الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهم التراث
إلا أن هذا التراث الذي بين أيدينا في الحقيقة لا بد علينا أن نفهمه، وكثير من الناس يرفضون التراث رفضًا تامًا، وهذا الرفض رفض وجداني فقط؛ لأنه لم يفهم التراث أصلًا، حتى يرفض ما فيه.
وكثير من الناس يقبلون التراث قبولًا تامًّا، وهذا أيضًا قبول وجداني، لأنه لم يفهم ما فيه أيضًا، نعم هو خير من الأول الذي رفض، لأنه ينتمي إلى آبائه الصالحين، وإلى سلفه الأماجد.
لكن لا بد علينا أن نفهم التراث، والتراث مكتوب في إطار طرائق معينة،
ونظريات، وأفكار، وأساليب ما في التفكير والتحليل، فله ما يشبه
"الشفرة "، هذه "الشفرة " نريد أن نلقي شيئًا من الضوء عليها.
ولقد تنبه كثير من العلماء إلى هذا، أو إلى شيء منه، مثل الشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله فألف كتابه الماتع " بهجة العلوم "، محاولًا أن يلقي الضوء على تلك التصورات الكلية التي كانت في أذهان السلف الصالح.
هذه التصورات نجدها في مقدمات علم الكلام، نجدها في علم لم يعد يدرس اسمه " الحكمة العالية "، وموضوعه الوجود والعدم، نجد مثل هذه التصورات عند التأمل والتدبر في عباراتهم، نجدها في النطق الصوري العربي، نجدها مشتتة.
وألف عبد القادر بن بدران كتابًا أسماه المدخل، يحاول فيه أن يلقي الضوء على جانب آخر من هذه الشفرة التي كتب بها التراث.
كما اهتم الأتراك كثيرًا بمثل ذلك حتى يفهموا، فعلماء الدولة العثمانية، وهي ناطقة بالتركية أرادوا أن يفهموا بعمق حتى يساهموا في البناء الفقهي، فكانت مؤلفاتهم تشتمل على كثير من حل تلك الشفرة.
ولقد تأملت كثيرًا في هذه القضية حتى أرى ما الحائل الذي يحول بيننا وبين نص تراثي مكتوب، فوجدت أن الأمر لا يخلو من أحد أمور خمسة:
1 -
أن يكون القارئ المعاصر قد فقد التصور الكلي الذي كان شائعًا عند الكاتبين للتراث عبر الزمان والمكان، وعلى ذلك من الممكن أن نقول: إنه ينبغي علينا - حتى نفهم التراث فهمًا دقيقًا واعيًا - أن ندرك أولًا التصورات الكلية التي كانت قائمة في أذهانهم، وحاكمة على كتاباتهم حتى شاعت هذه التصورات، وكأنها مسلَّمات.
فعندما نفقد هذه التصورات، أو لا نستوعبها، أو لا نستحضرها حين قراءتنا للتراث، فإن خيرًا كثيرًا يفوتنا، وإن فَهْمًا دقيقًا يعوزنا.
2 -
أيضًا فقد يفقد القارئ المعاصر النظريات الكلية التي حكمت الذهن العلمي عندما أنشأ تلك العلوم، أو تعامل وتفاعل معها، أو دوَّنها، أو انقسم فيها إلى مدارس
…
وإلخ.
هذه النظريات الكلية عادة وغالبًا لا نجدها مستورة في الكتب التي بين أيدينا بطريقة شاملة، بل نجد عناصر مشتتة في الكتب، وموزعة على الأعصار المختلفة، وموزعة أيضًا بين المذاهب المتعددة، وبين الأشخاص، والعلماء، والفقهاء الذين قاموا بإنتاج كل ذلك،
ومنذ خمسين سنة والعلماء المسلمون يحاولون تجميع وصياغة تلك النظريات
الكلية في بعض العلوم خاصة الفقه واللغة، ويحاولون أن يستنبطوا تلك النظريات وأن يكتبوا رسائل علمية (ماجستير ودكتوراه) فيها، ولقد قطعوا شوطًا كبيرًا، فكتبوا في نظرية الملكية، وفي نظرية المال، وفي نظرية الحق، وفي نظرية العقد، وفي نظرية الضمان، وفي نظرية المسئولية وهكذا، كتبوا عن هذا كثيرًا، لكن الأمر لم يسر في
كل العلوم سيرته في الفقه، كما أنه لم يسر أيضًا بصورة منتظمة، وعلى درجة واحدة من الإتقان، ومن العمق، فأصبح عندنا نظريات استطعنا أن ندرك فيها عمق التفكير الفقهي الموررث، وهناك نظريات ما زالت في بداياتها من ناحية الصياغة والشمول.
فنظرية العقد في الفقه الإسلامي مثلًا، نضجت بما فيه الكفاية، لأنا نستعملها
كمفتاح نستطع به أن ندرك كثيرًا من العقود الإسلامية، فهمًا، أو إنشاء، - في حين أن الشخصية الاعتبارية وأحكامها ما زالت في بداية الطريق.
3 -
الأمر الثالث الذي يجعل الإنسان غير قادر على أن يتصل الاتصال المرجو
بالتراث هو قضية المصطلحات، فلكل عصر ولكل مذهب ولكل علم مصطلحاته الدقيقة، التي إذا ما فقدها القارئ المعاصر، أو طالب العلم، أو الباحث فإنه لا يدرك كثيرًا مما أمامه، ويقف هذا حجر عثرة دون الفَهْم العميق، أو الفهم المتأني.
4 -
أما الأمر الرابع فهو قضية فقد العلوم الخادمة، فكل علم من هذه العلوم كان يعتمد على بنية فكرية، هي عبارة عما حصله العالم من درس في مختلف العلوم الأخرى، فالذي كتب في الفقه درس قبله المنطق، ودرس علم الكلام، ودرس ما كانوا يسمونه بعلم الوضع، ودرس النحو، ودرس البلاغة، ودرس علوم العربية،
ودرس الأصول، ودرس علومًا كثيرة أخرى، كوّنت نسيجه الفكري، وكوَّنت بنيته الذهنية، فجلس وهو يتكلم في الفقه يتكلم بهذه الأداة التي تولَّدت عنده في ذهنه من دروسه المختلفة، نحن الآن عندما نريد أن نعادل شهادات الكليات، فإننا نطلع على كمِّ
الدراسة، وكم الساعات، وكم المعلومات التي تلقاها طالب معين في جامعة بعينها، حتى نرى ما إذا كان مساويًا لما تلقاه الآخر في جامعة أخرى.
إن كمَّ الساعات التي كان يتلقاها الفقيه قديمًا كان يشتمل على علومٍ كثيرةٍ، قد تغيب عنا، وعن كثير من المطلعين اليوم.
كل هذا أَثَّر في إنشاء العبارة، وفي الأداء، وفي الصياغة، وفي كتابة العلوم بصورة عامة.
ولهذا لما كتب الفقه رأيناه وكأنه مُسْتَبطِن للمنطق، ومُسْتَبطِن لما عليه علماء الكلام من مفاهيم، ومُسْتَثطِن أيضًا لما عليه علماء الحكمة العالية وعلماء الأصول.
وهكذا في كل فن، وفي كل علم عندما كان صاحبه يصوغه، فإنه يصوغه متأثرًا بما قد تلقاه من درس في حياته العلمية، فكانت العلوم بعضها يخدم بعضًا، وتكون نسيجًا وبنيةً فكريةً واحدةً ومتسقةً في نفس الوقت.
وفهم هذا الجانب أمرُ أساس حتى نفهم بدقة كلام الأقدمين، وحتى نستطيع بعد ذلك أن نكمل المسيرة، ونبني كما بنوا.
5 -
أما الأمر الخامس فهو قضية الصياغة اللغوية والمنطقية، والتي تحتم علينا أن
ندرك فلسفة اللغة وعلاقتها بما في الأذهان، وبما في الأعيان.
هذه الصياغات لا بد علينا أن نقف عندها كثيرًا، وأن نعيها بطريقة أساسية، حتى تصبح مفتاحًا لنا لقراءة التراث كله بكافة تشعباته، وبكافة أنواعه.
هذه هي الأمور الخمسة التي ينبغي أن تُعالجَ بشيء من التفصيل، ولا أدعى أن هذه
الأمور الخمس هي فقط التي نحتاجها لفك شفرة التراث، لكنها هي أهم المحاور على كل حال، كما أنني أريد أن أبين أن الاتصال بالتراث على درجات ومستويات مختلفة.
ونحن الآن في المستوى الأول منه، ولكننا إذا أردنا أن نتقدم خطوة إلى الأمام، أو أن ننتقل نقلة نوعية، فإننا ينبغي علينا أن نعالج هذه الموضوعات بمستوى آخر غير الذي سنعالجه في هذه العجالة.
فالمستويات منها ما هو مبتدئ، ومنها ما هو متوسط، ومنها ما هو منتهي.
* * *