الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
وَبهِ نستعين
خطبة الكتاب
الحمدُ للهِ الذي شَرَحَ صُدُورَ أوليائِهِ بمعارفِ أحاديثِ خيرِ أنبيائه، ورَوَّحَ بسماعها أرواحَ أهلِ ودادهِ وأصفيائِه، فسَرَّحَ سرائِرَهم في رِياضِ روضةِ قُدْسِهِ وثنائِهِ، أحمدُهُ على ما تَفَضَّلَ من توفيقِهِ وإِرشادهِ، وأَسْدَى إِلينا من آلائهِ ونعمائهِ، وأشكرُهُ على فَضْلهِ المتواترِ، وطَوْلهِ الكاملِ الوافر، وأسألهُ المزيدَ من عطائِهِ، وكشفَ حِجَابه وغِطائِه.
وأشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ الواحدُ الفَرْدُ الصَّمَد، الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ، ولم يكن له في ذاتهِ وصفاتِه كُفُوًا أَحَد، الْمُنْفَرِدُ في صَمَدَانِيَّتِهِ بعِزِّ كبريائهِ، وَاصِلُ مَنْ تَبَتَّلَ إِليهِ إِلى حضرةِ قُرْبِهِ وولائِهِ، وساقي علومِ معارفهِ وأسرارِهِ قلوبَ أوليائهِ وأصفيائِهِ، ومُدْرِجُ أهلِ مُرَاقَبَتهِ ومُشَاهَدَتِه في سلسلةِ خاصَّتهِ وأَحبَّائِه.
وأشهدُ أَنَّ سَيِّدنَا مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولهُ، المُرْسَلُ بصحيحِ القولِ وحَسَنِه إِلى كافَّةِ خَلْقِهِ من إِنْسِهِ وجِنِّهِ، رحمةً لأهلِ أرضهِ وسمائِه، الآمِرُ بالحقّ المشروعِ، والناهي عن المُخْتَلَقِ الموضوعِ، الماحي للوثنيَّةِ الموضوعة، بِبَوارقِ سُيوفهِ الخاطفة، وشُموسِ أنوارهِ الساطعة، فأشرقتْ مشكاةُ مصابيح الجامعِ الصحيحِ مِن أنوارِ شريعتهِ وأَنْبَائِهِ، صلَّى اللهُ -سبحانه- وسَلَّمَ عليهِ وعلى آَلهِ وأصحابهِ وخُلفائِه، وعلى كُلِّ مُتَمَسِّكٍ بدِينهِ وشريعتهِ، وداعٍ إِليهِ إِلى يومِ عَرْضِه ولقائِه.
أمَّا بعدُ: فإِنَّ عِلْمَ الأحاديثِ النبويةِ بعدَ الكتابِ العزيزِ أعظمُ العلومِ قَدْرًا، وأرقاها شَرَفًا وفَخْرًا، إِذْ عليهِ مَبْنَى قواعدِ أحكامِ الشريعةِ الإِسلاميةِ، وبهِ تظهرُ تفاصيلُ مجملاتِ الآياتِ القرآنيةِ، وكيف لا ومَصْدَرُهُ ممَّنْ لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى؟ !
فهوَ المُفَسِّرُ للكتابِ وإِنما
…
نَطَقَ النبيُّ لنا به عن ربهِ
ولمَّا قَضَت نتائجُ العقول وأدلَّةُ الشَّرعِ المنقولِ أَنَّ سعادةَ الدَّارَينِ مَنُوطةٌ بمتابعةِ هذا
الرسولِ، وأَنَّ المحبَّةَ الحقيقيةَ باقتفاءِ سبيلهِ واجبةُ الحصولِ .. انْتَهَضَتْ هِمَمُ أعلامِ العلماءِ والسادةِ الفضلاءِ إِلى البحثِ عن آثارهِ: أقوالهِ وأفعالهِ وإِقرارِه، فحَصَّلُوا ذلك ضبطًا وحفظًا، وبَلَّغُوهُ إِلى غيرِهم مُشَافهة ونقلًا، ومَيَّزُوا صحيحَهُ من سقيمِهِ، ومُعْوَجَّهُ من مستقيمِهِ، إِلى أن انتهَى ذلكَ إِلى إِمامَي علماءِ الصحيحِ، المُبَرِّزَينِ في علمِ التعديلِ والتجريحِ: أبي عبد اللهِ مُحَمَّدِ بنِ إِسماعيلَ الجُعْفِيِّ البُخَارِيِّ، وأَبي الحُسَينِ مسلمِ بنِ الحَجَّاجِ القُشَيرِيّ النَّيسابُورِيِّ، فجَمَعَا كتابَيهِمَا على شَرْطِ الصِّحَّةِ، وبَذَلا جُهْدَهُمَا في تَصْفِيَتِهِمَا مِنْ كُلِّ عِلَّةٍ، فتَمَّ لَهُمَا المُرادُ، وانعقدَ الإِجماعُ على تَلْقيبهما باسمِ "الصحيحينِ"(1) أو كاد (2)، فجزاهما اللهُ تعالى عنِ الإِسلامِ أفضلَ الجزاءِ، ووَفَّاهُما مِنْ أَجْرِ مَن انتفعَ بكتابَيهما أفضلَ الإِجزاءِ.
غيرَ أنه قد ظَهَرَ لكثيرٍ من أئمَّةِ النَّقْلِ وجَهَابِذَةِ النقْدِ أَنَّ لمسلمٍ ولكتابهِ من المَزِيَّةِ
(1) قلتُ: والاسم العلمي لكتاب "صحيح مسلم" كما سمَّاه به مؤلِّفُه هو: "المسند الصحيح المختصر من السُّنَن بنَقْلِ العَدْلِ عن العَدْلِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهذا الاسمُ يَدُلُّ على مضمونِ هذا الكتابِ وأُسُسِهِ التي أُنشئ عليها، وقد ورد هذا الاسم كاملًا عند الحافظ ابن خير الإِشبيلي في "فهرست ما رواه عن شيوخه"(ص 98)، والعلَّامةِ التُّجيبي في "برنامجه" (ص 83) إلَّا أنه قال: إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد اسمه مختصرًا عند غيرهما من الحُفَّاظ، انظر تفصيل ذلك في "تحقيق اسمي الصحيحين"(ص 33 - 52).
(2)
قال الإِمام أبو العباس القرطبي: (وأمَّا انعقادُ الإِجماعِ على تسميتهما بالصحيحَينِ .. فلا شكَّ فيهِ، بل قد صارَ ذِكْرُ الصحيحِ عَلَمًا لهما وإِنْ كان غيرهما بعدهما قد جمع الصحيح واشترط الصحة، كابي بكر الإِسماعيلي الجرجاني، وأبي الشيخ ابن حَيَّان الأصبهاني، وأبي بكر البَرْقاني، والحاكم أبي عبد الله، وإِبراهيم بن حمزة، وأبي ذرّ الهَرَوي، وغيرهم، لكنِ الإِمامان أحرزا قصب السباق، ولُقِّبَ كتاباهما بـ "الصحيحين" بالاتفاق. قال أبو عبد الله الحاكم: أهلُ الحجاز والعراق والشامِ يشهدون لأهل خُراسان بالتقدُّم في معرفة الحديث، لسَبْقِ الإِمامين البخاريِّ ومسلمٍ إِليه، وتفَرُّدِهما بهذا النوع. "المفهم" (1/ 99 - 100).
وقال الإِمام عبد الحقِّ الإِشبيلي في مقدّمة كتابه "الجمع بين الصحيحين"(1/ 6):
(والغَرَضُ من هذا المختصَرِ: أنْ يَخِفَّ به الكتابان على مَنْ أعياه حفظ الأسانيد، واعتمدَ في العلم بها على التقليد، لاسيما وقد اشتهرا في الصحة شهرةً لا مطعن عليها، وتَضَمَّنا من الأخبار ما لجأَ الناسُ في الأكثرِ إِليها، وحَسْبُكَ من هذين الكتابين أنهما إِنما يُعرفان بـ "الصحيحين").
ما يُوجِبُ لهما أولَويَّةً، فقد حكى القاضي أبو الفَضْلِ عِياضُ بن موسى الإِجماعَ على إِمامتهِ وتقديمهِ، وصِحَّةِ حديثهِ وتميُّزهِ، وثقتهِ وقَبُولِ كتابهِ.
وكان أبو زرعة وأبو حاتم يُقَدِّمانهِ في الحديث على مشايخ عصرهما.
وقال أبو عليٍّ الحُسَينُ بن علي النيسابوريُّ: ما تحت أديم السماء أصحُّ من كتاب مسلم (1).
(1) قال الحافظ ابن حجر: (وأمّا قولُ أبي علي النيسابوري .. فلم نَقِفْ قطُّ على تصريحه بأَنَّ كتابَ مسلمٍ أَصَحُّ من كتابِ البخاري، بخلاف ما يقتضيه إِطلاق الشيخ محيي الدين في "مختصره في علوم الحديث" وفي مقدمة "شرح البخاري" أيضًا حيث يقول: اتفق الجمهورُ على أَنَّ "صحيح البخاري" أصحّهما صحيحًا، وأكثرهما فوائد، وقال أبو علي النيسابوريُّ وبعضُ علماءِ المغربِ: صحيحُ مسلمٍ أَصَحُّ. اهـ
ومقتضَى كلام أبي عليّ: نَفْي الأصحيَّة عن غير كتاب مسلمٍ عليه، أمَّا إِثباتُها له .. فلا؛ لأن إِطلاقه يحتملُ أنْ يريدَ ذلك، ويحتملُ أنْ يُريدَ المساواة، والله أعلم.
والذي يظهرُ لي من كلام أبي علي: أنه إِنما قَدَّمَ "صحيحَ مسلمٍ" لمعنىً غيرِ ما يرجعُ إِلى ما نحن بصدده من الشرائطِ المطلوبةِ في الصحة، بل ذلك لأنَّ مسلمًا صَنَّفَ كتابَه في بلدهِ بحضورِ أصولهِ في حياةِ كثير من مشايخهِ، فكان يتحرَّزُ في الألفاظ، ويتحرَّى في السِّياق، ولا يتصدَّى لِمَا تصدَّى له البخاريُّ من استنباط الأحكام ليُبوِّبَ عليها، ولزمَ من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه، بل جَمَعَ مسلمٌ الطُّرُقَ كُلَّها في مكانٍ واحدٍ، واقتصرَ على الأحاديثِ دونَ الموقوفات، فلم يُعَرِّجْ عليها إِلا في بعض المواضع على سبيل النُّدور تبعًا لا مقصودًا، فلهذا قال أبو عليّ ما قال، مع أني رأيتُ بعض أئمتنا يُجَوِّزُ أن يكون أبو علي ما رأى "صحيح البخاري"، وعندي في ذلك بُعْدٌ، والأقربُ ما ذكرتهُ، وأبو علي لو صَرَّحَ بما نُسِبَ إِليهِ .. لكانَ محجوجًا بما قَدَّمْناهُ مجملًا ومفصّلًا، واللهُ الموفق.
وأمَّا بعضُ شيوخِ المغاربةِ .. فلا يُحْفَظُ عن أحدٍ منهم تقييدُ الأفضليةِ بالأصحيَّة، بل أطْلَقَ بعضُهم الأفضلية، وذلك فيما حكاهُ القاضي أبو الفضلِ عياض في "الإِلماع" عن أبي مروان الطُّبْني، قال: كان بعض شيوخي يُفَضِّلُ صحيح مسلم على صحيح البخاري. اهـ
وقد وجدتُ تفسيرَ هذا التفضيل عن بعض المغاربة؛ فقرأتُ في "فهرست أبي محمد التجيبي" قال: كان أبو محمد بن حَزْم يُفَضِّلُ كتاب مسلم على كتاب البخاري؛ لأنه ليس فيه بعد خطبتِه إلا الحديثُ السرد. اهـ
وعندي: أَنَّ ابن حزم هذا هو شيخ أبي مروان الطبْني الذي أبهمه القاضي عياض، ويجوزُ أن يكونَ غيرَه، ومحلُّ تفضيلهما واحد.
ومن ذلك قولُ مَسلَمة بن قاسم القرطبي -وهو من أقران الدارقطني- لمَّا ذكرَ في "تاريخه" =
وقال أبو مروان الطُبْنِيُّ (1): كان من شيوخي مَنْ يُفَضِّلُ كتابَ مسلمٍ على كتاب البخاري.
وقال مَسْلَمة بن القاسم في "تاريخه": مسلم جليلُ القَدْرِ، ثقةٌ من أئمَّةِ المُحَدِّثين، وذَكَرَ كتابَهُ "الصحيحَ" فقال: لم يَضَعْ أَحَدٌ مِثْلَهُ.
وقال أبو حامد بن الشَّرْقِيّ: سَمِعْتُ مسلمًا يقول: ما وَضَعْتُ شيئًا في هذا المسند إِلَّا بحُجَّةٍ، وما أسقطتُ منهُ إِلَّا بحُجَّةٍ.
وقال ابنُ سفيان: قال مسلمٌ: ليس كُلُّ الصحيحِ وَضَعْتُ هنا، إِنَّما وَضَعْتُ ما أجمعوا عليهِ.
وقال مسلمٌ: ولقد عَرَضْتُ كتابي هذا على أبي زُرْعة الرازيِّ فكُلُّ ما أشارَ عليَّ أَنَّ لهُ عِلَّةً .. تَرَكْتهُ، وما قال: هو صحيحٌ ليسَ له عِلَّةٌ .. أَخْرَجْتُه (2).
= صحيح مسلم قال: (لم يَضَعْ أحدٌ مِثْلَهُ) فهذا محمولٌ على حُسْنِ الوضع وجودة الترتيب، وقد رأيتُ كثيرًا من المغاربة ممَّن صَنَّف في الأحكام بحذف الأسانيد كعبد الحق في "أحكامه" و"جَمْعِه" يعتمدون على كتاب مسلم في نَقْلِ المتونِ وسياقِها دون البخاري؛ لوجودِها عند مسلمٍ تامَّةً وتقطيع البخاري لها، فهذه جهةٌ أخرى من التفضيل لا تَرْجِعُ إِلى ما يتعلق بنفس الصحيح، والله أعَلم. "هدي الساري" (ص 12 - 13). وانظر في ذلك:"صيانة صحيح مسلم"(ص 67)، و"شرح صحيح مسلم"(1/ 14). و"شرح البخاري"(ص 7) وكلاهما للنووي، و"تحفة الأخباري" لابن ناصر الدين (ص 195 - 200)، و"عمدة القارئ والسامع" للسخاوي (ص 48 - 52)، و"الإِمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح"(2/ 562 و 578).
(1)
هو عبد الملك بن زِيَادة الله بن علي، أبو مروان الطُبْنِيُّ، من أهل بيت جلالة ورئاسة، وكانتْ له عنايةٌ تامَّةٌ في تقييد العلم والحديث، توفي سنة سبع وخمسين وأربعمائة. والطُبْنِيُّ: نِسْبة إِلى طُبْنَة، وهي بلدةٌ في طرف إِفريقية ممَّا يلي المغرب على ضفة الزاب، وهي بضمِّ الطاء المهملة، ثم موحدة ساكنة، ثم نون مفتوحة، ثم هاء. انظر ترجمته في:"جذوة المقتبس"(ص 284)، و"الصلة" لابن بشكوال (2/ 360)، و"معجم البلدان"(4/ 21)، و"تكملة الإِكمال" لابن نقطة (3/ 50)(زيادة)، و (4/ 68)(الطبني)، و"توضيح المشتبه"(6/ 41)، و"تبصير المنتبه"(3/ 879)، و"هدي الساري"(ص 12)، ووقع في "المفهم" للقرطبي (1/ 100):(الطِّيبي) فليُصحح.
(2)
انظر هذه الأقوال في "إِكمال المُعْلِم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 79 - 81)، و"المُفْهِم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (1/ 100 - 101)، و"تقييد =
هذا مع أَن الكتابَ أحسنُ الأحاديثِ مساقًا، وأكمل سياقًا، وأَقَلّ تكرارًا، وأتقنُ اعتبارًا، وأَيسَرُ للحِفْظِ، وأَسْرَعُ للضَّبْطِ، مع أنه ذَكَرَ صَدْرًا مِنْ علمِ الحديث، ومَيَّزَ طبقاتِ المحدثين في القديمِ والحديث (1).
ولمَّا كان هذا الكتابُ بهذه الصِّفَةِ، ومُصَنِّفُهُ بهذه الحالةِ .. خَطَرَ لي أنْ أُعَلِّقَ عليهِ شرحًا يَفُكُّ مَبَانِيَه، ويَحُلُّ معانيَه، ويُفسِّرُ غَرائبَه، ويُبيِّنُ أغراضَه متنًا وسَنَدًا، ويشرحُ متابعتَه تابعًا ومتبوعًا، لفظًا ونحوًا ومعنىً، ويُبَيِّنُ موضعَ التراجمِ من الأحاديث، ويذكرُ التراجمَ للأحاديث التي لم يُتَرْجَمْ لها، وحكمةَ ما يُدْخِلُه في خلال الأسانيد مِن نحو:(يعني)، ومراجعَ الضمائر والإِشارات في نحو قوله:(مِثْلَه) و (نحوه) و (معناه)، وفي قوله:(بهذا الإِسناد) مما قد زَلَّتْ فيه أقدامُ كثيرٍ من ضُعفاءِ الطلَبة، وغَيرِ ذلك من الفوائد التي انْفَرَدَ بها عن سائرِ شُروح السابقين مما يطولُ ذِكْرُه، ويَصْعُبُ تَعْدَادُهُ ونشرُه -فيا كوكبًا وهَّاجًا للسالكين في مَسْرَاه، وروضا بهَّاجًا للنازلِينَ في مَغْنَاهُ- فَشَمَّرْتُ ذَيلَ العَزْمِ عن ساقِ الحَزْمِ، وأتيتُ بُيوتَ التصنيفِ من أبوابِها، وقُمتُ في جامعِ جوامعِ التأليفِ بَينَ أَئِمتِهِ بمحرابها، وأطلقتُ لسانَ القلمِ في ساحَاتِ الحِكَم بعبارةٍ صريحةٍ واضحةٍ، وإِشارةٍ قريبةٍ لائحة، لَخَّصْتُها من كلامِ الكُبراء الذين رَقَتْ في معارج علومِ هذا الشأن أفكارُهم، ومن إِشاراتِ الأَلِبَّاءِ الذين أنفقوا على اقتناصِ شواردِه أَعمَارَهُم، وبَذَلْتُ الجهدَ في تَفَهُّمِ أقاويلِ الفُهماءِ المُشَارِ إِليهم بالبَنَانِ، ومُمَارَسَةِ الدواوين المُؤَلَّفةِ في هذا الشأن.
ولم أتردَّد عن الإِعادة في الإِفادة عند الحاجة إِلى البيان، ولا في ضبْط الواضح عند علماء هذا الشأن؛ قصدًا لنفع الخاصّ والعامّ، راجيًا ثوابَ ذي الطَّوْل والإِنعام.
فدُونَك شرحًا قد أشرقَتْ عليهِ مِن شُرُفاتِ هذا الجامع أضواءُ نورِه اللامع، وصَدَعَ
= المهمل" للغسّاني (1/ 66 - 67)، و"غرر الفوائد المجموعة" للعطار (2/ 764)، و"برنامج التجيبي" (ص 93).
(1)
يعني بـ (القديم): مَنْ تَقَدَّم زمانَ مسلم، وبـ (الحديث): زمانَ من أدركه، وهذا إِشارةٌ إِلى قول مسلم في صدر كتابه: أنه يعمدُ إِلى جملة ما أُسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات. "المفهم"(1/ 101).
خَطِيبُه على منبره السَّامي بالحُجَج القواطع القلوبَ والمسامع، أضاءَتْ بهجتُه فاختفَتْ منهُ الكواكبُ الطالعةُ قَبْلَه.
وبالجملةِ: فإنما أنا من لوامع أنوارهم مُقْتَبس، ومن فواضِل فضائلهم مُلْتَمِس، وخَدَمْتُ بهِ الأبوابَ النبويةَ، والحضرةَ المصطفيةَ، راجيًا أن يُتَوِّجني بتاج القبول والإِقبال، ويُجيزني بجائزةِ الرِّضا في الحال والمآل، ويُتمّم مُرادي فيه وفي جميعِ الآمالِ.
وسمّيتهُ:
"الكوكب الوَهَّاج والروض البَهَّاج في شرح صحيح مسلم بن الحَجَّاج"
واللهَ سبحانه وتعالى أسألُ التوفيقَ والهدايةَ، والإِرشادَ إِلى سلوكِ طُرُقِ الصواب والسَّداد، والمساعدةَ لي من فُيوضاته الهاطلة وسُيولاته السائلة من أمطار سحائب جوده وفضله بمنه وكرمه وإِحسانه وطَوْله، وأنْ يُعينَني فيما قَصَدْتُه على التكميل، قبل أن يختَرِمَني الأجلُ والترحيل، فهو سبحانَهُ حسبي ونعْمَ الوكيل، وما أحسنَ قولَ بعضِهم (1):
اغْتَنِمْ فِي الفَرَاغِ شُغْلَ عُلومٍ
…
فَعَسَى أنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَهْ
كَمْ صَحِيحٍ رَأَيتَ مِنْ غَيرِ سُقْمٍ
…
ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصحيحةُ فَلْتَهْ
وقد استحسنتُ قبلَ الشُّروعِ فيهِ أنْ أذكرَ مُقَدّماتٍ مشتملة على ما لا بُدَّ للطالب من معرفته.
رَبِّ أَكْرِمْنِي بالنهاية كما وَفَّقْتَنِي بالبدايةِ، واجْعَلْ لِي في عُمُرِي البركةَ إِلى أنْ أكمّله وشَرْحَ ابنِ مَاجَهْ. آمين.
4/ 1 / 1419 هـ
(1) وهو الإِمام البخاري رحمه الله تعالى، ذكر ذلك الحاكم في "تاريخ نيسابور". انظر "هدي الساري" للحافظ ابن حجر (ص 481)، و"عمدة القارئ والسامع" للحافظ السخاوي (ص 47)، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (2/ 235)، والشطر الأولُ فيها: اغْتَنِمْ في الفراغ فَضْلَ ركوع. وعقّب الحافظ ابن حجر على هذين البيتين بقوله: (وكان من العجائب أنه هو وَقَعَ له ذلك أو قريبًا منه كما سيأتي في ذِكْر وفاته" (ص 493).