الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) بَابُ النَّهْيِ عَنِ الرِّوَايَةِ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالاحْتِيَاطِ فِي تَحَمُّلِهَا
[15]
6 - (6) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيرٍ وَزُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، قَال: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ،
ــ
(5)
باب النَّهْي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تَحَمُّلِها
أي: هذا بابٌ في الاستدلال على النَّهْيِ والزَّجْرِ عن الرواية ونَقْلِ الأحاديث عن الضعفاء المتروكين، والاحتياط والحَزْم في تَحَمُّلِها؛ أي: في تَحَمُّلِ الرواية بانْ لا يَتَحَمَّلها عمَّن لا يُعْرَفُ حالُه.
[15]
(6)(وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن عَبْدِ اللهِ بنِ نُمَيرٍ) بضمِّ النون مصغّرًا الهَمْدانيُّ أبو عبد الرحمن الكوفي، أَحَدُ الأئمة الأعلام (وزُهَير بنِ حَرْبِ) بن شَدَّاد الحرشيُّ أبو خيثمة الحافظ النَّسائيُّ، وفائدةُ المقارنةِ هنا: بيانُ كثرةِ طُرُقِه؛ لأنَّ الراويَينِ كلاهما حافظ.
(قالا) أي: مُحَمَّدٌ وزُهَيرٌ: (حَدَّثنَا عبدُ اللهِ بن يَزِيدَ) القصيرُ مولى آل عُمر، أبو عبد الرحمن المقرئ، نزيل مكة.
روى عن موسى بن عُلَيّ وحَيوَة بن شُرَيح، ويروي عنه (ع) وأحمد وإِسحاق وأبو خَيثَمة وخَلْق، وَثَّقَه النَّسائيُّ.
وقال في "التقريب": ثقةٌ فاضلٌ، أَقْرَأَ القرآنَ نيفًا وسبعين سنة، من التاسعة، وهو من كبار شيوخ البخاري، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين وقد قارب المائة.
(قال: حَدَّثني سعيدُ بن أبي أيوبَ) واسمه: مِقْلاص بكسر الميم وسكون القاف وآخره صاد مهملة، الخُزَاعِيُّ مولاهم، المِصْري أبو يحيى.
روى عن جعفرِ بن ربيعة ويَزِيدَ بن أبي حَبِيب، ويروي عنه (ع) وابنُ جُرَيج -وهو أكبرُ منه- وابنُ وَهْب، وَثَّقَةُ ابنُ مَعِين.
وقال في "التقريب"؛ ثقةٌ ثَبْت، من السابعة، مات سنة إِحدى وستين ومائة، وقيل: غير ذلك.
قَال: حَدَّثَنِي أَبُو هَانِئٍ، عنْ أَبِي عُثْمَانَ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبي هُرَيرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال:"سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ .. فَإِيَّاكُمْ وَإيَّاهُمْ"
ــ
(قال: حَدَّثَنِي أبو هانئ) هو بهمز آخره، حُمَيدُ بن هانئ الخولانيُّ المِصريُّ.
روى عن عُلَيّ بن رَبَاح وعَمْرو بن مالك الْجَنبِيِّ وأبي عبد الرحمن الحُبُلي، ويروي عنه (م عم) وحَيوَةُ بن شُرَيح واللَّيثُ وابنُ وَهْبٍ وهو أكبرُ شيخٍ لابن وهب.
وقال في "التقريب": لا بأسَ به، من الخامسة، مات سنة اثنتين وأربعين ومائة.
(عن أبي عُثْمَانَ مُسْلِمِ بنِ يَسَارٍ) المِصْريِّ أبي عثمان الطُنْبُذي -ويقال: الإِفريقي- مولى الأنصار، رَضِيع عبد الملك بن مروان، التابعي المُحَدِّث.
روى عن أبي هريرة وابنِ عُمر وسفيان بن وَهْب الخولاني، ويروي عنه (من دت ق) وبكرُ بن عَمْرٍو وحُمَيدُ بن هانئ وغيرُهم، وَثَّقَهُ ابنُ حِبَّان.
وقال في "التقريب": مقبولٌ من الرابعة.
(عن أبي هُرَيرَةَ) عبد الرحمنِ بنِ صَخْرٍ الدَّوْسيِّ المدنيِّ الصحابى الجليلِ المُكْثِرِ (عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهذا السَّنَدُ من سُداسياته، وفيه من لطائف الإِسنادِ: أَنَّ واحدًا منهم كوفيٌّ، وواحدًا منهم مكيٌّ، وثلاثةً مصريون.
(أنه) أي: أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم (قال: "سيكونُ في آخِرِ) زمان (أُمَّتي أُنَاسٌ) دَجَّالون كَذَّابون (يُحَدِّثُونكُمْ) أي: يُخْبِرُونكم من الأحاديث (ما) أي: حديثًا (لم تَسْمَعُوا) أي: تسمعوه (أنتم) من آبائكم (ولا آباؤُكم) ممَّنْ قبلَهم.
والفاءُ في قوله: (فإيَّاكُمْ وإيَّاهُمْ") للإِفصاح، و (إِيَّاكم): منصوبٌ على التحذير بعاملٍ محذوفٍ وجوبًا تقديرُه: إِذا سمعتم كلامي هذا وأردتُم بيانَ ما هو اللازمُ لكم .. فأقول لكم: بَاعِدُوا أنفسَكم عن سماع أحاديث أولئك الدجَّالين، واحْذَرُوهم؛ لئلَّا يفتنوكم بتلك الأكاذيبِ المختلقةِ والأباطيلِ الموضوعةِ عن دِينكم، ولازِمُوا سُنَّتي وسُنَّةَ خلفائي وعَضُّوا عليها بالنواجذ.
ثم ذكر المؤلفُ رحمه الله تعالى المتابعةَ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال:
[16]
7 - (7) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ، قَال: حَدثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَال: حَدَّثَنِي أَبُو شُرَيحٍ:
ــ
[16]
(7)(وَحَدَّثَنِي حرملةُ بن يحيى بنِ عبد اللهِ بنِ حَرْمَلَةَ بنِ عِمْرَانَ التُّجِيبيُّ) قال النوويُّ: (هو بمثناة فوقية مضمومة على المشهور، وقال صاحب "المطالع" (1): بفتح أوله وضمّه، قال: وبالضمّ يقوله أصحابُ الحديث وكثيرٌ من الأدباء، قال: وبعضُهم لا يُجِيزُ فيه إلا الفتح (2)، ويَزْعُمُ أَن التاءَ أصليةٌ، وفي باب التاء ذكره صاحب "العين" -يعني فتكون التاءُ أصليةً- إلا أنه قال: تُجيبُ وتَجُوبُ: قبيلة -يعني من كِنْدة- قال: وبالفتح قَيَّدْتُه على جماعةٍ من شيوخي وعلى ابن السَّرَّاجِ وغيرِه.
وكان ابنُ السيد البَطَلْيَوْسِيُّ يَذْهَبُ إِلى صحَّةِ الوجهين، هذا كلام صاحب "المطالع"، وقد ذَكَرَ ابنُ فارس في "المجمل": أَن تجوب قبيلة من كندة، وتُجيب -بالضمّ- بَطْنٌ لهم شَرَفٌ، قال: وليسَتِ التاءُ فيهما أصليةً، وهذا هو الصواب الذي لا يجوزُ غيرُه.
وأمَّا حُكْمُ صاحبِ "العين" بأَنَّ التاءَ أصليةٌ .. فخطأٌ ظاهرٌ، والله أعلم.
وكُنيَةُ حرملة هذا: أبو حفص، وقيل: أبو عبد الله، المِصْرِي، وهو صاحب الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى، وهو الذي يروي عن الشافعي كتابَه المعروفَ في الفقه، والله أعلم) اهـ (3).
(قال: حَدَّثنَا) عبدُ اللهِ (ابنُ وَهْبٍ) المصريُّ الحافظُ، (قال: حَدَّثَنِي أبو شُرَيحٍ) بضمِّ الشين المعجمة وآخرُه حاءٌ مهملة، عبدُ الرحمنِ بن شُرَيح بن عُبَيد الله المَعَافري -بفتح الميم والمهملة- الإسكندرانيُّ المِصْرِيُّ.
روى عن أبي هانئ وأبي الزُّبير، ويروي عنه (ع) وابنُ المبارك وعبدُ الرحمن بن القاسم، وَثَّقه أحمد.
وقال في "التقريب": ثقةٌ فاضلٌ، من السابعة، مات سنة سبع وستين ومائة.
(1) انظر "مشارق الأنوار"(1/ 127).
(2)
قال الإِمام ابن الصلاح في "صيانة صحيح مسلم"(ص 170): (وليس ذلك بالقَويّ).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 76).
أَنَّهُ سَمعَ شَرَاحِيلَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ: أَنَّهُ سَمعَ أَبَا هُرَيرَةَ يَقُولُ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ
ــ
(أنَّه سَمعَ شَرَاحِيلَ بن يَزِيدَ) بفتح الشين غير مصروف، المَعَافريَّ المصريَّ، صدوق، من السادسة، مات بعد العشرين ومائة، روى عنه (عخ مق د).
(يقولُ: أخبرني مُسْلِمُ بن يَسَارِ) المِصْريُّ التابعيُّ المُحَدِّثُ (أنَّه) أي: أَنَّ مسلمَ بنَ يَسَارٍ (سَمعَ أبا هُرَيرَةَ) رضي الله عنه حالةَ كَوْنِه (يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يكونُ في آخِرِ الزمانِ" في أُمَّتي (دَجَّالونَ كَذَّابون).
و(الدجَّالون): جَمْعُ دَجَّال، وهو الذي يُمَوِّه الباطلَ ويُزَيِّنهُ لِيَسْتُرَ به الحقَّ ويعدمَه، ويُنْكِرَ الحقَّ أصلَّا، كالدجَّال في آخر الزمان.
قال النوويُّ: (قال ثعلبٌ: كُلُّ كَذَّابٍ فهو دجَّال، وقيل: الدجَّال المُمَوِّهُ، يُقال: دجل فلان إِذا موه، ودجل الحق بباطله إِذا غطاه، وحَكَى ابنُ فارسٍ هذا الثاني عن ثعلب أيضًا)(1).
و(الكَذَّابون): جمع كَذَّاب، وهو الذي غلب كَذِبُه على صِدْقِه وإِن لم يموه كذبه، فذِكْرُ الكذَّاب بعد الدجَّال من ذِكْر العامّ بعد الخاصّ.
وعبارةُ "المفهم"(1/ 119): (الدجَّالُ: الكذَّابُ المُمَوِّهُ بكذبه الملبّس به، يُقال: دجل الحق بباطله؛ أي: غطّاه، ودجل؛ أي: مؤه وكذب به، وبه سُمِّي الكذّاب الأعور، وقيل: سُمِّي بذلك لضَرْبِه في الأرض وقَطْعِه نواحيَها، يُقال: دجُل الرجل -بالفتح والضمّ- إِذا فَعَلَ ذلك، حكاه ثعلبٌ)(2).
(يَأتُونَكُمْ) ويُخبرونكم (من الأحاديثِ) الموضوعةِ والأكاذيبِ الباطلةِ المنسوبةِ عندهم إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتسميتُها أحاديثَ بالنَّظَرِ إِلى زَعْمِهم، وإِلَّا .. فليستْ بأحاديثَ (بما لم تَسْمَعُوا أنتم) من آبائكم (ولا أباؤُكم) أي: وبما لم يَسْمَعْ آباؤكم عمَّن قبلهم.
(1)"شرح صحيح مسلم"(1/ 79).
(2)
انظر "إكمال المعلم"(1/ 117).
فَإيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ"
ــ
قال السنوسيُّ: "قلتُ: وعلماءُ السُّوءِ والرُّهْبانُ على غير أصل سُنَّة، كُلُّهم داخلون في هذا المعنى، وما أكثرَهم في زماننا، نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى السلامةَ من شَرِّ هذا الزمان، وشَرِّ أهله) اهـ (1)
وهذا من السَّنوسِيِّ في زمانه، فكيف في زماننا الذي صارَ فيه الحقُّ باطلًا، والباطلُ حقًّا، وصار النِّظامُ شرعًا، والشَّرْعُ مهجورًا؟ ! فإِنّا لله وإِنَّا إِليه راجعون، ويا مصيبة لا أبا حسن لها عَمَّت البلادَ وأسرت العباد؟ !
(فإِيَّاكم وإِيَّاهم) أي: فإذا رأيتموهم أيها المسلمون .. فبَاعِدُوا أنفسَكم عن مُجَالسَتِهم، وآذانَكم من سماع أباطيلهم المُمَوّهة، فإذا فَعَلْتُم ما أَمَرْتُكم به من مُجَانَبَتِهمِ ( .. لا يُضِلُّونَكُمْ) أي: لا يُضِلُّ أولئك الدَّجَّالون عَوَامَّكم؛ أي: لا يُوقِعُونَهم في الضَّلال والشِّرْك؛ لأنَّ العوامَّ يَقَعُون في الضَّلالِ بأقَلِّ شُبْهة (ولا يَفْتِنُونكُمْ") أي: لا يفتن أولئك الكَذَّابون خَوَاصَّكم وعلماءَكم بكثرةِ المجادلة والمنازعة، وإِيرادِ الشُّبهات والمُلبسات عليهم.
قال القرطبيُّ: (قوله: "لا يُضِلُّونَكُمْ ولا يَفْتِنُونَكُمْ" كذا صَحَّت الروايةُ فيه بإِثبات النون، والصوابُ حَذْفُها؛ لأنَّ ثُبُوتَها يقتضي أنْ تكونَ خبرًا عن نَفْيِ وُقُوعِ الإِضلال والفتنة، وهو نقيضُ المقصود، فإِذا حُذِفَت .. احْتَمَلَ حَذْفُها وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك مجزومًا على جواب الأمر الذي تَضَمَّنَه "إِيَّاكُم"، فكأنه قال: أُحَذِّركم لا يُضِلُّوكم ولا يَفْتِنُوكم.
وثانيهما: أنْ يكونَ قولُه: "لا يُضِلُّوكم" نَهْيًا، ويكونَ ذلك من باب قولهم: لا أرينَّك ها هنا؛ أي: لا تتعَرَّضُوا لإِضْلالِهم ولا لِفِتْنَتِهم.
وهذا الحديثُ إِخبارٌ منه صلى الله عليه وسلم بأنه سيُوجَدُ بعده كَذَّابون عليه، يُضِلُّون الناسَ بما يَضعُونه وَيخْتَلِقُونه، وقد وُجِدَ ذلك على نَحْو ما قاله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الحديثُ من دلائل صدقه.
(1)"مكمل إكمال الإكمال"(1/ 21).
[17]
وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ،
ــ
ذَكَرَ أبو عُمر بن عبد البَرّ عن حَمَّاد بنِ زَيدٍ أنه قال: "وَضَعَت الزَّنَادِقَةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عَشَرَ ألف حديثٍ بَثُّوهَا في الناس"(1).
وحُكِيَ عن بعض الوضَّاعِين أنه تاب فبكى وقال: أَنَّى لي بالتوبة وقد وَضَعْتُ اثني عشر ألف حديثٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كُلُّها يُعْمَلُ بها؟ !
وقد كَتَبَ أئمَّةُ الحديثِ كُتُبًا كثيرةً بيَّنُوا فيها كثيرًا من الأحاديثِ الموضوعةِ المنتشرةِ في الوجود، قد عَمِلَ بها كثيرٌ من الفقهاء الذين لا عِلْمَ عندهم برجال الحديث) اهـ من "المفهم"(1/ 119).
وهذا السندُ الأخيرُ أيضًا من السُّداسيات، وفيه من لطائف الإِسنادِ: أَنَّ رجاله كُلَّهم مصريون إلا واحدًا فهو مَدَنِيٌّ.
فإِنْ قلتَ: ما غَرَضُ المؤلِّفِ بتكرار هذا الحديث مَتْنًا وسَنَدًا؛ قلتُ: كَرَّرَ المَتْنَ؛ لما في الرواية الثانية من المخالفة للرواية الأولى في بعض الكلمات، ولما فيها من الزيادة التي لا تُقْبَلُ ذِكْرُها مفصولةً عن أصل الحديث، وكَرَّرَ السَّنَدَ لغَرَضِ بيانِ متابعة شَرَاحِيلَ بنِ يَزِيدَ لأبي هانئ في رواية هذا الحديث عن مُسْلِمِ بنِ يَسَارٍ، وفائدةُ هذه المتابعة: تقويةُ السَّنَدِ الأولِ؛ لأن المُتَابِعَ الذي هو شَرَاحِيلُ بن يَزِيدَ صدوقٌ يُقوِّي المُتَابَعَ الذي هو أبو هانئ؛ لأنه قيل فيه: لا بأسَ به.
ثم استشهد المؤلِّفُ رحمه الله تعالى لحديث أبي هريرة رضي الله عنه بأَثَرِ عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه فقال:
[17]
(وحَدَّثَنِي أبو سعيدٍ) عبدُ اللهِ بن سعيدِ بن حُصَين مصغّرًا (الأشجُّ) بالشين المعجمة والجيم المشددة -أي: المُلَقَّبُ بالأَشَجِّ؛ لما في وجهه من الشَّجَّة؛ أي: الشَّينِ- الكِنْدِيُّ الكوفيُّ الحافظُ، أحدُ الأئمَّةِ الأعلام.
روى عن أبي خالدٍ الأحمرِ وابنِ إِدريس وهُشَيمٍ وغيرِهم، ويروي عنه (ع) وابنُ أبي حاتم.
(1)"التمهيد"(1/ 44).
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبَدَةَ
ــ
قال في "التقريب": ثقةٌ، من صغار العاشرة، مات سنة سبع وخمسين ومائتين، وقال أبو حاتم: أبو سعيدِ الأَشَجُّ إِمامُ أهلِ زمانه.
(حَدَّثَنَا وَكِيعُ) بن الجَرَّاح بن مَلِيح -بوزن فَصِيح- الرُّؤَاسِيُّ أبو سفيان الكوفي الحافظ، أحدُ الأئمة الأعلام.
وقال في "التقريب": ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار التاسعة، مات في آخر سنة ستٍّ وأول سنة سبع وتسعين ومائة.
قال: (حَدَّثَنَا الأعمشُ) سُلَيمَانُ بن مِهْرِانَ الكاهليُّ مولاهم، أبو محمد الكوفي، أحدُ العلماء الحُفَّاظ والقُرَّاء، له نحْوُ ألفِ وثلاث مئةِ حديثٍ، قال العِجْلِيُّ: ثقةٌ ثَبْتٌ، وقال النَّسائيُّ: ثقةٌ ثَبْتٌ وعَدَّه في المُدَلِّسين.
وقال في "التقريب": ثقةٌ حافظٌ عارفٌ بالقراءات وَرِعٌ لكنه يُدَلِّسُ، من الخامسة، مات في ربيع الأول سنة ثمانٍ وأربعين ومائة.
(عن المُسَيَّبِ بنِ رافعٍ) الأسدي الكاهلي، أبي العلاء الكوفي الأعمى.
روى عن البراءِ بنِ عازبٍ وحارثةَ بنِ وهبٍ وجابرِ بنِ سَمُرة وغيرِهم ويروي عنه (ع) ومنصورٌ والأعمشُ وأبو إِسحاق السَّبيعيُّ وغيرُهم، قال العَوَّامُ بن حَوْشَبٍ: كان يختمُ القرآن في ثلاثٍ ثم يُصْبِحُ صائمًا.
وقال في "التقريب": ثقةٌ من الرابعة، مات سنة خمسٍ ومائة.
وقال النوويُّ رحمه الله تعالى: (وأمَّا "المُسَيَّبُ بن رافعٍ" .. فبفتح الياء بلا خلافٍ، كذا قال القاضي عِياضٌ في "المشارق" (1/ 399) وصاحبُ "المطالع": أنه لا خلاف في فَتْح يائه، بخلاف سعيد بن المُسَيِّب؛ فإنهم اختلفوا في فَتْحِ يائه وكسرِها كما سيأتي في موضعه إِنْ شاء الله تعالى) (1).
(عن عامرِ بنِ عَبَدَةَ) بهاء في آخره وبفتح الباء وإِسكانها وجهان، أشهرُهما
(1)"شرح مسلم"(1/ 77).
قَال: قَال عَبْدُ اللهِ: إِنَّ الشَّيطَانَ لَيَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ،
ــ
وأَصَحُّهما: الفتح، قال القاضي عِيَاضٌ:(رُوّينا فتحَها عن عليِّ بنِ المَدِيني ويحيى بنِ مَعِينٍ وأبي مسلم المستملي، وهو الذي ذَكَرَه عبدُ الغَنيّ في "كتابه" (1)، وكذا رأيتُه في "تاريخ البخاري" (6/ 452) قال: ورُوِّينا الإِسكانَ عن أحمدَ بن حنبلٍ وغيرِه، وبالوجهين ذَكَرَه الدارقطنيُّ (2) وابنُ ماكولا (3)، والفتحُ أشهر.
قال القاضي: وأكثرُ الرُّواة يقولون: "عبدٌ" بغير هاء، والصوابُ إِثباتُها، وهو قولُ الحُفَّاظ: أحمد بن حنبل وعلي بن المَدِيني ويحيى بن مَعِين والدارقطني وعبد الغني بن سعيد وغيرهم، والله أعلم) اهـ (4)
وفي "الخلاصة": (عامر بن عَبَدَة) بفتحات العجلي أبو إِياس الكوفي.
روى عن ابن مسعود، ويروي عنه (م) والمُسَيَّب بن رافع، وَثَّقَه ابنُ حِبَّان.
وقال في "التقريب": وَثَّقَه ابنُ مَعِين، من الثالثة.
(قال) عامرٌ: (قال عبدُ اللهِ) بن مسعودٍ الصحابيُّ الجليلُ صاحبُ النَّعْلَينِ الهُذَلِيُّ أبو عبد الرحمن الكوفي رضي الله عنه. وهذا الإِسنادُ من خُماسياته.
قال النوويُّ: (واجتمع فيه لطيفتان من لطائف الإِسناد: إِحداهما: أَنَّ إِسنادَه كوفيٌّ كلُّه، والثانية: أَنَّ فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضُهم عن بعض، وهُم: الأعمشُ والمُسَيَّبُ وعامرُ بن عَبَدَة، وهذه فائدةٌ نفيسةٌ، قَلَّ أن يَجْتَمعَ في إِسنادٍ هاتان اللطيفتان)(5).
(إنَّ الشيطانَ) المُتَمرِّدَ العَاتِيَ (لَيَتَمَثَّلُ) أي: لَيَتَصَوَّرُ (في صُورَةِ الرجلِ) العالِمِ الحافظِ الواعظ الناصح، وفيه دلالة على أَن الشيطانَ قادرٌ على أنْ يَتَشَكَّلَ بأيِّ صُورةٍ
(1)"المؤتلف والمختلف"(ص 88).
(2)
"المؤتلف والمختلف"(3/ 1518)، وفيه ذِكْر أقوال الأئمة في ضبط (عبدة).
(3)
"الإكمال"(6/ 30).
(4)
"إِكمال المعلم"(1/ 117 - 118) وانظر في ذلك: "صيانة صحيح مسلم"(ص 122 - 123)، و"شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 77).
(5)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 77).
فَيَأتِي الْقَوْمَ فَيُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ مِنَ الْكَذِبِ، فَيَتَفَرَّقُونَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ: سَمِعْتُ رَجُلًا أَعْرِفُ وَجْهَهُ وَلَا أَدْرِي مَا اسْمُهُ يُحَدِّثُ
ــ
شاءَ، حسنةً أو قبيحةً، (فيأتي القومَ) المُجْتَمِعِينَ في مجالس الخير ويحضرهم بصورة العالِمِ الوَرِعِ الدَّاعِي إِلى الله سبحانه وتعالى (فيُحَدِّثُهم) أي: فيُخْبِرُ الشيطانُ الجائي القومَ المجتمعين (بالحديثِ) الموضوعِ المُخْتَلَقِ (من الكَذِبِ) والافتراءِ ناسبًا إِلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا (فَيتَفَرَّقُونَ) أي: فيتَفَرَّقُ القومُ المجتمعون بعد سماعهم حديثَ الشيطان.
(فيقولُ الرجلُ منهم) أي: من القوم المجتمعين السامعين لحديث الشيطان بعد تَفَرُّقِهم عن ذلك المجلس لمَنْ رآه من قومٍ آخرين: واللهِ لقد (سمِعْتُ) اليومَ (رجلًا) عالمًا واعظًا وَرِعًا مُحَدِّثًا كأني (أَعْرِفُ وَجْهَهُ) وشَخْصَه (و) لكنْ (لا أَدْرِي ما اسْمُه) أي: لا أعرف أيَّ اسمٍ كان اسمُه، أو لا أَقْدِرُ جوابَ سؤالِ ما اسمه؛ أي: ما اسمُ ذلك الرجل المُحَدِّث؛ أي: فلكأنّي أعرفُ صورتَه، ولكنْ لو سألني أحدٌ عن اسمه .. ما أقدرُ جوابَه.
وجملةُ قوله: (ولا أَدْرِي) في محلِّ نصبٍ معطوفةٍ على جملة قوله: (أَعْرِفُ وَجْهَه) على كونها صفةً أُولى لرجلًا.
وجملةُ قولهِ: (يُحَدِّثُ) ذلك الرجلُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأقوام المجتمعين: صفةٌ ثانيةٌ لـ (رجلًا).
فَدَلَّ هذا الأَثَرُ وما بعدَه بمفهومه على الجزء الأخير من الترجمة، وهو الاحتياطُ في تَحَمُّلِ الرواية، كما دَلَّ حديثُ أبي هريرة على الجزء الأول من الترجمة.
وهذا الأثَرُ وأمثالُه لا يُتوَصَّلُ إِليه بالرَّأْيِ والاجتهادِ بل بالسَّمْع، والظاهرُ: أَنَّ الصحابةَ إِنما تستندُ في هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه يحتمل أن يُحدِّث به عن بعض أهل الكتاب.
[18]
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،
ــ
ثم استطرد المؤلِّفُ رحمه الله تعالى ثانيًا بأَثَرِ عبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما فقال:
[18]
(وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن رافعٍ) القُشَيرِيُّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوري، الحافظُ الزاهدُ أحَدُ الرحَّالين.
روى عن وَكِيع وعبد الرزاق -وهو من المكثرين عنه- وابن عُيَينة وغيرِهم، ويروي عنه (خ م دت س) وابنُ خُزَيمة وابنُ أبي داود وجماعةٌ.
وقال في "التقريب": ثقةٌ عابدٌ، من الحادية عشرة، مات سنة خمسٍ وأربعين ومائتين.
وقال البُخاريُّ: كان من خيار الناس.
(حَدَّثَنَا عبدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمَّام بن نافع الْحِمْيَرِيُّ مولاهم، أبو بكرٍ الصَّنْعَانيُّ، أَحَدُ الأئمَّةِ الأعلامِ الحُفَّاظ.
روى عن ابنِ جُرَيجٍ وهشامِ بنِ حَسَّان ومَعْمَرٍ ومالكٍ وخلائقَ، ويروي عنه (ع) وأحمدُ وإِسحاقُ وابنُ المَدِيني ومحمدُ بن رافعٍ وخَلْقٌ، قال أحمد: مَنْ سَمِعَ منه بعد ما ذَهَبَ بصرُه .. فهو ضعيفُ السماع.
وقال في "التقريب": ثقةٌ حافظٌ مصنِّفٌ شهيرٌ، عَمِيَ في آخر عمره فتَغَيَّرَ، وكان يَتَشَيَّعُ، من التاسعة، مات سنة إِحدى عشرة ومائتين عن خمسٍ وثمانين سنة.
(أخبرنا مَعْمَرٌ) هو ابن راشد الأَزْدي الحُدَّاني مولاهم، أبو عُرْوة البصري، نزيلُ اليمن، شَهِدَ جنازة الحَسَن البصري، أحدُ الأئمّة الأعلام.
روى عن ثابتٍ البُنَانِيِّ والزُّهْري وقتادة وابن طاوس وغيرِهم، ويروي عنه (ع) وأيوبُ من شيوخه، والثَّوْريُّ من أقرانه، وابنُ المبارك وخَلْقٌ، قال العِجْلِيُّ: ثقةٌ صالحٌ، وقال النَّسَائِيُّ: ثقةَ مأمونٌ. وضَعَّفَه ابنُ مَعِينٍ في ثابت.
وقال في "التقريب": ثقةٌ ثَبْتٌ فاضلٌ، من كبار السابعة، مات سنة أربعٍ وخمسين ومائة وله ثمان وخمسون سنة.
عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
ــ
(عن) عبد اللهِ (بنِ طاوسِ) بن كَيسان اليماني أبي مُحَمَّدٍ.
روى عن أبيه وعطاءٍ وعكرمةَ بنِ خالدٍ، ويروي عنه (ع) وابنُ جُرَيجٍ ومَعْمَرٌ.
كان من أعلم الناس بالعربية، وَثَّقَه أبو حاتم والنَّسَائِيُّ.
وقال في "التقريب": ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ، من السادسة، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
(عن أبيه) طاوسِ بنِ كَيسانَ اليَمَانِيّ أبي عبد الرحمن الحِمْيَري مولاهم، الفارسي، يُقال: اسمُه ذكوان، وطاوسٌ لَقَبُه.
روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وغيرِهم، وأرسل عن معاذ بن جبل، قال طاوس: أدركتُ خمسين من الصحابة، ويروي عنه (ع) ومجاهدٌ والزُّهْرِيُّ وأبو الزُّبَيرِ وعَمْرُو بن دينارٍ وخَلْقٌ.
وقال في "التقريب": ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، من الثالثة، مات سنة ستٍّ ومائة، وقيل: بعد ذلك.
(عن عبد اللهِ بن عَمْرِو بنِ العاصِ) بنِ وائل أبي محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين إِلى الإِسلام، وأحد المُكْثِرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، له سبعُمائة حديثٍ، ومن طُرَف أحوال عبد الله بن عَمْرو: أنه ليس بينه وبين أبيه في الولادة إِلا إِحدى عشرة سنة، وقيل: اثنتا عشرة.
ويروي عنه (ع) وجُبَيرُ بن نُفَيرٍ وابنُ المُسَيِّب وعروةُ وطاوسٌ وخلائق.
وقال في "التقريب": مات في ذي الحِجَّة لياليَ الحَرَّة على الأصح، بالطائف على الراجح، سنةَ خمسٍ وستين، وقال الليث: سنةَ ثمان.
قال النوويُّ: (وأمَّا "العاصي": فأكثرُ ما يأتي في كُتُبِ الحديثِ والفِقْهِ ونحوها بحذف الياء وهي لغة، والفصيحُ الصحيحُ:"العاصي" بإِثباتِ الياء، وكذلك شَدَّادُ بن الهادي وابنُ أبي الموالي، فالفصيحُ الصحيحُ في كُل ذلك وما أَشْبَهَه إِثباتُ
قَال: إِنَّ فِي الْبَحْرِ شَيَاطِينَ مَسْجُونَةً، أَوْثَقَهَا سُلَيمَانُ، يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ فتقْرَأَ عَلَى النَّاسِ قُرْآنًا
ــ
الياء؛ لأنه من عَصَى يَعْصِي فهو اسمٌ منقوصٌ، ولا اغْتِرارَ بوُجُودِه في كُتُبِ الحديث أو أكثرِها بحذفها بناءً على أنه مِنْ عاصَ يَعِيصُ كبَاعَ يَبِيعُ بمعنى تَكَبَّرَ وتَجَبَّرَ، والله سبحانه وتعالى أعلم) اهـ بزيادة (1).
وهذا السَّنَدُ من خُماسياته؛ ففيه روايةُ نيسابوري عن صَنْعاني عن بصري عن يماني عن يماني، ففيه روايةُ الوَلَدِ عن وَالِدِهِ.
(قال) عبدُ اللهِ بن عَمْرِو: (إنَّ في) جَزائرِ (البحرِ) المحيط أو في جزائرِ جِنْس البحر (شياطينَ) ومردةً من الجنِ وعفاريتِهم (مَسْجُونةً) أي: محبوسةً في جزائره.
(أَوْثَقَها) أي: أَوْثَقَ تلك الشياطينَ وسَجَنَها (سُلَيمَانُ) بن داودَ بنِ إِيشا، عليهما وعلى نبيّنا أفضلُ الصلاةِ وأزكى السلام؛ أي: سَجَنَ في جزائرِه مَنْ أَبَى وامْتَنَعَ منهم من أشغالِه وكَفَرَ به (يُوشِكُ) بضمِّ أوله وكسرِ شينه؛ أي: يَقْرُبُ في آخرِ الزمان (أنْ تَخْرُجَ) مِن مَحْبسها في البحر وتنتشرَ في أنحاءِ الأرض وآفاقِها (فتَقْرَأَ) تلك الشياطينُ (على الناسِ) أي: على عوائم الناس وأغبيائِهم شيئًا ليس من القرآن وَيزْعُمُونَه (قُرآنًا) أي: يقولون للناس: إِنه قرآن فخُذُوه منا وتَمَسَّكُوا به، واعْمَلُوا بما فيه؛ فإنه قرآنٌ أُنزل على نبيِّكم، فيُضِلُّونهم به ويَفْتِنُونَهم.
قال السنوسيُّ: (معناه: تقرأُ شيئًا ليس بقرآن، وتقول: إِنه قرآنٌ؛ لِتَغُرَّ به عَوَامَّ الناس، فلا يَغْتَرُّون؛ لِحِفْظِ الله سبحانه وتعالى القرآنَ عن الزيادة والنقصان.
ويحتملُ أنْ يكونَ المرادُ بالقرآن ما يجمعونه ويأتون بهِ؛ إِذْ أَصْلُ القرآنِ الجَمْعُ،
(1)"شرح صحيح مسلم"(1/ 77)، وقال القاضي عياض:(هذا الاسم -يعني العاصي- رُوِّيناه عن أكثرهم ومُتْقِنيهم بالياء، وكذا قَيَّدَه الأصيليُّ، وغيرُه يقول: العاص بغير ياء، وكذا يرويه غيرُ واحدٍ من الشيوخ). "مشارق الأنوار"(2/ 121).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وكُلّ شيءٍ جَمَعْتَه فقد قَرَأْتَه) اهـ (1).
قال القرطبيُّ: (وقولُه: "يُوشِكُ" بضمِّ الياء وكسرِ الشين، وهي من أفعال المقاربة، وماضيها: أَوْشَكَ (2)، ومعناه: مقاربةُ وقوعِ الشيء وإِسراعُه، والوَشك بفتح الواو: السُرْعة، وأنكر الأصمعيُّ الكسرَ فيها، وحكى الجوهريُّ الضمَّ فيها.
ويُستعمل "يُوشِكُ" على وجهين: ناقصة: تفتقرُ إِلى اسمٍ وخبرٍ، وتامّة: تستقلُّ باسمٍ واحدٍ، فالناقصةُ يَلْزَمُ خَبَرَها "أنْ" غالبًا؛ لِما فيها من تراخي الوقوع، وتكونُ بتأويل المصدر كقولك: يُوشِكُ زيدٌ أنْ يَذْهَبَ؛ أي: قَارَبَ زيدٌ الذهابَ، وربما حُذِفَتْ "أن" تشبيهًا لها بكاد، كقول الشاعر:
يُوشِكُ مَنْ فَرَّ مِنْ مَنِيَّتِهِ
…
في بعضِ غِرَّاتِه يُوافِقُهَا (3)
والتامَّةُ تكتفي باسمٍ واحدٍ، وهو "أَنْ" مع الفعلِ بتأويلِ المصدر، بمعنى قَرُبَ، كما في أثَرِ عبد الله بن عَمْرو: يُوشِكُ أن تخرجَ.
والقرآنُ أصلُه: الجمع، ومنه قول عَمْرو بن كلثوم يمدح ناقتَه:
ذِراعَي عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بَكْرٍ
…
هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا
(1)"مكمل إكمال الإكمال"(1/ 21)، وبعضه من "شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 80).
(2)
قال الإمام النووي: (ويُستعمل أيضًا ماضيًا فيُقال: أَوْشَكَ كذا؛ أي: قَرُبَ، ولا يُقبل قول مَنْ أنكره من أهل اللُّغة فقال: لم يُستعمل ماضيًا؛ فإنَّ هذا نَفْيٌ يُعَارِضُه إِثباتُ غيرهِ والسماعُ، وهما مُقَدَّمان على نَفْيه). "شرح صحيح مسلم"(1/ 80).
(3)
قال الإِمام ابن مالك النحوي: (ولا أعلم تجرُّده من "أنْ" إلا في قول الشاعر
…
، وفيما رواه أبو داود والترمذيُّ وابنُ ماجه والدارميُّ عن المقدام بن مَعْدِي كَرِب الكندي رضي الله عنه: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُوشِكُ الرجلُ متكئًا على أريكتِه يُحَدَّثُ بحديثٍ من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتابُ اللهِ، فما وَجَدْنا فيه من حلالِ .. استحللناه، وما وَجَدْنا فيه من حرامٍ .. حَرَّمناه). "شواهد التوضح والتصحيح" (ص 144).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومنه سُمِّيَ كتابُ اللهِ قُرْآنًا؛ لِمَا جَمَعَ من المعاني الشريفة، ثم قد يقال مصدرًا بمعنى القراءة كقول حَسَّان في عثمان رضي الله عنهما:
ضَحَّوا بِأشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ لَهُ
…
يُقَطِّعُ اللَّيلَ تَسْبِيحًا وقُرآنا
أي: قراءةً.
ومعنى هذا الأَثرِ: الإِخبارُ بأنَّ الشياطينَ المسجونةَ ستخرجُ فتُمَوِّهُ على الجَهَلَةِ بشيءٍ تقرؤُه عليهم، وتُلَبِّسُ به حتى يَحْسَبُوا أنه قرآنٌ، كما فَعَلَ مُسَيلِمَةُ الكَذابُ، أو تَسْرُدُ عليهم أحاديثَ تُسْنِدُها إِلى النبي صلى الله عليه وسلم كاذبةً، وسُمِّيَتْ قُرْآنًا لِمَا جَمَعُوا فيها من الباطل، وعلى هذا: يُسْتَفَادُ من الأثر التحذيرُ من قبول حديثِ مَنْ لا يُعْرَفُ) اهـ (1).
ثم استشهد المؤلفُ رحمه الله تعالى ثالثًا بأثَرِ عبد الله بن عَبَّاس رضي الله تعالى عنهما فقال:
(1)"المفهم"(1/ 120 - 121)، وقال القاضي عياض: (قد حَفِظَ اللهُ كتابَه وضَمِنَ ذلك فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وقد ثبت القرآنُ ووَقَعَ عليه الإِجماع، فلا يُزَادُ فيه حرفٌ ولا يُنقص حرف، وقد رام الروافضُ والمُلحدةُ ذلك فما يُمكن لهم، ولا يَصِحُّ أنْ يقبلَ مسلمٌ من أحدٍ قرآنًا يَدَّعيه ممَّا ليس بين الدَّفَّتَين.
فإنْ كان لهذا الخبر أصلٌ صحيحٌ .. فلعلَّه يأتي بقرَآن فلا يُقبل منه كما لم يُقبل ما جاءتْ به القرامطةُ ومُسيلمة وسجاح وطليحة وشبهُهُم، أو يكونُ أرادَ بـ "القرآن" ما يأتي به ويَجْمَعُه من أشياءَ يذكرُها؛ إِذْ أصلُ القرآنِ الجمعُ، سُمّي بذلك لِمَا يجمعُه من القصصِ والأمرِ والنهي والوعدِ والوعيدِ، وكلّ شيءٍ جمعتَه .. فقد قرأتَه) اهـ "إِكمال المعلم"(1/ 119 - 120).
قلتُ: وقد أورد الخطيبُ البغداديُّ في كتاب "الفقيه والمتفقّه"(2/ 322 - 323)(باب القول فيمن تصدَّى لفتاوى العامّة) عدَّةَ أحاديث في ذِكْر ووصف هؤلاء الشياطين الذين يُفقِّهون الناس، منها:
(1035)
- عن طاوس، عن عبد الله بن عَمْرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوْشَكَ أنْ يَظْهَرَ فيكم شياطين، كان سليمانُ أَوْثَقَها في البحر، يُصَلُّون في مساجدكم، ويقرؤون معكم القرَآن، وإنهم لشياطين في صورة الإِنس".
(1036)
عن طاوس، عن عبد الله بن عَمْرو، قال: يُوشِكُ أنْ تَظْهَرَ الشياطينُ ممَّا أَوْثَقَ سليمانُ يُفَقِّهون الناس.
[19]
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَسَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَينَةَ،
ــ
[19]
(وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن عَبَّادِ) بن الزَّبْرِقان المكي نزيلُ بغداد.
روى عن الدَّرَاوَرْدِيِّ وابنِ عُيَينة ومروان بن معاوية، ويروي عنه (خ م ت س ق) وأحمد بن سعيد الدارمي وسُلَيمان بن تَوْبة وأحمد بن علي المروزي وغيرُهم، قال ابنُ مَعِين: لا بأس به.
وقال في "التقريب": صدوقٌ يَهِمُ، من العاشرة، مات سنة أربعٍ وثلاثين ومائتين.
ثُمَّ عَطَفَ على مُحَمَّد بن عبادٍ سعيدَ بنَ عَمْرٍو مقارنةً بينهما لتقوية السند؛ لأنَّ مُحَمَّدًا صَدُوقٌ، وسعيدٌ ثِقَةٌ، فاحْتَاجَ إِلى تقويةِ مُحَمَّدٍ بذِكْرِ سعيدِ بعدَه، وإِنما لم يَكْتَفِ بسعيدٍ الذي هو ثقةٌ لفواتِ غَرَضِ بيانِ كثرةِ طُرُقِه، ففي هذه المقارنة غرضان: تقويةُ السند، وبيانُ كثرةِ طُرُقِه فقال:
(و) حدثني أيضًا (سعيدُ بن عَمْرٍو) الكِنْدِيُّ (الأَشْعَثيُّ) بالثاء المثلثة منسوبٌ إِلى جَدِّه؛ لأنه سعيدُ بن عَمْرو بن سَهْل بن إِسحاق بن محمد بن الأَشْعَث بن قيس الكِنْدِيُّ، أبو عَمْرو أو أبو عثمان الكوفي.
روى عن جعفر بن سُلَيمان وابن عُيَينة، ويروي عنه (م) وأبو زرعة وَوَثَّقَه و (س) بواسطة.
وقال في "التقريب": ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة ثلاثين ومائتين.
وقولُه: (جميعًا) تأكيدٌ لشَيخَيهِ؛ أي: حالةَ كَوْنِهما مجتمعَين في تحديثهما لي هذا الأثَرَ الآتي، وإِنما أَكَّدَ بجميعًا دون كلاهما لِشَكِّه في بقاء من روى له غيرهما أو للتفنُّن، كلاهما حَدَّثاني (عن) سفيانَ (بنِ عُيَينَةَ) بن ميمون الهلالي أبي محمد الأعورِ الكوفيِّ ثم المكيِّ، أحدِ الأئمَّة الأعلام، له نحو سبعة آلاف.
قال في "التقريب": ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ إِمامٌ حُجَّةٌ، إلا أَنَّه تَغَيَّرَ حِفْظُه بأخَرَةٍ، وكان ربما دَلَّسَ، من رؤوس الطبقة الثامنة، مات في رجب سنة ثمانٍ وتسعين ومائة، وله إِحدى وتسعون سنة كما مَرَّ بَسْطُ الكلام في ترجمته.
قَال سَعِيدٌ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَال: جَاءَ هَذَا إِلَى ابْنِ عَباسٍ
ــ
وإنما أتى المؤلِّفُ رحمه الله تعالى بقوله: (قال) لنا (سعيدُ) بن عَمْرٍو في صيغة روايتِه لنا: (أخبرنا سُفيانُ) تَوَرُّعًا من الكذب عليه بصيغة العنعنة؛ لأنَّ الذي قال: (عن سفيان) هو مُحَمَّدُ بن عَبَّادٍ فقط لاسعيدٌ، ولو لم يَأْتِ بقوله:(قال سعيدٌ أخبرنا) .. لكان كاذبًا عليه بها.
(عن هِشامِ بنِ حُجَيرٍ) بمهملة ثم جيم مصغرًا المكيِّ.
روى عن طاوس ومالك بن أبي عامر الأَصْبَحي والحَسَن البصري، ويروي عنه (خ م س) وابنُ جُرَيجٍ ومُحَمَّدُ بن مسلمٍ الطائفيُّ وابنُ عُيَينَةَ وغيرُهم، وَثقَه العِجْلِيُّ، وقال أحمد: ليس بالقَويّ، قَرَنَه (م) بآخر، وله عنده حديثان، وله في (خ) فرد حديث (1).
وقال في "التقريب": صدوقٌ له أوهامٌ، من السادسة.
(عن طاوسِ) بن كَيسان اليَمَانِيِّ تقدَّمتْ ترجمتهُ قريبًا.
وهذا السَّنَدُ من رُباعياته؛ ففيه رواية كوفي عن كوفي عن مكي عن يماني.
(قال) طاوسٌ: (جاء هذا إلى) عبد اللهِ (ابنِ عِبَّاسٍ) رضي الله عنهما، ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مَنَاف الهاشمي، أبي العباس المكي ثم المدني ثم الطائفي، ابنِ عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبِه، وحَبْرِ الأُمَّةِ وفقيهِها، وترجمانِ القرآن.
روى ألفًا وستَّ مئةٍ وستين حديثًا، يروي عنه أبو الشعثاء وأبو العالية وسعيدُ بن جُبَيرٍ وابنُ المُسَيِّب وعطاءُ بن يَسَارٍ وأُمَمٌ لا يُحصون.
وُلِدَ قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالفَهْم في القرآن، فكان يُسَمَّى البَحْرَ؛ لسَعَةِ عِلْمِه، قال سَعْدُ بن أبي وقاص: ما رأيتُ أحدًا أحضرَ فَهْمًا، ولا ألبَّ لُبًّا، ولا أكثرَ عِلْمًا، ولا أَوْسَعَ حِلْمًا من ابن عَبَّاس، لقد
(1) انظر "هدي الساري"(ص 448).
- يَعْنِي بُشَيرَ بْنَ كَعْبٍ - فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ، فَقَال لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا، فَعَادَ لَهُ، ثُمَّ حَدَّثَهُ فَقَال لَهُ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا، فَعَادَ لَهُ، فَقَال لَهُ: مَا أَدْرِي! أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ وَأَنْكَرْتَ
ــ
رأيتُ عُمَرَ يَدْعُوه للمُعْضِلات وإنَّ حوله لأهل بدر (1).
ومناقبُه جَمَّةٌ، مات سنة ثمانٍ وستين بالطائف، وهو أَحَدُ المُكْثِرين من الصحابة، وأَحَدُ العبادلة من فقهاءِ الصحابة.
قال هشامُ بن حُجَيْرٍ: (يعني) طاوسٌ بقوله: جاء هذا: (بُشَيرَ) بضمِّ الموحدة، وفتح الشين، مصغّرًا (بنَ كَعْبٍ فَجَعَلَ) بُشَيرُ بن كَعْبٍ؛ أي: شَرَعَ (يُحَدِّثُه) أي: يُحَدِّثُ بُشَيرٌ لابن عباس ويُخْبِرُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديثَ كثيرةً (فقال له) أي: فكُلَّما حَدَّثَ بُشَيرٌ لابن عَباسٍ حديثًا .. يقولُ له (ابنُ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما: (عُدْ) أَمْرٌ من عادَ يعودُ عودًا إِذا رَجَعَ؛ أي: يقولُ ابنُ عَبَّاسٍ لبُشَيرٍ كُلَّما حَدَّثَ له حديثًا واحدًا: عُدْ وارْجعْ يا بُشَيرُ (لحديثِ كذا وكذا) أي: إِلى روايةِ حديثٍ صفتُه كذا وكذا، ارْجِعْ إِلى رَوايتِه لنا ثانيةً لِنَفْهَمَه ونَتَثَبَّتَ فيه (فعادَ) بُشَيرٌ (له) لذلك الحديث الذي كَنَى عنه بكذا وكذا؛ أي: فيعودُ بُشَيرٌ ويرجعُ إِليه ثانيًا؛ لِيَتَثَبَّتَ فيه ابنُ عباس.
(ثُمَّ) بعد ما رجع بُشَيرٌ إِلى الحديثِ الأولِ وكَرَّرَه مرتين (حَدَّثَه) أي: يُحَدّثُ لابن عباس حديثًا آخَرَ جديدًا (فقال) ابنُ عباس (له) أي: لبُشَيرٍ: (عُدْ لحديثِ كذا وكذا) أي: يقولُ له ابنُ عَبَّاسٍ: ارْجِعْ إِلى حديثِ كذا وكذا؛ لِنتَثَبَّتَ فيه ونَفْهَمَه، يعني: إِعادةَ الحديثِ الثاني الذي حَدث له بعدَ ما كَرَّرَ له الحديثَ الأولَ مرتين الذي كَنَى عنه بكذا وكذا الثاني (فعادَ) بُشَيرٌ (له) أي: لهذا الحديث الثاني؛ أي: فَرَجَعَ بُشَيرٌ إِلى هذا الحديث الثاني.
(فـ) ـلمَّا سكَتَ عنه ابنُ عَبَّاسٍ فلم يَرُدَّ له جوابًا من القبول أو الإِنكار .. (قال) بُشَيرٌ (له) أي: لابنِ عَبَّاسٍ: (ما أدري) ولا أعلمُ يا ابن عباس (أَعَرَفْتَ حديثي كُلَّه) أي: هل عَرَفْتَ صِحَّةَ أحاديثي كُلِّها وقَبِلْتَها مني (وَأَنكَرْتَ) على صِحَّة
(1) انظر "سير أعلام النبلاء"(3/ 347).
هَذَا؟ ! أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ وَعَرَفْتَ هَذَا؟ ! فَقَال لَهُ أبْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛
ــ
(هذا) الحديثِ الأخيرِ؟ ! ؛ أي: ما أدري أقبلتَ أحاديثي كلَّها مع إنكارك هذا الأخيرَ (أَمْ أَنكرْتَ) وَرَدَدْتَ عَلَيَّ (حديثي كُلَّه وعَرَفْتَ) أي: قَبلْتَ (هذا) الأَخيرَ؟ ! ؛ أي: أم أَنْكَرْتَ أحاديثي كُلَّها مع قبولك هذا الأخير؛ لأنكَ سَكَت عني فلم تَرُدَّ علي شيئًا من الإِنكار أو القبول في جميع أحاديثي، فما بالُك يا ابنَ عباس؟ هل قَبِلْتَ الكُلَّ أم أَنكرْتَ الكُلَّ، أو قَبِلْتَ بعضَها وأنكرتَ بعضَها؟ فَبَيِّنْ لي رأيَك في أحاديثي كُلِّها.
(فقال له) أي: لبُشَيرٍ (ابنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما؛ أي: فلمَّا سَألَ بُشَيرٌ بن عَبَّاسٍ بيانَ رأْيِه في أحاديثه .. قال له ابنُ عَبَّاسٍ مُعَرِّضًا لِكَذِبِهِ في أحاديثه:
(إنَّا) نحن معاشرَ الصحابةِ رضوان الله تعالى عليهم (كُنَّا) قبلَ هذا العصر الذي كَثُرَ فيه الكَذَّابُون والوَضَّاعون (نُحَدِّثُ)(1) ونَرْوي (عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛
(1) قال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي: (قولُه: "إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ" هذه الكلمة إِنْ كانتْ على زِنَة المجهول .. فالمطابقةُ بين السؤال والجواب ظاهرةٌ إِلأ أنه يلزمُ أن يكون "الحديث" في قوله: "تَرَكنا الحديثَ عنه" مصدرًا مبنيًّا للمجهول؛ أي: تَرَكنا المبادرةَ إِلى كُلِّ مَنْ أَخَذَ يُحَدِّثُ سوى مَنْ نعتمدُ عليه ونعتدُّ به.
وأمَّا إذا كانت الصيغةُ معلومةً .. ففيه نوعُ خفاء، والتوجيهُ أنْ يُقال: التفعيل ها هنا بمعنى المُفاعلة والمُشاركة، والمعنى: تَرَكْنا أنْ نُحَدِّث الآخرين فيُحَدِّثونا، وذلك لِمَا يلزمُ فيه أن نستمعَ ما ليس بمعروفٍ عنه صلى الله عليه وسلم.
وقال العلّامة السِّنْدي: (قولُه: "نُحَدّث" ضُبط في غالب النُّسَخ بكسرِ الدال على بناء الفاعل، والوجهُ عندي: أنه على بناء المفعول، وهو كنايةٌ عن المَيل إلى سماع الحديث عن الناس .. والأَخْذِ منهم، فإِنَّ كذب الناس .. يمنعُ الأخذَ عنهم لا من تعليمهم، بل ينبغي أن يكون عِلّةً لتعليمِهم عقلًا، وهذا هو المُوافِقُ لسائرِ الروايات الآتية، فقولُه في الرواية الآتية: "كُنَّا نَحْفَظُ" أي: نأخذُ عن الناسِ الحديثَ ونحفظُه، وكذا الرواية الثالثة فإنها صريحةٌ في هذا المعنى، وقولُه: "تَرَكْنا الحديثَ" أي: تَرَكنْا ما يُحَدِّثُه الناسُ عنه؛ أي: تَرَكْنا أنْ نأخذَه بمُجَرَّدِ تحديثِهم، والله تعالى أعلم).
وفي تقرير الشيخ محمد حسن المكي: (قولُه: "إنَّا كُنَّا
…
" إِلخ، يعني: إِنما قلتُ لك: عُدْ؛ لإرادة التحقيق بسبب ظهور الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان، فلمَّا اشْتَبَهَ عليَّ بعضُ ألفاظِ حديثِك .. قلتُ لك: عُدْ، فوجدتُها صحيحةً وارْتَفَعَ =
إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيهِ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ المصَّعْبَ وَالذَّلُولَ .. تَرَكْنَا الْحَدِيثَ عَنْهُ
ــ
إذْ لم يكُنْ يُكْذَبُ عليه) صلى الله عليه وسلم؛ أي: كُنّا نُحَدِّثُ ونَرْوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديثَ الحَقَّةَ الصادقةَ الصحيحةَ في الزمان الذي لا يُرْوَى عنه الكذبُ، ولا يُنْسَبُ إِليه وهو زمانُ الصحابةِ وقَرْنُهم (فلمَّا رَكِبَ النَّاسُ) في هذا العصرِ -يعني زمانَ التابعين وقَرْنَهم- الجَمَلَ (الصَّعْبَ) أي: العَسِرَ الذي لا يُطيع راكبَه، كَنَى به عن الأحاديث الموضوعة (و) الجَمَلَ (الذَّلُولَ) أي: السَّهْلَ الذي يُطِيعُ راكبَه، كَنَى به عن الأحاديثِ الصحيحةِ (1)؛ أي: فلمَّا خَلَطَ الناسُ بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة ( .. تَرَكنا الحديثَ عنه) صلى الله عليه وسلم أي: قَلَّلْنا الروايةَ عنه صلى الله عليه وسلم، وتَرَكْنا الإِكْثارَ منها؛ خَوْفًا من وقوعِ الحديثِ في يَدِ مَنْ ليس أهلًا له، لكثرة الوَضَّاعين والكَذَّابين في هذا الزمان (2).
قال النوويُّ: (وقولُه: "الصَّعْب والذَّلُول" هذا مَثَلٌ حَسَنٌ، وأصلُه في الإِبل، فالصَّعْبُ: العَسِرُ المرغوبُ عنه، والذِّلُول: السَّهْلُ الطيِّبُ المحبوبُ المرغوبُ فيه، فمعناه: فلمَّا سَلَكَ الناسُ كُل مَسْلَكِ ممَّا يُحْمَدُ ويُذَمُّ)(3).
قال السنوسيُّ: (وقولُه: "تَرَكْنا الحديثَ عنه" يحتملُ أنْ يكونَ المرادُ تَرَكْنا حِفْظَه وقبولَه من الناس، ويحتملُ أنْ يكونَ المرادُ إِفادتَه ونشرَه.
فإنْ قلتَ: وأيُّ مناسبةٍ في تَرْكِه إِفادةَ الحديثِ ونشرَه لعدم مُحافظة غيره، بل قد يقال المناسبُ عكسُه، قال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} .
= اشتباهي فلا أنكرها حينئذ. "الحلّ المفهم"(1/ 13 - 14).
(1)
في المصدر السابق: (والمرادُ بـ (الصَّعْبِ": الحديثُ الكاذبُ؛ تشبيهًا له بالناقة الصعبة التي لا تُوصِلُك إلى المطلوب، وبـ "الذَّلُولَ" الحديثُ الصحيحُ؛ لأنه يُوصِلُك إِلى الجنَّة كما أَنَّ الناقة المطيعة تُوصِلُك إلى المطلوب).
(2)
قال الإِمامُ ابنُ عبد البرّ عقب إِيراده هذا الحديث: (وفي هذا الحديث دليل على أَنَّ الكَذِبَ على النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أَحَسَّ به ابنُ عَبَّاسٍ في عصره)"التمهيد"(1/ 44).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 80)، وانظر "إِكمال المعلم"(1/ 120).
[20]
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
ــ
قلتُ: وَجْهُ المناسبةِ فيه أنه خاف أنْ يُزَادَ عليه، أو يُنْقَصَ منه، فلم يَرَ أمينًا لحَمْلِ الحَقِّ على وجهه:"ولا تؤتوا الحكمةَ غيرَ أهلِها فتظلموها"، وإذا قال هذا ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما في ذلك الزمان العظيم البركة .. فكيف حالُ هذا الزمان الذي فاض فيه على البسيطة عُبَابُ الشرِّ وأهلُه؟ ! والله المستعان، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا بالله) اهـ (1).
ثم ذكر المؤلِّفُ رحمه الله تعالى المتابعة في أثَر ابنِ عَبَّاسٍ رحمهما الله تعالى فقال: [20](وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بن رافعٍ) القُشَيرِيُّ أبو عبد الله النيسابوريُّ، ثقةٌ عابدٌ، من الحادية عشرة، مات سنة خمسٍ وأربعين ومائتين.
قال: (حَدَّثَنَا عبدُ الرزَّاقِ) بن هَمَّام بن نافع الحِمْيَرِيُّ الصَّنْعانيُّ، أحدُ الأئمّة الأعلام، من التاسعة، مات سنة إِحدى عشرة ومائتين عن خمس وثمانين سنة.
قال: (أخبرنا) وفي بعض النسخ: (أنبأنا) فهو بمعنى أخبرنا كما مَرَّ.
(مَعْمَرٌ) هو ابنُ راشد الأَزْدي أبو عُرْوة البصريُّ نزيلُ اليمن، أحدُ الأئمة الأعلام، من كبار السابعة، مات سنة أربعٍ وخمسين ومائة، وله ثمان وخمسون سنة.
(عن) عبد اللهِ (بنِ طاوسِ) بن كَيسان اليمانيِّ أبي محمد، ثقة فاضل، من السادسة، مات سنة اثْنتَين وثلاثين ومائة.
(عن أبيه) طاوسِ بنِ كَيسان اليمانيِّ أبي عبد الرحمن الحِمْيَرِيّ مولاهم، الفارسي، ثقة فقيه فاضل، من الثالثة، مات سنة ست ومائة، وقيل: بعد ذلك.
وهذا السَّنَدُ من خُماسياته؛ ففيه رواية نيسابوري عن صَنْعاني عن بصري عن يماني عن يماني، كما مَرَّ هذا السَّنَدُ بعَينِه في أثَر عبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما.
(عن) عبد اللهِ (بنِ عَبَّاسِ) بن عبد المطلب أبي العبَّاس المكي ثم المدني ثم
(1)"مكمل إكمال الإكمال"(1/ 22).
قَال: إِنَّمَا كُنَّا نَحْفَظُ الْحَدِيثَ وَالْحَدِيثُ يُحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأمَّا إِذْ رَكِبْتُمْ كُل صَعْبٍ وَذَلُولٍ .. فَهَيهَاتَ
ــ
الطائفي حَبْر الأمة تَرْجُمان القرآن (قال) ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لبُشَيرِ بنِ كَعْبٍ العَدَويِّ: (إنَّما كُنّا) نحن معاشرَ الصحابة (نَحْفَظُ الحديثَ) ونرْويه (والحديثُ) أي: والحالُ أَنَّ الحديثَ (يُحْفَظُ) ويُنْقَلُ (عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا يُكْذَبُ عليه (فأمَّا) تحديثُنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذْ رَكِبْتُمْ) أي: في الزمن الذي رَكِبْتُم فيه (كُلَّ) جَمَلٍ (صَعْبٍ) أي: عَسِرٍ لا يُطِيعُ راكبَه (و) كُلَّ جَمَلٍ (ذَلُولٍ) أي: سَهْلٍ يُطِيعُ راكبَه ( .. فهَيهَاتَ) أي: بَعُدَ عن الوقوع فَضْلا عن كَثْرَتِه.
والفاءُ في (فهَيْهَاتَ) رابطةٌ لجوابِ (أمَّا) النائبةِ عن اسمِ الشَرْطِ وفِعْلِه واقعةٌ في غير موضعها؛ لأنَّ موضعَها موضعُ (أمَّا).
وجملةُ (هَيهَاتَ) في محل الرفعِ خبرُ المبتدإ المُقَدَّرِ بعدَ (أمَّا)، والتقديرُ: فأمَّا تحديثُنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتَ ركوبكم الصَّعْبَ والذَّلُولَ .. فبعيدٌ عن الوُقُوع.
وجملةُ المبتدإ المُقَدَّرِ مع خبرِه جوابُ (أمَّا) لا مَحَل لها من الإعراب؛ لأنَّ أصلَ الكلام: فمهما يَكُنْ من شيءٍ .. فتحديثُنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعيدٌ عن الوقوع.
وجملةُ (أمَّا) الشرطيةِ مع جوابِها في محل النصب مقول لجوابِ (إِذا) المُقَدَّرَةِ؛ لأنَّ الفاءَ في قوله: (فأمَّا) فاءُ الفصيحة، والتقديرُ:
إِذا عَرَفْتُم أنما كُنَّا نَحْفَظُ الحديثَ، والحديثُ يُحْفَظُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأردتم بيانَ حالِنا في هذا الزمن الفاسد .. فأقولُ لكم: أمَّا تحديثُنا في هذا الزمن الذي رَكِبْتُم فيه الصَّعْبَ والذَّلُولَ .. فبعيدٌ وقوعُه منا، وجملةُ إِذا المقدَّرةِ مستأنفةٌ.
فإنْ قلتَ: ما غَرَضُ المؤلِّفِ بتكْرَارِ هذا الأثَرِ مَتْنًا وسَنَدًا؛ قلتُ: غَرَضُه في تَكْرارِ السَّنَدِ بيانُ متابعة عبد الله بن طاوسٍ لهشامِ بنِ حُجَيرٍ في رواية هذا الأثَرِ عن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
طاوس، وفائدةُ هذه المتابعةِ: تقويةُ السَّنَدِ الأولِ؛ لأن هشامَ بنَ حُجَيرٍ مُخْتَلَفٌ فيه أو صَدُوقٌ، وعبدُ اللهِ بن طاوسٍ ثقةٌ، وبيانُ كثرةِ طُرُقِه أيضًا.
وأمَّا تَكْرَارُ المتنِ: فلِمَا في هذه الرواية من المخالفة للرواية الأُولى في بعض الكلمات (1).
قال السنوسيُّ: (ومعنى "هَيهَاتَ" هنا: بَعُدَتْ استقامتُكم، أو بَعُدَ أنْ نَثِقَ بحديثكم ونَسْمَعَ منكم ونعوِّلَ عليكم)(2).
وإِعرابُه: هَيهَاتَ: اسمُ فعلٍ ماضٍ بمعنى بَعُدَ مبنيٌّ على الفتح لشَبَهِه بالحرف شبهًا استعماليًّا، وإِنما حُرِّك -مع كَوْن الأصلِ في المبني السكونَ- فرارًا من التقاء الساكِنَينِ، أو ليُعْلَمَ أَن له أصلًا في الإعراب، وكانت الحركةُ فتحةَ للخِفّة مع ثِقَلِه؛ لأن مدلولَه الفعلُ الثقيل، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُه:(هو) يعودُ على المبتدإ المُقَدَّر؛ أي: تحديثُنا بَعُدَ عن الوُقُوع، وجملةُ اسمِ الفعلِ في محلِّ الرفع خبرِ المبتدإ كما مَرَّ تقديرُه آنفًا.
قال الأهدل: (وكلمة "هَيهَاتَ" مثلَّثة التاء عند الحجازيين، وبكَسْرِها عند التميميين، وبضَمِّها عند جماعةِ من النُّحاة، وفيها قريبٌ من أربعين لُغَةً على ما قيل، بل قيل: تنيف على الأربعين، وكُلُّها يُقَالُ فيها: اسمُ فعلٍ ماضٍ بمعنى "بَعُدَ" بضم العين.
ثم مَنْ فتَحَ التاءَ .. وَقَفَ عليها بالهاء، ومَنْ كَسَرَها .. وَقَفَ عليها بالتاء، ومَنْ
(1) هذا الأثر رواه النسائي في "السنن الكبرى"(3/ 440) في كتاب العلم (18 - حفظ العلم) حديث رقم (5869) عن محمد بن رافعٍ به، ورواهُ ابنُ ماجه في "سننه"(1/ 12) في المقدمة (3 - باب التوقّي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث رقم (27) عن العباس بن عبد العظيم العنبري، عن عبد الرزاق به.
(2)
"مكمل إكمال الإكمال"(1/ 22)، وأصله من كلام القاضي عياض في "إِكمال المعلم"(1/ 120)، ونصُّه فيه:(ومعنى "هَيهَاتَ": أي: ما أَبْعَدَ استقامةَ أمرِكم، أو فما أبْعَدَ أن نَثِقَ بحديثكم ونسمَعَ منكم ونعوِّلَ على روايتكم).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ضمَّها .. فقيل يقف بالهاء، وقيل: يقف بالتاء) اهـ (1)
قال النوويُّ: ("وهَيهَاتَ" موضوعةٌ لاستبعادِ الشيء واليَأْسِ منه، قال الإِمام أبو الحسن الواحديُّ:"هَيهَاتَ": اسمٌ سُمِّي به الفعل، وهو بَعُدَ في الخبر لا في الأمر، قال: ومعنى "هيهات": بَعُدَ، وليس له اشتقاقٌ؛ لأنه بمنزلة الأصوات، قال: وفيه زيادةُ معنًى ليستْ في "بَعُدَ"، وهو أَنَّ المتكلِّمَ يُخْبرُ عن اعتقادِه استبعادَ ذلك الذي يُخْبِرُ عن بُعْدِه، فكأنَّه بمنزلة قوله: بَعُدَ جِدًّا، أو ما أشَدَّ بُعْدَه، لا على أنْ يَعْلَمَ المُخَاطَبُ مكانَ ذلك الشيءِ في البُعْد، ففي "هَيهَاتَ" زيادةٌ على "بَعُدَ"، وإِنْ كُنَّا نُفسِّرهُ به، ويُقال: هيهات ما قلتَ، وهيهات لما قلتَ، وهيهات لك، وهيهات أنت.
قال الواحديُّ: وفي معنى "هيهات" ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنه بمنزلة "بَعُدَ" كما ذَكَرْناه أولًا، وهو قولُ أبي عليٍّ الفارسيِّ وغيرِه من حُذَّاق النحويين.
والثاني: أنه بمنزلة بعيدٍ، وهو قولُ الفَرَّاء.
والثالث: أنه بمنزلة البعد ..
وفي "هيهات" ثلاثَ عَشْرَةَ لغةً ذَكَرَهُنَّ الواحديُّ: "هيهاتَ" بفتح التاء وكسرها وضمّها مع التنوين فيهن وبحَذْفِه فهذه سِتُّ لُغَات وأَيهات بالألف بدل الهاء الأُولى وفيها اللُّغاتُ الستُّ أيضًا، والثالثةَ عَشْرَةَ: أَيهَا بحذف التاء من غير تنوين.
وزادَ غيرُ الواحديِّ: أَيئَاتَ بهمزتين بدل الهاءين، والفصيحُ المستعمَلُ من هذه اللغات استعمالًا فاشيًا:"هَيهَاتَ" بفتح التاء بلا تنوين.
قال الأزهريُّ: واتَّفَقَ أهلُ اللغةِ على أَنَّ تاءَ "هيهات" ليستْ أصليةً، واخْتَلَفُوا في الوقف عليها، فقال أبو عَمْرِو والكِسَائيُّ: يُوقَفُ بالهاء، وقال الفَرَّاءُ: بالتاء، وقد بسطتُ الكلامَ في هيهاتَ وتحقيقِ ما قيل فيها في "تهذيب الأسماء واللُّغات"
(1)"الكواكب الدرية"(2/ 139).
211، وَحَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ سُلَيمَانُ بْنُ عُبَيدِ اللهِ الْغَيلانِيُّ، حَدَّثنا أَبُو عَامِرٍ -يَعْنِي الْعَقَدِيَّ- حَدَّثَنَا رَبَاحٌ،
ــ
"4/ 185 - 188"، وأشرتُ هنا إِلى مقاصده، والله أعلم) اهـ (1).
ثم ذكر المؤلِّفُ رحمه الله تعالى المتابعةَ في أثَرِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ثانيًا فقال:
[21]
(وحَدَّثَنِي أبو أيوبَ سُلَيمَانُ بن عُبَيدِ اللهِ) بنِ عَمْرو بن جابر المازنيُّ (الغَيلانِيُّ) البصريُّ.
روى عن أُمَيَّة بنِ خالد وبَهْزِ بنِ أَسَد، ويروي عنه (م س) وجعفرُ بن أحمدَ بنِ سِنان، وَثَّقَه النَّسَائِيُّ.
وقال في "التقريب": صدوقٌ، من الحادية عشرة، مات سنة ست أو سبعٍ وأربعين ومائتين.
قال: (حَدَّثنَا أبو عَامرٍ) عبدُ الملكِ بن عَمْرٍو البصريُّ (يعني العَقَدِيَّ) قال النوويُّ: (بفتح العين والقاف منسوب إِلى العَقَدِ قبيلةٍ معروفةٍ من بجيلة، وقيل: من قيس وهُمْ من الأَزْد، وذَكَرَ أبو الشيخِ الإِمامُ الحافظُ (2) عن هارون بن سُلَيمان قال: سُمُّوا العَقَدَ لأنهم كانوا أهلَ بيتٍ لئامًا، فسُمُّوا عَقَدًا، وقيل: إِنه كان مولى للعَقَديين) (3).
رَوَى عن أفلح بن حُمَيد وقُرَّة بن خالد وخَلْقٍ، ويروي عنه (ع) وأحمدُ وإِسحاقُ وخَلْقٌ، قال النَّسائيُّ: ثقةٌ مأمونٌ.
وقال في "التقريب": ثقةٌ، من التاسعة، مات سنة أربعٍ أو خمسٍ ومائتين.
قال: (حَدَّثنَا رَبَاحٌ) بفتح الراء وبالموحدة، ابن أبي معروف بن أبي سارة المكي.
روى عن مجاهدٍ وعطاءٍ، ويروي عنه (م ل س) والثَّوْرِيُّ وأبو على الحَنَفِيّ.
(1)"شرح صحيح مسلم"(1/ 80 - 81)، وانظر "إِكمال المعلم"(1/ 120 - 121).
(2)
انظر "تهذيب الكمال"(18/ 368).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 78).
عَنْ قَيسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَال: جَاءَ بُشَيرٌ الْعَدَويُّ
ــ
قال في "التقريب": صدوقٌ له أوهامٌ، من السابعة. وليس في مسلم من اسمه (رَبَاح) إِلَّا هذا الصَّدُوق (1).
(عن قيسِ بنِ سَعْدٍ) الحَبَشي المكّي أبي عبد الله مفتي مكة.
روى عن مجاهدٍ وطاوسٍ وعطاءٍ، ويروي عنه (م دس ق) وسيفُ بن سُلَيمان والحَمَّادانِ وطائفةٌ، وَثَّقَه أحمدُ.
وقال في "التقريب": ثقةٌ، من السادسة، وقال ابنُ سعد: مات سنة تسع عشرة ومائة.
(عن مُجَاهِدِ) بن جَبْرٍ بفتح الجيم وسكون الموحدة، أبي الحَجَّاج المخزومي مولاهم، المكي المُقرئ الإِمام المُفَسِّر.
روى عن ابن عباسٍ وقَرَأَ عليه، قال مجاهدٌ: عَرَضْتُ عليه ثلاثين مرة، وعن أبي هريرة وجابرٍ وأمِّ سلمة، ويروي عنه (ع) وعكرمةُ وعطاءٌ وقتادةُ والحكم بن عُتَيبة وأيوبُ وخَلْقٌ، وَثَّقَه ابنُ مَعِينٍ وأبو زُرْعة.
وقال في "التقريب": ثقةٌ إِمامٌ في التفسير وفي العِلْم، من الثالثة، مات سنة إِحدى أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ومائة، وله ثلاثٌ وثمانون سنة.
وهذا السَّندُ من خُماسياته: اثنان منهم بصريان، وثلاثةٌ مكيون.
فإنْ قلتَ: لِمَ كَرَّرَ المؤلِّفُ هذا الأَثَرَ مَتْنًا وسَنَدًا؟ قلتُ: كَرَّرَ المَتْنَ لما في هذه الرواية من المخالفة للرواية الأُولى في بعض الألفاظ، وكَرَّرَ السَّنَدَ لغرض بيان متابعة مجاهدٍ لطاوس في رواية هذا الأَثَرِ عن ابن عَبَّاس، وفيه أيضًا بيانُ كَثْرَةِ طُرُقِه.
(قال) مجاهدٌ: (جاء بُشَيرٌ) مُصَغَّرًا، ابنُ كَعْبٍ (العَدَويُّ) البصريُّ، يُكْنَى أبا أيوب، حَدَّثَ عن أبي ذَرٍّ وأبي هريرة وأبي الدرداء، وحَدَّثَ عنه عبدُ اللهِ بن بديلٍ (2) وطَلْقُ بن حَبِيبٍ والعلاءُ بن زياد. اهـ قرطبي (3).
(1) انظر "تقييد المهمل" 1/ 260.
(2)
كذا وقع هنا: (عبد الله بن بديل) نقلًا عن "المفهم" للقرطبي، ولعلّ الصواب:(عبد الله بن بُرَيدَة)؛ فهو المذكور في الرواة عن بُشَير بن كعب، والله أعلم. انظر "تهذيب الكمال"(4/ 185) و (14/ 329) و "سير أعلام النبلاء"(4/ 351).
(3)
"المفهم"(1/ 123).
إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيقُولُ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
، قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
، قَال: فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسِ لَا يَأذَنُ لِحَدِيثِهِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِ، فَقَال: يَا ابْنَ عَبَّاسِ؛ مَا لِي لَا أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثي؟ ! أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَسْمَعُ؟ !
ــ
(إلى ابنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (فجَعَلَ) أي: شَرَعَ بُشَيرٌ، وهو من أفعال الشُّروع، خبرُه جملةُ (يُحَدِّثُ) أي: شَرَعَ مُحَدِّثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديثَ كثيرةً، وقولُه:(ويقولُ) بُشَيرٌ تفسيرٌ ليُحَدِّثُ: (قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كذا وكذا (قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وتكرارُ (قال) كنايةٌ عن إِكثارِه التحديثَ.
(قال) مجاهدٌ -وفي بعض النسخ إِسقاطُ قال-: (فجَعَلَ ابنُ عَبَّاسِ) أي: فصار ابنُ عَبَّاسٍ (لا يَأذَنُ) أي: لا يَسْتَمِعُ (لحديثهِ) أي: لحديثِ بُشَير؛ أي: لا يعتني لاستماعه، أي: لا يُصغي إِليه بأُذُنِه ولا يستمعُه، مِنْ أَذِنَ له يَأْذَنُ، من باب طَرِبَ إِذا استمع له وأصغى إِليه، ومنه قولهُ تعالى:{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} ، ومنه سُمِّيَت الأُذُنُ أُذُنًا؛ لاستماعها إِلى الكلام والأصوات؛ أي: لا يستمعُ إِليه ولا يُصْغِي.
(ولا يَنْظُرُ إليه) أي: لا ينظرُ ببصرِه إِلى بُشَيرٍ كهيئة المُعْرِضِ عن حديثِه ولا يَعْتَنِي به.
(فقال) بُشَيرٌ لابن عباس: (يا ابنَ عَبَّاسٍ؛ مالي) أي: أيُّ شيء ثَبَتَ لي حالةَ كوني (لا أَرَاكَ تَسْمَعُ لحديثي؟ ! ) أي: لا تستمعُ ولا تُصْغِي إِلى حديثي وكلامي.
وقولُه: (أُحَدِّثُكَ) مستأنفٌ أَتَى به لتأكيدِ ما قبلَه؛ أي: أُحَدِّثُك حديثًا مأثورًا (عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا تَسْمَعُ؟ ! ) أي: ولا تستمعُ ولا تُصْغي إِليه.
فإنْ قلتَ: روايةُ مجاهدٍ هذه تَدُلُّ على أنه لا يستمع لحديثه، وروايةُ طاوسٍ السابقةُ تَدُلُّ على أنه يستمع لحديثه حين قال له ابن عباس: عُدْ لحديث كذا وكذا؛ لأنه لو لم يستمع لحديثه .. لم يَقُلْ ذلك، فبَينَ الروايتَينِ معارضةٌ؟ قلتُ: يُجمع بينهما بحَمْلِهما على تَعَدُّدِ الواقعة، أو يُقال: إِنَّ (لا) في قوله: (لا أَرَاكَ) زائدةٌ؛ أي: ما لي أَرَاكَ تَسْمَعُ لحديثي حالةَ كوني أُحَدِّثُك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلًا يَقُولُ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
ــ
ولا تَسْتَمِعُ إِليه؛ أي: لا تستمعُ ولا تُصْغي إِليه، فحينئذٍ لا مُعَارَضَةَ، هكذا ظَهَرَ لفَهْمِي السَّقِيم (1).
(فقال ابنُ عَبَّاسٍ) لبُشَيرٍ اعتذارًا عن عدم استماعه لحديثه، وإِظهارًا لسببه:(إِنَّا) نحن معاشرَ الصحابة (كُنَّا مَرَّةً) أي: وقتا من الزمان، يعني قبلَ ظُهُورِ الكَذِبِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: كنا في الزمانِ الأولِ (إذا سَمِعْنا رجلًا) مفعولٌ به لسَمِعَ؛ أي: كلامَ رجل لأنَّ الذاتَ لا تُسْمَعُ.
وجملةُ (يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، في محلِّ النصبِ صفة لـ (رجلًا) جَرْيًا على مذهب الجمهور من أَنَّ (يَسْمَعُ) إِذا دَخَلَتْ على ما لا يُسمع .. تَعَدَّتْ إِلى مفعولٍ واحدٍ، وإِنْ كان ذلك المفعولُ معرفةً .. كانت الجملةُ المذكورةُ بعدَه حالًا منه كسَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول، وإِنْ كان نكرةً .. كانت الجملةُ صفةً كَمَا هنا، وكقوله تعالى:{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} ؛ جَرْيًا على القاعدة المشهورة عندهم: إِنَّ الجُمَلَ إِذا وَقَعَتْ بعد المعارف .. تكون حالًا، وإِنْ وَقَعَتْ بعد النكرات .. تكون صفةً، وأمَّا عند الأخفش ومَنْ
(1) وفي تقرير الشيخ محمد حسن المكي: (قولُه: "لَا يأْذَنُ لحديثِه" لظَنِّه أَن غَرَضَهُ مُجَرَّدُ إِسماع أحاديثه إِليَّ، وليس مقصودُه تحقيقَ أحاديثهِ مني، فلمَّا قال له بُشَيرٌ: "ما لي لا أراك
…
" يعني: ليس مقصودي مُجَرَّدَ إِسماع الأحاديث، بل مقصودي تحقيق أحاديثي منك بأنها صحيحة أم لا، فلمَّا قال بُشَير هكذا .. اعتذرَ إِليه ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما في عدم إِصغائه إِليه في أول وهلة، ثم قال له: "أمَّا إِذا أردتَ التحقيقَ .. فاقرأْها عليَّ أسمعها منك وأُبَيِّنُها لك"، فجَعَلَ يُحَدِّثُه، فقال له ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما: "عُدْ لحديثِ كذا، عُدْ لحديثِ كذا
…
" إِلى آخر الحديث السابق، فاندفع التعارض. اهـ
قال الشيخُ محمد زكريا الكاندهلوي: ولم يتعرض النووي لهذا التعارض، وحاصل ما أجاب به الشيخ: أنه وَقَعَ الاختصارُ في سياق الحديث، وحينئذٍ اندفاعُ التعارُضِ واضحٌ.
وأجاب في تقريره الآخر بتعدُّد القصّة حيث كَتَبَ: قولُه: "إِنَّا كُنَّا مَرَّةً
…
" أي: مَرَّةً أُولى قبل ظُهورِ الكذب "إلَّا ما نَعْرِفُ"، أمَّا أحاديثُك .. فلم أَعْرِفْها فلذلك لم أَكُنْ أستمع لها، وهذه القصَّةُ غيرُ القصَّةِ الأُولى، فلا تنافي) اهـ "الحل المفهم" (1/ 14 - 15).
ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا، وَأَصْغَينَا إِلَيهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ .. لَمْ نأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إلا مَا نَعْرِفُ
ــ
وَافَقَه .. فتكون الجملةُ في محلِّ النصب مفعولًا ثَانِيًا لسَمعَ، ومذهبُ الجمهورِ هو الصحيحُ كما هو مُقَرَّرٌ في مَحَلِّه.
وأمَّا إِذا دَخَلَتْ على ما يُسمع .. فإنها تتَعَدَّى إِلى واحدِ فقط بلا خلاف، كسَمِعْتُ القرآنَ، وسَمِعْتُ الحديثَ، وسمعتُ الكلامَ.
(ابْتَدَرَتْه أبصارُنا) أي: سَارَعَتْ وبَادَرَتْ إِلى النَّظَرِ إِليه أبصارُنا وأعينُنا محبَّةً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وعِشْقًا إِلى سماعه (وأَصْغَينا) أي: اسْتَمَعْنا (إليه) أي: إِلى حديثِه (بآذانِنا) وأسماعِنا، قال القرطبيُّ:(أي: قَبلْنا منه، وأَخَذْنا عنه، هذا الذي قاله ابنُ عَبَّاسِ يَشْهَدُ بصِحَّةِ ما تَأوَّلْنا عليه قولَ ابنَ سيرين؛ فإنَّ ابنَ عَبَّاسٍ كان في أول مَرَّةٍ يُحَدِّثُ عن الصحابة ويأخذُ عنهم؛ لأن سماعَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قليلًا لِصِغَرِ سِنه، فكان حالُه مع الصحابة كما قال، فلمَّا تلاحق التابعون وحَدَّثُوا وظَهَرَ ما يُوجِبُ الرِّيبةَ .. لم يَأْخُذْ عنهم كما فَعَلَ مع بشُيرٍ العَدَويِّ) اهـ (1).
(فلمَّا رَكِبَ الناسُ الصَّعْبَ) أي: الجَمَلَ العَسِرَ الذي لا يُطِيعُ راكبَه؛ أي: أَكْثَرُوا من رواية الأحاديثِ الموضوعةِ والضعيفةِ (و) رَكِبُوا الجَمَلَ (الذَّلُولَ) أي: الذي يُطِيعُ راكبَه؛ أي: وأَكْثَرُوا من رواية الأحاديثِ الصحيحةِ؛ أي: لمَّا أَكْثَرُوا من روايةِ كُلِّ ما سَمِعُوا من الأحاديث من غير تمييزٍ بين الصحيحة والضعيفة .. كُنَّا (لم نَأْخُذْ) ولم نَقْبَلْ (من الناس إلَّا ما نَعْرِفُ) صِحَّتَه ونَقْلَه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ حِفْظًا لِلدِّين، واحتياطًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخوفًا من اختلاط الأساطيرِ الباطلةِ والأقاويلِ المُخْتَلَقَةِ بحديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه دلالةٌ على أنه يَنْبَغِي للمُحَدِّث أن يَتَثَبَّتَ ويَسْتَيقِنَ فيما يَرْويه من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كما يَدُلُّ على ذلك قراءةُ (2): (يا أيها الذين آمنوا إِن
(1)"المفهم"(1/ 124).
(2)
وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف."النشر في القراءات العشر"(3/ 251).