الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن ذهب إلى الاستغاثة بالموتى فقد شرع له دينًا لم يؤذن له به، وليس معه في الاستغاثة بهم سوى فعل بعض المتأخرين وكلامهم ممن ليس هو معدود من أهل الإجماع والاختلاف، فليس معه تقليد المقلدين ولا اجتهاد المجتهدين، ومن ابتدع بدعة في الدين بدون اجتهاد أهل الاجتهاد أو التقليد لأهل الاجتهاد كان من أهل الضلال والغي لا من أهل الهدى والرشاد.
وأما السؤال بهم فغاية ما معه فيه قول بعض العلماء مع منازعة غيره له فيه وقد قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، وقد نص غير واحد من العلماء على أنه لا يجوز السؤال لله بالأنبياء والصالحين فكيف بالاستغاثة بهم، مع أن الاستغاثة بالميت والغائب مما لا نعلم بين أئمة المسلمين نزاع في أن ذلك من أعظم المنكرات، ومن كان عالما بآثار السلف علم أن أحدا منهم لم يفعل هذا، وإنما كانوا يستشفعون ويتوسلون بهم بمعنى أنهم يسألون الله لهم مع سؤالهم هم لله، فيدعو الشافع والمشفوع له كما قال
عمر بن الخطاب: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» "
(1)
.
وقال أيضًا: "فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له، والمتوسَّل به لا يُدعى ولا يُطلب منه ولا يُسأل، وإنما يُطلب به، وكل أحد يفرِّق بين المدعو والمدعو به.
والاستغاثة طلب الغوث وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها
…
وقول القائل: إنّ من توسل إلى الله بنبي، فقال: أتوسل إليك برسولك فقد استغاث برسوله حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم، قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بني آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسؤول [به] مدعو، ويفرّقون بين المسؤول والمسؤول به"
(2)
.
وقال أيضًا: "وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات:
إحداها: أن يسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو مرض دوابه أو يقضي دينه أو ينتقم له من عدوه أو يعافي نفسه وأهله ودوابه ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
وإن قال: أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور؛ لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال سبحانه وتعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ} {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} "
(3)
.
وقال أيضًا: "و
الشرك في بني آدم أكثره عن أصلين:
أولهما: تعظيم قبور الصالحين وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون الشرك وهو شرك قوم نوح
…
والسبب الثاني: عبادة الكواكب
…
"
(4)
.
(1)
المصدر السابق (1/ 108 - 112).
(2)
مجموع الفتاوى (1/ 103 - 104).
(3)
المصدر السابق (27/ 72).
(4)
الرد على المنطقيين (ص: 285 - 286) دار المعرفة - بيروت.
وقال أيضًا: "فليس في علماء المسلمين من يقول إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث الله فيه، ولا من يقول إن الميت يستغاث به في كل ما يستغاث بالله فيه.
بل قول القائل: إن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا تُطلب إلا منه، متفق عليه بين علماء المسلمين، وما علمت إلى ساعتي هذه أحدا من علماء المسلمين الذين يستحقون الإفتاء نازع في هذا، بل ثبت عندي عن عامة من بلغني كلامه من علماء المسلمين الموافقة على هذا، وإنما عُرف نزاع بعضهم في السؤال به.
وأما الشيوخ الذين يسألون الميت فهؤلاء ليس فيهم أحد ممن يرجع المسلمون إلى فتياه، وإنما فعلوا نظيره، والفقيه قد يفعل شيئا على العادة وإذا قيل له: هذا من الدين؟ لم يمكنه أن يقول ذلك، ولهذا قال بعض السلف: لا ينظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك"
(1)
.
وقال أيضًا: "فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة انه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول
صلى الله عليه وسلم مما يخالفه، ولهذا ما بيَّنت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطّن، وقال: هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بيّنته لنا لعلمه بأنّ هذا أصل الدين"
(2)
.
وقال أيضًا: "فأمَّا [ما] يُسمِّيه كثيرٌ من الناس زيارةً هي من جنس الإشراكِ بالله وعبادة غيرهِ، مثل السجود لبعض المقابر التي يُقال إنها من قبور الأنبياء والصالحين وأهل البيت أو غيرهم ويسمُّونها المشاهد، أو الاستعانة بالمقبور ودعائِه ومسألتِه قريبًا من قبره أو بعيدًا منه مثل ما يفعل كثير من الناس، فهذا كلُّه من أعظم المحرَّمات بإجماع المسلمين، وهو من جنس الإشراك بالله تعالى، فإن المسلمين متفقون على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يدعوَ أحدًا ويتوكَلَ عليه ويرغبَ إليه في المغفرة والرحمةِ وتفريج الكُرباتِ وإعطاءِ الطلباتِ إلا الله وحده لا شريك له"
(3)
.
(1)
الرد على البكري (2/ 595 - 596).
(2)
المصدر السابق (2/ 731).
(3)
جامع المسائل (3/ 37 - 38) تحقيق: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد.
وقال أيضًا: "من استغاث بميِّتٍ أو غائب من البشر بحيثُ يدعوهُ في الشدائدِ والكُرُبات، ويَطلُب منه قضاءَ الحوائج، فيقول: يا سيِّدي الشيخ فلان أنا في حسبك وجِوارِك. أو يقول عند هجوم العدوِّ عليه: يا سيِّدي فلان! يَستوحِيْه ويَستغيثُ به. أو يقول ذلك عند مرضِه وفقرِه وغيرِ ذلك من حاجاتِه، فإن هذا ضالٌّ جاهلٌ مشركٌ عاصٍ لله باتفاقِ المسلمين، فإنهم متفقون على أن الميت لا يُدعَى ولا يُطلَب منه شيء، سواءٌ كان نبيًّا أو شيخًا أو غيرَ ذلك"
(1)
.
وقال أيضًا: "فبيَّن سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفرٌ، وهذا إنما كان بدعائهم من دون الله، لا بأنهم اعتقدوا أنهم شاركوه في خلق السماوات والأرض، فإنّ هذا لم يَقُلْه أحدٌ.
ولهذا قال عن النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
فبيَّن أنّ النصارى مشركون من حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيحَ ابن مريم، ولم يقل أحد من النصارى إن الأحبار والرهبان شاركتِ الله في خلق السماوات والأرض"
(2)
.
وقال أيضًا: "والمشركون الذين كفَّرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقاتَلَهم واستباحَ دماءَهم وأموالَهم من العرب لم يكونوا يقولون: إنَّ آلهتَهم شاركتِ اللهَ في خلق السماوات والأرض والعالم، بل كانوا يُقِرُّون بأن الله وحدَه خالق السماوات والأرض والعالم، كما قال الله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ} ، وقال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} الآيات إلى قوله {تُسْحَرُونَ} وقد قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} .
قال طائفة من السلف: يسألهم مَن خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم يعبدون غيره.
(1)
المصدر السابق (3/ 145 - 146).
(2)
المصدر السابق (3/ 148).
وإنما كانت عبادتهم إيَّاهم أنهم يدعونهم ويتخذونهم وسائطَ ووسائلَ وشُفعاءَ لهم، فمن سلكَ هذا السبيلَ فهو مشرك بحسب ما فيه من الشرك.
وهذا الشركُ إذا قامت على الإنسان الحجةُ فيه ولم يَنتهِ، وَجَبَ قتلُه كقتلِ أمثالِه من المشركين، ولم يُدفَنْ في مقابرِ المسلمين، ولم يُصَلَّ عليه.
وإمَّا إذا كان جاهلاً لم يَبلُغْه العلمُ، ولم يَعرِف حقيقةَ الشرك الذي قاتلَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم المشركين، فإنه لا يُحكَم بكُفْرِه، ولا سِيَّما وقد كَثُر هذا الشركُ في المنتسبين إلى الإسلام.
ومن اعتقدَ مثلَ هذا قُربةً وطاعةً فإنه ضَالٌّ باتفاقِ المسلمين، وهو بعد قيامِ الحجة كافر.
والواجبُ على المسلمين عمومًا وعلى وُلاةِ الأمور خصوصًا النهيُ عن هذه الأمور، والزَّجْرُ عنها بكلِّ طريق، وعقوبةُ مَن لم ينتهِ عن ذلك العقوبةَ الشرعيةَ، والله أعلم"
(1)
.
وقال أيضًا: "وأما قول القائل: إذا عثر يا جاه محمد، يا للست نفيسة، أو يا سيدي الشيخ فلان أو نحو ذلك مما فيه استغاثته وسؤاله، فهو من المحرمات، وهو من جنس الشرك، فإن الميت سواء كان نبيًا أو غير نبي لا يدعى ولا يسأل ولا يستغاث به لا عند قبره ولا مع البعد من قبره، بل هذا من جنس دين النصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله""
(2)
.
وقال أيضًا: "والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء.
وقوله: «أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة» ، أي بدعائه وشفاعته لي، ولهذا تمام الحديث:«اللهم فشفعه فيَّ» ، فالذي في الحديث متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه"
(3)
.
وقال أيضًا: "وكذلك حديث الأعمى فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليردّ الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته، وأن قوله:«أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة» أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر: «كنا نتوسل إليك بنبينا» فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال:«يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفّعه فيّ» فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه.
(1)
المصدر السابق (3/ 150 - 151).
(2)
مجموع الفتاوى (27/ 145).
(3)
التوسل والوسيلة (1/ 300).