأتي بيانُ حقيقة المُعَلَّل وبيانُ كونِ جَمْعِ طُرُقِ الحديث يُسْتَعَانُ به على معرفة عِلَلِه.
(فذلك) الخاصُّ الذي رُزِقَ فيه بعضَ التيقُّظِ والمعرفةِ، وفي "السنوسي":(الإِشارةُ إِمَّا راجعة إِلى مَنْ رُزِقَ بعضَ التيقُّظ أو إِلى خاصَّةٍ من الناس بتأويله يالمذكور)(4).
(إنْ شاءَ اللهُ) سبحانه وتعالى هُجُومَه على الفائدة، وعَلَّقَ بالمشيئة؛ امتثالًا للآية السابقة.
(يَهْجُمُ) بضم الجيم من باب دخل؛ أي: يُقْدِمُ ويقع، وفي "المختار":
(1) قال السنوسي: (قولُه: ممَّنْ رُزِقَ بعضَ التيقُّظ" بيانٌ للناس أو لخاصَّة، فمِنْ لبيان الجنس؛ أي: الذين رُزقوا، فعَلَى أنها بيانٌ للناس: لا يكون كُل مَنْ رُزِقَ بعضَ التيقُّظ ينفعه الاستكثارُ، عامًّا لكُل مَنْ رُزِقَ بعضَ التيقُّظ". "مكمل إِكمال الإِكمال" (1/ 8).
(2)
قال السنوسي: (والضميرُ في "أسبابه وعِلَلِه" يعودُ على السقيم، وَيصِحُّ عَوْدُ الضمير في أسبابهِ على التيقُّظ، إلا أنه يلزم عليَه تفكيك الضمائر؛ إِذ الضميرُ في عِلَلِه لا يَصِحُّ فيه ذلك). (المصدر السابق).
(3)
"علوم الحديث"(ص 81) في النوع الثامن عشر: معرفة الحديث المعلَّل.
(4)
"مكمل إكمال الإِكمال"(1/ 8).
بِمَا أُوتِيَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْفَائِدَةِ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ جَمْعِهِ، فَأَمَّا عَوَامُّ النَّاسِ الَّذِينَ هُمْ بِخِلَافِ مَعَانِي الْخَاصِّ
ــ
(هَجَمَ على الشيء بَغْتةً من باب دَخَلَ، وهَجَمَ غَيرَه يتعدَّى ويلزم، وهَجَمَ الشتاءُ: دَخلَ، وهَجْمَةُ الشتاءِ: شِدَّةُ بَرْدِه، وهَجْمَة الصيفِ: حَرُّهُ) اهـ
وقال النوويُّ: (هو بفتح الياء وكسر الجيم، هكذا ضبطناه، وهكذا هو في نُسَخِ بلادنا وأصولها، وذَكَرَ القاضي عِيَاضٌ أنه رُوي كذا، ورُوي "ينهجم" بنون بعد الياء.
ومعنى "يَهْجُمُ": يَقَعُ عليها وينال بُغْيَتَهُ منها، قال ابنُ دُريد: انْهَجم الخباءُ إِذا وَقَعَ) (1).
(بما أُوتِيَ) وأُعْطِيَ (منْ ذلك) التيقُّظِ؛ أي: بسبب ما أعطاهُ اللهُ سبحانه من ذلك التيقُّظِ والمعرفةِ، وفي "السنوسي":(الباء سببيةٌ، والإِشارةُ راجعةٌ إِلى بعض التيقُّظِ والمعرفة، أو إِلى نفس التيقُّظ والمعرفة، وهو أظهر، و"مِنْ" على الأول لبيان الجنس، وعلى الثاني للتبعيض، والله تعالى أعلم) اهـ (2)
(على الفائدةِ) والمنفعةِ الكائنةِ (في الاستكثارِ مِنْ جَمْعِهِ) أي: في الإِكثار من جَمْعِ مُكَرَّراته؛ أي: مُكَرَّرات هذا العلم، ويبلغ إِلى تلك الفائدة وينال بُغْيَتَه منها.
قال السنوسي: (وحاصلُ ما أشارَ إِليه الإِمامُ مسلمٌ رحمه الله تعالى: أَنَّ الصحيحَ القليلَ أعونُ على المقصود من الضبط والتفهُّم والدِّراية، بخلاف الكثير؛ فإنه يُوجبُ تَشَتُّتَ البالِ والسآمةَ، لا سيَّما إِنْ قَصُرَتْ درجتُه، وبالجملة: فليس العلمُ بكَثرة الرواية، وكثيرًا ما اشتغل بعضُ الناس بمُجَرَّدِ التكاثُر ففاته خيرٌ كثير حتى مات على أَرْدَأ جَهْلٍ، والعياذُ بالله) اهـ (3).
(فأمَّا عَوَامُّ الناسِ الذين) لم يُرْزَقُوا بعضَ التيقُّظِ والمعرفِةِ في هذا الفنّ: فـ (هُمْ) موصوفون (بخلافِ) أي: بضِدّ (معاني الخاصّ) وأوصافه الكائن ذلك
(1)"شرح صحيح مسلم"(1/ 47)، و "إكمال المعلم"(1/ 89).
(2)
"مكمل إِكمال الإِكمال"(1/ 8).
(3)
المصدر السابق.