الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
• وقال
الحافظ ابن القيم
(المتوفى: 751): "ومن أنواعه [أي: الشرك] طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم.
وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده كما تقدم، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببًا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه، ويستغفر له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، واستقضاء الحوائج، والاستغاثة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد، وسموا قصدها حجّا، واتخذوا عندها الوقفة وحلق الرأس"
(1)
.
وقال أيضًا: "ومن المحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم أو الدعاء عندهم مشروعًا وعملاً صالحًا ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون.
فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعا وعشرين سنة حتى توفاه الله تعالى، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يمكن بشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها فضلا أن يصلوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها أو يسألوهم حوائجهم، فليوقفونا على أثر واحد أو حرف واحد في ذلك.
بلى يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر حتى لقد وُجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك، بلى فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمناه من الأحاديث المرفوعة"
(2)
.
وقال أيضًا: "لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بُنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركا عندها، وبها، والله المستعان.
(1)
مدارج السالكين (1/ 353) دار الكتاب العربي- بيروت.
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 202 - 203) دار المعرفة - بيروت.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتّبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس"
(1)
.
وقال أيضا: "وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه ديدنًا له إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن مرض وإن استوحش، فذكْرُ إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، ووسيلته إليه. وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، ثم شهد عليهم بالكفر والكذب، وأخبر أنه لا يهديهم فقال {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} .
فهذه حال من اتخذ من دون الله وليًا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز من يخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي من أنكره!
والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله،
…
وترى المشرك يكذب حالُه وعملُه قولَه، فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله، ولا نسويهم بالله، ثم يغضب لهم ولحرماتهم - إذا انتهكت - أعظم مما يغضب لله، ويستبشر بذكرهم، ويتبشبش به، سيما إذا ذُكر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللهفات، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم الباب بين الله وبين عباده، فإنك ترى المشرك يفرح ويسر ويحنّ قلبه، وتهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة، وإذا ذَكرت له الله وحده، وجردت توحيده لحقته وحشة، وضيق، وحرج، ورماك بنقص الإلهية التي له، وربما عاداك.
رأينا والله منهم هذا عيانا، ورمونا بعداوتهم، وبغوا لنا الغوائل، والله مخزيهم في الدنيا والآخرة، ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب آلهتنا، فقال هؤلاء: تنقصتم مشايخنا، وأبواب حوائجنا إلى الله، وهكذا قال النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم، لما قال لهم: إن المسيح عبد الله، قالوا: تنقصت المسيح وعِبْتَه، وهكذا قال أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانا تعبد، ومساجد تقصد، وأمر بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله، قالوا: تنقصت أصحابها"
(2)
.
(1)
زاد المعاد (3/ 443) مؤسسة الرسالة - بيروت.
(2)
مدارج السالكين (1/ 348 - 350).