المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(7) باب بيان أن الإسناد من الدين، وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات، وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز، بل واجب، وأنه ليس من الغيبة المحرمة، بل من الذب عن الشريعة المكرمة - الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ١

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌ترجمة الشارح

- ‌اسمه:

- ‌مولده:

- ‌نشأته:

- ‌رحلته:

- ‌مؤلفاته:

- ‌هجرته:

- ‌خطبة الكتاب

- ‌مقدِّماتٌ

- ‌المقدمةُ الأُولى في ترجمة الإِمام مسلم رحمه الله تعالى

- ‌المقدمة الثانية في ميزة "جامعه

- ‌فصل في ذكر الكتب المخرجة على صحيح مسلم

- ‌فصل آخر في شروحه

- ‌المقدّمة الثالثة مقدّمة العلم

- ‌الفرق بين الحديث والسُّنَّة والخَبَر والأثر:

- ‌المقدمة الرابعة في أسانيدي إلى الحافظ الإِمام مسلم رحمه الله تعالى

- ‌فصل في ذكر نبذة من أقسام الحديث وبيان أنواعه

- ‌(1) بَابُ وُجُوبِ الرِّوَايَةِ عَنِ الثِّقَاتِ المُتْقِنِينَ، وَتَرْكِ الضُّعَفَاءِ الْمَتْرُوكِينَ

- ‌تتمة: في معرفة الاعتبار والمتابعة والشاهد والأَفراد والشاذّ والمنكَر

- ‌(2) بَابُ تَغْلِيظِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(3) بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْحَدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمعَ

- ‌(4) بَابُ التَّحْذِيرِ عَنْ أَنْ يُشَنَّعَ فِي الْحَدِيثِ وَأَنْ يُحَدِّثَ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُه أَفْهَامُهُمْ

- ‌(5) بَابُ النَّهْيِ عَنِ الرِّوَايَةِ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالاحْتِيَاطِ فِي تَحَمُّلِهَا

- ‌(6) بَابُ اخْتِيَارِ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَتَلْخِيصِهَا وَطَرْحِ مَا سِوَاهَا مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيهَا

- ‌(7) بَابُ بيَانِ أَن الإِسْنَادَ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تَكُونُ إلا عَنِ الثِّقَاتِ، وَأَنَّ جَرْحَ الرُّوَاةِ بمَا هُوَ فِيهِمْ جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ، وَأنَّهُ لَيسَ مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، بَلْ مِنَ الذَّبِّ عَنِ الشَّرِيعَةِ الْمُكَرَّمَةِ

- ‌(8) بَابُ الْكَشْفِ عَنْ مَعَايِبِ رُواةِ الْحَدِيثِ ونَقَلَةِ الأَخْبَارِ وَقَوْلِ الأَئِمةِ فِي ذَلِكَ

- ‌ترجمة لأبي داود الأعمى:

- ‌فصل في ترجمة عَمْرو بن عُبَيد:

- ‌تتمة لترجمة عَمْرو بن عُبَيد:

- ‌تتمة في ترجمة أبي شَيبة:

- ‌تتمة في ترجمة صالح المُرِّي:

- ‌فصل في ترجمة الحَسَنُ بن عُمارة:

- ‌نبذة من ترجمة زياد بن ميمون:

- ‌تتمة في ترجمة خالد بن مَحْدُوج:

- ‌فصل في ترجمة عَبَّاد بن منصور الناجِي:

- ‌تتمة في ترجمة مهدي بن هلال:

- ‌ترجمةُ أبان بن أبي عَياش:

- ‌ترجمة بقِية الكَلاعي:

- ‌ترجمة إسماعيل بن عَيَّاش:

- ‌نبذة من ترجمة المعَلَّى:

- ‌تتمة في صالح بن نَبْهان:

- ‌ترجمة حَرَام بن عثمان:

- ‌ترجمة عبد الله بن مُحَرَّر:

- ‌ترجمة يحيى بن أبي أُنيسَة (ت):

- ‌ترجمة فَرْقَد بن يعقوب السبخي:

- ‌نبذة من ترجمة محمد بن عبد الله الليثي:

- ‌نبذة من ترجمة يعقوب بن عطاء:

- ‌أمَّا عُبيدةُ .. فترجمتهُ:

- ‌أما السَّرِي بن إسماعيل:

- ‌أما محمد بن سالم:

- ‌فصل في المسائل المَنْثُورَة والجُمل التي تتعلِّقُ بهذا الباب:

- ‌(9) باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن إذا أمكن لقاء المُعَنْعِنينَ ولم يكن فيهم مدلس

- ‌خاتمة المقدمة

- ‌خاتمة المجلد الأول

الفصل: ‌(7) باب بيان أن الإسناد من الدين، وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات، وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز، بل واجب، وأنه ليس من الغيبة المحرمة، بل من الذب عن الشريعة المكرمة

(7) بَابُ بيَانِ أَن الإِسْنَادَ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تَكُونُ إلا عَنِ الثِّقَاتِ، وَأَنَّ جَرْحَ الرُّوَاةِ بمَا هُوَ فِيهِمْ جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ، وَأنَّهُ لَيسَ مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، بَلْ مِنَ الذَّبِّ عَنِ الشَّرِيعَةِ الْمُكَرَّمَةِ

ــ

(7)

باب بيان أن الإسناد من الدين، وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات، وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز، بل واجب، وأنه ليس من الغيبة المحرمة، بل من الذَّب عن الشريعة المكرمة

(بابُ بيانِ أَنَّ الإسْنَادَ) أي: رَفْعَ الحديثِ إلى قائله (مِنْ) حِفْظِ (الدِّينِ) والشَّريعةِ.

وعبارةُ "المفهم" هنا (1/ 121 - 122): "أَنَّ الإِسنادَ من الدِّينِ" أي: من أُصُوله؛ لأنَّه لمَّا كان مرجعُ الدِّينِ إِلى الكتاب والسنةِ، والسُّنَّةُ لا تُؤْخَذُ عن كُلِّ أَحَدٍ .. تَعَيَّنَ النَّظَرُ في حالِ النَّقَلَةِ واتِّصَالِ روايتِهم، ولولا ذلك .. لاخْتَلَطَ الصادقُ بالكاذب، والحق بالباطل، ولمَّا وَجَبَ الفَرْقُ بينهما .. وَجَبَ النَّظَرُ في الأسانيد، وهذا الذي قاله ابنُ المبارك قد قاله أنسُ بن مالك وأبو هريرة ونافعٌ مولى ابن عُمَرَ وغيرُهم، وهو أمرٌ واضحُ الوجوبِ لا يُخْتَلَفُ فيه.

وقال عقبةُ بن نافعِ لبَنِيه: يا بَنِيَّ؛ لا تَقْبَلُوا الحديثَ إلا من ثِقَةٍ.

وقال ابنُ مَعِين: كان فيما أوصى به صُهَيبٌ بَنِيه أَنْ قال: يا بَنِيَّ؛ لا تَقْبَلُوا الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من ثِقة.

وقال ابنُ عَوْنٍ: لا تأخذوا العِلْمَ إلا ممن يُشْهَدُ له بالطلب.

وقال سُلَيمان بن موسى: لا يُؤْخَذُ العِلْمُ من صَحَفِيٍّ (1) -وهو مَنْ يُخطئ في قراءة الصحيفة، ومَنْ يَعْتَمِدُ في رواياته على الصُّحُف دون الرجال (2).

(1) قال ابن هشام اللخمي: (ويقولون لمن يقتبس من الصُّحف: صُحُفي، والصوابُ عند النحويين البصريين أن ينسب إِلى واحدة الصُّحُف، وهي صَحِيفة، فيُقال: صَحَفيٌّ بفتحتين). "المدخل إِلى تقويم اللسان"(ص 146)، و"تدريب الراوي"(2/ 208).

(2)

وقال الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(7/ 114) في ترجمة (عبد الرحمن بن عَمْرو الأوزاعي) المتوفى سنة سبع وخمسين ومائة، ما نصُّه: (قال الوليد بن مسلم: كان الأوزاعيُّ يقول: كان هذا العلم كريمًا، يتلقاه الرجالُ بينهم، فلمَّا دَخَلَ في الكُتُب

دَخَلَ فيه غيرُ أهلهِ. =

ص: 240

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقال أيضًا: قلتُ لطاوسٍ: إِن فُلانًا حَدَّثَني بكذا وكذا، فقال: إِنْ كان مَلِيًّا (1) .. فخُذْ عنه) اهـ

(وأَنَّ الروايةَ) أي: وبيانِ أَنَّ روايةَ الحديثِ ونَقْلَه (لا تكونُ إلَّا عن الثِّقاتِ) المُتْقِنين، جَمْعُ ثِقة، وهو عَدْلٌ موثوقٌ به في عِلْمِه وعَمَلِه.

(وأَنَّ جَرْحَ الرُّواة) أي: وبيانِ أَن جَرْحَ رُوَاةِ الحديث وتَعْييبَهم وتنقيصَهم (بما) أي: بِشَيءٍ (هو) أي: ذلك الشيءُ موجودٌ (فيهم) أي: في أولئك الرُّواة من العيوب التي تُوجبُ رَدَّ حديثهم وعدمَ قبولِه كالوَضْعِ والكَذِبِ وسُوءِ الحِفْظ وكثرةِ الخطإ والغَفْلَةِ وقِلَّةِ الدِّيانة، مما هو معلومٌ عندهم.

= وروى مثلَها ابنُ المبارك عن الأوزاعي.

ولا رَيبَ أَن الأَخْذَ من الصُّحُف وبالإِجازة يَقَعُ فيه خَلَلٌ، ولاسِيَّما في ذلك العصر، حيثُ لم يكن بعدُ نَقْطٌ ولا شَكْلٌ، فتَتَصَحَّفُ الكلمةُ بما يُحيل المعنى، ولا يَقَعُ مثلُ ذلك في الأَخْذِ من أفواهِ الرجال، وكذلك التحديثُ من الحفظ يَقَعُ فيه الوهم، بخلاف الرواية من كتابٍ مُحَرَّر).

وقد عَقَدَ الخطيبُ البغداديُّ في كتاب "الفقيه والمتفقّه"(2/ 193) بابًا في اختيارِ الفقهاء الذين يُتعلَّم منهم، وذكر فيه أنه ينبغي للمُتعلِّم أن يكون قد أَخَذَ فِقْهَهُ من أفواهِ العُلماء لا مِنَ الصُّحُف، ثم ذكر الأخبار الواردة في التحذيرِ من الأَخذِ عن الصُّحُف وتَرْكِ التلقي بالمشافهة، فمنها: عن سُليمان بن موسى قال: (لا تقرؤوا القرآن على المصحّفين، ولا تأخذوا العِلْمَ من الصَّحَفيين).

وعن ثَوْر بن يَزِيد قال: (لا يُفتي الناسَ الصَّحَفِيُّون).

وقال أبو زُرْعة: (لا يُفتي الناسَ صَحَفِيٌّ، ولا يُقْرِئُهم مصحفي).

وفي هذا المعنى نَظَمَ الحافظُ محمد بن محمد بن حسن التميمي الداري الشُّمُنّي المتوفى سنة (821) بيتَين لطيفَين، أوردهما الحافظُ السخاويُّ في "الضوء اللامع"(9/ 75) في ترجمته، وهما:

مَنْ يَأخُذِ العِلْمَ عن شيخ مُشَافَهةً

يَكُنْ من الزَّيفِ والتصحيفِ في حَرَمِ

ومَنْ يَكُنْ آخِذًا للعِلْمِ من صُحُفٍ

فعِلْمُهُ عندَ أهلِ العِلْمِ كالعَدَمِ

(1)

يعني: ثِقَةً ضابطًا مُتْقنًا يُوثَق بدينهِ ومعرفتهِ، ويُعْتَمَدُ عليه كما يُعتمد على معاملة المَلِيّ بالمال ثقةً بذمّته. "شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 85).

ص: 241

261، حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ،

ــ

وقولُه: (جائزٌ) خبرُ أَنَّ؛ أي: حلالٌ لا حَرَامٌ، وإِنْ صَدَقَ عليه اسمُ الغِيبة التي هي: ذِكْرُ أخيه بما يَكْرَهُ؛ أي: أَنَّ بيانَ عيوبِهم لِيَحْتَرِزَ الناسُ عن حديثهم -لا بقَصْدِ تنقيصِهم وتعييبِهم وفضيحتِهم بين الناس- حلالٌ جائرٌ لا حَرَامٌ، (بل) هو (واجبٌ) أي: بَلْ بيانُ ما فيهم من أسباب الجَرْحِ بالقَصْدِ المذكورِ واجبٌ مُتَحَتِّمٌ على مَنْ عَرَفَ حالهم (و) بيانِ (أَنَّه) أي: أَن جَرْحهم وبيانَ ما فيهم من العيوب (ليس من) نوع (الغِيبةِ المُحَرَّمةِ) أي: الممنوعةِ بنَصِّ الكتابِ والسُّنَّةِ، (بل) ذلك الجَرْحُ وبيانُ ما فيهم من العيوب (من) نوع (الذَّبِّ) والدَّفع لِمَنْ يلعبُ بالشريعة ويُرِيدُ إِفسادَها بخَلْطِ ما ليس منها فيها (عن الشريعةِ المُكَرَّمَةِ) والسُّنَّةِ المُطَهَّرةِ، والمِلَّةِ المحفوظةِ برعاية الله سبحانه وتعالى إِلى يوم القيامة.

وهذه الترجمةُ الطويلةُ -وهي ترجمة الإِمام النووي (1) وترجمة الإمام السَّنُوسي (2) - مركبةٌ من أربعة أجزاء، لكُلٍّ منها يُطلب دليل من كلام المؤلِّف رحمه الله سبحانه وتعالى.

قال المؤلِّفُ رحمه الله تعالى:

[26]

(حَدَّثنَا حَسَنُ بن الرَّبيعِ) -بفتح الراء مُكَبَّرًا- البَجَلِيُّ أبو على الكوفي البُورَانِيُّ -بضم الموحدة- الحَصَّارُ الخَشَّابُ.

روى عن مهدي بن ميمون وأبي الأحوص وأبي عَوَانة وحَمَّادِ بنِ زيدٍ وغيرِهم، ويروي عنه (خ م د) وعثمان الدارميُّ وعليٌّ البَغَويُّ و (ت س) بواسطة وغيرُهم.

قال في "التقريب": ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة عشرين أو إِحدى وعشرين ومائة.

قال: (حَدَّثنَا حَمَّادُ بن زَيدِ) بن دِرْهَم الأَزْدِي الجَهْضَمِيُّ أبو إِسماعيل البصريُّ.

قال في "التقريب": قيل: إِنه كان ضريرًا، ولعلَّه طَرَأَ عليه؛ لأنه صَحَّ أنه كان يكتب، ثقةٌ ثَبْتٌ فقيةٌ، من كبار الثامنة، مات سنة تسعٍ وسبعين ومائة، وله إِحدى وثمانون سنة، يروي عنه (ع).

(1)"شرح صحيح مسلم"(1/ 84).

(2)

"مكمل إكمال الإكمال"(1/ 23).

ص: 242

عَنْ أَيُّوبَ وَهِشَامِ، عَنْ مُحَمَّدٍ

ــ

(عن أيوبَ) بنِ أبي تَمِيمة كَيسان السَّخْتِياني العَنَزِيِّ البصريِّ الفقيه، أحدِ الأئمَّة الأعلام.

روى عن عَمْرو بن سَلِمة وأبي عثمان النَّهْدِيِّ والحَسَنِ البصريِّ وخَلْقٍ، ويروي عنه (ع) وابنُ سيرين -وهو من شيوخه- والسُّفْيَانَانِ والحَمَّادانِ وغيرُهم، قال ابنُ عُلَيَّة: كُنَّا نقولُ: عنده ألفا حديثٍ.

قال في "التقريب": ثقةٌ ثَبْتٌ حُجَّةٌ من كبار الفقهاء العُبَّاد، من الخامسة، مات سنة إِحدى وثلاثين ومائة.

(وهشامٍ) أي: ابنِ حَسَّان بالجرِّ معطوف على (أيوبَ) أي: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن زيدٍ عن أيوبَ وهشامٍ كليهما؛ أي: وعن هشامِ بنِ حسَّانَ الأزدي القُرْدُوسي -بضمِّ القاف وسكون الراء وضم الدال المهملة نسبة إِلى القَراديس بَطْنٍ من الأزد، نزلُوا البصرة كما في "اللباب"(3/ 24) - أبي عبد الله البصريِّ، أَحَدِ الأئمَّة الأعلام.

روى عن حفصة ومحمد وأنس أبناء سيرين والحَسَنِ البصريِّ وغيرِهم، ويروي عنه (ع) وعكرمةُ بن عَمَّارٍ وشُعْبةُ وزائدةُ وغيرُهم.

قال في "التقريب": ثقةٌ، من أَثْبَتِ الناسِ في ابن سيرين، وفي روايتهِ عن الحسن وعطاء مَقَالٌ؛ لأنه قيل: كان يُرسل عنهما، من السادسة، مات سنة سبع أو ثمانٍ وأربعين ومائة.

وفائدةُ هذه المقارنةِ: بيانُ كثرة طُرُقِه؛ لأنَّ الراوَيينِ ثقتان، يَصْلُحُ تَفَرُّدُ كُل منهما بالرواية.

كلاهما رويا (عن مُحَمَّدٍ) هو ابنُ سيرين الأنصاري مولاهم، أبو بكرٍ البصريُّ، أَحَدُ الأعلام، إِمامُ وقته.

روى عن مولاه أنسٍ وزيدِ بن ثابتٍ وعمرانَ بنِ حُصَيْنٍ وأبي هريرة وطائفةٍ من كبار التابعين، ويروي عنه (ع) والشَّعْبِيُّ وثابتٌ وقتادةُ وأيوبُ وغيرُهم.

قال في "التقريب": ثقةٌ ثَبْتٌ عابدٌ، من الثالثة، مات سنة عشرٍ ومائة.

وهذا الإِسنادُ من رباعياته، كُلُّهم بصريون إلا حَسَنَ بنَ الرَّبِيع؛ فإنه كوفي.

ص: 243

وَحَدَّثَنَا فُضَيلٌ عَنْ هِشَامٍ، قَال: وَحَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ حُسَينٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ

ــ

وقال حَسَنُ بن الرَّبِيع: (وحَدَّثنَا) أيضًا (فُضَيْلُ) بن عِيَاضٍ (عن هشامِ) بنِ حَسَّان القُرْدُوسي، عن محمد بن سِيرين، كما حَدَّثَنَا عنه حَمَّادُ بن زيدٍ عن محمد بن سِيرين، فهو معطوفٌ على قوله:(حَدَّثنا حَمَّادُ بن زَيدٍ).

و(قال) الحَسَنُ بن الرَّبِيع -وفي بعض النُّسَخِ إِسقاطُ (قال) -: (وحَدَّثنَا مَخْلَدُ بن حُسَينٍ عن هشام عن مُحَمَّدِ بن سِيرينَ) كَمَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن زيدٍ عن هشامٍ عن مُحَمَّدٍ، فهو معطوفٌ أيضًا على (حَدَّثَنا حَمَّادُ بن زَيدٍ)، فجملةُ مَنْ رَوَى عن هشامٍ ثلاثةٌ: حَمَّادُ بن زَيدٍ، وفُضَيلُ بن عِيَاضٍ، ومَخْلَدُ بن حُسَينٍ، وأمَّا أيوبُ: فلم يَرْو عنه إِلَّا حَمَّادُ بن زَيد.

وأمَّا فُضَيلٌ: فهو ابنُ عِيَاض بن مسعود بن بشْر التميمي اليَرْبُوعي، أبو على الخُراساني، أصلُه من خراسان، وسكن مكة، الزاهدُ المشهورُ، شيخُ الحَرَم، وأحدُ أئمَّة الهُدى والسُّنَّة.

روى عن منصورٍ والأعمشِ وسُلَيمان التَّيمِيِّ، ويروي عنه (خ م دت س) والسُّفْيانانِ وابنُ المباركِ وخلائق.

قال ابنُ المبارك: ما رأيتُ أَوْرَعَ من فُضَيل بن عِياض، وقال النَّسائيُّ: ثقة مأمونٌ، وقال ابنُ سَعْد: كان ثقةً فاضلًا نبيلًا عابدًا وَرِعًا كثيرَ الحديث.

ومِنْ كلامِه: مَنْ خاف اللهَ .. لم يَضُرَّه أَحَدٌ، ومَنْ خافَ غيرَ اللهِ .. لم يَنْفَعْه أَحَدٌ.

وقال في "التقريب": ثقةٌ عابدٌ إِمامٌ، من الثامنة، مات بمكة سنة سبعٍ وثمانين ومائة، وله ثمانون سنة.

وأمَّا مَخْلَدٌ -بفتح الميم واللام وسكون الخاء المعجمة بينهنّ-: فهو ابنُ الحُسَينِ -بالضمّ مصغرًا- الأزديُّ المُهَلبِيُّ أبو محمد البصري.

روى عن الأوزاعيّ وابنِ جُرَيجٍ وهشامِ بنِ حَسَّانَ وغيرِهم، ويروي عنه (من س) وابنُ المبارك وأبو إِسحاق الفزاري -وهما من أقرانه- والوليدُ بن مسلمٍ وطائفةٌ، وَثَّقَه العِجْلِيُّ.

ص: 244

قَال: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فانْظُرُوا عَمَّنْ تَأخُذُونَ دِينَكُمْ.

[27]

حَدَّثنا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ،

ــ

وقال في "التقريب": ثقةٌ فاضلٌ، من كبار التاسعة، مات سنة إِحدى وتسعين ومائة.

(قال) محمدُ بن سِيرين: (إِن هذا العِلْمَ) الحاضرَ بيننا، يعني علمَ الحديثِ روايةً (دِينٌ) أي: مَأخَذُ دِينِ الإِسلامِ وحُجَجُه ودلائلُه وبراهينُه ومُستنبطُه (فانْظُرُوا) وابْحَثُوا (عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينكُمْ) أي: فابْحَثُوا عن أحوال مَنْ تأخذون أدِلَّةَ دِينِكم وحُجَجَه منه هل هو ثقةٌ أم لا؟ فإنْ كان ثقةً .. فخُذُوا عنه، وإِلَّا .. فاطْرَحُوه وارْمُوه بالجدار واجعلوه وراءكم ظِهْرِيًّا؛ لأن هذا الدِّينَ أمانةٌ، والأمانةُ إِنما تُؤْخَذُ من أهلها.

وغَرَضُ المؤلِّفِ بذِكْر هذا الأَثَرِ: الاستدلالُ على أَنَّ الروايةَ لا تكون إلا من الثِّقات (1).

ثم ذَكَرَ المؤلِّفُ رحمه الله تعالى المتابعةَ في أثرِ ابنِ سيرين فقال:

[27]

(حَدَّثنَا أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بن الصَّباحِ) الدُّولابيُّ مولدًا، الرازيُّ مسكنًا، ثم البغداديُّ البَزَّاز، صاحبُ السُّنَن.

روى عن شَرِيك وأبي الأحوص وابن المبارك وهُشَيم وغيرِهم، ويروي عنه (ع) وأحمدُ وابنُ مَعِين، ووَثَّقَه هو والعِجْلِيُّ.

وقال في "التقريب": ثقةٌ حافظٌ، من العاشرة، مات سنة سبعٍ وعشرين ومائتين.

قال: (حَدَّثنَا إِسماعيلُ بن زكرياءَ) بن مُرَّة الخُلْقَاني -بضمِّ الخاء المعجمة وفتح القاف بعد اللام الساكنة وآخره نون، نسبة إِلى بيع الخُلْقان جَمْع خَلَق من الثياب

(1) وهذا الأثر أخرجه الترمذي في آخر كتاب الشمائل (ص 198) حديث رقم (397) عن محمد بن علي بن الحَسَن بن شَقِيق، عن النَّضْر بن شُمَيل، عن ابن عَوْن، عن ابن سيرين بلفظ:(هذا الحديثُ دِينٌ، فانظروا عَمَّنْ تأخذون دِينَكم).

ص: 245

عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَال: لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلونَ عَنِ الإِسْنَادِ،

ــ

وغيرها كما في "الأنساب"(5/ 179) - الأسدي الكوفي أبو زياد، لَقَبُه: شَقُوصا بفتح المعجمة وضم القاف الخفيفة وبالمهملة.

روى عن عاصم الأحول ومحمد بن سُوقة وعُبَيد الله بن عُمر، ويروي عنه (ع) ومحمد بن الصبَّاح وأبو الرَّبيعِ الزَّهْراني، وقال أحمد: ما به بأس.

وقال في "التقريب": صدوقٌ يُخطِئُ قليلًا، من الثامنة، مات سنة أربع وتسعين ومائة، وقيل: قبلها.

(عن عاصمِ) بنِ سُلَيمانَ (الأحولِ) أبي عبد الرحمن البصري التميمي مولاهم، الحافظ.

روى عن أنس وعبد الله بن سَرْجِس والشَّعْبي وأبي عثمان النَّهْدِيّ وخَلْقٍ، ويروي عنه (ع) وقتادة وحَمَّاد بن زَيد وإسماعيل بن زكرياء وغيرُهم، قال ابنُ المَدِيني: له نحو مئةٍ وخمسين حديثًا، وَوَثَّقَه ابنُ مَعِين وأبو زُرْعة، قال أحمدُ: ثقةٌ من الحُفَّاظ.

وقال ابنُ سَعْد: مات سنة إِحدى أو اثنتين وأربعين ومائة.

وقال في "التقريب": ثقةٌ، من الرابعة، لم يَتكَلَّمْ فيه إِلا القطَّان، وكأنه بسبب دخوله في الولاية.

(عن) محمدِ (ابن سيرين) الأنصاري مولاهم، الحافظ البصري، تقدَّمت ترجمتهُ آنفًا.

وهذا السَّنَدُ من رباعياته، وفيه روايةُ بغدادي عن كوفي عن بصري عن بصري، ومن لطائفه: أَنَّ فيه روايةَ تابعيٍّ عن تابعي، وبصريٍّ عن بصري، وغَرَضُه بسَوْقِ هذا السند: بيانُ متابعة عاصمٍ الأحول لهشامٍ وأيوبَ في رواية هذا الأَثَرِ عن محمد بن سيرين، وأمَّا تكرار مَتْنِه: فلِمَا في الرواية الثانية من المخالفة للرواية الأُولى في مُعْظَم الألفاظ، فلا اعتراضَ على المؤلِّف في تكرار هذا الأَثَرِ مَتْنًا وسَنَدًا؛ لأنه كان لغَرَض.

(قال) مُحَمَّدُ بن سيرين: (لم يكونوا) أي: لم يَكُن السَّلَفُ الصالحُ من الصحابة والتابعين (يسألون) وَيبْحَثُون (عن الإسنادِ) أي: عن إِسنادِ الحديثِ

ص: 246

فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ .. قَالُوا: سَمُّوا لنا رِجَالكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَمؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وينْظَرُ إِلَن أَهْلِ الْبِدَعِ

ــ

ويُفَتِّشُون عن رجالهِ ورُواتِه هل هم من الثقات أم من الضعفاء؟ فيقبلون الحديثَ عَمَّن رواه، ولا يقولون له: مَنْ رواه لك؟ حتى كَثُرَت البدعةُ وانتشر أهلُها من الروافضِ والشِّيعةِ ومن المُرْجئة والقَدَرِيَّة.

وعبارةُ القرطبي هنا: (قولُه: "لم يَكُونُوا يَسْأَلُون عن الإِسْنَادِ" يعني بذلك: مَنْ أَدْرَكَ من الصحابةِ وكُبراء التابعين.

أمَّا الصحابةُ: فلا فَرْقَ بين إِسنادِهم وإِرسالِهم؛ إِذِ الكُلُّ عُدُولٌ على مذهب أهل الحقّ، كما أوضحناه في الأُصول، وكذلك كُلُّ مَنْ خَالفَ في قَبُولِ مراسيلِ غيرِ الصحابةِ .. وَافَقَ على قبول مراسيل الصحابة.

وأمَّا كُبَراءُ التابعين ومُتَقَدِّمُوهم: فالظاهرُ مِنْ حالهم أنهم يُحَدِّثُون عن الصحابة إِذا أرسلوا .. فتُقْبَلُ مراسيلُهم، ولا ينبغي أنْ يُخْتَلَفَ فيها؛ لأن المسكوت عنه صحابيٌّ، وهم عُدُولٌ، وهؤلاء التابعون هُمْ كعُرْوةَ بنِ الزُّبَيرِ وسعيدِ بنِ المُسَيّب ونافعٍ مولى ابنِ عُمَرَ ومحمدِ بنِ سيرين وغيرِهم ممَّنْ هو في طبقتهم.

وأمَّا مَنْ تأَخَّرَ عنهم ممَّن حَدَّثَ عن مُتَأخّري الصحابة وعن التابعين .. فذلك مَحَلُّ الخلاف، والصوابُ: قبولُ المراسيلِ إِذا كان المُرْسِلُ مشهورَ المَذْهَب في الجَرْح والتعديل، وكان لا يُحَدِّثُ إلا عن العُدُولِ كما أوضحناه في الأُصول) اهـ (1).

(فلَمَّا وَقَعَتِ الفتنةُ) وانتشرت البدعةُ وكَثُرَ أهلُها ( .. قالوا) أي: السَّلَفُ الصالحُ مِنْ أهلِ السُّنَّة لكُلِّ مَنْ يروي لهم الحديثَ: (سَمُّوا لنا رِجَالكُمْ) أي: اذْكُرُوا لنا أسماءَ رِجالِكم الذين حَدَّثُوكم هذا الحديثَ وأخذتموه منهم؛ لنَعْرِفَ هل هم من الثِّقاتِ فنأخذَ حديثَهم؟ أو من الضُّعفاءِ فلا نَغْتَرَّ بحديثِهم؟ وهذا معنى قوله: (فيُنْظَرُ إلى) أنهم مِنْ (أهلِ السُّنَّة) والجماعةِ (فيُؤْخَذُ) ويُقْبَلُ حينئذٍ (حديثُهم) ويُعْمَلُ به، (وينْظَرُ إلى) أَنَّهم مِنْ (أهلِ البِدَعِ) والضَّلالةِ من الروافضِ والشِّيعةِ، جَمْعُ بِدْعَةٍ،

(1)"المفهم"(1/ 122).

ص: 247

فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ.

[28]

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ،

ــ

وهي لُغةً: كُلُّ ما ابْتُدِعَ واخْتُرعَ على غيرِ مثالٍ سابق، واصطلاحًا: كُلُّ ما اسْتُحْدِثَ بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبعد الخلفاءِ الراشدين في أمورِ الدِّين، ممَّا لا يَنْطَبِقُ عليه قواعدُ الشَّرْعِ وأَدِلَّته، (فـ) ـإنْ كانوا من أهل البدَع والخُرافات فـ (ـلا يُؤْخَذُ حديثُهم) أي: لا يُقْبَلُ منهم ولا يُعْمَلُ به في حُكْمٍ من الأحكام الشرعية؛ لأنهم ليسوا من أهل الحديث، لعدم أمانتهم وثقَتِهم فيما حَدَّثُوه (1).

وعبارةُ "المفهم" هنا (1/ 122 - 123): (قوله: "فلمَّا وَقَعَتِ الفتنةُ .. قالوا: سَمُّوا لنا رِجالكم" هذه الفتنةُ يعني بها -واللهُ أعلمُ- فتنةَ قَتْلِ عثمان وفتنةَ خُروجِ الخَوَارِجِ على عليٍّ ومعاوية؛ فإنهم كَفَّرُوهما حتى استحلُّوا الدماءَ والأموال، وقد اختُلف في تكفير هؤلاء، ولا يُشَكُّ في أَنَّ مَنْ كَفَّرَهم .. لم يَقْبَلْ حديثَهم، ومَنْ لم يُكَفِّرْهم .. اختلَفوا في قبول حديثِهم، كما بيَّناه فيما تقدَّم.

فيعني بذلك -والله أعلمُ- أَنَّ قتَلَةَ عُثمان والخوارجَ لمَّا كانوا فُسَّاقًا قَطْعًا واخْتَلَطَتْ أخبارُهم بأخبارِ مَنْ لم يكن منهم .. وَجَبَ أنْ يُبْحَثَ عن أخبارِهم فتُرَدّ، وعن أخبارِ غيرِهم ممَّنْ ليس منهم فتُقبل، ثم يجري الحُكْمُ من غيرهم من أهل البدَع كذلك، ولا يَظُنُّ أحَدٌ له فَهْمٌ أنه يعني بـ (الفتنة) فتنة عليّ وعائشة ومعاوية؛ إِذ لا يَصِحُّ أن يُقال في أَحَدٍ منهم: مُبْتَدِعٌ ولا فاسقٌ، بل كُل منهم مُجْتَهِدٌ عَمِلَ على حَسَبِ ظَنِّه، وهُمْ في ذلك على ما أجمع عليه المسلمون في المجتهدين من القاعدة المعلومة، وهي: أَنَّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ ماجورٌ غيرُ مأثوم، على ما مَهَّدْناه في الأصول) اهـ

ثم استشهد المؤلِّفُ رحمه الله تعالى لأَثَرِ ابن سيرين بأَثَرِ طاوس رحمهما الله تعالى فقال:

[28]

(حَدَّثنَا إسحاقُ بن إبراهيمَ) بنِ مَخْلَدٍ (2)(الحَنْظَلِيُّ) أبو يعقوب بن رَاهُويَه (3)

(1) انظر "إِكمال المعلم"(1/ 125).

(2)

مَخْلَد: بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح اللام، وبعدها دالٌ مهملة.

(3)

رَاهْوَيهْ: بفتح الراء وبعد الألف هاء ساكنة، ثم واو مفتوحة وبعدها ياء مثنّاة من تحتها ساكنة =

ص: 248

أَخْبَرَنَا عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ-

ــ

المَرْوَزِيّ، الإِمام الفقيه الحافظ عالِمُ خُراسان، واشْتَهَرَ بـ (ابن رَاهُوْيَه) ومعناه: المولودُ في الطريق؛ لأنَّ أباه وُلدَ في طريق مكة.

قال الخَفَّافُ: أَمْلَى علينا أَحدَ عَشَرَ ألفَ حديثٍ من حِفْظه، ثم قرأها -يعني من كتابه- فما زَادَ ولا نَقَصَ.

روى عن مُعْتَمِرِ بنِ سُلَيمان والدَّرَاوَرْدِيِّ وابنِ عُيَينَةَ وغيرِهم من أهل الحِجاز والشام والعراق وخُراسان، ويروي عنه (خ م د ت س)، وقال النَّسائيُّ ثقةٌ مأمونٌ أحدُ الأئمَّةِ الأعلام، وقال أحمدُ: لا أعلمُ لإِسحاقَ نظيرًا، إِسحاقُ عندنا من أئمَّة المسلمين، وإذا حَدَّثَك أبو يعقوب أميرُ المؤمنين .. فتَمَسَّكْ به.

وقال في "التقريب": ثقةٌ حافظٌ مجتهدٌ قَرِينُ أحمد بن حنبل، ذَكَرَ أبو داود أنه تَغَيَّرَ قبل موته بيسير، مات سنة ثمانٍ وثلاثين ومائتين، وله سبعٌ وسبعون سنة.

قال إِسحاقُ بن إِبراهيم: (أخبرنا عيسى) بلا ذِكْر نِسْبَتِه، ثم قال الإِمامُ مسلمٌ المؤلِّفُ:(وهو) أي: عيسى الذي أَخْبَرَ لنا عنه إِسحاقُ هو: عيسى (ابنُ يونسَ) ابنِ أبي إِسحاق السَّبيعي بفتح المهملة وكسر الموحدة أخو إِسرائيل أبو عَمْرٍو الكوفيُّ، أحدُ الأئمَّة الأعلامَ.

= وبعدها هاء ساكنة، لَقَبُ أبيه أبي الحَسَن إِبراهيم، وإِنما لُقِّبَ بذلك لأنه وُلِدَ في طريق مكة، والطريقُ بالفارسية (راه)، و (ويه) معناه: وُجدَ، فكأنه وُجدَ في الطريق.

وقيل فيه أيضًا: "راهُويه" بضمِّ الهاء وسكوَن الواو وفتحَ الياء.

وقال إِسحاق المذكور -يعني ابنَ راهوبه-: قال لي عبدُ اللهِ بن طاهر أميرُ خراسان: لِمَ قيل لك ابن راهويه؟ وما معنى هذا؟ وهل تكرهُ أن يُقال لك هذا؟ قلتُ: اعْلَمْ أيُها الأميرُ: أَنَّ أبي وُلدَ في الطريق فقالت المراوزةُ: (راهويه) لأنه وُلدَ في الطريق، وكان أبي يَكْرَهُ هذا، وأمَّا أنا فلستُ أكرهُ ذلك "وفيات الأعيان"(1/ 200).

وقال الإِمام النووي في ترجمة (أبي عُبَيد بن حربويه) ما يلي: (وحَرْبَوَيه: بحاء مهملة مفتوحة، ثم راء ساكنة، ثم باء موحدة ثم واو مفتوحتين، ثم ياء ساكنة، ثم هاء، ويُقال بضمِّ الباء مع إِسكان الواو وفتح الياء. ويجري هذان الوجهان في كُل نظائرِه كسيبويه وراهويه ونفطويه وعمرويه، فالأولُ مذهبُ النحويين وأهلِ الأدب، والثاني مذهبُ المحدِّثين).

"تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 258).

ص: 249

حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ،

ــ

أَتَى المؤلِّفُ بـ (هُوَ) إِشعارًا بأنَّ هذه النِّسْبَةَ لم يَسْمَعْها من شيخِه إِسحاقَ، بل إِنما أَتَى بها من عند نفسِه إِيضاحًا للراوي، وتَوَرُّعًا من الكذب على شيخه، كما مَرَّ في مبحث (يعني).

روى عيسى عن أبيه وأخيه إِسرائيل، وإسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ وخَلْقٍ، ويروي عنه (ع) وحَمَّادُ بن سلمة -وهو أكبرُ منه- وابنُ وَهْبِ وابنُ المَدِيني وعليُّ بن حُجْر، وَثَّقَه أبو حاتم، وقال ابنُ المَدِيني: بخ بخ ثقةٌ مأمونٌ.

جاء يومًا إِلى ابن عُيَينة فقال: مرحبًا بالفقيهِ ابنِ الفقيه ابنِ الفقيه.

وقال في "التقريب": ثقة مأمونٌ، من الثامنة، مات سنة إِحدى وتسعين ومائة، وقيل: سنة سبعٍ وثمانين ومائة.

قال: (حَدَّثنَا) عبدُ الرحمنِ بن عَمْرٍو (الأوزاعيُّ) أبو عَمْرٍو الشاميُّ، الإمام العلم الفقيه، قال النوويُّ: (إِمامُ أهلِ الشام في زمانه بلا مُدافعة ولا مُخالفة، كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس - الفاء أخت القاف- ثم تَحَوَّلَ إِلى بيروت فسَكَنَها مُرابطًا إِلى أن مات بها.

وقد انعقد الإجماعُ على إِمامتِه وجلالتِه وعُلُوِّ مرتبته وكمالِ فضيلته، وأقاويلُ السلف كثيرةٌ مشهورةٌ في وَرَعِه وزُهْدِه وعبادتهِ، وقيامِه بالحقّ، وكثرةِ حديثهِ وفقْهِه وفصاحتهِ واتباعه للسُّنَّة، وإِجلالِ أعيان أئمّة زمانه من جميع الأقطارِ له، واعترافِهم بمَزِيَّتِه، ورُوِّينا من غيرِ وَجْهٍ أنه أفتى في سبعين ألفَ مسألة.

رَوَى عن كبار التابعين عطاءٍ وابنِ سيرين وقتادةَ ونافعٍ وخَلقٍ، ويروي عنه "ع" ويحيى بن أبي كثيرٍ وقتادةُ والزُّهرِيُّ وهُمْ من مشايخه، وهُمْ من التابعين وليس هو من التابعين، وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر) اهـ (1).

وقال في "التقريب": ثقةٌ جليلٌ، من السابعة، وقال ابنُ سَعْد: كان ثقةً مأمونًا فاضلًا، كثيرَ الحديثِ والعلمِ والفِقْه، وقال إِسحاقُ: إِذا اجتمعَ الأوزاغيُّ والثوريُّ ومالكٌ على الأَمْرِ .. فهو سُنَّة. مات في الحَمَّام سنة سبع وخمسين ومائة.

(1)"شرح صحيح مسلم"(1/ 85).

ص: 250

عَنْ سُلَيمَانَ بْنِ مُوسَى قَال: لَقِيتُ طَاوُوسًا فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي فُلان كَيتَ وَكَيتَ، قَال: إِنْ كَانَ صَاحِبُكَ مَلِيًّا

ــ

قال النوويُّ: (واخْتَلَفُوا في الأوْزاع التي نُسِبَ إِليها، فقيل: بَطْن مِن حِمْيَر، وقيل: قريةٌ كانتْ عند باب الفراديس من دمشق، وقيل: من أَوْزَاعِ القبائل؛ أي: فِرَقِهم وبقايا مجتمعة من قبائل شَتى.

وقال أبو زُرْعة الدمشقي: كان اسمُ الأوزاعي عبدَ العزيزِ فسَمى نفسَه عبدَ الرحمن، وكان ينزل الأوزاعَ فغَلَبَ عليه ذلك، وقال مُحَمدُ بن سَعْد: الأوزاع بَطنٌ من هَمْدان، والأوزاعي من أنفسهم، والله أعلم) اهـ (1).

(عن سُلَيمَانَ بنِ موسى) الأموي أبي أيوب الدمشقي الأَشْدَق، أحدِ الأئمة.

روى عن جابرٍ مرسلا وطاوسِ وعطاءِ وكُرَيب وغيرِهم، ويروي عنه (من عم) وابنُ جُرَيجِ والأوزاعي وخَلْق.

وقال في "التقريب": صدوقٌ فقيهٌ، في حديثه بعض لين وخَلَّط قبل موته بقليل، من الخامسة، وقال ابنُ سَعْدٍ: مات سنة تسع عشرة ومائة.

(قال) سُلَيمانُ: (لَقِيتُ) أنا ورأيتُ (طاوسًا) هو ابنُ كَيسان اليماني الحِمْيَرِيُّ مولاهم الفارسي من الثالثة، مات سنة ست ومائة، (فقلتُ) لطاوسٍ:(حَدَّثَنِي فلانٌ) كنايةً عن رجلٍ مُبْهَمٍ (كَيتَ وكَيتَ) اسم مُبْهَمٌ بمعنى كذا وكذا في محل النصبِ مفعولٌ ثانٍ لحدثني مبني على فتح الجزأين؛ لتركبه تركيب خمسة عشر، (وهما بفتحِ التاء وكسرِها لُغَتان نَقَلَهما الجوهري في "صحاحه" عن أبي عبيدة)(2).

(قال) لي طاوسٌ: (إنْ كان صَاحِبك) أي: راويك ومُحَدِّثُك الذي حَدثَكَ الحديثَ (مَلِيًّا)(3) أي: غَنِيًّا في الحديث، قال النووي: (يعني ثقةَ ضابطًا مُتْقِنًا،

(1) المصدر السابق.

(2)

"شرح صحيح مسلم"(1/ 85).

(3)

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (والمَلِئُ بالهمز: مأخوذٌ من المَلاء، يُقال: مَلُؤَ الرجلُ بضم اللام؛ أي: صارَ مليئًا، وقال الكرماني: المَلِي كالغَنِي لفظًا ومعنى، فاقتضى =

ص: 251

فَخُذْ عَنْهُ.

[29]

وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ -يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّد الدِّمَشْقِيَّ-

ــ

يُوثَقُ بدِينهِ ومعرفتهِ، ويُعْتَمَدُ عليه في الحديث كما يُعْتَمَدُ على المَلِيِّ بالمال في معاملتهِ على ما في الذِّمَّةِ ثقةً بذِمتِه) (1) ( .. فخُذْ عنه) أي: فاقْبَلْ منه حديثَه وارْو عنه؛ لأنه كان من أهل الحديث ومِنْ حَمَلَتِه فَيُرْوَى عنه، وإِلا .. فَارْمِ حديثَه وراءَك ظِهْرِيًّا.

وغَرَضُ المؤلفِ بسَوْقِ هذا الأثرِ: الاستشهادُ به لأثرِ ابنِ سيرين الذي اسْتَدَل به أولًا، وهذا السنَدُ من خُماسياته، ومن لطائفه: أَن فيه روايةَ مروزي، عن كوفي، عن شامي، عن دمشقي، عن يماني، ورجالُه كُلهم ثقاتٌ، إِلَّا سُلَيمان بن موسى، فإنه صَدُوق.

ثم ذكر المؤلِّفُ رحمه الله تعالى المتابعةَ في أثَرِ طاوسٍ فقال:

[29]

(وَحَدَّثنا عبدُ الله بن عبد الرحمنِ) بنِ الفَضْلِ بنِ مِهْران أو بَهْرَام (الدَّارِمي) نسبة إلى دارم بن مالك بن حنظلة أحدِ أجداده، أبو محمد السمرقندي الحافظ، أحد الأئمة الأعلام، وصاحب "المسند" و"التفسير" و"الجامع".

روى عن يَزِيد بن هارون، ومروان بن محمد الدمشقي، ويعلي بن عبيد، وجعفر بن عون وجماعة، ويروي عنه (م د ت) والبخاريّ في غير الصحيح، إمام أهل زمانه.

وقال في "التقريب": ثقةٌ فاضلٌ متقِنٌ، من الحادية عشرة، مات سنة خمس وخمسين ومائتين، وله أربع وسبعون سنة.

قال: (أخبرنا مروان) قال الإمامُ مسلمٌ: (يعني) أي: يَقْصِدُ شيخي عبدُ الله حين قال لنا: (أخبرنا مروانُ) مروانَ (بنَ مُحَمَّدِ) بنِ حَسَّان (الدمشقيَّ) الطَاطَري بمهملتين مفتوحتين -قال الطبراني: كُل مَنْ يبيعُ الكرابيسَ بدمشق، يُقال له: الطاطَري- أبو بكرٍ الأسدي.

= أنه بغير همز، وليس كذلك؛ فقد قال الخطابي: إنه في الأصل بالهمز، ومَن رواه بتَركِها .. فقد سَهَّلَه). "فتح الباري"(4/ 465).

(1)

"شرح صحيح مسلم"(1/ 85).

ص: 252

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سُلَيمَانَ بْنِ مُوسَى قَال: قُلْتُ لِطَاوُسٍ: إِنَّ فُلانًا حَدَّثَنِي بِكَذَا وَكَذَا، قَال: إِنْ كَانَ صَاحِبُكَ مَلِيًّا .. فَخُذْ عَنْهُ

ــ

روى عن سعيد بنِ عبد العزيز ومالكٍ والليث وسُلَيمانَ بنِ بلالٍ وسعيدِ بن بشير وغيرِهم، ويروي عنه (م عم) وسلمةُ بن شَبيبٍ وغيرُهم، وثَّقَهُ أبو حاتم.

وقال في "التقريب": ثقة، من التاسعة، قال البُخَارِيُّ: مات سنة عشرٍ ومائتين.

(حَدَّثنَا سعيدُ بن عبد العزيزِ) التَّنُوخي أبو محمد الدمشقي.

روى عن مكحولٍ ونافعٍ والزهْرِي وخَلْقٍ، ويروي عنه (م عم) وشُعْبةُ والثوْرِيُّ وكلاهما من أقرانه وخَلْق، وثقَهُ ابنُ مَعِين وأبو حاتم والنسائي، وقال الحاكم: هو لأهل الشام كمالكٍ لأهل المدينة.

وقال في "التقريب": ثقةٌ إمام، سواهُ أحمدُ بالأوزاعي، وقَدمَه أبو مُسْهِرٍ، لكنه اخْتَلَط في آخر عمره، من السابعة، مات سنة سبعٍ وستين ومائة، وقيل: بعدها.

(عن سلَيمَانَ بنِ موسى) الأموي الدمشقي، (قال) سُلَيمَانُ بن موسى:(قلتُ لطاوسِ) بنِ كَيسَان اليَمَانِي الحِمْيَرِي مولاهم، الفارسى، وهذا السنَدُ من خُماسياته: ثلاثة منهم دمشقيون، وواحدٌ سمرقندي، وواحدٌ يماني، وغَرَضُه بسَوْقِ هذا السَّنَدِ: بيانُ متابعةِ سعيد بن عبد العزيز للأوزاعي في رواية هذا الأثرِ عن سُلَيمان بن موسى، وكررَ مَتْنَ الأثر لما في الرواية الثانية من المخالفة للرواية الأُولى في بعض الكلمات، فلا اعْتِرَاضَ على المؤلف في تَكْرَارِهِ الأثرَ مَتْنًا وَسَنَدًا؛ لما فيه من الغَرَضِ.

(إن فُلانا) كناية عن رجلٍ مُبْهَم (حَدَّثَني بـ) حديثِ (كذا وكذا) كناية عن لفظِ الحديثِ المُبْهَمِ (قال) طاوسٌ: (إنْ كان صاحِبُكَ) الذي حَدثَكَ (مَلِيًّا) أي: غَنِيًّا في الحديث، بأن كان ثِقةً حافظًا مُتْقِنًا ( .. فَخُذْ عنه) أي: فاقْبَلْ منه حديثَه الذي رواه، وارْو عنه؛ فإنه حديث صحيح، وإلا .. فارْمِ [به] وراءَك ظِهْرِيًا.

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثانيا لأثَرِ ابن سيرين بأثَرِ أبي الزناد فقال:

ص: 253

[30]

حَدثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِي الْجَهْضَمِي، حَدثَنَا الأَصْمَعِي،

ــ

[30]

(حَدَّثَنا نَصْرُ بن عَلِي) بن نَصْر بن علي بن صُهْبان -بضم المهملة وسكون الهاء- الأزدي (الجَهْضَمِي) قال النووي: (بفتح الجيمِ وسكون الهاءِ وفتح الضاد المعجمة، قال السَّمْعَاني في كتابه "الأنساب" (3/ 435 - 436): هذه النسَبةُ إلى الجهاضمة وهي محلة بالبصرة.

وكان من العلماء المُتْقِنين، وكان المستعينُ باللهِ بَعَث إليه ليُشخصه للقضاء، فدعاه أميرُ البصرة لذلك فقال: أرجعُ فأستخيرُ اللهَ تعالى، فرَجَعَ إلى بيته نصفَ النهار فَصَلَّى ركعتين، وقال: اللهمّ إنْ كان لي عندك خير فاقْبِضْني إليك، فنام، فأنْبَهُوهُ .. فإذا هو ميتٌ، وكان ذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمسين ومائتين) اهـ (1).

وهو أحَدُ أئمة البصرة.

روى عن المُعْتَمِر وَيزِيدَ بنِ زُريعٍ وابنِ عُيَينَةَ وَوَكِيعٍ وغيرِهم، ويروي عنه (ع) وأبو زُرْعة وأبو حاتم وغيرُهم.

وقال في "التقريب": ثقة ثَبْتٌ، من العاشرة، مات سنة خمسين ومائتين أو بعدها.

قال: (حَدثنَا) عبدُ الملكِ بن قُرَيب -مصغرًا- ابن عبد الملك بن علي بن أصْمَع الباهلي (الأصمعي) منسوب إلى الجد المذكور أبو سعيد البصري، أحدُ الأئمة الأعلام.

روى عنِ أبي عَمْرو بنِ العلاء ومِسْعَرٍ ومالكٍ وخلائقَ، ويروي عنه (مق دت) وابنُ مَعِينٍ ونصْرُ بن علي وعُمر بن شَبَّةَ وخَلْق، وثقَهُ ابنُ مَعِين.

وقال في "التقريب": صدوق سُني، من التاسعة، مات سنة ست عشرة ومائتين.

قال النووي: (وكان الأصْمَعِيُّ من ثِقَاتِ الرُّواة ومُتْقِنِيهم، وكان جامعًا للّغة والغريب والنحو والأخبار والمُلَح والنوادر، قال الشافعيُّ رحمه الله تعالى: ما رأيتُ

(1)"شرح صحيح مسلم"(1/ 86).

ص: 254

عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبيهِ

ــ

بذلك العسكر أصْدَقَ لهجة من الأصمعي، وقال الشافعيُّ أيضًا: ما عَبَّرَ أحَدٌ من العرب بأحْسَنَ من عبارة الأصمعي، ورُوِّينا عن الأصمعي قال: أحْفَظُ سِت عشرةَ ألفَ أرجوزةٍ) (1).

(عن) عبد الرحمن (ابنِ أبي الزنادِ) عبد الله بن ذَكْوان القُرَشِي الأموي مولاهم، أبي محمد المدني، ولأبي الزناد ثلاثةُ بنين يَرْوُون عنه: عبدُ الرحمنِ هذا، وقاسم، وأبو القاسم.

روى عن أبيه وزَيدِ بنِ عَلِيٍّ وشُرَحْبِيلَ بنِ سَعْدٍ وغيرِهم، ويروي عنه (من عم) وابنُ جُرَيجٍ وابنُ وَهْبٍ وسعيدُ بن منصورٍ وخَلْق، وقال ابنُ مَعِين: ما حدثَ بالمدينة صحيح (2).

وقال في "التقريب": صدوقٌ، من السابعة، ولما قَدِمَ بغدادَ تَغَيَّرَ حِفْظُه، وكان فقيهًا، مات سنة أربعٍ وسبعين ومائة.

(عن أبيه) عبد الله بنِ ذَكْوان أبي عبد الرحمن المُلَقَّبِ بأبي الرناد بكسر الزاي.

قال النووي: (وكان يَكْرَهُ هذا اللَّقبَ، واشْتَهَرَ به (3)، القرشي الأموي

(1)"شرح صحيح مسلم"(1/ 86).

(2)

قلتُ: هكذا عزا الشارح هذا القول إلى ابن معين تبعًا للخزرجي في "الخلاصة"، والصوابُ أنه من قول ابن المَديني؛ فقد قال عبد الله بن علي بن المَدِيني عن أبيه: ما حدَّثَ بالمدينة .. فهو صحيح، وما حَدَّثَ ببغداد .. أفسده البغداديون.

ورأيتُ عبد الرحمن -يعني ابنَ مهدي- خطط على أحاديث عبد الرحمن بن أبي الزناد.

انظر "تاريخ بغداد"(10/ 229) و "تهذيب الكمال"(17/ 99)، والله تعالى أعلم.

(3)

ذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى قاعدة مختصرة في ذِكر أصحاب الألقاب فقال: (قال العلماءُ من أصحاب الحديث والفقه وغيرهم: يجوزُ ذكْرُ الراوي بلَقَبِهِ وصِفَتِهِ ونَسَبه الذي يكرهه إذا كان المرادُ تعريفه لا تنقيصَه، وجُوِّزَ هذا للحاجة كما جُوِّزَ جَرْحُهم للحاجة، ومثال ذلك: الأعمش والأعرج والأحول والأعمى والأصم والأشل والأثرم والرمِن والمفلوج وابن عُلَيَّة وغير ذلك، وقد صُنِّفت فيه كتب معروفة). "شرح صحيح مسلم"(1/ 53).

وقال الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(9/ 108) في ترجمة (إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم البصري) المشهور بابنِ عُليَّة وهي أُمه، ما نصه: (وكان يقول: مَنْ قال: =

ص: 255

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مولاهم، المدني، وكان الثوْرِي يُسَمِّي أبا الزنادِ أميرَ المؤمنين في الحديث، قال البخاري: أصَحُّ أسانيد أبي هريرة: أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وقال مصعبٌ: كان أبو الزِّناد فقيهَ أهلِ المدينة) اهـ (1).

وأبوه ذكوان هو أخو أبي لؤلؤة قاتل عُمر رضي الله عنه.

روى عن أنسٍ وابنِ عُمَرَ وعُمَرَ بنِ أبي سلمة مرسلا، وعن الأعرج فأكْثَرَ، وابنِ المُسَيب وطائفةٍ، ويروي عنه (ع) وموسى بن عقبة وعُبَيدُ الله بن عُمَرَ ومالكٌ والليثُ والسفْيانانِ وخلقٌ.

= ابن عُلَيَّة .. فقد اغتابني). قلتُ: هذا سُوءُ خُلُق، رحمه الله، شيءٌ قد غَلَبَ عليه، فما الحيلة؟ قد دعا النبي صلى الله عليه وسلم غيرَ واحدٍ من الصحابة بأسمائهم مُضَافًا إلى الأُم، كالزبير: ابن صَفيَّة، وعمار: ابن سُمَيَّة).

وقال العلَّامة الشوكاني في آخر "رفع الريبة عما يجوزُ وما لا يجوزُ من الغِيبة" في الصورة السادسة وهي التعريف بالألقاب، ما يلي:

(فإنْ قلتَ: فإنْ كان صاحبُ اللقب لا يُعْرَفُ إلا به، ولا يُعْرَفُ بغيرِه أصلًا .. قلتُ: إذا بَلَغَ الأمرُ إلى هذه النهاية، ووصَلَ البحَثُ إلى هذه الغاية .. لم يكن ذلك اللقبُ لقبًا، بل هو الاسمُ الذي يُعرف به صاحبُه؛ إذْ لا يُعرف باسم سواه قط، والتسمية للإنسان باسم يُعرف به لا سيما مَنْ كان من رُواة العلم الحاملين المبلغين ما عندهم منه إلى الناس أمرٌ تدعو إليه الحاجة، وإلا .. بَطَل ما يرويه من العلم، خصوصًا ما كان قد تَفَردَ به ولم يُشاركه فيه غيرُه، وعلى هذا يُحمل ما وَقَعَ في المصنفات من ذِكْر الألقاب؛ فإن أهلها وإنْ كان لهم أسماءٌ ولآبائهم ولأجدادهم .. فغيرُهم يشاركهم فيها، فقد يتفق اسمُ الرجل مع اسم الرجل، واسمُ أبيه مع اسم أبيه، واسمُ جده مع اسم جده، فلا يمتازُ أحدهما عن الآخر في كثير من الحالاتِ إلا بذِكْر الألقاب ونحوها، وحينئذ لم يبْقَ لتلك الأسماء فائدة؛ لأن المقصود منها أن يتميز بها صاحبُها عن غيره، ولم يحصل هذا الذي هو المقصودُ بها، بل إنما حصل من اللقب، فكان هو الاسمَ المميز في الحقيقة، فلم يكن ذلك من التنابز بالألقاب، فاعْرِفْ هذا وتدَبَّرْه؛ فإنه نفيس، وبه يَنْدَفع ما تَقدَّم من إيرادِ ما جَرَى عليه عملُ أئمة الرواية، وهكذا يرتفعُ الإشكالُ عن القارئ لتلك الكتب، فلا يُقال له: إنه ينبزُ بالألقاب ويغتابُ أهلها بقراءتها في كتب السُّنَّة). "الرسائل السلفية"(ص 57 - 58).

(1)

"شرح صحيح مسلم"(1/ 86).

ص: 256

قَال: أَدْرَكْتُ بِالْمَدِينَةِ مِئَةً كُلُّهُمْ مَأمُونٌ مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الْحَدِيثُ، يُقَالُ: لَيسَ مِنْ أَهْلِهِ

ــ

قال أحمدُ: ثِقةٌ، كان سفيان يُسمِّيه أمير المؤمنين في الحديث، وقال الليثُ: رأيتُ أبا الزِّنادِ وخَلْفَهُ ثلاثُ مئةِ طالب.

وقال في "التقريب": ثقة فقيه، من الخامسة، مات فجاةً سنةَ ثلاثين ومائة، وقيل: بعدها.

وَغَرَضُ المؤلِّفِ بسَوْق هذا الأثَرِ: الاستشهادُ لأثَرِ ابنِ سيرين كما مَر آنفًا، وهذا الإسنادُ من رباعياته، وفيه رواية بصريينِ عن مدنيين.

(قال) أبو الزِّنادِ: (أدْرَكْتُ بالمدينةِ) المُنَوَّرَةِ (مئةً) من الصالحين (كُلُّهم مأمون) أي: موصوف بالأمانة في دينهِ ودُنْياه ومع ذلك (ما يُؤخَذُ) ولا يُرْوَى (عنهم الحديثُ) النبويُّ (يُقالُ) في سبب ذلك: إن كُلَّهم (ليس من أهلِهِ) أي: من أهل الحديث؛ أي: ليسوا من الثقات الحفاظ المُتْقِنين، فأمانتُهم وصلاحُهم في دِينهِم لا يَنْفَعُهم في رواية الحديث عنهم؛ لعدم ضَبْطِهم وإتقانِهم (1).

(1) وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى: (يعني أنهم كانوا موثوقًا بهم في دينهم وأمانتهم، غيرَ أنهم لم يكونوا حُفاظًا للحديث، ولا مُتْقنين لروايته، ولا متحرِّزين فيه، فلم تكن لهم أهليةُ الأخْذِ عنهم، وإنْ كانوا قد تعاطوا الحديث والرواية). "المفهم"(1/ 128).

وقال القاضي عياض معقبًا على قول أبي الرناد: (ليس يُشترط في رواية الثِّقة عندنا وعند المُحققين من الفقهاء والأصوليين والمحدثين: كونُ المحدث من أهل العلم والفقه والحفظ وكثرة الرواية ومجالسة العلماء، بل يُشترط ضَبْطُه لِمَا رواه، إما من حِفْظِهِ أو كتابِهِ وإنْ كان قليلا عِلْمُه؛ إذْ عُلِمَ من إجماع الصدْرِ الأول قبولُ خبر العدل وإنْ كان أُميًا، وممن جاء بعدُ قبول الرواية من صاحب الكتاب وإن لم يحفظه، والروايةُ عن الثقات وإنْ لم يكونوا أهل علم. وقد ذَكَرَ أبو عبد الله الحاكمُ في أقسام الحديث الصحيح المختلَفِ فيه روايةَ الثقات المعروفين بالسماع وصحة الكتاب غير الحُفاظ ولا العارفين، قال: كأكثر مُحَدِّثي زماننا، قال: فهذا مُحتَجٌّ به عند أكثر أهل الحديث، قال: وإنْ لم يَرَ ذلك مالك ولا أبو حنيفة.

قال القاضي عياض: والذي أقولُ: إن معنى قول أبي الزناد هذا -وقد رُوي نحوه عن مالكٍ وغيره-: أن هؤلاء لم يكونوا أهلَ ضَبْطٍ لِما رَوَوْه، لا مِنْ حفظهم ولا من كُتُبهم، أو قَصَدُوا إيثارَ أهل العلم وترجيحَ الرواية عن أهل الإتقان والحفظ؛ لكثرتهم حينئذٍ والاستغناءِ =

ص: 257

[31]

حَدثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدثَنَا سُفْيَانُ، ح وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلادٍ الْبَاهِلِي

ــ

ثم استشهد المؤلِّفُ ثالثًا لأثَرِ ابن سيرين بأثَرِ سَعْدِ بنِ إبراهيم فقال:

[31]

(حَدثَنا محمدُ) بن يحيى (بن أبي عُمَر) العَدَني أبو عبد الله (المكي) الحافظُ نزيلُ مكة.

روى عن فُضَيل بنِ عِيَاضٍ وأبي معاوية ومُعْتَمِرٍ وَخَلْقٍ، ويروي عنه (م ت س ق) وهلالُ بن العلاء ومُفَضَّلُ بن محمد الجَنَدِيُّ وغيرُهم، وثَّقَهُ ابنُ حِبان.

وقال في "التقريب": صدوقٌ صَنَّفَ "المسند"، وكان لازَمَ ابنَ عُيَينَةَ، لكنْ قال أبو حاتم: كانتْ فيه غَفْلَةٌ، من العاشرة، مات سنة ثلاثٍ وأربعين ومائتين.

قال: (حدثنا سُفْيان) بن عُيَينَةَ بنِ ميمون الهلالي مولاهم، أبو محمدٍ الأعورُ الكوفي ثم المكي، أحدُ الأئمة الأعلام، ثقة حافظٌ فقيه إمامٌ حُجةٌ إلا أنه تَغَيرَ حِفْظُه بأخَرَةٍ، وكان ربما دَلَّسَ لكنْ عن الثقات، من رؤوس الطبقة الثامنة، مات في رجب سنة ثمانٍ وتسعين ومائة، وله إحدى وتسعون سنة.

وإنما فَسَّرْنا (سفيان) بـ (ابن عُيَينَة)؛ لأن الإمامَ مسلمًا إذا ذكَرَ (سفيان) وأطْلَقَ وكان ثانيَ السَّنَدِ .. فهو ابنُ عُيَيْنَةَ كما هنا، أو وَقَعَ ثالثَه .. فهو الثورِي، وهذا في أغلب اصطلاحاته كما يَدُلُّ عليه التصريحُ به بعد التحويل.

ثم أتى المؤلِّفُ بحاء التحويل فقال: (خ) أي: حَوَّلَ المؤلِّفُ رحمه الله تعالى السَّنَدَ (و) قال: (حَدَّثَنِي أبو بكرِ) محمدُ (بن خَلَّادِ) بن كثير (الباهلي) البصري.

روى عن ابنِ عُيَينة ومُعْتَمِرِ بن سُلَيمَانَ وابنِ فُضَيلٍ وخَلْقٍ، ويروي عنه (م د س ق) وأبو حاتم الرازي وعبدُ الله بن أحمد وغيرُهم.

قال في "التقريب": ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة أربعين ومائتين على الصحيح.

= بهم عن سواهم، فأما أنْ لا يُقبل حديثُهم .. فلا، وقد وَجَدْنا هؤلاء رَوَوْا عن جماعة مِمنْ لم يَشْتَهِرْ بِعِلْمٍ ولا إتقان). "إكمال المعلم"(1/ 127 - 128).

ص: 258

-وَاللَّفْظُ لَهُ- قَال: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَينَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ قَال: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ

ــ

وإنما عدل عن المقارنة إلى التحويل، مع أن شيخَ شيخَيه واحد وهو سفيان؛ تورعًا من الكذب على أحَدِ شَيخَيهِ لو جمَعَهما، فلو قال:(حدثنا محمد بن أبي عُمَرَ، وأبو بكرِ بن خَلَّادٍ قالا: حدثنا سفيانُ) .. لكان كاذبا على أبيِ بكر بنِ خَلاد؛ لأنه إنما سَمِعَهُ وهو مُنْفَرِدٌ، وأبو بكرٍ أيضًا إنما سمع سفيانَ وهو مُنْفرِدٌ؛ لأن قولَه:(سَمِعْتُ سفيانَ) بمعنى (حدثني سفيان).

ولو قال: (حَدَّثَني محمد بن أبي عُمَرَ وأبو بكرٍ) .. لكان كاذبًا على محمد بن أبي عُمَرَ؛ لأنه إنما سمعه منه ومعه غيرُه، ففائدةُ التحويلِ هنا التورُّع من الكذب على أحَدِ شَيخَيهِ، مع بيان كثرة طُرُقِهِ، فانتَبهْ لهذه الدقيقة؛ فإنها كثيرة في "جامع الإمام مسلم".

وأتَى بقوله: (واللفْظُ له) أَي: واللفْظُ الآتي لأبي بكرِ بنِ خَلادٍ لا لمحمد بن أبي عُمَرَ؛ لأنه إنما رَوَى معناه لا لفظَه تَحَرُّزًا من الكذب على محمد بن أبي عُمر، لأنه لو لم يَأتِ بهذه الجملةِ .. لأوْهَمَ أن الشيخَينِ كليهما رَوَيا اللَّفظَ الآتي، مع أن الراويَ له هو أبو بكرٍ فقط. فتَدَبرْ.

(قال) أبو بكرِ بن خلَّاد: (سَمِعْتُ سفيانَ بنَ عُيَينةَ) الكوفي الأعورَ يَرْوي (عن مِسْعَرِ) -بكسر الميم وسكونِ السين المهملة وفتحِ العين المهملة- ابن كِدَام -بكسر أوله وتخفيفِ ثانيه- ابن ظهير بن عبيدة الهلالي أبي سلمة الكوفي، أحد الأئمة الأعلام.

روى عن عطاء وسعيد بن أبي بُرْدة والحَكَم وخَلْقٍ، ويروي عنه (ع) وسُلَيمَانُ التَّيمِي -وهو أكبر منه- وشعبةُ والثورِي -وهما من أقرانه- وخَلْق، قال محمد بن بشر: كان عنده ألفُ حديث.

وقال في "التقريب": ثقةٌ ثَبْتٌ فاضلٌ، من السابعة، مات سنة ثلاثٍ أو خمسٍ وخمسين ومائة، وليس في مسلم (مِسْعَرٌ) إلا هذا.

(قال) مِسْعَرُ بن كِدَام: (سَمِعْتُ سَعْدَ بنَ إبراهيمَ) بنِ عبد الرحمن بن عوف الزهْريَّ المدنيَّ قاضيَ المدينة.

ص: 259

يَقُولُ: لَا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلا الثِّقَاتُ.

[32]

وَحَدَّثَنِي مُحَمدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ -مِنْ أَهْلِ مَرْوَ-

ــ

روى عن أنس وعبدِ الله بن جعفر وعبدِ الله بن شَداد وغيرهم، ويروي عنه (ع) وابنُه إبراهيمُ والحَمادانِ والسُّفْيانانِ وأبو عَوَانة وغيرُهم، قال شعبةُ: كانَ ثَبْتًا فاضلًا، يصومُ الدهر، ويختمُ في يوم وليلة.

وقال في "التقريب": كان ثقة فاضلًا عابدًا، من الخامسة، مات سنة خمسٍ وعشرين ومائة، وقيل: بعدها، وهو ابنُ اثنتين وسبعين سنة.

حالةَ كَوْنهِ (يقولُ: لا يُحَدِّثُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقاتُ) أي: لا يُقْبَلُ حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلا من الحُفاظِ الثقاتِ المُتْقِنين الضابطين العُدُولِ؛ لأنَّ هذا الحديث دِينٌ، والدِّينُ أمانةٌ، والأمانةُ لا تُؤْخَذُ إلا من أهلها.

وهذا السَّنَدُ من خُماسياته: واحدٌ منهم مكي أو بصري، وثلاثةٌ كوفيون، وواحدٌ مدني.

ثم استدل المؤلِّفُ على الجزء الأول من الترجمة وهو قوله: (أَن الإسنادَ من الدِّينِ) بأثَرِ عبد الله بن المبارك فقال:

[32]

(وحَدَّثَني محمدُ بن عبد الله بنِ قُهْزَاذَ) قال النووي: (بقاف مضمومة، ثم هاء ساكنة، ثم زاي، ثم ألف، ثم ذال معجمة، هذا هو الصحيحُ المشهورُ المعروفُ في ضَبْطه، وحَكَى صاحب "مطالع الأنوار" (1) عن بعضهم: أنه قيَّده بضمِّ الهاء وتشديد الزاي وهو غيرُ منصرفٍ للعلمية والعجمة) (2).

أبو جابرٍ المَرْوَزِيُّ، ولهذا قال المؤلِّفُ:(من أهل مَرْوَ) بلدةٍ من بلاد العجم مشهورةٍ، قال النووي:(ومَرْوُ غيرُ مصروفة -للعلمية والتأنيث- وهي مدينةٌ عظيمةٌ بخُراسان، وأُمهاتُ مدائنِ خُراسان أربع: نيسابورُ، ومَرْوُ، وبَلْخُ، وهَرَاةُ، والله أعلم) اهـ (3).

(1) انظر "مشارق الأنوار"(2/ 199).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(1/ 87).

(3)

"شرح صحيح مسلم"(1/ 88).

ص: 260

قَال: سَمِعْتُ عَبْدَانَ بْنَ عُثْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْمُبَارَكِ

ــ

روى عن جعفرِ بنِ عَوْنٍ ويعلى بنِ عُبَيدٍ والنضْرِ بنِ شُمَيلٍ، ويروي عنه (م) وزكريا خَيَّاطُ السنةِ وابنُ أبي داود وغيرُهم، قال ابنُ أبي حاتم: ثقة.

وقال في "التقريب": ثقةٌ، من الحادية عشرة، مات سنة اثنتين وستين ومائتين.

قال النووي: (وقال ابنُ ماكولا (1): مات محمدُ بن عبد الله بنِ قُهْزَاذَ يوم الأربعاء لعشرٍ خَلَوْنَ من المحرم سنة اثنتين وستين ومائتين، فتحَصَّلَ من هذا أن مسلمًا رحمه الله تعالى مات قبل شيخه هذا بخمسةِ أشهرٍ ونصفٍ كما قدمناه من تاريخ وفاة مسلم رحمه الله تعالى) (2).

(قال) محمدُ بن عبد الله: (سَمِعْتُ عَبْدَانَ) بفتح العين وسكون الباء، وهو لَقَبٌ له ويُسَمَّى عبدَ الله (بنَ عثمانَ) بن جَبَلَةَ -بفتح الجيم والموحدة- ابن أبي رَوَّاد -بفتح الراء وتشديد الواو- الأزدي العَتكي -بفتحتين- نسبة إلى العَتيك بَطْنٍ من الأزد، أبا عبد الرحمن المَرْوَزي الحافظ المشهور.

روى عن شُعْبة ومالكٍ وابنِ المبارك، ويروي عنه (خ م د ت س) والذُّهْليُّ وخَلْق.

قال في "التقريب": ثقة حافظ، من العاشرة، مات سنة إحدى وعشرين ومائتين في شعبان.

حالةَ كونه (يقولُ: سَمِعْتُ عبدَ الله بنَ المُبَارَكِ) بن واضح الحَنْظَلي مولاهم، أبا عبد الرحمن المروزي، أحدَ الأئمةِ الأعلام وشيوخ الإسلام.

روى عن حُمَيدٍ وإسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ وحُسَينٍ المُعَلم وسُلَيمَانَ التيمي وهشامِ بنِ عُرْوة وجماعاتٍ من التابعين، ويروي عنه (ع) والسفْيانان -وهما من شيوخه- ومُعْتَمِرٌ وابنُ مهدي وسعيدُ بن منصورٍ وجماعاتٌ من كبارِ العلماء وأئمة عصره.

وقد أَجْمَعَ العلماءُ على جلالتِهِ وإمامتِهِ وكبر محلِّه وعُلُوِّ مرتبتِه، قال ابنُ المبارك: كَتَبْتُ عن أربعةِ آلافِ شيخٍ فرَوَيتُ عن ألفِ شيخٍ.

(1)"الإكمال"(7/ 129).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(1/ 87).

ص: 261

يَقُولُ: الإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلا الإسْنَادُ .. لَقَال مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ.

وَقَال مُحَمدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: حَدثَنِي الْعَباسُ بْنُ أَبِي رِزْمَةَ،

ــ

وقال ابنُ عُيَينَة: ابنُ المباركِ عالِمُ المشرقِ والمغربِ وما بينهما.

وقال في "التقريب": ثقة ثَبْتٌ فقيهٌ عالمٌ جوادٌ مجاهد، جُمِعَتْ فيه خصالُ الخير (1)، من الثامنة، مات سنة إحدى وثمانين ومائة.

حالة كونهِ (يقولُ: الإسنادُ) أي: رَفْعُ الحديثِ إلى راويه والقَوْلِ إلى قائله (من) حِفْظِ (الدِّينِ) والسنة والشريعة، (ولولا الإسنادُ) مشروطٌ في قَبُولِ الحديثِ عن راويه ( .. لَقَال مَنْ شاءَ) مِنْ أهلِ الأهواءِ والأغبياءِ (ما شَاءَ) من الأحاديثِ الموضوعةِ والأقاويلِ المُفْتَراةِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مُسْتَدِلًا على شهواتهِ ومسالكِه الباطلةِ ومذاهبِه الزائغة، كما فعَلَه كثيرٌ من أهل البدَعِ والخُرافات.

وغَرَضُ المؤلِّفِ بِسَوْقِ هذا الأثَرِ: الاستدلال على الجزء الأَول من الترجمة كما مر آنفًا. وهذا الإسنادُ من ثُلاثياته في الأثرِ.

قال النووي: (وفيه لطيفةٌ غريبةٌ من لطائف الإسناد وهي: أن رجاله -أعني هؤلاء الثلاثةَ المذكورين: محمدًا وعَبْدان وابنَ المبارك- كلهم خُرَاسانِيون مَرْوَزِيُّون، وهذا قَل أنْ يَتفِقَ مِثْلُه في هذه الأزمان)(2).

ثم ذكر المؤلفُ رحمه الله تعالى المتابعة في أثَرِ عبد الله بن المبارك فقال:

(وقال) لنا (محمدُ بن عبد اللهِ) بن قُهْزَاذَ: (حَدثَني العَباسُ بن أي رِزْمَةَ) بكسر الراء وسكون الزاي، وفي "التقريب" يُقال: صوابُه عبد العزيز بن أبي رِزْمَة، اليَشْكُري مولاهم، أبو محمد المَرْوَزِي ثقة، من التاسعة، مات سنة ست ومائتين.

يروي عنه (د ت)، واسمُ أبي رِزْمة: غَزْوانُ، وليس في كتب الرِّجال: العباسُ بن أبي رِزْمة.

(1) انظر هذه الخصال في "شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 88).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(1/ 87).

ص: 262

قَال: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ يَقُولُ: بَينَنَا وَبَينَ الْقَوْمِ: الْقَوَائِمُ، يَعْنِي الإِسْنَادَ

ــ

(قال) عبدُ العزيزِ بن أبي رِزْمَةَ: (سَمِعْتُ عبدَ الله) بنَ المباركِ (يقولُ: بينَنا) معاشر المُحَدِّثين المتأخِّرين (وبينَ القومِ) السابقين، يعني الصحابةَ الذين نَقَلُوا الحديثَ من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة (القوائمُ) أي: الوسائطُ الذين هُمْ مِثْلُ القوائمِ للحيوان؛ أي: مِثْلُ الأرجُلِ والأيدي التي يقومُ بها الحيوانُ، فكَمَا أنه لا يُمْكِنُ وجودُ الحيوانِ إلا بالقوائم .. لا يُمْكِنُ وصولُ الحديثِ إلينا إلا بواسطتهم، ففيه استعارة تصريحية، حيث استعارَ قوائمَ البهائمِ للرُّواة.

قال عبدُ العزيزِ بن أبي رزمَةَ: (يعني) عبدُ الله بن المباركِ بالقوائم: (الإسنادَ) أي: الرجال المُسلسلين بينه وبينَ الصحابةِ الناقلين عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعبارةُ النووي هنا: (ومعنى هذا الكلام: إنْ جاء الحديثُ بإسنادٍ صحيحٍ .. قَبلْنَا حديثَهُ، وإلا .. تَرَكْنَاه، فجعل الحديثَ كالحيوان لا يقومُ بغيرِ إسنادٍ، كما لَا يقومُ الحيوانُ بغير قوائم)(1).

وعبارةُ السنوسى هنا: (جعل الحديثَ كالحيوانِ أو كالبيتِ لا يقومُ بغيرِ قوائم، وقوائمُ الحديثِ إسنادهُ) اهـ (2).

قال النووي: (ثم إنه وَقَعَ في بعض الأُصول: "العَباسُ بن رزْمَة" (3)، وفي بعضها:"العَبَّاسُ بن أبي رِزْمَةَ"، وكلاهما مُشْكِلٌ، ولم يَذْكر البُخاري في "تاريخه" وجماعة من أصحاب كتُبِ أسماء الرجال "العَباسَ بن رزْمَة"، ولا "العَباسَ بن أبي رِزْمة"، وإنما ذَكَرُوا عبد العزيز بن أبي رِزْمة أَبا محمد المَرْوَزِي، سمع عبد الله بن المبارك، ومات في المُحَرم سنة ست ومائتين، واسمُ أبي رِزْمَة: غَزْوَان، والله أعلم) اهـ (4).

(1)"شرح صحيح مسلم"(1/ 88).

(2)

"مكمل إكمال الإكمال"(1/ 250).

(3)

انظر "تحفة الأشراف"(13/ 260)، و"تهذيب الكمال"(14/ 211).

(4)

"شرح صحيح مسلم"(1/ 88).

ص: 263

وَقَال مُحَمَّدٌ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عِيسَى الطَّالقَانِي

ــ

وغرَضُ المؤلِّفِ بسَوْقِ هذا السنَدِ: بيانُ متابعة عبد العزيز بن أبي رِزْمَةَ لعَبْدان بن عثمان في رواية هذا الأثَرِ عن عبد الله بن المبارك، وإنما كَرَّرَ المَتْنَ لِمَا في الرواية الثانية من المُخالفة للرواية الأُولى.

ورجالُ هذا السنَدِ ثلاثة أيضًا كُلُّهم مَرْوَزيُّون.

ثم ذَكَرَ المؤلِّفُ رحمه الله تعالى المتابعةَ في أثَرِ عبد الله بن المبارك ثانيًا فقال:

(وقال) لنا (محمدُ) بن عبد اللهِ بنِ قُهْزَاذَ: (سمعتُ أبا إسحاقَ إبراهيمَ) بنَ إسحاق (بنَ عيسى) البُنَاني مولاهم -بضم الباء وتخفيف النون- نِسْبة إلى بنانة من بني سَعْد بن لُؤَيّ بن غالب كما في "اللباب"(1/ 178)(1)(الطالقَانِي) بفتح الطاء، وسكون اللام وفتحها، وقاف، نسبة إلى طالقان: اسمِ بَلَدِ بين مَرْوَ الرُّوذ وبَلْخَ مما يلي الجبلَ من بلاد خُراسان، وإليها يُنْسَبُ إبراهيم هذا، وليس منسوبًا إلى طالقان قَزْوين، نزيل مَرْو، وربما نُسِبَ إلى جَده عيسى كما هنا في "صحيح مسلم".

روى عن ابن المبارك ومالكٍ والدَّرَاوَرْدي والوليدِ بن مسلم ومُعْتَمِرِ بنِ سُلَيمَانَ وابنِ عُيَينَة وغيرهم، ويروي عنه (د ت مق) وأحمدُ بن حنبل ويحيى بن مَعِين والحُسَينُ بن محمد البَلْخِي ومحمدُ بن عبد الله بن قُهْزَاذَ وعِدة.

قال ابنُ مَعِين: ثقةٌ، وفي موضع آخر: ليس به بأس، وقال يعقوب بن شَيبة: ثقةٌ ثَبْت يقولُ بالإرْجاء، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال ابنُ حِبان في "الثقات": يُخْطِئُ ويُخَالِفُ، وقال إبراهيم بن عبد الرحمن الدارمي: روى عن ابن المبارك أحاديثَ غرائبَ.

وقال في "التقريب": صدوقٌ يُغرب، من التاسعة، مات بمَرْوَ سنة خمس عشرة ومائتين. وغَرَضُه بسَوْقِ هذا السند: بيانُ متابعةِ الطَالقاني لعَبْدان بن عثمان.

(1) ونسبه ابن ناصر الدين في "توضيح المشتبه"(1/ 606) إلى (بنان) قرية من قرى مرو الشاهجان، ثم قال:(وقيل: هو مولى بُنانة).

ص: 264

قَال: قُلْتُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرحْمنِ؛ الْحَدِيثُ الذِي جَاءَ: "إِن منَ الْبِرِّ بَعْدَ الْبِرِّ: أَنْ تُصَلِّيَ لِأَبَوَيكَ مَعَ صَلاتِكَ، وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صَوْمِكَ"، قَال: فَقَال عَبْدُ اللهِ: يَا أَبَا إسْحَاقَ؛ عَمنْ هَذَا؟ قَال: قُلْتُ لَهُ: هَذَا مِنْ حَدِيثِ شِهَابِ بْنِ خِرَاشٍ،

ــ

(قال) أبو إسحاق: (قلتُ لعبدِ اللهِ بنِ المُبَارَكِ) الحنظلي المَرْوزيّ: (يا أبا عبد الرحمنِ) كُنْية عبد الله بن المبارك (الحديثُ) مبتدأ (الذي جاء) ورُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، والموصولُ صفة للمبتدإ؛ أي: رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم بلَفْظِ: ("إن من البِرِّ) الكامل المطلوبِ، والإحسانِ الجميل المندوب لك أيها الإنسانُ (بعدَ البِر) والخيرِ الذي فَعَلْتَهُ لنفسك، والجازُ والمجرورُ في قوله:(إن من البِر) خبر مُقَدم لإن، واسمُها المصدرُ المُنْسَبِكُ من جملةِ قوله:(أنْ تُصَلِّيَ) الصلاةَ الشرعيةَ المندوبةَ (لأبَويكَ) أي: لوالِدَيكَ (مَعَ صَلاتكَ) الصلاةَ الشرعيةَ لنفسك، أو المرادُ بالصلاةِ: الصلاةُ اللغوية وهي الدعاءُ، وهذا لا خلافَ فيه في مطلوبيته.

(و) إن من البر بعدَ البِر أنْ (تَصُومَ لهما) أي: للوالدَين الصومَ الشرعي (مَعَ صَوْمكَ") لنفسِكَ، أو المعنى: إن من البِر للوالدَينِ بعدَ موتهما -بعدَ البِرِّ والإحسان إليهما في حياتِهما- أنْ تُصَلِّي لهما مع صلاتك وتصومَ لهما مع صَوْمِك، وخبرُ المبتدإ في قوله:(الحديثُ الذي جاءَ) محذوف تقديرُه: الحديثُ الذي جاءَ عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ هل هو صحيح أم لا؟ فأجابه بقوله: ليس بصحيحٍ في ضِمْنِ قوله: (قال يا أبا إسحاق

) إلخ.

(قال) أبو إسحاق: (فقال) لي (عبدُ اللهِ) بن المباركِ في الجواب: (يا أبا إسحاقَ؛ عَمَّنْ) رُويَ (هذا) الحديثُ؟ (قال) أبو إسحاق: (قلتُ له) أي: لعبدِ اللهِ بنِ المبارك: (هذا) الحديثُ (من حديثِ شِهابِ بنِ خِرَاشٍ) بالخاء المعجمة المكسورة؛ أي: من حديثٍ رواه شِهَابُ بن خِرَاشِ بنِ حَوْشَبٍ الشيباني أبو الصَّلْتِ الواسطي، ابنُ أخي العَوام بن حَوْشَب، نزل الكوفة.

ص: 265

فَقَال: ثِقَةٌ، عَمَّنْ؟ قَال: قُلْتُ: عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ، قَال: ثِقَةٌ، عَمنْ؟ قَال: قُلْتُ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَال: يَا أَبَا إِسْحَاقَ؛ إِن بَينَ الْحَجاجِ بْنِ دِينَارٍ وَبَينَ النبي صلى الله عليه وسلم مَفَاوِزَ تَنْقَطِعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ، وَلكِنْ لَيسَ فِي الصدَقَةِ اخْتِلافٌ

ــ

قال في "التقريب": له ذِكْرٌ في مقدمة مسلم، صدون يُخْطِئُ، من السابعة، يروي عنه (د).

(فقال) عبدُ اللهِ بن المبارك لأبي إسحاق: شِهَابُ بن خِراشٍ هو (ثِقة) في نفسه فـ (عَمنْ) رَوَى شهابٌ هذا الحديثَ وعمَّنْ أخَذَ منه؟ (قال) أبو إسحاق: (قلتُ) لعبدِ اللهِ بنِ المبارك: شِهَابُ بن خِرَاشٍ رَوَى هذا الحديثَ (عن الحَجاجِ بنِ دِينارِ) الواسطي.

قال في "التقريب": لا بأسَ به، وله ذِكْر في مقدمة مسلم، من السابعة، يروي عنه (د ت سي ق).

(قال) عبدُ اللهِ: حَجَّاجُ بن دينارٍ هو (ثِقَةٌ) في نفسه فـ (عَمَّنْ) رَوَى هذا الحديثَ؟ (قال) أبو إسحاق: (قلتُ) لعبدِ اللهِ بنِ المباركِ: فإنه يقولُ في راويته (قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بلا ذِكْر واسطةٍ بينَه وبينَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم! (قال) عبدُ اللهِ بن المبارك: (يا أبا إسحاقَ؛ إن بينَ الحَجاج بن دينارِ وبينَ النبي صلى الله عليه وسلم مَفَاوزَ) أي: مسافاتٍ بعيدةً (تَنْقَطعُ) وتعجزَ (فيها) أي: في تلك المَفَاوزِ (أعناقُ المَطِي) أي: أعناقُ الإبلِ المركوبَةِ عن مَدِّها الذي يَحْصُلُ لها عند النشاط وتَنْثَنِي وَتعْطِفُ؛ لعَجْزِهَا عن السيرِ لطول المسافة.

والأعناقُ: جمعُ عُنُقٍ، وهو الرقبة، والمَطِي: المركوبُ سواء كان من إبلٍ أو غيرِها، والأكثرُ استعمالُها في الإبل، سُمِّيَتْ مَطِيَّةً لأنها تُطْوَى بها المسافةُ في السير.

فليس هذا الحديثُ بصحيحٍ؛ لانقطاعِ سَنَده، فلا يَصِح الاحتجاجُ به على صِحةِ الصلاةِ للوالدَينِ أو الصومِ لهما (ولكنْ ليس في) وُصُولِ ثوابِ (الصدَقَةِ) عنهما إليهما وانتفاعِهما بها (اختلاف) ونِزَاعٌ بين المسلمين؛ لثبوتِ جواز التصدقِ عنهما بالنص الصحيح.

ص: 266

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قال النووي: (معنى هذه الحكايةِ: أنه لا يُقْبَلُ الحديثُ إلا بإسنادٍ صحيحٍ.

وقولُه "مَفَاوزَ": جمعُ مَفَازَةٍ، وهي الأرضُ القَفْرُ البعيدةُ عن العمارةِ وعن الماء التي يُخَافُ الهلاكُ فيها.

قيل: سُمِّيَتْ مَفَازَةً للتفاؤُلِ بسلامةِ سالِكها كما سمّوا اللدِيغَ سليمًا، وقيل: لأن مَنْ قَطَعَهَا .. فازَ ونجا، وقيل: لأنها تُهْلِكُ صاحبَها، يقال: فَوزَ الرجلُ إذا هَلَكَ.

ثُمَّ إن هذه العبارةَ التي استعملها هنا استعارة حَسَنة، وذلك لأن الحَجاجَ بنَ دينارٍ هذا من تابعي التابعين، فأقَلُّ ما يُمْكِنُ أن يكون بينَهُ وبينَ النبي صلى الله عليه وسلم اثنان: التابعي والصحابيُّ، فلهذا قال "بينهُما مَفَاوزُ" أي: انقطاع كثير.

وأمَّا قولُه: "فليس في الصدَقَةِ اختلافٌ" فمعناه: أن هذا الحديث لا يُحْتَج به ولكنْ مَنْ أرادَ بِرَّ والديهِ .. فليتصدق عنهما؛ فإن الصدقة تَصِلُ إلى الميت، ينتفعُ بها بلا خلافٍ بين المسلمين؛ وهذا هو الصواب.

وأما ما حكاه أقضى القُضاةِ أبو الحسن المَاوَرْدِي البصري الفقيهُ الشافعي في كتابه "الحاوي" عن بعض أصحاب الكلامِ مِنْ أن الميتَ لا يَلْحَقُه بعد موته ثواب .. فهو مذهبٌ باطلٌ قَطْعًا، وخَطَأٌ بيِّن مُخَالِف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا التفاتَ إليه ولا تعريجَ عليه.

وأما الصلاةُ والصومُ: فمذهبُ الشافعي وجماهيرِ العلماء: أنه لا يَصِلُ ثوابُهما إلى الميت، إلا إذا كان الصومُ واجبًا على الميت فقَضَاهُ عنه وَليه أو مَنْ أذِنَ له الوَلي .. فإن فيه قولَينِ للشافعي، أشهرُهما عنه: أنه لا يَصِح، وأصَحهما عند مُحَقِّقي متأخري أصحابهِ: أنه يصِح، وستأتي المسألةُ إنْ شاء الله تعالى في كتاب الصيام.

وأمَّا قراءةُ القرآنِ: فالمشهورُ من مذهب الشافعي أنه لا يصِلُ ثوابُها إلى الميت، وقال بعضُ أصحابِه: يصِل ثوابُها إلى الميت، وذَهَبَ جماعاتٌ من العلماء إلى أنه يصِلُ إلى الميت ثوابُ جميع العبادات من الصلاة والصوم والقراءةِ وغير ذلك.

وفي "صحيح البخاري" في "باب مَنْ مات وعليه نَذْرٌ"(1): أن ابنَ عُمَرَ أمَرَ مَنْ

(1)"فتح الباري"(11/ 583) في كتاب الأَيمان والنذور في ترجمة (30 - باب مَن مات وعليه =

ص: 267