المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌84 - (43) باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ٤

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌70 - (29) بَابُ: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ

- ‌تتمة ما في ثابت بن عياض

- ‌71 - (30) بَابُ: مَنِ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً فَغَشَّهُمْ .. لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ

- ‌72 - (31) - بَابُ نُزُولِ الأَمَانَةِ وَالإِيمَانِ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَرَفْعِهِمَا مِنْ بَعْضِ الْقُلُوبِ، وَعَرْضِ الْفِتَنِ عَلَيهَا

- ‌73 - (32) بَابُ الْفِتَنِ الَّتي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ

- ‌74 - (33) بَابُ: غُرْبَةِ الإِسْلامِ في بِدَايَتِهِ وَنِهَايَتِهِ، وَأَنَّهُ يَأْرِزُ بَينَ الْمَسْجِدَينِ

- ‌75 - (34) بَابُ: إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلى الْمَدِينَةِ

- ‌76 - (35) بَابُ: ذَهَابِ الإِيمَانِ، وَرَفْعِهِ مِنَ الأرْضِ في آخِرِ الزَّمَانِ

- ‌77 - (36) بَابُ: جَوَازِ الإِخْفَاءِ بِالإِيمَان وَالأعْمَالِ إِذَا خَافَ مِنْ إِظْهَارِهَا فِتْنَةً

- ‌78 - (37) بَابُ: إِعْطَاءِ مَنْ يُخَافُ عَلَى إيمَانِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْجَزْمِ بِإِيمَانِ أَحَدٍ مِنْ غيرِ دَليلٍ قَاطِعٍ عَلَيهِ

- ‌79 - (38) بَابُ: السُّؤالِ عَنْ تَظَاهُرِ الأدِلَّةَ لِطَلَبِ زِيَادَةِ الإيمَانٍ وَطُمَأنينةِ الْقَلْبِ

- ‌80 - (39) - بَابُ: وُجُوبِ الإِيمَانِ بِعُمُومِ رِسَالتِهِ صلى الله عليه وسلم جَمِيعَ النَّاسِ وَكَونِهِ أَكْثَرَ الأنْبِيَاءِ تبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ

- ‌81 - (40) بَابُ: الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمْ مَرَّتَينِ

- ‌82 - (41) - بَابُ: مَا جَاءَ في نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَريمَ حَاكِمًا بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم

- ‌83 - (42) بَابُ: بَيَانِ الزَّمَنِ الَّذِي لا يُقْبَلُ فِيهِ الإِيمَانُ وَلَا الْعَمَلُ الصَّالحُ

- ‌84 - (43) بَابُ: كَيفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌85 - (44) بَابُ: الإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَفَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ في الإِسْلَامِ

- ‌86 - (45) بَابٌ: فِي شَقِّ صَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صِغَرِهِ، وَاسْتِخْرَاجِ حَظِّ الشَّيطَانِ مِنْ قَلْبِهِ

- ‌87 - (46) بَابٌ: فِي شَقِّ صَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَانِيَةً، وَتَطْهِيرِ قَلْبِهِ وَحَشْوهِ حِكْمَةً وإيمَانًا عِنْدَ الإِسْرَاءِ بِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌88 - (47) بَابُ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلأنْبِيَاءِ لَيلَةَ الْإِسْرَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيهِمْ، وَوَصْفِهِ لَهُمْ، وَصَلاتِهِمْ

- ‌89 - (48) بَابُ: ذِكْرِ الْمَسِيحِ ابْنِ مَريمَ، وَالْمَسِيحِ الدَّجَّالِ

- ‌90 - (49) بَابُ: تَجْلِيَةِ اللهِ سبحانه وتعالى وَكَشْفِهِ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بَيتَ الْمَقْدِسِ حِينَ كذَّبَتْهُ قُرَيشٌ فِي إِسْرَائِهِ فَأَخْبَرَهُمْ عَنْهَا بِأَمَارَاتِهَا

- ‌91 - (50) بَابٌ: فِي ذِكْرِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى

- ‌92 - (51) بَابُ: رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ عليه السلام عَلَى صُورَتِهِ

- ‌93 - (52) بَابٌ: فِي ذِكْرِ الاخْتِلافِ هَلْ رَأَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ

- ‌94 - (53) فَصْلٌ فِي قَوْلهِ صلى الله عليه وسلم: "نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ"، وَفِي قَوْلهِ: "رَأيتُ نُورًا

- ‌95 - (54) بَابٌ: فِي قَوْلهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ"، وَفِي قَوْلهِ: "حِجَابُهُ النُّورُ

- ‌96 - (55) بَابُ: مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ فِي الآخِرَةِ

- ‌97 - (56) بَابُ: بَيَانِ كَيفِيَّةِ رُؤْيَةِ اللهِ سبحانه وتعالى

- ‌98 - (57) بَابُ شَفَاعَةِ الْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ

- ‌99 - (58) بَابُ: إِخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ

- ‌100 - (59) بَابُ: بَيَانِ كَيفِيَّةِ عَذَابِ مَنْ يُعَذَّبُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَكَيفِيَّةِ خُرُوجِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَالإِذْنِ بِالشَّفَاعَةِ

الفصل: ‌84 - (43) باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

‌84 - (43) بَابُ: كَيفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

ــ

84 -

(43) بَابُ: كَيفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

أي هذا باب معقود في ذكر الأحاديث التي تبين جواب كيف كان ابتداء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي على أي حال كان ابتداء الوحي إليه صلى الله عليه وسلم هل كان بالرؤيا الصالحة أو بإرسال ملك أو بإلهام من الله تعالى، وإدخال هذه الترجمة في ترجمة كتاب الإيمان واضح لأن أصل ما يوحى إليه وأساسه الإيمان والإسلام.

وقولنا (باب كيف كان) بإضافة (باب) إلى جملة (كان)، و (كيف) في محل النصب خبر (كان) إن كانت ناقصة وحال من فاعلها إن كانت تامة ولا بد قبلها من مضاف محذوف والتقدير باب جواب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما احتيج إلى هذا المضاف لأن المذكور في هذا الباب هو جواب كيف كان بدء الوحي لا السؤال بـ (كيف) عن بدء الوحي ثم إن الجملة من (كان) ومعمولها في محل جر بالإضافة ولا تخرج (كيف) بذلك عن الصدرية لأن المراد من كون الاستفهام له الصدر أن يكون في صدر الجملة التي هوفيها و (كيف) على هذا الإعراب كذلك.

و(البدء) بفتح الموحدة وسكون المهملة آخره همزة من بدأت الشيء بدأ ابتدأت به، قال القاضي عياض: روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء، وبدوًا بغير همز مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور ولم يعرف الأخيرة الحافظ ابن حجر؛ نعم قال روي في بعض الروايات كيف كان ابتداء الوحي فهذا يرجح الأول وهو الذي سمعناه من أفواه المشايخ.

و(الوحي) لغة: الإعلام في خفاء، وشرعًا: إعلام الله تعالى أنبياءه بما شاء من أحكامه أو أخباره، إما بكتاب أو برسالة ملك أو منام أو إلهام، وقد يجيء لغة بمعنى الأمر نحو قوله {وَإِذْ أَوْحَيتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} وبمعنى التسخير نحو قوله:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} أي سخرها لهذا الفعل وهو اتخاذها من الجبال بيوتًا، والتصلية في الترجمة وفي غيرها جملة خبرية يراد بها الإنشاء فكأنه قال اللهم صل عليه.

ص: 126

306 -

(151)(74) حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَال: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَال: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيرِ؛ أَن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم

ــ

(306)

- (151)(74)(حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سرح) بمهملات ثانيتها ساكنة الأموي مولاهم المصري الفقيه، ثقة من العاشرة مات سنة (255) روى عن ابن وهب في الإيمان وغيره قال أبو الطاهر (أخبرنا) عبد الله (بن وهب) بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري، ثقة حافظ من التاسعة مات سنة (197) روى عنه في (13) بابًا تقريبًا (قال) ابن وهب (أخبرني يونس) بن يزيد الأيلي أبو يزيد الأموي، ثقة إلا أن في روايته خطأ مات سنة (159) روى عنه في (7) أبواب تقريبًا (عن) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله (بن شهاب) الزهري أبي بكر المدني، ثقة من الرابعة مات سنة (125) روى عنه في (23) بابًا تقريبًا (قال) ابن شهاب (حدثني عروة بن الزبير) بن العوام بن خويلد الأسدي أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه مشهور من الثانية مات سنة (94) روى عنه في (25) بابا تقريبا (أن عائشة) بالهمز وعوام المحدثين يبدلونها ياء، الصديقة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين (زوج النبي صلى الله عليه وسلم المبرأة من فوق سبع سماوات أم عبد الله بنت عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو القرشية ثم التيمية وأمها أم رومان بنت الحارث بن غنم بن مالك تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين قبل الهجرة بسنتين وبنى بها وهي بنت تسع وقبض عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة بين سحرها ونحوها وكانت أحب أزواجه صلى الله عليه وسلم إليه نفسًا وأكثرهن علمًا وأفصحهن لسانًا ماتت سنة (58) ثمان وخمسين ولها خمس وستون سنة، لها (2210) ألفان ومائتان وعشرة أحاديث اتفقا على (174) مائة وأربعة وسبعين وانفرد (خ) باربعة وخمسين (54) و (م) بثمانية وستين (68) روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جذامة بنت وهب الأسدية في النكاح وأبي بكر الصديق رضي الله عنه في الجهاد ويروي عنها (ع) وعروة بن الزبير وأبو هريرة ومسروق وابن عمر وابن عباس وخلائق لا يحصون من الصحابة والتابعين، روى عنها المؤلف في بدء الوحي وفي الصلاة في خمسة مواضع وفي الوضوء في موضعين وفي الحج في خمسة مواضع وفي الجنائز في ثلاثة مواضع وفي الصوم في ثلاثة مواضع وفي النكاح

ص: 127

أَخبَرَتْهُ؛ أَنَّهَا قَالتْ: "كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ،

ــ

وفي الجهاد وفي الإفك فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنها فيها تسعة أبواب تقريبًا، والله أعلم.

وهذا السند من سداسياته رجاله ثلاثة منهم مدنيون واثنان مصريان وواحد أيلي (أخبرته) أي أخبرت لعروة (أنها قالت) بدل من جملة (أن) الأولى (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم) وقوله في السند (أن عائشة أخبرته) قال النواوي: لم تدرك عائشة بسنها هذه القضية فيحتمل أنها سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم أر من الصحابة فيكون مرسل صحابي ومرسله حجة عند جميع العلماء إلا ما شذ به أبو إسحاق الإسفراييني، وقوله (أول ما بدئ به) قال المازري: بدئ بذلك لأن فجأة الملك وصريح الوحي لا تطيقه القوى البشرية فبدئ به ليأنس ويستعد لعظيم ما أريد به حتى لا يأتيه الملك إلا بأمر عنده مقدماته ومن هذا المعنى ما كان يراه من الضوء وسماع الصوت وتسليم الحجر والشجر عليه. اهـ

قال القرطبي: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره يرى ضوءًا ويسمع صوتًا ويسلم عليه الحجر والشجر وتناديه بالنبوة وهذه أمور ابتدئ بها تدريجيًا لما أراد الله به من الكرامة والنبوة واستلطافًا له لئلا يفجاه صريح الوحي ويبغته الملك فلا تحتمل ذلك قوته البشرية، وقوله (من الوحي الرؤيا الصادقة) وفي رواية البخاري (الرؤيا الصالحة) وهما بمعنى واحد أي غير الكاذبة وفي (من) هنا قولان أحدهما: أنها لبيان الجنس فكأنه قال من جنس الوحي لا للتبعيض، نعم هي كالوحي في الصحة وقيل للتبعيض.

قال المازري: الرؤيا الصادقة جزء من النبوة في غير الأنبياء فكيف رؤيا الأنبياء التي هي وحي، وفي القسطلاني قوله (من الوحي) احترز به عما رآه من دلائل نبوته من غير وحي كتسليم الحجر عليه، قال الأبي: الوحي لغة: الإسراع ومنه قولهم الوحا الوحا؛ أي: الإسراع الإسراع، كما في اللسان، وعرفًا: سماع الكلام القديم بواسطة ملك أو دونه والنبي من خص من البشر بالوحي إليه، والرسول من أمر بتبليغ ما أوحي به إليه فالرسول أخص فيشتركان في الوحي إليهما ويفترقان في الأمر بالتبليغ وقال

ص: 128

فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ،

ــ

الزمخشري غير هذا كما تقدم في أول الكتاب، ثم إنه يصح إرسال من تقدمت نبوته وإرسال من لم تتقدم فيثبتان له دفعة لما تقدم من أن الرسالة أخص، والأظهر فيه صلى الله عليه وسلم وفي موسى عليه السلام أنهما من هذا القسم فرؤياه من حيث إنها تقدمت إرساله ليست وحيًا كما قاله القزاز، نعم هي شبه الوحي في الصحة إذ لا مدخل للشيطان فيها وهي رؤيا من ثبتت كرامته الرؤيا التي هي وحي ما كان بعد النبوة. اهـ والرؤيا الصادقة هي التي ليس فيها ضغث أي اختلاط واشتباه بخلاف الكاذبة المسماة بأضغاث الأحلام، وذكر النوم بعد الرؤيا المخصوصة به لزيادة الإيضاح والبيان (فكان) صلى الله عليه وسلم (لا يرى) في نومه (رؤيا) بلا تنوين لألف التأنيث المقصورة (إلا جاءت) تلك الرؤيا في اليقظة مجيئًا (مثل) مجيء (فلق الصبح) وضوئه في الوضوح والظهور كرؤيا دخول المسجد الحرام، و (مثل) صفة لمصدر محذوف أي إلا جاءت مجيئًا مثل فلق الصبح، والمعنى أنها شبيهة له في الضياء والوضوح أو المعنى مشبهة ضياء الصبح فيكون منصوبًا على الحال، وعبر بفلق الصبح لأن شمس النبوة قد كانت مبادي أنوارها الرؤيا إلى أن ظهرت أشعتها وتم نورها، و (الفلق) الصبح لكنه لما كان مستعملًا في هذا المعنى وغيره أضيف للتخصيص والبيان إضافة العام إلى الخاص، وعن أمالي الرافعي حكاية خلاف أنه أوحي إليه صلى الله عليه وسلم شيء من القرآن في النوم أو لا، وقال: الأشبه أن القرآن نزل كله يقظة.

وذكر السهيلي أن للوحي سبعة أنواع (الأول) منها (الرؤيا الصادقة) لقول ولد إبراهيم عليهما السلام: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ولهذا الحديث.

(الثاني) منها (النفث) في الروع لحديث: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب".

(الثالث) منها أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه وكان كذلك ليستجمع عند تلك الحالة فيكون أوعى لما يسمع.

(الرابع) أن يمثل له الملك رجلًا كما كان يأتيه في صورة دحية الكلبي، وكان دحية إذا قدم المدينة لم تبق معصر أي بكر إلا خرجت تنظر إلى جماله، وقال ابن سلام في قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} : اللهو نظرهم إلى وجه دحية.

ص: 129

ثُمَّ إِلَيهِ الْخَلاءُ،

ــ

(الخامس) أن يتراءى له جبريل في صورته التي خلق عليها له ست مائة جناح ينثر منها اللؤلؤ والياقوت (السادس) أن يكلمه الله سبحانه وتعالي من وراء الحجاب في اليقظة كما في ليلة الإسراء، وفي المنام كما في حديث الترمذي:"أتاني ربي في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا أدري! فوضع كفه على كتفي فوجدت بردها بين ثديي وتجلى لي علم كل شيء، فقال لي: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: وما هن؟ قلت: الوضوء عند الكريهات ونقل الأقدام إلى الحسنات وانتظار الصلاة إلى الصلاة، فمن فعل ذلك عاش حميدًا ومات شهيدًا وكان في ذنوبه كيوم ولدته أمه".

(السابع) هو ما ثبت عن الشعبي من طرق صحاح أنه صلى الله عليه وسلم كان وكل به إسرافيل ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء ثم وكل به جبريل فجاءه بالقرآن، والحصر في السبعة استقرائي، قال السهيلي: ولم أره لغيري. اهـ من الأبي.

وقوله (إلا جاءت مثل فلق الصبح) قال القاضي: فلق الصبح وفرقه ضياؤه وإنما يقال في الشيء إذا اتضح، وقال الأبي: صدق رؤياه صلى الله عليه وسلم يكون بخروجها نحو ما رأى كرؤياه دخول المسجد الحرام، ويكون بصدق التأويل كرؤياه بقرًا تنحر في غزوة أحد أنه أدخل يده في درع حصينة وأولها بالمدينة، قال ابن رشد: رؤيا الأنبياء عليهم السلام لازمة الوقوع لأنها حق لا أضغاث فيها ولا تخيل ولا مدخل للشيطان فيها ورؤيا غيرهم قد لا تخرج كما عبرت، ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم جزءًا من خمسة وأربعين جزءًا أو من ستة وأربعين جزءًا أو من سبعين جزءًا من النبوة أي في الإخبار عن الغيب إذ لو خرجت كلها كما عبرت لكانت نبوة، والرؤيا الصالحة: المبشرةُ بخير. اهـ

(ثم حبب إليه) صلى الله عليه وسلم (الخلاء) أي الخلوة والانعزال والابتعاد من الناس أي ألهمه لينقطع عن العلائق الشاغلة ويتفرغ للقاء رسل ربه تعالي وسماع وحيه، وفي هذا تنبيه على فضل العزلة لأنها تريح القلب من الشغل بالدنيا وتفرغه لذكر الله تعالي فيتفجر منه ينابيع الحكمة والمعرفة، والخلوة: أن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه وعند ذلك يصير خليقًا بان يكون قالبه ممرًا لواردات علوم الغيب وقلبه مقرًا لها وخلوته

ص: 130

فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ

ــ

صلى الله عليه وسلم إنما كانت لأجل التقرب لا على أن النبوة مكتسبة. اهـ قسطلاني، وأتى بـ (ثم) للتنبيه على تفاوت ما بين هذا المقام والمقام الأول لأن المقام الأول وقع فيه الإيحاء نومًا وهذا المقام وقع فيه الإيحاء يقظة و (الخلاء) بالمد مصدر بمعنى الخلوة أي الاختلاء وهو بالرفع نائب عن الفاعل وإنما أسند الفعل (حبب) إلى المفعول (الخلاء) اختصارًا للعلم بأن لا فاعل إلا الله جل وعلا وإنما لم يقل أحب الخلاء وإن كان أخصر لما في الأول من التنبيه على عظيم اعتناء الله تعالى به في تخصيصه بأشرف مقام من الانقطاع إليه بالعبادة وعدم الخوض فيما عليه طباع أهل الأرض في ذلك الزمان فاعتناؤه جل وعلا بنبيه صلوات الله وسلامه عليه هو الذي خلصه من طباع أبناء جنسه من المخلوقات حتى لم تكن له همة إلا في طاعته جل وعلا والتقرب إليه بلذيذ المناجاة، لا سيما إن قلنا إن خلوه للعبادة بغار حراء كان قبل الإيحاء إليه كما هو ظاهر كلام أهل الأصول ففيه من القرابة وعظيم التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى وعلى هذا يكون العطف بـ (ثم) لترتيب الإخبار لا للمهلة في الزمان.

(فكان) صلى الله عليه وسلم (يخلو) أي يختلي عن الناس ويتجرد للعبادة (بغار حراء) في نقبه وكهفه بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد، وحكى الأصيلي فتحها والقصر وعزاها في القاموس للقاضي عياض قال وهي لغية وهو مصروت إن أريد المكان وممنوع إن أريد البقعة فهي أربعة التذكير والتأنيث والمد والقصر وكذا حكم قباء وقد نظم بعضهم أحكامهما في بيت فقال:

حرا وقبا ذكر وأنثهما معا

ومد أو اقصر واصرفن وامنع الصرفا

قال الخطابي: والمحدثون يغلطون فيه في ثلاثة مواضع يفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرونه وهو ممدود، وحراء جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى، والغار نقب فيه وكهف يجمع على غيران والمغار والمغارة بمعنى الغار وتصغير الغار كوير، وجملة قوله (يتحنث فيه) أي يتعبد فيه أي في غار حراء في محل النصب خبر ثان لي (كان) أو حال من فاعل (يخلو)، وفي رواية البخاري (فيتحنث فيه) بالفاء العاطفة وهو بالحاء المهملة آخره مثلثة: التعبد كما سيأتي من الراوي وهو في أصله من الأفعال التي معناها السلب أي اجتناب فاعلها لمصدرها مثل تأثم وتحوب إذا اجتنب الإثم والحوب فمعنى يتحنث يجتنب الحنث

ص: 131

(وَهُوَ التَّعَبُّدُ) اللَّيَالِيَ أُولاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزوَّدُ لِذَلكَ،

ــ

وأصل الحنث الإثم فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث أي الذنب، أو هو بمعنى يتحنف بالفاء أي يتبع الحنيفية دين إبراهيم والفاء تبدل ثاء مثلثة، والضمير في قوله (وهو التعبد) عائد إلى مصدر يتحنث أي والتحنث التعبد أي الاشتغال بالعبادة، وأصل التعبد تذلل العبد لسيده وخضوعه له بامتثال أوامره ونواهيه بلا معرفة لحكمتها وهذا التفسير للزهري أدرجه في الخبر كما جزم به الطيبي وقوله (الليالي أولات العدد) منصوب على الظرفية متعلق بقوله (يتحنث) لا بالتعبد لأن التعبد لا تشترط فيه الليالي بل مطلق التعبد، و (أولات) نصب بالكسرة على أنه صفة الليالي لأنه من ملحقات جمع المؤنث السالم، وفي رواية البخاري ذوات العدد وهما واحد في الحكم والمعنى أي فيتحنث ويشتغل بالعبادة في غار حراء الليالي صواحب العدد القليل مع أيامهن واقتصر عليهن للتغليب لأنهن أنسب للخلوة، ووصف (الليالي) بـ (أولات العدد) لإرادة التقليل كما في قوله تعالى:{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} أو للكثرة لاحتياجها إلى العدد وهما المناسب للمقام، وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله وأقل الخلوة ثلاثة أيام وتأمل ما للثلاثة في كل مثلث من التكفير والتطهير والتنوير ثم سبعة أيام ثم شهر لما عند المؤلف والبخاري "جاورت بحراء شهرًا" وعند ابن إسحاق أن ذلك العدد شهر رمضان.

فإن قلت أمر الغار قبل الرسالة فلا حكم له (أجيب) لأنه أول ما بدئ به صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء كما مر فدل على أن الخلوة حكم مرتب على الوحي لأن كلمة (ثم) للترتيب.

(فإن قلت) لم خص حراء بالتعبد فيه دون غيره، قال ابن أبي جمرة: لمزيد فضله على غيره لأنه مجموع له فيه التحنث والخلوة والنظر إلى الكعبة المعظمة والنظر إليها عبادة فكان له صلى الله عليه وسلم فيه ثلاث عبادات الخلوة والتحنث والنظر إلى الكعبة. اهـ من القسطلاني بتصرف.

وقوله (قبل أن يرجع إلى أهله) وعياله متعلق بـ (يتحنث)، وقوله (ويتزود) أي ويأخذ الزاد (لذلك) التحنث أو التعبد بالرفع عطفًا على (يتحنث) أي فكان يتحنث في غار حراء الليالي أولات العدد قبل أن يحن ويشتاق ويرجع إلى عياله وكان يتزود أي

ص: 132

ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَال: اقْرَأْ

ــ

يتخذ زادًا ذلك التحنث أو للخلوة قبل خروجه إلى حراء (ثم) بعد تحنثه تلك الليالي (يرجع إلى خديجة) رضي الله تعالى عنها (فيتزود) أي يأخذ الزاد (لمثلها) أي لمثل تلك الليالي، وتخصيص خديجة بالذكر بعد أن عبر بالأهل يحتمل أنه تفسير بعد الإبهام أو إشارة إلى اختصاص التزود بكونه من عندها دون غيرها، وفيه أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السنة لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينقطع في الغار بالكلية بل كان يرجع إلى أهله لضروراتهم ثم يخرج لتحنثه.

واختلف في عبادة النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه هل كانت بشريعة من قبله أم كانت بما جعل الله سبحانه وتعالى في نفسه وشرح به صدره من نور المعرفة ومن بغضه لما كان عليه قومه من عبادة الأوثان وسوء السيرة وقبح الأفعال فكان يفر منهم بغضًا ويخلو بمعروفه أنسًا، ثم الذين قالوا إنه كان متعبدًا بشريعة من قبله فمنهم من نسبه إلى إبراهيم ومنهم من نسبه إلى موسى ومنهم من نسبه إلى عيسى وكل هذه أقوال متعارضة لا دليل قاطع على صحة شيء منها والأصح القول الثاني أي أنها بإلهام من الله تعالى لأنه لو كان متعبدًا بشيء من تلك الشرائع لعلم انتماؤه لتلك الشريعة ومحافظته على أحكامها وأصولها وفروعها ولو علم شيء من ذلك لنقل، إذ العادة تقتضي ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ممن تتوفر الدواعي على نقل أحواله وتتبع أموره، ولما لم يكن شيء من ذلك علم صحة القول الثاني.

وقوله (حتى فجئه) الأمر (الحق) وهو الوحي غاية للتحنث أي كان يتحنث في غار حراء حتى جاءه الوحي بغتة وأتاه مرة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعًا للوحي، يقال فجئ بكسر الجيم يفجأ من باب علم وفجأ يفجأ بفتحها في الماضي والمضارع من باب فتح، وقوله (وهو) صلى الله عليه وسلم (في كار حراء) للتحنث جملة حالية (فجاءه الملك) وهو جبريل الأمين عليه السلام يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان وهو ابن أربعين سنة كما رواه ابن سعد، والفاء في قوله (فجاءه) تفسيرية كهي في قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وتفصيلية أيضًا لأن المجيء تفصيل للمجمل الذي هو مجيء الحق (فقال) الملك له صلى الله عليه وسلم (اقرأ) يا محمد، يحتمل أن يكون هذا

ص: 133

قَال مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَال: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّي بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي. فَقَال: اقْرَأْ. قَال: قُلْتُ:

ــ

الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه وأن يكون على بابه من الطلب، فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال وإن قدر عليه بعد (قال) النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية (قلت) وهو المطابق لمقتضى السياق (ما أنا بقارئ) أي لست عارفًا بالقراءة، وفي رواية "ما أحسن أن أقرأ" فـ (ما) نافية واسمها (أنا) وخبرها (بقارئ) وضعف كونها استفهامية بدخول الباء في خبرها وهي لا تدخل على ما الاستفهامية، وأجيب بأنها استفهامية بدليل رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال:"كيف أقرأ"، وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق "ماذا أقرأ" وبأن الأخفش جوز دخول الباء الزائدة على الخبر المثبت، قال ابن مالك في (بحسبك زيد) إن زيدا مبتدأ مؤخر لأنه معرفة وحسبك خبر مقدم لأنه نكرة والباء زائدة.

(قال) صلى الله عليه وسلم (فأخذني) جبريل عليه السلام أي أمسكني إمساكًا شديدًا (فغطني) بالغين المعجمة ثم المهملة أي ضمني وعصرني، وعند الطبراني "فغتني" بالمثناة الفوقية بدل الطاء وهو حبس النفس وهو بمعنى غطني، قال ابن الأنباري: معنى "غتني" ضغطني وكأنه يضارع غطني، لأن المضغوط يبلغ منه الجهد وكذلك المغتوت، وفي "العين" غطه في الماء وغمسه، وفي حديث آخر "يغتهم الله في العذاب الأليم" أي يغمسهم ويقال غطه وغته وخنقه وغطسه بمعنى واحد (حتى بلغ) الغط (مني الجهد) أي الغاية والمشقة، والجهد بفتح الجيم ونصب الدال على أنه مفعول به لـ (بلغ) وفاعله ضمير الغط أي حتى بلغ ووصل الغط مني الجهد أي غاية وسعي ونهاية مشقتي، ويروى "الجُهد" بالضم والرفع أي بلغ مني الجهد مبلغه وغايته فهو فاعل، وهذا الغط من جبريل عليه السلام إشغال له عن الالتفات إلى شيء من أمور الدنيا وإشعار بالتفرغ لما أتاه به، وفعلُ ذلك ثلاثًا فيه تنبيه على استحباب تكرار التنبيه ثلاثًا، وقد استدل به بعضهم على جواز تأديب المعلم للمتعلمين ثلاثًا، وقال أبو سليمان: وإنما فعل ذلك ليبلو صبره ويحسن تأديبه فيرتاض لاحتمال ما كئفه من أعباء الرسالة ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم وياخذه الرحضاء أي البهر والعرق، قال: وذلك يدل على ضعف القوة البشرية والوجل لتوقع تقصير فيما أمر به وخوف أن يقول غيره. اهـ من الإكمال.

(ثم أرسلني) أي أطلقني (فقال) لي جبريل ثانيًا (اقرأ، قال: قلت) وفي رواية

ص: 134

مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَال: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَال: اقْرَأ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِني الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)}

ــ

"فقلت"(ما أنا بقارئ) أي لست عارفًا بالقراءة قال (فأخذني) أي أمسكني (فغطني) أي ضمني المرة (الثانية حتى بلغ مني الجهد) بالفتح والنصب أي حتى بلغ مني غاية المشقة والجهد بالضم الطاقة قاله ابن قتيبة، وقال الشعبي: الجهد بالضم في القوة والجهد بالفتح في العمل، وقيل هما بمعنى واحد قاله البصريون (ثم أرسلني) أي أطلقني (فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ) ما نافية واسمها (أنا) وخبرها (بقارئ) والباء زائدة لمجرد النفي والتأكيد، وقال بعضهم إنها هنا للاستفهام وهو خطأ لأن هذه الباء لا تزاد على الاستفهام وإنما تصلح للاستفهام رواية من رواها (ما أقرأ) وتصلح أيضًا للنفي. اهـ مفهم (فأخذني فغطني) المرة (الثالثة حتى بلغ مني الجهد) قال القسطلاني: وهذا الغط ليفرغه عن النظر إلى أمور الدنيا ويقبل بكليته إلى ما يلقى إليه وكرره للمبالغة واستدل به على أن المؤدب لا يضرب صبيًّا أكثر من ثلاث ضربات، وقيل الغطة الأولى ليتخلى عن الدنيا، والثانية ليتفرغ لما يوحى إليه، والثالثة للمؤانسة، وعد بعضهم هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي إليه مثله (ثم أرسلني) أي أطلقني من الغط (فقال:{اقْرَأ} ) يا محمد {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .

قال الطيبي: هذا أمر بإيجاد القراءة مطلقًا وهو لا يختص بمقروء دون مقروء، فقوله (باسم ربك) حال، أي: اقرأ مفتتحًا باسم ربك، أي قل: بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا يدل على أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة. اهـ قسطلاني، وفي الإكمال قال أبو الحسن بن القصار من المالكية: وفي قوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} رد على الشافعي في قوله "بسم الله الرحمن الرحيم" آية من كل سورة وهذه أول سورة نزلت وليس ذلك فيها. اهـ ومقتضى كلام ابن القصار أن ما لم ينزل في تلك المرة من بقية السورة يكون ليس منها ولم يقل به أحد، وقال الأبي: لعل البسملة نزلت بعد.

وقوله {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وصف مناسب مشعر بعلية الأمر بالقراءة، والإطلاق في قوله (خلق) أولًا على منوال يعطي ويمنع وجعله توطئة لقوله {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ

ص: 135

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 3 - 5] فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

ــ

وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} أي الزائد في الكرم على كل كريم، وفيه دليل للجمهور على أنه أول ما نزل على الإطلاق، وروى الحافظ أبو عمرو الداني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أول شيء نزل من القرآن خمس آيات إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، وفي المرشد: أول ما نزل من القرآن هذه السورة في نمط، فلما بلغ جبريل {مَا لَمْ يَعْلَمْ} طوى النمط ومن ثم قال القراء إنه وقف تام. قال القرطبي: وهذا الحديث نص على أن أول ما نزل من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وهو أولى من حديث جابر الآتي إذ قال: إن أول ما نزل من القرآن {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} ، وسياق حديث جابر لا ينص على ذلك بل سكت عما ذكرته عائشة من نزول {اقْرَأْ} في حراء، وذكر جابر أنه رجع إلى خديجة فدثروه فأنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} وعائشة أخبرت بأول ما نزل عليه في حراء، فكان قول عائشة أولى. والله تعالى أعلم. اهـ

(قلت) يجمع بين الحديثين بأن حديث عائشة محمول على أن أول ما نزل من القرآن على الإطلاق {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وحديث جابر محمول على أن أول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحي ثلاث سنين يا أيها المدثر فلا معارضة بينهما حينئذ. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقال هنا {مِنْ عَلَقٍ} فجمع ولم يقل من علقة لأن الإنسان في معنى الجمع، وخص الإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه ({الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}) أي الذي علم ما علم بواسطة القلم وغيره، أي فكما علم القارئ بواسطة الكتابة والقلم يعلمك بدونهما ({عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} من جميع ما يتمتع به من العلم ويمتاز به عن غيره من الحيوان، وكان في بدء أمره لا يعلم شيئًا. وفي الآية دليل على فضل القراءة والكتابة والعلم، ولعمرك لولا القلم ما حفظت العلوم ولا أحصيت الجيوش ولضاعت الديانات ولا عرف الأواخر معارف الأوائل وعلومهم ومخترعاتهم وفنونهم، وقد بسطنا الكلام في الكتابة والخطوط والقلم في تفسيرنا "حدائق الروح والريحان" بما لا مزيد عليه فراجعه إن شئت الخوض في هذا المقام.

(فرجع بها) أي بهذه الآيات (رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حال كونه

ص: 136

تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَال: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ. ثُمَّ قَال لِخَدِيجَةَ: أَي خَدِيجَةُ، مَا لِي وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ. قَال: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي

ــ

(ترجف) بضم الجيم أي تخفق وتضطرب وترتعد (بوادره) جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق تضطرب عند فزع الإنسان لما فاجأه من الأمر المخالف للعادة والمألوف فنفر طبعه البشري وهاله ذلك ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها (حتى دخل) غاية للرجوع، وفي رواية البخاري "فدخل"(على خديجة) بنت خويلد أم المؤمنين التي ألف تأنيسها له فاعلمها بما وقع له (فقال) صلى الله عليه وسلم (زملوني زملوني) بكسر الميم مع التكرار مرتين أمر من التزميل وهو التلفيف أي لفوني بالثياب وغطوني بها، وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر وشدة الضغط والعادة جارية بسكون الرِّعدة بالتلفُّف، وجمع الضمير في (زملوني) تعظيمًا لأهله أعني خديجة جريًا على عادة الإنسان لأنه يخاطب زوجته بصيغة الجمع (فزملوه) بفتح الميم أي لفوه بالثياب (حتى ذهب عنه الروع) بفتح الراء أي الفزع (ثم قال) صلى الله عليه وسلم (لخديجة) رضي الله تعالى عنها (أي خديجة) أي يا خديجة (ما لي) أي شيء عجيب ثبت لي، فـ (ما) تعجبية في محل الرفع مبتدأ والجار والمجرور خبره، قال الأبي: هو استعظام وخوف أن لا يطيق ما حمل من النبوة لا شك فيه وجملة قوله (و) قد (أخبرها) أي أخبر خديجة (الخبر) أي خبر ما رأى حال من فاعل (قال)، وقوله (قال) تأكيد لـ (قال) الأول وهو ساقط في رواية البخاري أي قال رسول الله لخديجة والله (لقد خشيت) وخفت (على نفسي) الموت من شدة الرعب أو المرض كما جزم به في بهجة النفوس، أو أني لا أطيق حمل أعباء الوحي لما لقيته أولًا عند لقاء الملك وليس معناه الشك في أن ما أتى من الله تعالى، وأكد باللام وبـ (قد) تنبيهًا على تمكن الخشية من قلبه المقدس وخوفه على نفسه الشريفة، وعبارة القاضي عياض هنا: (قوله: "لقد خشيت على نفسي" ليس بمعنى الشك فيما أتاه من الله تعالى لكنه عساه خشي أنه لا يقوى على مقاومة هذا الأمر ولا يقدر على حمل أعباء الوحي فتزهق نفسه أو ينخلع قلبه لشدة ما لقيه أولًا من لقاء الملك أو يكون قوله هذا لأول ما رأى التباشير في النوم واليقظة وسمع الصوت قبل لقاء الملك وتحقيقه رسالة ربه فيكون ما خاف أولًا أن يكون

ص: 137

قَالتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كَلَّا. أَبْشِرْ، فَوَاللهِ، مَا يُخزِيكَ اللهُ أَبَدًا

ــ

من الشيطان فأما منذ ما جاءه الملك برسالة ربه فلا يجوز عليه الشك فيه ولا يخشى من تسلط الشيطان عليه) اهـ

وذكر أبو بكر الإسماعيلي أنه لا يمتنع أن يخشى ذلك لأول ما جاءه الملك قبل أن يحصل له العلم الضروري بان الذي جاءه ملك لأن العلم الضروري لا يحصل دفعة، وقد أثنى الله سبحانه بهذا العلم فقال:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله {وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} .

قال القاضي: وعلى هذا الطريق الذي ذكرنا يحمل كل ما ورد من مثل هذا في حديث المبعث. اهـ وعليه يكون المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد خشيت على نفسي" أي خشيت أن لا أنهض باعباء الرسالة وأن أضعف عنها. اهـ من هامش الإكمال.

وعبارة المفهم: (قوله: "لقد خشيت على نفسي" اختلف في سبب هذه الخشية وفي زمانها فقيل كانت عند رؤية التباشير وسمع الصوت قبل لقاء الملك وعند هذا يجوز أن يكون شك في حاله ولم يتحقق مآله وأما بعد مشافهة الملك وسماعه منه ما أخبره به وما قرأ عليه فلا يتصور في حقه شك في رسالته بوجه من الوجوه وإن كانت الخشية حصلت منه في هذا الحال فيحتمل أن كانت من ضعفه عن القيام بأعباء النبوة والرسالة وأنه لا يقدر عليها ويحتمل أن يكون خوفه من مباعدة قومه له ونفارهم عنه فيكذبونه ويؤذونه ويقتلونه وهذا في أول أمره قبل أن يعلم بمآل حاله وأن الله يعصمه من الناس وقول خديجة يشعر بهذا والله سبحانه وتعالي أعلم. اهـ

(قالت له خديجة) وفي رواية البخاري (فقالت) بالفاء التعقيبية أي فقالت له صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها (كلا) هي هنا كلمة نفي وابعادٍ وردعٍ أي ارتدع عما قلت ولا تقل ذلك، أو لا خوف عليك وقد تأتي (كلا) بمعنى حقًّا وبمعنى ألا التي يستفتح بها الكلام (أبشر) أي أثبت لنفسك البشارة واعتقدها لك (فوالله) الذي لا إله غيره (ما يخزيك الله) سبحانه وتعالي (أبدًا) أي في زمن من الأزمان المستقبلة ولا يفضحك ولا يهينك في حال من الأحوال، وقوله (يخزيك) بضم المثناة التحتية وبالخاء المعجمة الساكنة والزاي المكسورة وبالمثناة التحتية الساكنة أي ما يفضحك الله

ص: 138

وَاللهِ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ،

ــ

ولا يهينك بل يثبتك حتى لا ينسب إليك الكذب فيما قلته ولا يسلط عليك شيطان بتخبطه الذي حذرته، وفي رواية (ما يحزنك) بفتح أوله وبالحاء المهملة الساكنة والزاي المضمومة أو بضم أوله مع كسر الزاي وبالنون من الحزن يقال حزنه وأحزنه ومعنى يحزنك أي ما يوقع بك ما تخافه من ذلك.

وهذا من خديجة تأنيس له صلى الله عليه وسلم إن كان هذا أول ما رأى من المقدمات والتباشير وقبل تحقيقه الرسالة ولقاء الملك أو يكون قوله لما خشي من ضعف جسمه عن حمل ذلك. اهـ ع.

(والله) وفي رواية البخاري إسقاط هذا القسم (إنك) بكسر الهمزة لوقوعها في جواب القسم أو لوقوعها في ابتداء الكلام على رواية إسقاط القسم، قال الدماميني: وفصلت هذه الجملة عن الأولى لكونها جوابًا عن سؤال اقتضته وهو سؤال عن سبب خاص فحسن التأكيد وذلك أنها لما أثبتت القول بانتفاء الخزي عنه وأقسمت عليه انطوى ذلك على اعتقادها أن ذلك لسبب عظيم فيقدر السؤال عن خصوصه حتى كأنه قيل هل سبب ذلك هو الاتصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف كما يشير إليه كلامها فقالت إنك (لتصل الرحم) أي القرابة أي تصل ذا رحمك بالزيارة والمواساة والإهداء إليه (وتصدق الحديث) أي تتكلم بصدق الكلام ولو كذَبوك أو كذَّبوك. اهـ ملا علي، وفي رواية البخاري إسقاط هذا (وتحمل الكل) بفتح الكاف وتشديد اللام وهو الذي لا يستقل بامره أو الثِّقل بكسر المثلثة وإسكان القاف ومنه قوله تعالى:{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} قال المازري: قال النحاس: الكَلُّ بفتح الكاف هو الثقل من كل شيء في المؤنة أو الجسم، والكل أيضًا اليتيم والضعيف والمسافر الذي أصابه الإعياء في الطريق لفقد ما يبلغه المقصد وحمل هؤلاء بالإنفاق عليهم فمعنى الكل هو الذي أصابه الكلال وهو الإعياء والمعنى إنك لتواصل ذا قرابتك وتتكلم كلامًا صادقًا وتنفق على الضعفاء الذين أصابهم الكلال (وتكسب المعدوم) أي تصير الفقير غنيًّا بعطاياك الوافرة، وسمي الفقير معدومًا لعجزه عن النظر في المعيشة فهو كالمعدوم أو تكسب الناس وتحصل لهم ما لا يجدونه عند غيرك من الفوائد والفضائل والمكارم، وذكر ثابت بن حزم الأندلسي اللغوي في دلائله في معنى هذا الكلام: إنك تصيب وتكسب ما يعجز غيرك من كسبه ويعدمه،

ص: 139

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والعرب تتمادح بكسب المال لا سيما قريمش وقد عرفوا بقريمش التجار، وسموا قريشًا من التقرش، والتقرش: التجارة على أحد الأقوال في معناه.

وقال القاضي عياض: قوله (وتكسب المعدوم) رويناه عن الأكثر بفتح التاء مضارع كسب الثلاثي يقال كسب المال وكسبته زيدًا، وعن بعضهم بضمها مضارع أكسب الرباعي، قال القزاز: كسب الثلاثي حرف نادر، فالمعنى على أنه من الثلاثي المتعدي إلى واحدٍ، وتكسب المال الذي يعدم كسبه من غيرك لأنه صلى الله عليه وسلم كان مجدودًا في تجارته والعرب كانت تتمدح بكسب المال لاسيما قريش كما مر آنفًا، والمعنى على أنه من الثلاثي المتعدي إلى اثنين، وتكسب الناس المال الذي يعدم أي تعطيه غيرك، والمفعول الأول محذوف وكذلك المعنى على أنه من أكسب الرباعي وهذا المعنى أمدح في حقه وأليق بكرمه صلى الله عليه وسلم من الأول. انتهى.

وعبارة القسطلاني هنا قوله (وتكسب المعدوم) بفتح الفوقية على وزن تضرب، والكسب استفادة المال؛ أي تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، وكسب يتعدى بنفسه إلى واحد نحو كسبت المال هالى اثنين نحو كسبت غيري المال وهذا منه، ولابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني: وتكسب بضم أوله من أكسب أي تكسب غيرك المال المعدوم أي تتبرع به له فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، أو تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق أو تكسب المال وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله ثم تجود به وتنفقه في وجوه المكارم، والرواية الأولى أصح كما قاله عياض والرواية الثانية قال الخطابي: الصواب المعدم بلا واو (وتكسب المعدم) أي الففير لأن المعدوم لا يكسب، وأجيب بأنه لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، وفي تهذيب الأسماء للأزهري عن ابن الأعرابي: رجل عديم لا عقل له ومعدوم لا مال له، قال في المصابيح كأنهم نزلوا وجود من لا مال له منزلة العدم. اهـ وفي القرطبي وحكي عن ثعلب وابن الأعرابي أكسبت زيدًا مالًا ومنه قوله: فأكسبني مالًا وأكسبته حمدًا

ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم كان يكسب الناس ما لا يجدونه عند غيره من معدومات الفوائد والفضائل وهذا أولى في وصفه من قول من قال إن خديجة مدحته

ص: 140

وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ

ــ

باكتساب المال الكثير الذي لا يجده غيره ولا يقدر عليه. اهـ

(وتقري الضيف) بفتح أوله بلا همز ثلاثيًّا أي تكرمه، يقال: قريت الضيف أقريه قرىً وقراءً إذا أعطيته طعام الضيافة، ويقال للطعام الذي يضيفه به قرىً ويقال لفاعله قارٍ مثل قضى فهو قاض، وقال الأبي: وسمع بضمها رباعيًّا أي تهيئ له طعامه ونزله (وتعين على نوائب الحق) أي حوادثه جمع نائبة وهي الحادثة فيدخل فيه النوائب التي تتعرض للأغنياء من أداء دين أو دية أو قيام بوليمة، والمقصود أن جوده صلى الله عليه وسلم وصل للفقير والغني وعم كل الناس، وقيدت النوائب بالحق لأنها قد تكون في الحق والباطل كأداء دين من استدان لشرب الخمر أو الزنا إذا لم يتب، قال لبيد:

نوائب من خير وشر كلاهما

فلا الخير ممدود ولا الشر لازب

ولذلك أضافتها إلى الحق، وفيه إشارة إلى فضل خديجة وجزالة رأيها، وهذه الخصلة جامعة لأفراد ما سبق وغيره وإنما أجابته بكلام فيه قسم وتأكيد بإن واللام لتزيل حيرته ودهشته واستدلت على ما أقسمت عليه بامر استقرائي جامع لأصول مكارم الأخلاق، وفيه دليل على أن من طبع على أفعال الخير لا يصيبه ضير، قال الأبي: والمعنى كلا لا يصيبك الله بمكروه لما جمع فيك من خصال الحمد، وفيه أن مكارم الأخلاق تقي مصارع السوء، وفيه تأنيس من وقع في مخافة، وفيه نبل خديجة وكمال عقلها. اهـ. وفيه مدح الإنسان في وجهه للحاجة إليه في بعض الأحوال، قال السنوسي: قولها (إنك لتصل الرحم

) إلخ؛ هو من الاستئناف البياني لوقوعه في جواب سؤال مقدر عن علة الحكم الخاص الذي حكمت به كأنه قال لها: من أين حكمت بان الله سبحانه لا يفعل بي ما ذكرت، فقالت: (إنك

) إلخ، وعبرت هنا بالمضارع لتصور تلك الأحوال الحسنة الشاقة على الكثير.

وقولها (وتحمل الكل) كناية عن صبره على ما يثقل على النفس الصبر عليه، وقولها (وتكسب) بوزن تضرب (المعدوم) أي تقدر على كسب الشيء الذي يكون معدومًا وتحتاج إلى تحصيله لمعرفتك بطرق الاكتساب، فمدحته بما يستلزم كمال العقل الذي هو أشرف شيء مَنَّ به سبحانه وتعالى والنشاط الذي يكتسب به الإنسان المصالح الدنيوية والأخروية لنفسه ولغيره ضد ما عليه العاجز من الرجال الذي لا ينفع نفسه ولا غيره،

ص: 141

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كأنها رضي الله عنها تقول: ما شرفت به من النبوة وقصدت به من الرسالة أنت أهله ومهيأ به بما أودع سبحانه فيك من الخلال الكريمة اللائقة، لذلك {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيثُ يَجْعَلُ رِسَالتَهُ} فهون عليك ولا تخف ولا تجزع أن لا تقوم بواجب الحق في ذلك، فلله در خديجة رضي الله عنها فما أرق تسليتها للنبي صلى الله عليه وسلم وأجملها، قولها (وتعين على نوائب الحق) قيل معناه تعين الملهوف على ما أصابه من النوائب التي يحق على حماة الحقيقة المعاونة فيها، قال بعضهم: ويحتمل أن تعني كما تكسب المعدوم مالًا كذلك تعين الغني الواجد الذي هو ضد المعدوم على ما ينوبه أي يعرض له من الحقوق الشرعية لإنفاقه على العيال ونحو وليمة النكاح مما يجب أو يندب إليه والعادات المباحة مما يستحسن في العادة أن يعان فيها الغني والفقير فقد جمع صلوات الله تعالى وسلامه عليه مكارم الأخلاق كلها واحتوى المحاسن كلها بل بأسرها شرعيها وعاديها، ويحتمل أن تريد وتعين نفسك على ما ينوبك من الحقوق وغيرك على ما ينوبه منها، ويكون وصفًا جامعًا لما تقدم من مكارم الأخلاق وغيرها مما لم تذكرها أو كانها فذلكة ونتيجة وكأنها قالت جمعت المحاسن فما عسى أن أعد منها. اهـ سنوسي. (تنبيهات):(الأول) يؤخذ من تحنث النبي صلى الله عليه وسلم بغار حراء طلب الخلوة للعبادة والعزلة عن الناس للاستعانة بها على حضور القلب والأمن من الرياء والسمعة وفيها السلامة من أكثر أنواع الشر وقد ينتهي إلى حد الوجوب بحسب الأزمنة والأحوال، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم زمان العزلة ونعت أهله وأمر فيه بالتفرد، فروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيتم الناس مرجت عهودهم وخفت وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه، فقلت: ما أصنع عند ذلك جعلني الله فداءك، قال:"الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر الخاصة ودع أمر العامة"، وذكر في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ذلك أيام الهرج"، قيل: وما أيام الهرج، قال:"حين لا يأمن الرجل جليسه". وذكر ابن مسعود في خبر آخر للحارث بن عميرة أنه قال: "إن يرفع من عمرك فسيأتي عليك زمان كثير خطباؤه قليل علماؤه كثير سؤاله قليل عطفاؤه الهوى فيه قائد العلم"، قال: ومتى ذلك؟ قال: "إذا أميتت الصلاة وقبلت الرشا وبيع الدين بعرض يسير من الدنيا فالنجا ويحك ثم النجا".

ص: 142

فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ، أَخِي أَبِيهَا. وَكَانَ امْرَءًا

ــ

(الثاني) في غط جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن نيل معالي الأمور لا يكون إلا بالصبر على ما يكره الإنسان وتحمل المشاق العظيمة بحسب تلك المعالي سنة الله تعالى في عباده، قال تعالى:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} {سَلَامٌ عَلَيكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .

قال الشاعر:

تريدين إدراك المعالي رخيصة

ولا بد دون الشهد من إبر النحل

الآخر:

ومن لم يذق ذل التعلم ساعة

تجرع كأس الجهل طول حياته

الآخر:

الصبر مفتاح ما يرجّى

وكل خَير به يكون

فاصبر وإن طالت الليالي

فربما أمكن الحزون

وربما نيل باصطبار

ما قيل هيهات لا يكون

الآخر:

لا تيأسن وإن طالت مطالبة

إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته

ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ

اهـ. السنوسي

(فانطلقت) أي مضت وذهبت (به) صلى الله عليه وسلم (خديجة) رضي الله عنها مصاحبة له صلى الله عليه وسلم لأنها تلزم الفعل اللازم المعدى بالباء بخلاف المعدى بالهمزة كأذهبته. اهـ. قسط (حتى أتت) خديجة (به) صلى الله عليه وسلم (ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو) أي ورقة (ابن عم خديجة أخي أبيها) لأنه تجتمع معه خديجة في أسد لأنها بنت خويلد بن أسد (وكان) ورقة (امرأ قد) ترك عبادة الأوثان

ص: 143

تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ. فَقَالتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَي عَمِّ،

ــ

و(تنصر) أي دخل في دين النصارى وفي رواية (وكان امرأً تنصر)(في الجاهلية) بإسقاط (قد) وذلك أنه خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل لما كرها طريق الجاهلية إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين فأعجب ورقة النصرانية للقيه من لم يبدل شريعة عيسى عليه السلام والجاهلية ما قبل بعثته صلى الله عليه وسلم سموا بذلك لما كانوا عليه من فاحش الجهالة (وكان) ورقة أيضًا (يكتب الكتاب العربي) أي يعرف الخط العربي (فيكتب من الإنجيل بالعربية) أي باللغة العربية وذلك لتمكنه في دين النصارى ومعرفته بكتابهم يترجم عنه باللغة العربية مع أن الإنجيل سرياني أي يكتب عنه باللغة العربية (ما شاء الله) سبحانه وتعالي (أن يكتبـ) به منه، قيل إن التوراة عبرانية والإنجيل سرياني، والعبرانية نسبة إلى العبر بكسر العين وإسكان الموحدة فيهما زيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس قيل سميت بذلك لأن الخليل عليه السلام تكلم بها لما عبر الفرات فارًا من نمروذ، وعن سفيان ما نزل من السماء وحي إلا بالعربية وكانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تترجمه لقومها بلغتهم، والجار والمجرور في قوله (بالعربية) متعلق بقوله (ويكتب).

ووقع في رواية البخاري (فكتب من الإنجيل بالعبرانية) وبين الروايتين معارضة ولكن الجمع بينهما ممكن، وكيفيته أن يقال: إنه تمكن من معرفة دين النصارى بحيث صار يتصرف في الإنجيل فيكتب أي موضع شاء منه إن شاء بالعبرانية وإن شاء بالعربية فانتفت المعارضة. اهـ من السنوسي.

(وكان) ورقة (شيخًا كبيرًا) في السنن (قد عمي) وفقد بصره لكبر سنه وهذه جملة أكدت تحقق علمه وزيادة عقله بطول التجارب وكثرة ممارسة العلم وأهله (فقالت له) أي لورقة (خديجة) رضي الله تعالى عنها (أي عم) أي يا عمي، فـ (أي) حرف نداء لنداء القريب، (عم) منادى مضاف منصوبٌ بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، قال النواوي: وفي الرواية الأخرى (قالت خديجة أي ابن عم) هكذا هو في الأصول في الأول (عم) وفي الثاني (ابن عم) وكلاهما صحيح، أما الثاني فلأنه ابن عمها حقيقة كما ذكره أولًا في الحديث فإنه ورقة بن نوفل بن أسد وهي خديجة بنت خويلد بن أسد وأما الأول فسمته عمًا مجازًا للاحترام ومراعاة للأدب في خطاب

ص: 144

اسْمَعْ مِنِ ابنِ أَخِيكَ. قَال وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَآهُ. فَقَال لَهُ وَرَقَةُ: هذَا النَّامُوسُ

ــ

الصغير الكبير وهذا عادة العرب في آداب خطابهم يخاطب الصغير الكبير بـ (يا عم) احترامًا له ورفعًا لرتبته ولا يحصل هذا الغرض بقولها يا ابن عم فيكون قد وقع منها الخطابان والله أعلم. اهـ

وقولها (اسمع من ابن أخيك) ما يقول من عجائب ما رأى؛ جواب النداء، قالت رضي الله عنها (من ابن أخيك) تعني النبي صلى الله عليه وسلم ولم تقل من محمد تلطفًا منها فيما يوجب إقباله عليه بجميع فكره وكمال نصحه إذ جعلته عمًا له والعم أحد الأبوين ولهذا تلطف هو أيضًا فيما يزيل الوحشة عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يكتم عنه من أمره شيئًا بأن قال له: يا ابن أخي ماذا ترى، ولم يقل له يا محمد، أو قالت ذلك لأن الأب الثالث لورقة هو الأخ للأب الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عدولها رضي الله تعالى عنها عن حكاية أمر النبي صلى الله عليه وسلم مع معرفتها به إلى أن أحالت عليه حسن أدب لا سيما في حق النساء لاستعظام تقدمهن بنقل الكلام الذي يمكن ممن حضر من الرجال مطلقًا فكيف بصاحب القضية الذي هو أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء ومن أوتي جوامع الكلم وتستحيي الألسنة اللسن أن تفوه بكلمة عند حضور الرفيع المعظم صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم، ويحتمل أن يكون إحالة عليه لتتلذذ بسماع الحكاية من فيه ثانيًا أو للاحتياط لاحتمال التقصير في النقل، وأيضًا فقرائن الأحوال عند سماع القضية من صاحبها لها أثر عظيم في زيادة فهم السامع، ولهذا رأينا بعض شيوخنا الأكابر رحمهم الله تعالى يزجر من ينقل له سؤال سائل مع حضوره ومن هذا المعنى اشتراط أهل المذهب في النقل عن الشاهد تعذر السماع منه وقووه مع ذلك باشتراط أن ينقل عنه اثنان فأكثر. اهـ سنوسي.

(قال ورقة بن نوفل يا ابن أخي ماذا ترى) أي أي شيء ترى (فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما) وفي رواية بخبر ما (رآه فقال له) صلى الله عليه وسلم (ورقة) بن نوفل (هذا) الذي تراه هو (الناموس) بالنون والسين المهملة على وزن فاعول وهو صاحب سر الملك -والملك هنا هو الله سبحانه جل وعلا- والمراد به جبريل عليه السلام لأنه هو الذي يلقي إليه سبحانه وتعالى ما يوصل إلى أنبيائه عليهم السلام وقال

ص: 145

الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَي عليه السلام، يَا لَيتَنِي فِيهَا جَذَعًا،

ــ

ابن دريد: ناموس الرجل صاحب سره وكل شيء سترت فيه شيئًا فهو ناموس له يقال نمست السر بفتح النون والميم أنمسه بكسر الميم نمسًا أي كتمته، ونمست الرجل ونامسته ساررته، واتفقوا على أن جبريل عليه السلام يسمى الناموس واتفقوا على أنه المراد هنا، وعبارة المفهم هنا وقول ورقة (هذا الناموس) قال أبو عبيد في مصنفه: هو جبريل عليه السلام، وقال الهروي: وسمي جبريل ناموسًا لأن الله تعالى خصه بالوحي وعلم الغيب، وقال المطرز: قال ابن الأعرابي: لم يات في الكلام فاعول لام الكلمة سين إلا الناموس وهو صاحب سر الخير، والجاسوس وهو صاحب سر الشر، والجاروس وهو الكثير الأكل، والفاعوس وهو الحية، والبابوس وهو الصبي الرضيع، والراموس وهو القبر، والقاموس وهو وسط البحر، والقابوس وهو الجميل الوجه، والفاطوس وهو دابة يتشاءم بها، والفانوس وهو النمام، والجاموس ضرب من البقر ليس له سنام، قال ابن دريد في "الجمهرة" جاموس أعجمي وقد تكلمت به العرب، وقال غيره الحاسوس بالحاء المهملة من تحسسه بمعنى الجاسوس، وقال ابن دريد: الكابوس هو الذي يقع على الإنسان في نومه، والناموس موضع الصائد وناموس الرجل موضع سره وفي الحديث (ناعوس البحر) وسيأتي إن شاء الله تعالى. اهـ

أي هذا الذي تراه هو الناموس (الذي أنزل) على صيغة المجهول (على موسى) بن عمران (عليه السلام) أي الذي أنزله الله تعالى بالوحي على موسى عليه السلام وإنما خص موسى بالذكر دون عيسى مع كونه أقرب ومع كونه تنصر ليسأل عن ذلك أهل العلم بالتوراة فيوافقونه عليه ويصدقون ورقة فتقوم له الحجة في فتواه بخلاف النصارى فإنهم إنما يعلمون لعيسى الألوهية لا النبوة ولأن نزول جبريل على موسى متفق عليه عند أهل الكتابين بخلاف عيسى فإن كثيرًا من اليهود ينكرون نبوته وفي رواية الزبير بن بكار بلفظ عيسى.

(يا ليتني فيها) أي يا محمد أو يا هؤلاء أو يا قوم أتمنى أن أكون موجودًا فيها أي في أيام نبوتك وبعثتك حالة كوني (جذعًا) بفتح الجيم وسكون الذال المعجمة أي شابًّا قويًّا حتى أبالغ في نصرك وجعل أبوالبقاء المنادى محذوفًا أي يا محمد وتعقب بان قالْل ليتني قد يكون وحده فلا يكون معه منادى كقول مريم {يَاليتَنِي مِتُّ} وأجيب بأنه قد يجوز

ص: 146

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أن يجرد من نفسه نفسًا فيخاطبها فكأن مريم قالت يا نفسي ليتني مت وتقديره هنا يا محمد ليتني أن أكون موجودًا في أيام دعوتك إلى التوحيد حالة [كوني] جذعًا أي شابًّا قويًّا لأنصرك نصرًا مؤزرًا على من عاداك والجذع هو الصغير من البهائم واستعير للإنسان أي يا ليتني كنت شابًّا عند ظهور نبوتك حتى أقوى على المبالغة في نصرتك. اهـ ق

قال القرطبي: قوله (يا ليتني فيها جذعًا) الضمير في (فيها) عائد على النبوة أي في أيام نبوتك تمنى نصرته في مدة نبوته و (جذعًا) كذا صحت الرواية بالنصب فيه وعند ابن ماهان (جذع) بالرفع على أنه خبر (ليت) وكذا هو في "البخاري" ونصبه على أحد ثلاثة أوجه:

(أولها) على أنه خبر كان مقدرة أي يا ليتني أكون فيها جذعًا وهذا على رأي الكوفيين كما قالوا في قوله تعالى: {انْتَهُوا خَيرًا لَكُمْ} أي يكون خيرًا لكم، ومذهب البصريين أن (خيرًا) إنما انتصب بإضمار فعل دل عليه انتهوا، والتقدير انتهوا وافعلوا خيرًا، وقال الفراء: هو نعت لمصدر محذوف تقديره انتهوا انتهاء خيرًا لكم.

و(ثانيها) أنه حال وخبر ليت متعلق الجار والمجرور في (فيها) فيكون التقدير ليتني كائن فيها أي في مدة النبوة حالة كوني جذعًا.

و(ثالثها) أن يكون ليت أعملت عمل تمنيت فنصبت اسمين كما قاله الكوفيون وأنشدوا عليه:

يا ليت أيام الصبا رواجعا

وهذا فيه نظر. اهـ

وخص الجذع دون ما فوقه حرصًا على نمو قوته حتى يحضر معه جميع خطوبه والجذع هنا استعارة أو تشبيه بليغ فكأنه يقول: ليتني أكون شابًّا، فحذف الشاب واستعار له لفظ الجذع وهو من استعارة محسوس لمحسوس والجامع عقلي إذ المراد ما يترتب عليهما في الكفاية والإغناء وعبر بعضهم عن هذا الجامع بالقوة على النصرة وبعضهم جعله تشبيهًا وجعل وجه الشبه الأولية أي يا ليتني أن أكون أول من يجيبك ويؤمن كالجذع الذي هو أول الأسنان ولا خفاء بما فيه من الضعف. اهـ سنوسي.

(فإن قلت) كيف تمنى ورقة مستحيلًا وهو عود الشباب (أجيب) بأنه يسوغ تمني

ص: 147

يَا لَيتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟

ــ

المستحيل إذا كان في فعل خير أو بأن التمني ليس مقصودًا على بابه بل المراد به التنبيه على صحة ما أخبره به والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به أو قاله على سبيل التحسر لتحققه عدم عود الشباب. اهـ ق.

(يا ليتني) أي يا محمد أتمنى أن (أكون حيًّا) لأنصرك على من عاداك (إذ يخرجك قومك) قريش من مكة، واستعمل إذ التي للمضي في المستقبل كإذا على حد قوله تعالى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} تنزيلًا له منزلته لتحقق وقوعه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو) بفتح الواو لأن الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة ما بعدها على قوله (حين يخرجك قومك) على مذهب الجمهور وعلى مقدر على مذهب الزمخشري (مخرجي هم) بتشديد الياء مفتوحة لأن أصله مخرجوني جمع مخرج من الإخراج فحذفت نون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم فاجتمعت ياء المتكلم وواو علامة الرفع وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت ثم أبدلت الضمة التي كانت قبل الواو كسرة وفتحت ياء مخرجي تخفيفًا لئلا يجتمع الكسرة والياءان بعد كسرتين، وهم مبتدأ خبره مخرجي مقدمًا ولا يجوز العكس لأنه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة لأن إضافة مخرجي غير محضة لأنها لفظية لأنه اسم فاعل بمعنى الاستقبال والهمزة للاستفهام الإنكاري لأنه استبعد إخراجه عن الوطن لا سيما حرم الله وبلد أبيه إسماعيل عليه السلام من غير سبب يقتضي ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان جامعًا لأنواع المحاسن المقتضية لإكرامه وإنزاله منهم محل الروح من الجسد.

(فإن قلت) الأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف نحو قوله تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} و {فَأَينَ تَذْهَبُونَ (26)} وحينئذ ينبغي أن يقول هنا: (وأمخرجي هم) لأن العاطف لا يتقدم عليه جزء مما عطف به. (أجيب) بأن الهمزة خصت بتقديمها على العاطف تنبيهًا على أصالتها في أدوات الاستفهام وهو له الصدر نحو {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} و {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} هذا مذهب سيبويه والجمهور، وقال الزمخشري وجماعة: إن الهمزة في محلها الأصلي وإن العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، والتقدير أمعادي هم ومخرجي هم وإذا دعت الحاجة لمثل هذا التقدير فلا يستنكر بل مذهب الزمخشري ومن

ص: 148

قَال وَرَقَةُ: نَعَمْ. لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَومُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا"

ــ

معه أوضح في المعنى في مثل هذا المقام كما جرينا عليه وبيناه في تفسيرنا "حدائق الروح والريحان".

(فإن قلت) على مذهب الجمهور كيف عطف قوله (أو مخرجي هم) وهو إنشاء على قول ورقة (إذ يخرجك قومك) وهو خبر، وعطف الإنشاء على الخبر لا يجوز وأيضًا فهو عطف جملة على جملة والمتكلم مختلف. (أجيب) بأن القول بأن عطف الإنشاء على الخبر لا يجوز إنما هو رأي أهل البيان، والأصح عند أهل العربية جوازه وأما أهل البيان فيقدرون في مثل ذلك جملة بين الهمزة والواو وهي المعطوف عليها فالتركيب سائغ عند الفريقين، أما المجوزون لعطف الإنشاء على الخبر فواضح وأما المانعون فعلى التقدير المذكور، وقال بعضهم: يصح أن تكون جملة الاستفهام معطوفة على جملة التمني في قوله (ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك) بل هذا هو الظاهر فيكون المعطوف عليه أول الجملة لا آخرها الذي هو ظرف متعلق بها، والتمني إنشاء فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء، وأما العطف على جملة في كلام الغير فسائغ معروف في القرآن العظيم والكلام الفصيح قال تعالي:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} والله سبحانه وتعالي أعلم. اهـ ق.

(قال ورقة نعم) أي هم يخرجونك (لم يأت رجل قط) أي لم يأت نبي من الأنبياء في زمن من الأزمنة السابقة (بمثل ما جئت به) من الوحي (إلا عودي) أي إلا عاداه الناس وآذوه لأن الإخراج من المألوف موجب لذلك (وإن يدركني) بالجزم بإن الشرطية (يومك) بالرفع فاعل يدركني أي يوم ظهورك وانتشار نبوتك (أنصرك) بالجزم جواب الشرط (نصرًا) بالنصب على المصدرية (مؤزرًا) بضم الميم وفتح الزاي المشددة آخره راء مهملة مهموزًا أي قويًّا بليغًا مأخوذ من الأزر وهو القوة قال تعالى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)} [طه: 31] ومنه تأزر النبت إذا اشتد وقوي، ولما كان ورقة سابقًا واليوم متأخرًا أسند الإدراك لليوم لأن المتأخر هو الذي يدرك السابق وهذا ظاهره أنه أقر بنبوته ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإسلام فيكون مثل بحيرا، وفي إثبات الصحبة له نظر لكن في زيادات المغازي من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق (فقال له ورقة:

ص: 149

307 -

(00)(00) وحدّثني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَندُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. قَال: قَال الزُّهْرِيُّ: وأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ؛

ــ

أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل

) الحديث، وفي آخره فلما توفي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني"، وأخرجه البيهقي من هذا الوجه في الدلائل وقال: إنه منقطع، ومال البلقيني إلى أنه يكون بذلك أول من أسلم من الرجال وبه قال العراقي في نكته على ابن الصلاح، وذكره ابن منده في الصحابة. اهـ ق.

وهذا الحديث -أعني حديث عائشة رضي الله تعالى عنها- شارك المؤلف في روايته أحمد (6/ 153 و 232) والبخاري (3) والترمذي (3636) ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في هذا الحديث فقال:

(307)

- (00)(00) وحدثني محمد بن رافع) القشيري مولاهم أبو عبد الله النيسابوري، ثقة من (11) مات سنة (245) روى عنه في (11) بابًا تقريبًا، قال محمد بن رافع (حدثنا عبد الرزاق) ابن همام بن نافع الحميري مولاهم أبو بكر الصنعاني ثقة حافظ من (9) مات سنة (211) روى عنه في (7) أبواب، قال عبد الرزاق (أخبرنا معمر) بن راشد الأزدي مولاهم أبو عروة البصري ثقة ثبت من (7) مات سنة (154) روى عنه في (9) أبواب تقريبًا (قال) معمر (قال) محمد بن مسلم (الزهري) أبو بكر المدني ثقة متقن من (4) مات سنة (125) روى عنه في (23) بابًا تقريبًا (وأخبرني عروة) بن الزبير بن العوام الأسدي أبو عبد الله المدني ثقة من (2) مات سنة (94) روى عنه في (20) بابا تقريبًا (عن عائشة) الصديقة أم المؤمنين أم عبد الله زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم المدنية، وهذا السند من سداسياته رجاله ثلاثة منهم مدنيون وواحد بصري وواحد صنعاني وواحد نيسابوري وفيه رواية تابعي عن تابعي، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة معمر ليونس بن يزيد الأيلي في رواية هذا الحديث عن الزهري، وفائدة هذه المتابعة تقوية السند الأول لأن معمرًا ثقة ثبت ويونس بن يزيد له أوهام وأخطاء وإن كان ثقة، وقوله في هذا السند (أخبرنا معمر قال: قال الزهري وأخبرني عروة) قال النووي: هكذا في جميع الأصول: (وأخبرني عروة) بالواو وهو الصحيح، والقائل (وأخبرني) هو

ص: 150

أَنَّهَا قَالتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، غَيرَ أَنَّهُ قَال: فَوَاللهِ لَا يُحْزِنُكَ اللهُ أَبَدًا. وَقَال: قَالتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ.

308 -

(00)(00) وحدّثني عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيبِ بْنِ اللَّيثِ، قال: حَدَّثَنِي أَبِي

ــ

الزهري، وفي هذه الواو فائدة لطيفة قدمناها في مواضع وهي: أن معمرًا سمع من الزهري أحاديث قال الزهري فيها: أخبرني عروة بكذا وأخبرني عروة بكذا إلى آخرها فإذا أراد معمر رواية غير الأول قال: قال الزهري وأخبرني عروة بالواو ليكون راويًا كما سمع وهذا من الاحتياط والتحقيق والمحافظة على الألفاظ والتحري فيها والله أعلم. انتهى (أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من) جنس (الوحي

وساق) معمر (الحديث بمثل حديث يونس) بن يزيد وشبهه لفظًا ومعنى إلا ما استثنى منه بقوله (غير أنه) أي لكن أن معمرًا (قال) في روايته (فوالله لا يحزنك الله أبدًا) بضم الياء وسكون الحاء وكسر الزاي أي لا يوقعك الله سبحانه في الحزن والهم في جميع الأزمنة المستقبلة (و) غير أنه (قال) أي معمر في روايته (قالت خديجة أي ابن عم اسمع من ابن أخيك) ما يقول من عجائب ما رأى، وفي هذه الرواية إبدال الحاء المهملة من الخاء المعجمة والنون من الياء في قوله (لا يحزنك) بدل لا يخزيك والحزن لازم يتعدى بالحرف كقوله تعالى:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيهِمْ} ويتعدى بالهمزة كقوله: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} وضبط بالوجهين هنا كما مر، وزيادة (ابن) على (عم) في قوله (أي ابن عم) والكلام هنا على حقيقته فلم يتابعه في هذا اللفظ فإن قول خديجة في رواية يونس (أي عم اسمع) كما مر ففيه مجاز على هذه الرواية، ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فقال:

(308)

- (00)(00) وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث) بن سعد الفهمي مولاهم أبو عبد الله المصري ثقة من (11) مات سنة (248) روى عنه في الإيمان والفتن وغيرهما عن أبيه (قال) عبد الملك (حدثني أبي) شعيب بن الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم من قيس عيلان أبو عبد الملك المصري روى عن أبيه في الإيمان وغيره ويروي عنه (م د س) وابنه عبد الملك ثقة من (10) مات سنة (199) روى

ص: 151

عَنْ جَدِّي، قَال: حَدَّثَنِي عُقَيلُ بْنُ خَالِدٍ، قَال ابْنُ شِهَابٍ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيرِ يَقُولُ: قَالتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ. وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّل حَدِيثِهِمَا. مِنْ قَوْلِهِ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ

ــ

عنه في الإيمان وغيره (عن جدي) ليث بن سعد بن ضبد الرحمن الفهمي مولاهم أبي الحارث المصري ثقة ثبت من (7) مات سنة (175) روى عنه في (15) بابًا تقريبًا (قال) ليث بن سعد (حدثني عُقيل) بضم العين (بن خالد) القرشي الأموي مولاهم مولى عثمان بن عفان أبو خالد المصري سكن المدينة ثم الشام ثم مصر، قال أبو حاتم: هو أثبت من معمر ثقة ثبت من (6) مات سنة (144) على الصحيح روى عنه في الإيمان والصلاة وغيرهما، أنه قال (قال) محمد بن مسلم (بن شهاب) الزهري أبو بكر المدني (سمعت عروة بن الزبير يقول قالت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: فرجع) رسول الله صلى الله عليه وسلم من حراء (إلى خديجة) حالة كونه (يرجف) ويرتعد (فؤاده) وقلبه أي حالة كونه في رجوعه ووصوله إلى أهله يخفق قلبه ويضطرب من شدة الخوف ووحشة رؤية ما لم يعهد والمشقة التي نالته مع ذلك من الضغط والتكليف بقراءة ما ليس معه ولولا تثبيت الله سبحانه إياه لما اقتصر الأمر في ذلك على مجرد اضطراب القلب وخفقانه اللازم للفزع غالبًا، والسبب في هذا الرجف أن الفزع يذهب بحرارة البدن الباطنة وتفر أمامه متفرقة إلى مسام صحة الظاهر فيعقبها البرد فتأتي الرعدة فطلب صلوات الله وسلامه عليه التدثر ليتدفأ فترجع إليه الحرارة أو كأنه لقرب رؤية ما أفزعه مشاهد له في الحال يتصوره وشأن الإنسان عند رؤية ما يفزع تغميض عينيه وتغطية رأسه وبدنه غيبة من ذلك المحسوس. اهـ سنوسي. وهذا بدل ما قال في رواية يونس من قوله (فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره) وهذا السند من سباعياته رجاله ثلاثة منهم مدنيون وأربعة مصريون، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة عقيل بن خالد ليونس ومعمر في رواية هذا الحديث عن الزهري، وفائدة هذه المتابعة تقوية السندين الأولين لأن عقيلًا أثبت منهما، قال ليث بن سعد (واقتص) عقيل بن خالد وذكر (الحديث) السابق (بمثل حديث يونس ومعمر) أي حالة كونه مماثلًا لحديثهما في اللفظ والمعنى إلا فيما استثنى بقوله (و) لكن (لم يذكر) عقيل بن خالد (أول حديثهما) أي أول حديث يونس ومعمر (من قوله) أي من قول الراوي (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله

ص: 152

عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ. وَتَابَعَ يُونُسَ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَاللهِ، لا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا. وَذَكَرَ قَوْلَ خَدِيجَةَ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ.

309 -

(152)(75) وحدّثني أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَال: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَال: قَال ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الأنْصَارِيَّ (وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

ــ

عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة وتابع) عقيل بن خالد (يونس) بن يزيد أي وافقه (على) رواية (قوله) أي قول الراوي (فوالله لا يخزيك الله أبدًا) بالخاء المعجمة والياء التحتانية (وذكر) عقيل أيضًا (قول خديجة) لورقة (أي ابن عم اسمع من ابن أخيك) بزيادة لفظ (ابن عم) فخالف في هذا يونس ووافق معمرًا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث عائشة بحديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما فقال:

(309)

- (152)(75)(وحدثني أبو الطاهر) أحمد بن عمرو بن السرح الأموي مولاهم الفقيه المصري ثقة من (10) مات سنة (250) روى عن ابن وهب في الإيمان وغيره، قال أبو الطاهر (أخبرنا) عبد الله (بن وهب) بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري ثقة من (9) مات سنة (197) روى عنه في (13) بابًا تقريبًا (قال) ابن وهب (حدثني يونس) بن يزيد الأيلي أبو يزيد الأموي مولاهم ثقة إلا أن في روايته وهمًا وخطأ من (7) مات سنة (159) روى عنه في (7) أبواب (قال) يونس بن يزيد (قال) لنا محمد بن مسلم بن عبيد الله (بن شهاب) الزهري أبو بكر المدني ثقة متقن من (4) مات سنة (125) روى عنه في (23) بابًا تقريبًا (أخبرني أبو سلمة) عبد الله (بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني ثقة فقيه كثير الحديث من (3) مات سنة (94) روى عنه في (14) بابًا تقريبًا (أن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام (الأنصاري) السلمي بفتحتين أبا عبد الرحمن المدني له (1540) حديثًا، الصحابي بن الصحابي مات سنة (78) روى عنه في (16) بابا، وهذا السند من سداسياته رجاله ثلاثة منهم مدنيون واثنان مصريان وواحد أيلي، وفيه رواية تابعي عن تابعي (وكان) جابر بن عبد الله (من) أشهر (أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم حفظًا للحديث وعلى هذا التقدير فلا إشكال لأنه بين شهرته وأكثريته حفظًا للحديث، وقيل إنما ذكر الراوي ذلك لأنه حدث حديثه

ص: 153

كَانَ يُحَدِّثُ. قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْي (قَال فِي حَدِيثِهِ) "فَبَينَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي،

ــ

لمن هو أصغر منه وخاف عليه لصغر سنه أن لا يعرف كون جابر صحابيًّا ثم استمر التحديث بذلك إلى الآن، قال الأبي: وكان منهم من يقول إنما قال ذلك للتنبيه على عِظَمِ ما يلقيه بعد. اهـ

قال النواوي: قوله (أن جابر بن عبد الله الأنصاري وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا نوع مما يتكرر في الحديث ينبغي التنبيه عليه وهو أنه قال عن جابر وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن جابر بن عبد الله الأنصاري من مشهوري الصحابة أشد شهرة بل هو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوابه أن بعض الرواة خاطب به من يتوهم أنه يخفى عليه كونه صحابيًّا فبينه إزالة للوهم واستمرت الرواية به، فإن قيل فهؤلاء الرواة في هذا الإسناد أئمة جلة فكيف يتوهم خفاء صحبة جابر في حقهم؟ فالجواب: أن بيان هذا لبعضهم كان في حالة صغره قبل تمكنه ومعرفته، ثم رواه عند كماله كما سمعه وهذا الذي ذكرته في جابر يتكرر مثله في كثيرين من الصحابة وجواب ذلك كله ما ذكرته، والله أعلم. اهـ

وهذه الجملة -أعني جملة قوله (وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - معترضة بين أن وخبرها وهو قوله كان يحدث) أي أن جابرًا كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا في بدئ الوحي إليه (قال) جابر (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو) صلى الله عليه وسلم (يحدث عن فترة الوحي) إليه أي عن احتباس الوحي عنه وعدم تتابعه وتواليه في النزول، وجملة قوله (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (في حديثه) عن فترة الوحي (فبينا أنا أمشي) في زقاق مكة (سمعت صوتًا من) جهة (السماء فرفعت رأسي) إلى السماء لأنظر صاحب الصوت بدل من جملة (قال) الأول.

قوله (عن فترة الوحي) وفترة الوحي احتباسه، قال الأبي: لم يقع في الحديث بيان كم فتر، وفي بعض الأحاديث أنه فتر سنتين ونصفًا، واختلف في إقامته بمكة بعد البعثة فروى ابن عباس ثلاث عشرة سنة وروى غيره عشرًا، قيل: ويجمع بين القولين بأن من اعتد بزمن الرؤيا وزمن فترة الوحي قال: ثلاث عشرة سنة، ومن لم يعتد بذلك قال:

ص: 154

فَإِذَا الْمَلَكُ الذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ

ــ

عشرًا، وفي بعض الأحاديث أنه لما فتر الوحي كان يأتي شواهق الجبال يهم أن يلقي نفسه منها فكان جبريل يتراءى له فيقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. اهـ

قوله (فبينا أنا أمشي) قال السنوسي: (بين) في أصلها ظرف مكان يتخلل بين شيئين أو أشياء تحقيقًا أو تقديرًا ثم زيدت عليها الألف كما هنا أو (ما) نحو (بينما) فصارت ظرف زمان وكانت قبل اتصالها بهما تضاف إلى مفرد وبعده تضاف إلى جملة اسمية وكأنهما كفّاها عن عملها في المفرد الذي كانت تضاف إليه وقيل: (بينا) و (بينما) أصلان لأنفسهما وتقع بعدهما (إذا) كما هنا وتركها معهما أقيس وأكثر وأفصح، و (إذا) بعدهما يحتمل أن تكون للمفاجأة فيختلف فيها بالحرفية والظرفية الزمانية أو المكانية كالخلاف في (إذ) حيث تأتي للمفاجأة، وقيل (إذا) زائدة والعامل في (بينا) و (بينما) ما بعد (إذا) من فعل، وعلى القول بعدم زيادتها فالعامل فيهما فعل يدل عليه الفعل الذي بعد (إذا) وقيل ما يفهم من الكلام و (إذا) بدل منهما. واختلف أيضًا في العامل فيهما إن لم تكن (إذا) فقيل الفعل بعدهما وقيل معنى الجملة، ومن النحويين من زعم أنهما بعد زيادة الألف و (ما) تضافان إلى زمن مفرد مقدر فالتقدير في نحو بينا زيد قائم جاء عمرو بينا أوقات زيد قائم.

وتقدير المعنى في الحديث على الجادة سمعت بين خلال مشيي صوتًا حين سمعت صوتًا من السماء أي من جهتها ولا يخفى تقديره على بقية الأقوال. والصوت الذي سمعه من جهة السماء هو نداء الملك إياه يا رسول الله أو يا محمد أو نحوه، وفاء (فرفعت) للتعقيب والتسبيب وفاء (فإذا) للتعقيب خاصة وهي عاطفة للجملة الاسمية على الفعلية وقيل زائدة لازمة وقيل كالتي في جواب الشرط و (إذا) للمفاجاة وفيها الخلاف السابق، قال بعض الشيوخ: ومن يراها حرفًا أظنه يجعلها مؤكدة لمعنى الفاء ولا يظهر لها غيره ونقله ابن مالك عن الأخفش ومعنى المفاجأة وقوع الأمر بالحضرة أول كل شيء وهذا معنى فاء التعقيب بلا مزيد والمعنى ففي أثناء أوقات مشيي في زقاق مكة فاجأني سماع صوت فرفعت رأسي أي بصري إلى السماء كما هو رواية البخاري (فإذا الملك الذي جاءني بحراء) حاضر، والفاء في (فإذا) عاطفة و (إذا) فجائية نحو قولهم (خرجت فإذا الأسد بالباب) والملك مبتدأ والموصول صفته وخبر المبتدأ محذوف تقديره

ص: 155

جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّ بَينَ السَّمَاءِ والأَرْضِ" قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا،

ــ

شاهد وقوله (جالسًا) بالنصب حال من الضمير المستكن في الخبر المحذوف وبالرفع خبر المبتدأ كما هو رواية البخاري، والتقدير فإذا الملك الذي جاءني بحراء شاهد أو حاضر حالة كونه جالسًا (على كرسي) بضم الكاف وقد تكسر، موضوع (بين السماء والأرض) ظرف في محل جر صفة لكرسي، والمعنى فرفعت بصري ففاجأني رؤية الملك الذي جاءني بحراء حالة كونه جالسًا على كرسي موضوع بين السماء والأرض، وفي قوله (فإذا الملك الذي جاءني بحراء) دليل على صحة القول بأن (اقرأ) أول ما نزل ثم المدثر ولما لم يذكر هاتين الجملتين في التفسير من حديث ابن شهاب بل اقتصر على حديثه عن جابر قال من قال بحسب ما هناك إن المدثر أول ما نزل.

وفي جلوس الملك على الكرسي لا سيما وهو مرتفع بين السماء والأرض بحيث لا يحتاج إلى ارتفاع على الكرسي دليل على جلوس العلماء للتعليم على الكرسي ليستمع الناس وليكونوا على السواء في مواجهته والأخذ عنه لا سيما إن كثروا، ومن ثم شرع المنبر في الجمع والأعياد ومحل الخطب، والملك وإن كان مستغنيًا عن الكرسي بإمكان ثبوته دونه في الهواء كما ثبت معه فيه لكنه تعليم وإشارة إلى التزام المعلم التؤدة والوقار والهيئة الحسنة كما كان مالك رحمه الله تعالى يلتزم الجلوس على المنصة حين يجلس للتحديث متجملًا متطيبًا، وإشارة إلى التحريض على التزام العلم فإنه يوصل صاحبه إلى المراقي العلمية من الكراسي والمنابر ونحوها في الدنيا والآخرة أي إن صبرت على مشاق التعلم من غيرك ارتفعت إلى مثل هذا المقام لتعلم غيرك. ومثل هذا الاستدلال ما في الجمعة من صحيح مسلم عن أبي رفاعة قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب؛ رجل غريب يسأل عن دينه فأقبل علي وأتي بكرسي حسبت قوائمه من حديد فقعد عليه يعلمني ثم أتى خطبته. اهـ سنوسي.

(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجُئِثْث) بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضمير أي فزعت وخفت (منه) أي من الملك (فرقًا) أي خوفًا فهو مفعول مطلق معنوي لـ (جئثت) أي فزعت منه فزعًا وخفت منه خوفًا، وستأتي رواية (جثثت) بجيم ومثلثتين بمعناه وفي نسخة (فحثثت) بحاء مهملة وثاءين ومعناه أسرعت،

ص: 156

فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" فَدَثَّرُونِي. فَأَنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)

ــ

وفي رواية البخاري (فرعبت منه) بضم الراء وكسر العين المهملة مبنيًّا للمفعول، وللأصيلي (فرعبت) بفتح الراء وضم العين أي فزعت من الملك (فرجعت) إلى أهلي بسبب الرعب والفزع منه (فقلت) لهم (زملوني زملوني) بالتكرار مرتين أي لفوني بالثياب (فدثروني) بصيغة الماضي أي لفوني بالثياب لتزول عني الرعدة والفزع، والتزميل والتدثير بمعنى واحد وهو التلفيف.

(فأنزل الله) سبحانه (تبارك) أي تزايد خيره وآلاؤه (وتعالى) أي ترفع عما لا يليق به من سمات النقص {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] إيناسًا له وتلطفًا به والتدثير والتزميل بمعنى واحد، ودل هذا الحديث على أن السورة مكية وأن هذا سبب نزولها والمعنى يا أيها المدثر بثيابه، وعن عكرمة: أي المدثر بالنبوة وأعبائها.

قال السهيلي: قال بعض أهل العلم في تسميته صلى الله عليه وسلم بالمدثر في هذا المقام ملاطفة وتأنيس، ومن عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمي المخاطب باسم مشتق من الحالة التي هو فيها كقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه:"قم يا نومان" ولعلي رضي الله عنه وقد ترب جنبه: "قم أبا تراب" ولو ناداه سبحانه في حالة كربه هذه باسمه أو بالأمر المجرد عن هذه الملاطفة لهاله ذلك، ولكن لما بدأ بـ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أنس وعلم أن ربه راض عنه، ألا تراه كيف قال عندما لقي من أهل الطائف من شدة البلاء والكرب ما لقي "رب إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي" إلى آخر الدعاء فكان مطلوبه صلى الله عليه وسلم رضا ربه وبه كانت تهون عليه الشدائد. اهـ.

({قُمْ}) أي من اضطجاعك مدثرًا أو من نومك ({فَأَنْذِرْ}) أي حذر وخوف من العذاب من لم يؤمن بك أو بادر بإنذار قومك أو الناس أو الثقلين أجمعين لأنه بعث إلى الجميع وهو أولى، ولهذا لم يعلق بمفعول فيعم وإلا لزم التحكم أو ينزل منزلة اللازم أي أوجد الإنذار أو حذر من كذَّبَك أن ينزل عليهم من عذاب الله ووقائعه مثل ما نزل بمن كذب الرسل من قبلك، ودلت على المبادرة بالإنذار الفاء العاطفة على (قم) لأنها للتعقيب واقتصر على الإنذار لأن التبشير إنما يكون لمن دخل في الإسلام ولم يكن إذ

ص: 157

وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 3 - 5] وَهِيَ الأوثَانُ قَال: ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ.

315 -

(00)(00) وحدّثني عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيبٍ بْنِ اللَّيثِ، قَال: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي،

ــ

ذاك من دخل فيه. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ) أي واخصص ربك الذي خلقك وأمرك أن تقرأ باسمه وعلم الإنسان بالقلم ما لم يكن يعلم بالتكبير والتعظيم ولا يكبر عليك أمر من يخالفك من المخلوقين فإن جميعهم مربوب في قبضة ربك وربهم فهو الذي يكفيك أمرهم وينصرك عليهم، ودل على تخصيصه بالتكبير تقديمه على عامله وإدخال الفاء عليه التي تعطي فاء جواب الشرط وهو هنا شرط عام غير مخصوص بشيء بل عام في جميع الأحوال، يدل على أمره بالتزام ذلك في جميعها قال الزمخشري: كأنه قيل مهما يكن من شيء فلا تدع تكبيره يعني أي شيء وقع أو كنت فيه وقيل الفاء زائدة ({وَثِيَابَكَ}) أي لباسك ({فَطَهِّرْ}) من الأوساخ والنجاسات لتصلي فيها ({وَالرُّجْزَ}) أي وعبادة الرجز والأصنام ({فَاهْجُرْ}) أي فابتعد منها وفسر أبو سلمة الرّجز بقوله (وهي) أي الرجز (الأوثان) أي الأصنام.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثم) بعد نزول هذه الآيات (تتابع الوحي) أي تواتر وتوالى وكثر نزول الوحي، ومقصد هذه السورة أمره صلى الله عليه وسلم بإنذار الخلق عذاب الله إن عبدوا غيره أو عصوه فيما أمرهم به من الاعتراف بوحدانيته وعباداته، وبراعة مطلعها نص في ذلك ووسطها وآخرها مناسب لذلك متصل بعضه ببعض حتى قيل إن (نذيرًا للبشر) حال من فاعل (قم)، وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته البخاري في مواضع كثيرة في بدء الخلق وفي التفسير والترمذي في التفسير والنسائي في التفسير في الكبرى.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث جابر رضي الله تعالى عنه فقال:

(310)

- (00)(00) وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث) بن سعد الفهمي المصري ثقة من (11) مات سنة (248)(قال) عبد الملك (حدثني أبي) شعيب بن الليث الفهمي المصري مولاهم ثقة من (10) مات سنة (199)(عن جدي) ليث بن سعد

ص: 158

قَال: حَدَّثَنِي عُقْيَلُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَال: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمْنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً. فَبَينَا أَنَا أَمْشِي". ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ غَيرَ أَنهُ قَال: "فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيتُ إِلَى الأَرْضِ" قَال:

ــ

الفهمي مولاهم أصله من قيس عيلان أبي الحارث المصري ثقة من (7) مات سنة (175)(قال) ليث بن سعد (حدثني عقيل بن خالد) القرشي الأموي مولاهم أبو خالد المصري ثقة ثبت من (6) مات سنة (144)(عن) محمد بن مسلم بن عبيد الله (ابن شهاب) الزهري أبي بكر المدني (قال) ابن شهاب (سمعت أبا سلمة) عبد الله (بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني حالة كون أبي سلمة (يقول أخبرني جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي (أنه) أي أن جابرًا (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا السند من سباعياته رجاله أربعة منهم مصريون وثلاثة مدنيون، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة عقيل بن خالد ليونس بن يزيد في رواية هذا الحديث عن ابن شهاب، وفائدة هذه المتابعة تقوية السند الأول لأن عقيلًا أوثق من يونس مع بيان محل المخالفة بين الروايتين؛ أي أن جابرًا سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة كونه (يقول ثم) بعد ما جاءني الملك بحراء (فتر) أي حبس وانقطع (الوحي) أي نزوله (عني فترة) أي مدة سنتين أو ثلاث (فبينا أنا أمشي) أي فبين أوقات مشيي في زقاق مكة (ثم) بعد هذه الكلمات (ذكر) عقيل بن خالد (مثل حديث يونس) بن يزيد لفظًا ومعنى ثم استثنى من المماثلة بقوله (غير أنه) أي غير أن عقيل بن خالد (قال) في روايته (فجثثت) أي فزعت (منه) أي من الملك (فرقًا) أي خوفًا بمثلثتين بعد جيم مضمومة بخلاف رواية يونس فإنها بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم مثلثة ساكنة كما تقدم ومعناهما واحد (حتى هويت) وسقطت (إلى الأرض) بفتح الواو من هويت لأنه من باب رميت، وكسر الواو فيه غلط كما وقع في بعض النسخ، هوى إلى الأرض وأهوى إليها لغتان أي سقط، وقال الإمام المازري: صوابه أهويت بالألف، قال القاضي: هو الأصح الأشهر، وقيل هوى سقط من قرب وأهوى سقط من بعد وقيل هوى سقط بنفسه وأهوى أسقطه غيره ومنه قوله تعالى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} أي سقط وقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)} أي أسقطها جبريل عليه السلام بعد أن رفعها إلى السماء (قال) عقيل في روايته.

ص: 159

وَقَال أَبُو سَلَمَةَ: وَ (الرُّجْزُ) الأَوْثَانُ. قَال: ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ بَعْدُ، وَتَتَابَعَ.

311 -

(00)(00) وحدّثني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ

ــ

(وقال أبو سلمة والرجز الأوثان) أي الأصنام فصرح عقيل بأنه مدرج من كلام أبي سلمة بخلاف يونس فإنه لم يصرح بذلك كما مر.

قال جابر (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (ثم) بعد نزول سورة المدثر (حمي الوحي) أي كثر نزوله وازداد، من قولهم حميت النار أو الشمس أي قويت حرارتها، وأما قوله (بعد) أي بعد نزول هذه السورة أو بعد الفترة المذكورة فهو تصريح بما علم من كلمة ثم (وتتابع) أي تواصل نزوله وتلاحق مرة بعد مرة وجَعْلُه تأسيسًا أولى من جعله تأكيدًا لـ (حمي) لأن الكثرة تحصل بمرة فلا تقتضي التلاحق والتواصل.

قال السنوسي: (قوله ثم حمي الوحي) أي اشتد تتابعه فذكر التتابع معه تقوية للمعنى وتفسير له. (قلت) معنى حمي الوحي كثر نزوله بعد نزول المدثر واستعير الحمي الذي هو شدة حر الشمس أو التنور للكثرة كما يستعار لشدة القتال في قولهم: حمي الوطيس، والوطيس التنور، وكذلك للجد في الأمور لأن الكثير يقوى ويثقل حمله كحر النار فهو من استعارة معقول لمعقول والجامع كذلك (وتتابع) ويروى وتواتر أي توالى في النزول على حال كثرته ولم تكن كثرة منقطعة فهو من الاحتراس وليس بمعنى واحد كما أشعر به كلام بعضهم كعياض. اهـ

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما فقال:

(311)

- (00)(00)(وحدثني محمد بن رافع) القشيري النيسابوري ثقة من (11) مات سنة (245) قال محمد (حدثنا عبد الرزاق) بن همام الحميري الصنعاني ثقة من (9) مات سنة (211) قال عبد الرزاق (أخبرنا معمر) بن راشد الأزدي أبو عروة البصري ثقة من (7) مات سنة (154)(عن) محمد بن مسلم (الزهري) أبي بكر المدني ثقة متقن من (4) مات سنة (125) والجار والمجرور في قوله (بهذا الإسناد) متعلق بما عمل في المتابع والإشارة راجعة إلى ما بعد شيخ المتابع، والتقدير أخبرنا معمر عن الزهري بهذا الإسناد يعني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن الزهري المدني عن جابر بن

ص: 160

نَحْوَ حَدِيثِ يُونُسَ وَقَال: فَأَنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} إلَى قَوْلِهِ {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلاةُ. (وَهِيَ الأوثَانُ) وَقَال: "فَجُثِثْتُ مِنْهُ" كَمَا قَال عُقَيلٌ.

312 -

(00)(00) وحدّثنا زُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قال: سَمِعْتُ يَحْيَى يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَال:

ــ

عبد الله الأنصاري المدني (نحو حديث يونس) بن يزيد عن الزهري أي نظيره في بعض الألفاظ وبعض المعاني، وهذا السند من سداسياته رجاله ثلاثة منهم مدنيون وواحد بصري وواحد صنعاني وواحد نيسابوري، وغرضه بسوقه بيان متابعة معمر ليونس في رواية هذا الحديث عن الزهري، وفائدة هذه المتابعة تقوية السند الأول.

(و) لكن (قال) معمر في روايته (فأنزل الله تبارك وتعالي {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} إلى قوله {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وقوله (قبل أن تفرض الصلاة) الخمس، ظرف متعلق بـ (أنزل)، قال معمر أيضًا: قال أبو سلمة (و) الرجز (هي الأوثان وقال) معمر أيضًا (فجثثت منه) بمثلثتين (كما قال عقيل) جثثت بمثلثتين والله أعلم.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثالثاني حديث جابر رضي الله تعالى عنه فقال:

(312)

- (00)(00)(وحدثنا زهير بن حرب) بن شداد الحرشي أبو خيثمة النسائي ثقة ثبت من (10) مات سنة (234) روى عنه في (20) بابا، قال زهير (حدثنا الوليد بن مسلم) القرشي الأموي مولاهم ثقة من (8) مات سنة (195) روى عنه في (6) أبواب تقريبًا قال الوليد بن مسلم (حدثنا الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد أبو عمرو الشامي نسبة إلى الأوزاع قبيلة من حمير وقيل إلى الأوزاع قرية بدمشق العلم الفقيه ثقة من السابعة مات سنة (157) روى عنه في (12) بابًا تقريبًا (قال) الأوزاعي (سمعت يحيى) بن أبي كثير صالح بن المتوكل الطائي مولاهم أبا نصر اليمامي ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل من (5) مات سنة (132) روى عنه في (16) بابًا تقريبًا حالة كون يحيى (يقول سألت أبا سلمة) عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني (أيُّ) سور (القرآن) وآياته (أنزل قبل) أي قبل غيره من السور (قال) أبو سلمة بن عبد الرحمن:

ص: 161

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثرُ. فَقُلْتُ: أَو اقْرَأْ. فَقَال: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. فَقُلْتُ: أَو اقْرَأْ؟ قَال جَابِرٌ: أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَال: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ

ــ

السورة التي أنزلت قبل غيرها سورة (يا أيها المدثر) قال يحيى (فقلت) لأبي سلمة (أو اقرأ) أي بل الذي أنزل أول هو سورة (اقرأ)(فقال) أبو سلمة (سألت جابر بن عبد الله) الأنصاري السلمي المدني (أيُّ) سور (القرآن أنزل قبل) أي قبل غيره، وهذا السند من خماسياته رجاله اثنان منهم مدنيان وواحد يمامي وواحد نسائي وواحد شامي، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة يحيى بن أبي كثير لابن شهاب في رواية هذا الحديث عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه لأن المتابع أقوى من المتابع فلا يصلح لتقويته، وكرر متن الحديث لما في هذه الرواية من المخالفة للرواية الأولى في سياق الحديث وبالزيادة.

(قال) جابر إن الذي أنزل قبل هو قوله تعالى ({يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}) وهذا ضعيف بل باطل والصواب أن أول ما أنزل على الإطلاق (اقرأ باسم ربك) كما صرح به في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وأما (يا أيها المدثر) فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر والدلالة صريحة فيه في مواضع منها قوله وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال فأنزل الله تعالى: (يا أيها المدثر) ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا الذي جاءني بحراء" فالصواب أن أول ما أنزل من القرآن على الإطلاق (اقرأ)، وأن أول ما نزل بعد فترة الوحي (يا أيها المدثر) وبهذا يجمع بين القولين، وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل من القرآن الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر، والله أعلم. اهـ. نواوي.

قال أبو سلمة (فقلت) لجابر (أو اقرأ) أي بل الأول اقرأ (قال جابر) رضي الله تعالى عنه أنا (أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وصلم) به في مقام بيان أول ما نزل من القرآن فاستمع مني (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (جاورت) أي اعتكفت ولبثت (بحراء) أي في غار حراء (شهرًا) واحدًا (فلما قضيت) وأتممت (جواري) أي مجاورتي واعتكافي في حراء (نزلت) من فوق جبل حراء (فاستبطنت بطن

ص: 162

الْوَادِي، فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُم نُودِيتُ. فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ، يَعْنِي جِبْرِيلَ عليه السلام، فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ. فَأَتَيتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُوني فَدَثَّرُوني. فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً

ــ

الوادي) أي فصرت في بطن وادي مكة (فنوديت) من فوقي أي ناداني مناد لم أر شخصه بقوله يا محمد أو يا رسول الله (فنظرت) طلبًا لرؤية شخصه (أمامي) وقدامي (وخلفي) وورائي (وعن يميني وعن شمالي فلم أر أحدًا) من الناس (ثم نوديت) يا محمد مرة ثانية (فنظرت) جميع جهاتي (فلم أر أحدًا) من الناس أيضًا (ثم نوديت) مرة ثالثة (فرفعت رأسي) إلى جهة السماء (فإذا هو) أي الملك الذي جاءني بحراء جالس (على العرش) أي على الكرسي الموضوع (في الهواء) كما صرح به في الرواية الأخرى "على كرسي بين السماء والأرض" قال أهل اللغة: العرش هو السرير وقيل سرير الملك قال الله تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} و (الهواء) بالمد هنا، ويكتب بالألف هو الجو بين السماء والأرض كما صرح به في الرواية الأخرى والهواء أيضًا الخالي كقوله تعالى:{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} وقوله (يعني) النبي صلى الله عليه وسلم بالذي على العرش (جبريل عليه السلام) كلام مدرج من جابر أو ممن دونه (فأخذتني) أي فلما رأيته أصابتني (رجفة شديدة) أي رعدة شديدة وهزة واضطراب شديد، قال النواوي: هكذا هو في الرواية المشهورة (رجفة) بالراء، قال القاضي ورواه السمرقندي (وجفة) بالواو وهما صحيحان متقاربان ومعناهما الاضطراب.

قال الأبي: ودلت هذه الأحاديث على أن للملائكة عليهم السلام صورًا مخصوصة بهم خلقوا عليها في الأصل كل منهم على ما خلق عليه وشكل، ثم إن الله سبحانه أقدرهم على التشكل بأي صورة شاؤوا من صورة بني آدم وغيرها لكن على صورة حسنة. اهـ

(فأتيت) أهلي (خديجة) بنت خويلد رضي الله تعالى عنها (فقلت) لها (دثروني) بكسر المثلثة المشددة على صيغة الأمر مع ضمير الجمع تعظيمًا لأهله على عادة العرب أي لفوني بالثياب لتزول عني الرعدة (فدثروني) بفتحها على صيغة الماضي (فصبوا) بفتح الصاد المهملة على صيغة الماضي (علي) أي على جسدي (ماء) باردًا لتزول عني الحرارة

ص: 163

فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} .

313 -

(00)(00) حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ،

ــ

فأفقت مما أصابني من الرجفة والحرارة، ففيه ينبغي أن يصب الماء على الفَزعِ ليسكن فزعه (فأنزل الله عز وجل علي بلا مُهْلة قوله:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أي المتلفف بثيابه ({قُمْ}) من نومك ({فَأَنْذِرْ}) أي خوِّف الناس كافة من عذاب الله تعالى إن لم يؤمنوا به ({وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}) أي خص ربك بالتكبير والتعظيم ({وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}) أي نظفها من الأقذار لتصلي فيها لربك، فاستدل جابر رضي الله عنه بهذا الحديث على أن هذه السورة أول ما نزل فيعارض حديث عائشة الدال على أن أول ما نزل من القرآن سورة (اقرأ) فيجمع بين الحديثين بأن أولية المدثر بالنظر إلى ما بعد الفترة وأولية اقرأ بالنظر إلى جميع القرآن، والله أعلم.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة رابعا في حديث جابر رضي الله تعالى عنه فقال:

(313)

- (00)(00)(حدثنا محمد بن المثنى) بن عبيد بن قيس العنزي بفتحتين أبو موسى البصري ثقة ثبت من (10) مات سنة (252) روى عنه في (14) بابًا تقريبًا، قال محمد بن المثنى (حدثنا عثمان بن عمر) بن فارس العبدي أبو محمد البخاري نزيل البصرة روى عن علي بن المبارك في الإيمان والأشربة وغيرهما، وشعبة في الجنائز وغيرها، وعيسى بن حفص بن عاصم في الحج، ويونس بن يزيد في البيوع، وداود بن قيس في الصيد، وكهمس بن الحسن في الذبائح، وأبي عامر الخزاز في حق الجار، وعزرة بن ثابت في الغدر، وإسرائيل في حديث الرحل، ويروي عنه (ع) ومحمد بن المثنى وزهير بن حرب وإسحاق الحنظلي وحجاج بن الشاعر وأبو داود سليمان بن معبد وأبو غسان المسمعي وغيرهم، وثقه ابن معين وابن سعد وأحمد، وقال العجلي ثقة ثبت في الحديث، قيل كان يحيى بن سعيد لا يرضاه، وقال في التقريب: ثقة من التاسعة مات سنة (209) تسع ومائتين روى عنه المؤلف في عشرة أبواب تقريبًا كما بيناه آنفًا.

قال عثمان بن عمر (أخبرنا علي بن المبارك) الهنائي بضم الهاء وتخفيف النون

ص: 164

عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ. بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَال: "فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ"

ــ

ممدودًا البصري روى عن يحيى بن أبي كثير في الإيمان والصلاة والزكاة والحج ويروي عنه (ع) وعثمان بن عمر وهارون بن إسماعيل الخزاز في الصلاة، ووكيع في الصلاة، ويحيى بن كثير في الزكاة وإسماعيل ابن علية وغيرهم، قال أبو داود: ثقة، وقال النسائي: لا بأس به وقال ابن حبان: كان متقنًا ضابطًا، وقال في التقريب: ثقة من كبار السابعة، ووثقه ابن المديني وابن نمير والعجلي (عن يحيى بن أبي كثير) صالح بن المتوكل الطائي اليمامي من الخامسة، والجار والمجرور في قوله (بهذا الإسناد) متعلق بما عمل في المتابع واسم الإشارة راجع إلى ما بعد شيخ المتابع أي أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بهذا الإسناد يعني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا السند من سداسياته رجاله ثلاثة منهم بصريون واثنان مدنيان وواحد يمامي، وغرضه بسوقه بيان متابعة علي بن المبارك للأوزاعي في رواية هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير، وفائدتها بيان كثرة طرقه مع بيان محل المخالفة (و) لكن (قال) علي بن المبارك في روايته (فإذا هو) أي الملك الذي جاءني بحراء (جالس على عرش) وسرير موضوع (بين السماء والأرض) بدل قول الأوزاعي (فإذا هو على العرش في الهواء).

وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب حديثان: الأول حديث عائشة ذكره للاستدلال وذكر فيه متابعتين، والثاني حديث جابر ذكره للاستشهاد وذكر فيه أربع متابعات، والله سبحانه وتعالى أعلم.

***

ص: 165