الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما من قال: أتوسل، أو: بحق، فالعلماء منهم من يحرم ذلك مطلقًا، ومنهم من يجعله مكروهًا كما نص عليه في الهداية، ومنهم من يجيز التوسل بالأحياء دون الأموات كما فعله عمر رضى الله عنه، ومنهم من يخصه بالنبي صلي الله عليه وسلم، ومنهم من يجيزه، وعلى كلٍ فهو لم يطلبه الشارع منا، وقد وقع فيه شبهة فتركه أولى من هذه الحيثية وسدًّا للذرائع؛ لأنّ الجهلة لا يفرقون بين التوسل والاستشفاع، والطلب من المتوسَّل به، مع أن الاستشفاع لا يكون إلا في يوم مخصوص، والطلب من غير الله لا يجوز.
ولو تأملت الأدلة الواردة بالتجويز مع ضعفها فإنها لا تفيد إلا جوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو الوسيلة المقطوع بقربه من الله تعالى، وأما غيره فما يدرينا به، ومن العجب أن يترك التوسل بالنبي
صلى الله عليه وسلم ويتوسل بغيره. جعلنا الله وإياكم من المتبعين لا من المبتدعين"
(1)
.
• وقال
الشيخ محمود شكري الآلوسي حفيد المفسر
(المتوفى:1342): "والرسول صلى الله عليه وسلم أبطل دين المشركين، ومداره على الاستغاثة والالتجاء إلى غيره، وهي كانت عبادة الوثنيين، وكالذبح والنذر، غير أنهم كانوا عند النوائب يستغيثون بالله سبحانه، بخلاف عباد القبور في عصرنا"
(2)
.
وقال أيضًا: "وإن أراد ما يعتقده عُبّاد القبور في معبوداتهم من الصالحين وغيرهم، وأنّ لهم قدرة على إجابة المضطر، وإغاثة الملهوف، وقضاء حوائج السائلين؛ فهذا شرك في الربوبية لم يبلغه شرك المشركين من أهل الجاهلية، بل هو قول غلاة المشركين الذين يرون لآلهتهم تصرفاً وتدبيراً.
وإن أراد أنهم يُدْعَوْنَ ويُسْأَلُونَ ويُستغاث بهم والله يُعطي لأجلهم، فهذا هو قول الجاهلية من الأميين والكتابيين. وتقدمت الآيات الدالة على ذلك، وتقدم ما حكاه الشيخ من قول النصارى: يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله. فهم طلبوا منها الشفاعة والجاه ليس إلا، وهذا من كفرهم وشركهم مع ما هم عليه من القول في عيسى وأمه- قاتلهم الله-، فإن كان هذا الزائغ أراد هذا الثاني فهو شرك غليظ، وقد تقدم له التصريح بذلك وعبارته هنا توهم الأول، وهو الغالب على عباد القبور في هذه الأزمان، نسأل الله العفو والعافية.
(1)
فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال لخوقير (ص: 147 - 150).
(2)
غاية الأماني في الرد على النبهاني (2/ 374) مكتبة الرشد -الرياض.
وأما كون الأولياء والصالحين في حال مماتهم كحال حياتهم يدعون لمن قصدهم ويتسببون في إنقاذه فهذا جهل عظيم، وقول على الله بلا علم، لم يرد به كتاب ولا سنة، ولا قاله ولا فعله أحد يعتد به ويقتدى به من أهل العلم والإيمان، وقد مضت القرون الثلاثة المفضلة ولم يعهد عن أحد منهم أنه قال ذلك أو فعله، وعندهم أشرف القبور على الإطلاق ولم يعرف عن أحد منهم أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أو دعاه ولا غيره من الصالحين، وخبر العتبي سيأتي الكلام عليه، وأنّ فاعل ذلك أعرابي ليس مما يُقتدى به ويُحْتَجُّ بقوله، وإن كان بعض المتأخرين احتج بحكاية الأعرابي فهو احتجاج مدخول، وقد نازعهم من هو أقدم منهم وأجل من الأكابر والفحول"
(1)
.
وقال أيضًا: "ومن ذهب إلى مشاهد أهل البيت وغيرهم من الأولياء في بغداد في موسم الزيارات تحقق ما ذكرناه، واستقل بالنظر إلى فعل هؤلاء ما كان يفعله المشركون عند آلهتهم كاللات والعزى، وقد رأيت والله بعيني رأسي من سجد للأعتاب معرضا عن رب الأرباب، ولا أقول: إن العوام فقط على هذا المنوال، فكم قد رأينا وسمعنا عمن يدعي العلم قد فعل هذه الفعال"
(2)
.
وقال أيضًا بعد الاستدلال بقوله تعالى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} : "انظر هذا الاستفهام وحسن موقعه بعدما تقدم من الاستفهامات التي هي حجج وآيات على ما بعدها تعرف به فحش ما جاء به عباد القبور من دعاء آلهتهم والاستغاثة بهم في الملمات والشدائد المذهلات، وأن أهل الجاهلية كانوا يخلصون في الشدائد ويعترفون بأنه المختص بإجابة المضطر وكشف السوء، وهؤلاء يشتد شركهم عند الضر ونزول الشدائد"
(3)
.
وقال أيضا: "وأما قوله [أي: النبهاني] في قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} فإن قال قائل: هذا في الحي وله قدرة. قلنا: لا يجوز نسبة الأفعال إلى أحد حي أو ميت على أنّه الفاعل استقلالاً من دون الله.
فهذا الكلام أورده بناء على أن النزاع في دعوى الاستقلال، وبزعمه أنه إذا لم يعتقد الاستقلال فالأسباب العادية كغيرها، ودعاء الأموات والغائبين يجوز عنده إذا لم يعتقد الاستقلال، هذه دعواه كرّرها مراراً واحتج بها.
(1)
المصدر السابق (1/ 369 - 370).
(2)
فتح المنان (ص:493).
(3)
غاية الأماني (2/ 365).
والدعوى تحتاج لدليل لا تصلح هي دليلاً، لاسيما هذه الدعوى الضالة الكاذبة الخاطئة، والله سبحانه حكى استغاثة المخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه من نصره على عدوه، وهذا جائز لا نزاع فيه، واعتقاد الاستقلال من دون الله وأن العبد يخلق أفعال نفسه هذه مسألة أخرى لم يقل بها إلا قدرية النفاة، والناس مختلفون في تكفيرهم بهذا القول.
وبالجملة؛ فالنزاع في غير هذه المسألة، وإنما هو في دعاء الأموات والغائبين، وإن لم يستقل بذلك المطلوب من دون الله. ومن بلغت به الجهالة والعماية إلى هذه الغاية، فقد استحكم على قلبه الضلال والعناد، ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد، ومن له أدنى نهمة في العلم والتفات إلى ما جاءت به الرسل يعرف أنّ المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم التي عبدوها مع الله تعالى إلا التسبب والتوسل والتشفع ليس إلا، ولم يدَّعوا الاستقلال والتصرف لأحد من دون الله"
(1)
.
وقال أيضًا: "ولا يخفى أن جُلّ شرك المشركين في حق من عبدوه مع الله تعالى إنما هو بدعائه وسؤاله قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتهم"
(2)
.
وقال أيضًا: "
…
فمن المستحيل شرعًا وفطرة وعقلاً أن تأتي هذه الشريعةُ المطهرةُ الكاملةُ، وغيرُها بإباحة دعاء الموتى والغائبين والاستغاثة بهم من الملمات والمهمات كقول النصراني:"يا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله"، أو "يا عيسى أعطني كذا"، أو" افعل بي كذا".
وكذلك قول القائل: "يا علي، أو يا حسين، أو يا باس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو يا بدوي، أو يا فلان، ونحو ذلك من الألفاظ الشركية التي تتضمن العدل بالله، والتسوية به تعالى وتقدس، فهذا لا تأتي شريعة ولا رسالة بإباحته قط، بل هو من شعب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار ومقت العزيز الغفار، وقد نص على ذلك مشايخ الإسلام حتى ذكره ابن حجر في الإعلام مقررا له"
(3)
.
وقال أيضا: "ومن ذلك عند الناس شيء كثير، من أحجار وآبار، وصخور وأشجار، يزعمون منها شفاء الأمراض وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات.
ولو بسطت الكلام في ذلك- مما يستعمله الرجال والنساء، أو يختص بالنساء، من أشياء يعلقنها عليهن، ويبين خواصها وتأثيراتها في أزواجهن، ويسمينها بأسماء لو رجعت الجاهلية الأولى لعجزت عن أقل القليل من هذه الجهالات وسوء الاعتقادات- لاحتمل مجلدات، والويل كل الويل لمن أنكر ذلك، أو تكلم بأدنى شيء ينجي من تلكم المهالك"
(4)
.
(1)
المصدر السابق (1/ 370).
(2)
فتح المنان (ص:379).
(3)
المصدر السابق (ص: 445 - 449).
(4)
غاية الأماني (1/ 480).