الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
ماهية التراث الإسلامي
التراث هو: نتاج العقل البشري المسلم عبر القرون.
وقانون الآثار المصري المعمول به الآن، يحدد مائة سنة سابقة عن الآن حتى نعتبر الشيء في عالم الأشياء أثرًا.
وقديمًا كان عصر الخديوي إسماعيل هو الحد الفاصل في مسألة الآثار، وهو عصر يعد نقطة فارقة في تاريخ مصر، وفي تاريخ الشرق المسلم، تغير فيه كل شيء، وأراد الخديوي إسماعيل أن يخرج مصر من سياقها التاريخي لتصبح قطعة من أوربا، فجاءها خير كثير من هذا، وجاءها شر أيضًا.
حدث هذا التغير، وحدث معه شيء كثير من الاضطراب: الاجتماعي،
والسياسي، والاقتصادي، والثقافي في مصر.
فقد غَيَّر الخديوي إسماعيل نمط حياة الإنسان المصري، غَيَّر برنامجه اليومي..
غَيَّر التقويم من الهجري إلى الميلادي..
غَئر الساعة من العربي إلى الأفرنجي..
غَيَّر الأزياء..
غَيَّر نمط المعيشة.
وقبله بدأ محمد علي التعليم الموازي، فترك الأزهر على حاله وأنشأ - موازيًا له - تعليما سماه التعليم المدني، وأرسل البعثات إلى أوربا فحدث بعد ذلك ما أسميناه بازدواجية التعليم، وأصبح هناك من يدري الشرع ويطلع على التراث، ومن يستطع أن يتعامل معه، وهناك أيضًا من أصحاب العلوم والفنون من لا يستطيع أن يتعامل مع هذا التراث، وسمي الأول بالسلفي، والآخر بالعصري، وأصبحت هناك معركة، ما كنا
نود أن تكون، لون ما أسموه بالأصالة والمعاصرة، حتى أطلق عليها بعضهم:" المعركة بين الطربوش والعمامة " على سبيل الرمز، وظل هذا التخالف في ازدياد إلى عصر الخديوي إسماعيل.
لقد كانت ساعاتنا ساعات غروبية تتسق مع العبادة، وتنضبط الساعة مع أذان المغرب على الساعة 12، فنعرف الساعة الأولى من الليل، والساعة الثانية من الليل، والساعة الثالثة من الليل، فعندما نقرأ حديث البخاري: " أن من اغتسل يوم الجمعة
غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر "
يفهمه الناس، لأنهم يعرفون ما الساعة الأولى،
وما الساعة الثانية.
تم اختلف الحال في عصر الخديوي إسماعيل فأصبحت الساعة (12) هي وسط
النهار، ومن المعلوم أن اليوم ليس (24) ساعة تمامًا، بل يختلف باختلاف الأيام في السنة، فهو 24 ساعة و 17 دقيقة، أو 24 ساعة إلا 17 دقيقة، لأجل هذه الى (34)
دقيقة يختلف أذان الظهر عندنا الآن، فنجده يؤذن مرة 35.
11، ومرة 07.
12، لأن هذه المساحة من الوقت هي التي يختلف فيها اليوم واقعيًّا على مر السنة.
كان المسلمون يكيفون أنفسهم ومعيشتهم بطريقة تجعل العبادة سهلة، وتجعل هذه الشعائر التي يقيمونها تنطق تمامًا مع النظام اليومي الذي يعيشونه.
لم يكن هناك نوع تنافر ولا اضطراب، ولا ضيق، ولا نوع فوات للصلاة.
كانوا ينامون بعد العشاء ويستيقظون قبل الفجر، كانوا يدركون ما معنى ثلث الليل الأخير الذي يستجيب اللَّه
فيه الدعاء، كان هناك تفاعل مع هذا الدين.
ولكن دخلت الأوبرا، واضطروا إلى أن يخلعوا سراويلهم المغربية التي كانت أقرب إلى الالتزام بستر العورة في الصلاة، ليلبسوا الأزياء الأفرنجية، والياقات البيضاء المنشية،
التي لو جاء عليها ماء، لفسد ما بها من نشا، وأصبح من علامات الفسق عند المتدينين: لبس الجورب " الشراب "، وأصبع العوام يقولون:" كفر أبو فلان ولبس الشراب "؛ لأن لبسه " للشراب " كان دليلًا على أنه لا يتوضأ، وكان دليلًا على أنه خرج من منظومة ونسق معين، ودخل في نسق آخر.
ترك الناس الصلاة شيئًا فشيئًا؛ لأنهم ذهبوا عند المغرب للأوبرا، والذين يذهبون إلى الأوبرا كانوا هم عُلَيةَ القوم.
سهروا هناك حتى الساعة الثانية بالليل، فضاع عليهم
المغرب والعشاء، وضاع عليهم الفجر، وانتظرهم البواب، والطباخ، والسائق، فلم يصلوا هم الآخرون، وشاع عدم الصلاة في الناس، وشاع ترك الصلاة بالكلية.
هذا عرض بسيط لا نقف عنده طويلًا، لكن هذه اللحظة الفارقة في تاريخنا: لحظة عصر الخديوي إسماعيل.
يمكن أن نعد ما قبلها من التراث، حتى يدخل في التراث إنتاج الشيخ الباجوري المتوفى (1277 هـ لم 1856 م) ، والذي كان شيخًا للأزهر، وهذا قياسًا لحد التراث على حد الآثار (مائة سنة) كما مرَّ.
* * *