الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
15 -
فأبو حنيفة ما كان يقدم القياس المستنبط عند تعارض الأوصاف وتصادم الأمارات على الحديث، فلم يكن يقدم مطلق القياس على خبر الآحاد، بل القياس القطعي، ويعد الخبر المخالف شاذًّا.
16 -
وعلى هذا فأبو حنيفة يقبل أخبار الآحاد إذا لم تعارض قياسًا، كما يقبلها أيضًا إن عارضت قياسًا علته مستنبطة من أصل ظني، أو كان استنباطها ظنيًّا ولو من
أصل قطعي، أو كانت مستنبطة من أصل قطعي وكانت قطعية، ولكن تطيقها في الفرع ظني.
أما إذا عارض خبر الآحاد أصلًا عائًا من أصول الشرع ثبتت قطعيته،
وكان تطيقه على الفرع مطعيًّا فأبو حنيفة يضعف بذلك خبر الآحاد، وينفي نسبته إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويحكم بالقاعدة العامة التي لا شبهة فيها.
17 -
أما القياس: فإن مسلك أبي حنيفة في فهم النصوص كان يؤدي إلى الإكثار من القياس، إذ لا يكتفي بمعرفة ما تدل عليه من أحكام، بل يتعرف من الحوادث التي اقترنت بها وما ترمى إليه من إصلاح الناس، والأسباب الباعثة، والأوصاف التي تؤثر في الأحكام وعلى مقتضاها يستقيم القياس.
ْ18 - أما الاستحسان: فكما عرفه الكرخي: أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول.
فأساس الاستحسان أن يجيء الحكم مخالفًا قاعدة مطردة لأمر يجعل الخروج عن القاعدة أقرب إلى الشرع من الاستمساك بالقاعدة.
19 -
أما العرف العام: فيرى الحنفية أنه حيث لا نص، فإن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص، فحيث لم يجد في الفرع نص، ولم يمض له قياس ولا استحسان نظر إلى ما عليه تعامل الناس، ولهذا نجد مسائل كثيرة خالف فيها المتأخرون أبا حنيفة وأصحابه، لأن العرف تقاضاهم هذه المخالفة في الفرع.
* * *
طبقات علماء الحنفية:
قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في النافع الكبير: " ثم إن علم إمامنا (يعني أبا حنيفة)
قد انتقل بواسطة تلامذته ومن بعدهم إلى بلاد شاسعة، وتفرقت فقهاء مذهبنا في مدن
واسعة، فمنهم أصحابنا المتقدمون في العراق، ومنهم مشايخ بلخ، ومشايخ خراسان،
ومشايخ سمرقند، ومشايخ بخارى، ومشايخ بلاد أخرى: كأصبهان، وشيراز، وطوس، وزنجان، وهمدان، واستر آباد، وبسطام - ومرغنيان، وفرغانة، ودامغان، وغير ذلك من المدن الداخلة في أقاليم ما وراء النهر، وخراسان، وآذربيجان، وخوارزم، وغزنة، وكرمان إلى جميع بلاد الهند، وغير ذلك من بلاد العرب والعجم
…
".
ولنشرع في بيان الطقبات - طبقات العلماء - فنقول:
اعلم أن المجتهد ضربان:
أحدهما: المجتهد المطلق، وهو صاحب الملكة الكاملة في الفقه، والنباهة، وفرط البصيرة، والتمكن من استنباط الأحكام من أدلتها، المستقل بذلك كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، والثوري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وغيرهم.
وثانيهما: المجتهد في مذهب إمام معين، قالوا: وهو الذي يحقق أصول إمامه، وأدلته، ويتخذ نصوصه أصولًا يستنبط منها الفروع، وينزِّل عليها الأحكام، نحو ما يفعله بنصوص الشارع فيما لم يقدر على الاستنباط فيه من الأدلة الأربعة، وهؤلاء وإن لم يبلغوا رتبة الاجتهاد المطلق، وتقاصروا في الفقه عن رتبة المجتهدين اجتهادًا مطلقًا، لكنهم ليسوا بمُقَلِّدين، بل هم أصحاب نظر واستدلال وبصارة في الأصول، وخبرة
تامة بالفقه، ولهم محل رفيع في العلم، وفقاهة النفصر، ونباهة الفكر، وقدرة وافية في الجرح والتعديل، والتمييز بين الصحيح والضعيف، وقَدَمٌ عالٍ في الحفظ للمذهب،
والنضال عنه، والذب عن أحكامه، وتلخيص المسائل، وبسط الأدلة، وتقرير الحجة، وتزييف الشبهة، وكانوا يفتون ويُخَرَّجُون.
، فهؤلاء على الحقيقة مجتهدون في بعض
المسائل، لا في كلها، وغير مستقلين باستنباط الأحكام، بل يستعينون في جميع ما ذكر بما بينَه أئمتهم من طرق الاستنباط، وتعيين الأدلة.
ثم بعد هؤلاء طوائف آخرون يتفاوتون في العلم بين ثقة وضعيف في الرواية، وكامل وقاصر في الفقه والدراية، وترتيب الطبقات على هذا الوجه لا يختص به أهل عصر دون عصر، بل المراد من الطبقات على الاتصاف بالصفات، لا على التقدم في الزمان، وإلا فكم من متقدِّم في الزمان وهو مُقَلِّد، لا يفقه من الدليل شيئًا، وكم من متأخِّر في الزمان بلغ رُتْبَة الاجتهاد كما هو معلوم بالبداهة.
وقد قال أحمد بن سليمان الرومي المعروف بابن كمال باشا أحد العلماء المشهورين في الدولة العثمانية: " فقهاء الأصحاب على سبع طبقات: الأولى: المجتهدون في الشرع كالأئمة الأربعة، ومن يحذون حذوهم في تأسيس قواعد الأصول، واستنباط الأحكام والفروع من الأدلة من غير تقليد لأحد لا في الفروع ولا في الأصول.
الثانية: المجتهدون في المذهب، كأصحاب أبي حنيفة الثلاثة، ومن سلك مسلكهم في استخراج الأحكام على القواعد التي قررها إمامهم، فهم وإن خالفوه في بعض الأحكام قلدوه في قواعد الأصول، وبذلك يمتازون عن المخالفين له في الأصول والفروع.
الثالثة: المجتهدون في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب، كالخصاف، والطحاوي، والكرخي، وشمس الأئمة الحلوائي، وفخر الإسلام البزدوي، وفخر الدين قاضيخان، وأمثالهم ممن لا يقدرون على المخالفة لصاحب المذهب: لا في الأصول، ولا في الفروع، وإنما يستنبطون الأحكام فيما لا نص فيه عن المجتهد في
الشرع على حسب أصوله التي قررها، ومقتضى قواعده التي استنبطها.
الرابعة: المُقَلِّدون من أصحاب التخريج، وهم الذين لا يقدرون على الاجتهاد
أصلًا، لكنهم لإحاطتهم بالأصول، وضبطهم المَأْخَذ يقدرون على تفصيل قول مُجْمَل ذي وجهين، وحكم محتمِل لأمرين منقول عغ أحد المجتهدين، وهم أصحاب التخريج كالرازي (أبو بكر) ، وأقرانه.
الخامسة: أصحاب الترجيح من المقلدين كأبي الحسين القدوري، وصاحب
الهداية، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض، بقولهم: هذا أوفق للقياس، وأرفق بالناس.
السادسة: المقلِّدون القادرون على التمييز بين: الأقوى، والقوي، والضعيف، وظاهر المذهب، وظاهر الرواية، والرواية النادرة، وغيرها، كأصحاب المتون الأربعة المعتبرة: الكنز، والمختار، والوقاية، والمجمع، وغير هم.
السابعة: المقُلِّدون الذين لا يقدرون على ما ذكر، ولا يفرقون بين الغث والسمين، ولا يميزون الشمال من اليمين، يجمعون ما يجدون كحاطب ليل " انتهى كلام ابن كمال ملخصا..
وكذا ذكره عمر بن عمر الأزهري المصري (ت 1079 هـ) في آخر كتابه الجواهر النفيسة شرح الدرة المنيفة في مذهب أبي حنيفة.
كما ذكره التميمي في طبقاته بحروفه، ثم قال:" وهو تقسيم حسن جدًّا ".
قال اللكنوي: " وكذا ذكره من جاء بعده مقلدًا له، إلا أن فيه أنظارًا شتى، من جهة إدخال من في الطبقة الأعلى في الأدنى، قد أبداها الفاضل هارون بن بهاء الدين، شهاب الدين المرجاني ".
قال المرجاني: وأقول بل هو بعيد عن الصحة بمراحل، فضلا عن حسنه جدا،
فإنه تحكمات باردة، وخيالات فارغة، وكلمات لا روح لها، وألفاظ غير محصلة المعنى، ولا سلف له في هذه الدعوى، وإن تابعه عليها من جاء عقبه، من غير دليل يتمسك به، ومهما تسامحنا معهم في عد الفقهاء والمتفقهة على هذه المراتب السبع - وهو غير مسلم لهم -: لا نسلم الخطأ الفاحش الذي وقع في تعيين رجال الطبقات، وترتيبهم على هذه الدرجات.
فما معنى قوله: إن أبا يوسف، ومحمدًا، وزفر، وإن خالفوا الإمام أبا حنيفة في بعض الأحكام: يقلدونه في قواعد الأصول.
فما الذي يريد من الأصول التي يقلدون فيها؟.
فإن أراد منها الأحكام الكلية التي يبحث عنها في كتب أصول الفقه: فهي قواعد عقلية، وضوابط برهانية، يعرفها الإنسان من حيث إنه ذو عقل، وصاحب فكر ونظر صحيح، سواء كان مجتهدًا، أو غير مجتهد، فلا تعلق لها بكون الإنسان مجتهدًا أم لا، ولا معنى لأن هؤلاء الأئمة يقلدون أبا حنيفة فيها وشأنهم أرفع وأجل من أن يقلدوا فيها أحدًا.
ولا شك أن مرتبتهم في الفقه كمراتب سائر المجتهدين الذين في عصرهم، ومن بعدهم.
قال الخطيب البغدادي: قال طلحة بن محمد بن جعفر: " أبو يوسف مشهور
الأمر، ظاهر الفضل، وأفقه أهل عصره، ولم يتقدمه أحد في زمانه، وكان على النهاية في العلم، والحكم، والرئاسة، والقدرة، وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل، ونشرها في أقطار الأرض ".
وقال محمد بن الحسن: " مرض أبو يوسف، وخيف عليه، فعاده أبو حنيفة، فلما خرج من عنده، قال: إن يمت هذا الفتى فإنه أعلم مَن على الأرض "، مع كثرة المجتهدين، وأكابر الفقهاء في هذا العصر ببلاد العراق وغيرها.
وكذلك محمد بن الحسن أيضًا قد بالغ الشافعي في مدحه والثناء عليه، وقال الربيع ابن سليمان: كتب إليه الشافعي، وقد طلب منه كتبًا فاخرة:
قل للذي لم تر عيني
…
ممن رآه مثله
ومن كان من رآه
…
قد رأى من قبله
العلم ينهي أهله
…
أن يمنعوه أهله
لعله يبذله
…
لأهله لعله
فأنفذ إليه الكتب.
وقال إبراهيم الحربي: قلت لأحمد بن حنبل:
من أين لك هذه المسائل الدقيقة؟
قال: من كتب محمد بن الحسن.
وقال الحسن بن أبي مالك، من تلاميذ أبي يوسف:
لم يكن أبو يوسف يدقق هذا التدقيق الشديد.
وقال عيسى بن أبان: هو أفقه من أبي يوسف رحمه الله.
وقد ذكر القاضي عبد الرحمن بن خلدون المالكي في مقدمته: أن الشافعي رحل إلى العراق، ولقى أصحاب أبي حنيفة،
وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق،
واختص بمذهب، وكذلك أحمد بن حنبل أخذ عن أصحاب أبي حنيفة مع وفور بضاعته في الحديث، فاختص بمذهب ".
ألا ترى أنه لما ادَّعَى بعض الشافعية رجحان القول بمفهوم الصفة والشرط على القول بنفيه بكون الشافعي رحمه الله قال به مع سلامة طبعه، واستقامة فهمه، وغزارة علمه، وصحة النقل عنه، وكثرة أتباعه.
وقال ابن الهمام وآخرون: بأن هذه الكمالات متحققة أيضًا في محمد بن
الحسن، مع تقدُّم زمانه، وعُلُوِّ شأنه، وهو قائل بنفيه.
وأما زفر: فقد قال فيه أبو حنيفة: هذا إمام من أئمة المسلمين، وإنه أقيس أصحابي.
وقال المزني: هو أَحَدُّهُمْ قياسًا.
وكفى بذلك شهادة له، ولكل واحد من هؤلاء الأئمة الثلاثة أصول مختصة
به، تَفَرَّدَ بها عن أبي حنيفة، وخالفه فيها.
ومن ذلك: أن الأصل في تخفيف النجاسة تعارُض الأدلة عند أبي حنيفة،
واختلاف الأئمة عندهما، وأن المجاز خلفٌ عن الحقيقة في التكلُّم، أو في الحكم، وغير ذلك كثير كما هو مُبَيَّن في كتب الأصول.
بل قال الغزالي: إنهما خالفا أبا حنيفة في ثلثي مذهبه.
ونقل النووي في كتابه تهذيب الأسماء واللغات عن أبي المعالي الجويني: أن كل ما اختاره المزني أرى أنه تخريج مُلْتَحَقٌ بالمذهب، فإنه لا يخالف أقوال الشافعي، لا كأبي يوسف ومحمد، فإنهما يخالفان أصول صاحبهما.
وأحمد بن حنبل لم يذكره الإمام أبو جعفر الطبري في عداد الفقهاء، وقال: إنما هو من حفاظ الحديث.
وقال ابن خلدون: " وأما أحمد بن حنبل فمُقَلِّده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد.
وقال: إن الحنفية أهل البحث والنظر، وأما المالكية فليسوا بأهل نظر ".
فكيف يعد ابن كمال باشا الإمام أحمد بن حنبل من طبقة المجتهدين، ولا يكون أبو يوسف، ومحمد، وزفر منها، وليس معنى كون أبي يوسف، ومحمد، وزفر وأمثالهم حنفيين دون مالك، والشافعي، وأحمد، وأمثالهم -: أنهم مُقَلِّدون لأبي حنيفة في الأصول، أو في الفروع، بل معنى ذلك أنهم تعاونوا وتناصروا على نشر مذهبه، وإذاعة علمه، وتتلمذوا له، وأخذوا العلم عنه، وتفقَّهوا عليه، ولازموه ونقلوا مذهبه،
ولم يميزوا مذاهبهم عنه، وقد أفتوا به في بعض الحوادث، وتجردوا لتحقيق أصوله وفروعه، وعينوا أبواب مسائله وفصولها، ومهدوا قواعده بحيث يستفاد منها الأحكام، واستنبطوا من أقواله قوانين صحيحة، وطرائق قويمة، يتعرَّف بها المعاني في تضاعيف الكلام، وبالغوا في بيان مذهبه لمن يتمسك به، لاعتقادهم أنه أعلم وأورع وأحق بالاقتداء به، والأخذ بقوله، وأوثق للمفتي، وأرفق للمستفتي، ولذلك قال مسعر بن كدام: " من جعل أبا حنيفة يينه وبين اللَّه تعالى رجوت أن لا يخاف عليه، ولم يكن
فرط على نفسه في الاحتياط "، وكان مقام مسعر في الفقه مقامًا لا يلحق، شهد له بذلك أهل صناعته خصوصًا مالكًا.
ومن ذلك الوجه امتاز أصحاب أبي حنيفة بأنهم حنفيون، دون ما خالفه كالأئمة الثلاثة وغيرهم، لا لأنهم لم ييلغوا مرتبة الاجتهاد المطلق، بل مع نشرهم مذهب شيخهم، والانتصار له نجدهم نشروا آراءهم بين الخلق أيضًا، واحتجوا لها بالكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع، بحيث لو لم يخالطوها بمذهب أبي حنيفة، لكان لكل واحد منهم
مذهب مُنْفَرِد عن مذهب الإمام، مخالفًا له أصولًا وفروعًا في كثير من المواضع.
وإن أراد ابن كمال باشا من الأصول التي قلدوا فيها أبا حنيفة: الأدلة الأربعة من:
الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، في الأخذ بها، واستنباط الأحكام منها -:
فلا سبيل له إلى ذلك؛ لأن هذه الأدلة مُستَنَد كل إمام، ومَرجُع كل مجتهد في أخذ الأحكام منها، فلا يتصور أن واحدًا منهم يخالف الآخر في شيء منها، أو أن واحدًا منهم يعد مُقَلِّدا الآخر في موافقته له في ذلك، بل كل مسلِم مُكَلَّف قادر على أخذ الحكم منها يتعين عليه ذلك شرعًا، وإن لم يكن مجتهدًا، وإن كان مراده أنهم يقلدون
أبا حنيفة في قوله: " إن قول الصحابي، ومُرسَل الأحاديث مما يحتج به، وإن
الاستصحاب، والمصالح المرسلة لا يحتج بها "، فهذا ليس من التقليد في شيء، بل هذا من قبيل موافقة رأي المجتهد لرأي مجتهد آخر، فموافقة رأيهم لرأي الإمام لقيام الحجة عندهم على ذلك كما قامت عليه عنده -: لا يعد تقليدًا.
ألا ترى أن مالكًا قائل بحجية الأحاديث المرسلة، والشافعي قائل بعدم حجية
المصالح المرسلة، ولم يكن واحدا منهم مُقَلِّدًا لأبي حنيفة فيما وافقه؟.
ألا ترى أن الجميع اتفقوا على أن كلا من: الإجماع، وخبر الآحاد، والقياس
حجة، ولم يعد ذلك تقليدًا من البعض للبعض الآخر؟ ولو كان موافقة مجتهد لمجتهد آخر في حكم تقليدًا لاقتضى إجماع المجتهدين على حكم أن يكون كل واحد منهم مُقَلِّدًا للآخر فيه، فلا يكون إجماعًا من المجتهدين، والمفروض أنه إجماع منهم.
وقد نقل عن أبي بكر القفال، وأبي علي بن خيران، والقاضي حسين من الشافعية أنهم كانوا يقولون:" لسنا مُقَلِّدين للشافعي، بل وافق رأينا رأيه ".
وهذا هو الظاهر أيضًا من حال الإمام أبي جعفر الطحاوي في أخذه بمذهب أبي
حنيفة، واحتجاجه له، وانتصاره لأقواله، حيث قال في أول كتاب شرح الآثار:
"أذكر في كل كتاب ما فيه الناسخ والمنسوخ، وتأويل العلماء، واحتجاج بعضهم على بعض، وإقامة الحجة لمن صح عندي قوله منهم، ريثما يصح فيه مثله من: كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو تواتر من أقاويل الصحابة، أو تابعيهم رضي الله عنهم أجمعين ".
وأما قول ابن كمال باشا في الخصاف، والطحاوي، والكرخي:" أنهم لا يقدرون على مخالفة أبي حنيفة، لا في الأصول، ولا في الفروع "، فليس بصحيح، بل هو مخالف للواقع، فإن ما خالفوا فيه أبا حنيفة من الأحكام لا يعد، ولا يحصى، ولهم اختيارات في الأصول والفروع، وأقوال مستنبطة، احتجوا عليها بالمنقول والمعقول، كما لا يخفى على من تتبع كتب الفقه، خصوصًا الخلافيات.
وقد انفرد الكرخي عن أبي حنيفة وغيره في: أن العام بعد التخصيص لا يبقى حجة أصلًا، وأن خبر الواحد في حادثة تعم بها البلوى، ومتروك المحاجة به عند الحاجة كل منهما ليس بحجة أصلًا.
وانفرد أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص بأن العام الخصوص حقيقة إن كان الباقي جمعًا، وإلا فمجاز، وهذا كله من مسائل الأصول.
ثم إن ابن كمال باشا عد أبا بكر الرازي الجصاص من المقلِّدين الذين لا يقدرون على الاجتهاد أصلًا، وهو تنزيل لأبي بكر الرازي عن محله الرفيع، فإن شأنه في العلم جليل، وباعه ممتد في الفقه، وكعبه عالٍ في الأصول، وقَدَمُه فيها راسخ، ووطأته شديدة، وبطشه قوي في معارك النظر والاستدلال، ومن تتبع تصانيفه كتفسيره المسمى
ب " الأحكام " وغيره علم أنه من كبار الأئمة المجتهدين، قال شمس الأئمة الحلوائي فيه:" هو رجل كبير معروف في العلم، وإنّا نقلده ونأخذ بقوله "، فكيف يجعل ابن كمال باشا شمس الأئمة الحلوائي صاحب هذه المقالة مجتهدًا في المسائل، وأبا بكر الرازي مُقَلِّدًا لا يقدر على الاجتهاد أصلًا، فيقضى أن شمس الأئمة الحلوائي، وهو مجتهد يقلد أبا بكر الرازي، وهو مُقَلِّد، وقد ذكر في الكشف الكبير ما يدل على أنه أفقه من أبي منصور الماتريدي.
وقال قاضيخان في التوكيل بالخصومة: " يجوز للمرأة المخدرة أن توكل، وهي التي لم تخالط الرجال بكرًا كانت، أو ثيبًا، كذا ذكره أبو بكر الرازي، وعامة المشايخ أخذوا بما ذكره أبو بكر الرازي رحمه الله ".
وقال في الهداية: " ولو وكلت المرأة المخدرة، قال الرازي: يلزم التوكيل منها، ثم قال: وهذا شيء استحبه المتأخرون".
وقال ابن همام رحمه الله: " هو قول الإمام الكبير أبو بكر الجصاص أحمد بن على الرازي، يعني: أما على ظاهر إطلاق الأصل وغيره عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا فرق بين: البكر، والثيب، والمخدرة، والمبرزة، والفتوى على ما اختاروه من ذلك، وحينئذ فتخصيص الرازي، ثم تعميم المتأخرين، ليس إلا لفائدة أنه المبتدي بتفريع ذلك وتبعوه " اهـ من الفتح.
فانظر إلى ابن كمال باشا كيف عَدَّ قاضيخان من المجتهدين في المسائل، وانظر إلى قاضيخان كيف يأخذ هو ومشايخه العظام بقول أبي بكر الرازي، الذي جعله
ابن كمال باشا مُقَلِّدا لا يقدر على الاجتهاد أصلا، وهو الذي ابتدأ بتفريع هذا القول على خلاف قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، وتبعه المتأخرون، وأفتوا بقوله، وآرائه، وقد أكثر شمس الأئمة السرخسي - وهو تلميذ شمس الأئمة الحلوائي - في كتبه من النقل عن أبي بكر الرازي، والاستشهاد بآرائه، والأخذ بها.
وبالجملة فممن تفقه علي أبي بكر الرازي: أبو جعفر الاستروشني، وهو أستاذ القاضي أبي زيد الدبوسي، وأبو على حسين بن خضر النسفي، وهو أستاذ شمس الأئمة الحلوائي، وقد علمتَ أن السرخسي من تلاميذ الحلوائي، وأما قاضيخان فهو من أصحاب أصحابه.
ولعل ابن كمال باشا فهم من قول علمائنا: " كذا في تخريج الرازي " أن وظيفة الرازي هي التخريج فقط، مع أن أبا حنيفة وأصحابه قد خَرَّجوا قول ابن عباس في " تكبيرات العيدين أنها ثلاث عشر تكبيرة " بحملها على الزوائد فقط.
وخَزَجَ أبو الحسن الكرخي قول أبى حنيفة، ومحمد في تعديل الركوع والسجود، وجعله واجبًا، وأبو عبد اللَّه الجرجاني حمله على السُّنِّيَّة.
ونظائر ذلك في تخريجات كحيرة وقعت من الأئمة المجتهدين، وما ضرهم ذلك في اجتهادهم، فأبو بكر الرازي كذلك لا يجعله تخريجه في مرتبة أنزل من مرتبته.
وقد جعل ابن كمال باشا الإمام أبا الحسين القدوري، وصاحب الهداية من الطبقة الخامسة أصحاب الترجيح، وجعل قاضيخان من المجتهدين، مع أن الإمام القدوري توفي سنة 428 هـ، والحلوائي 456 هـ، والسرخسي في حدود 490 هـ، كما سبق
والبزدوي 482 هـ، وقاضيخان 593 هـ، فالقدوري مُتَقَدم على: الحلوائي، والسرخسي، والبزدوي، وقاضي خان، مع كونه أعلى منهم كعبا، وأطول باعا في
الفقه، فكيف يعد هؤلاء من المجتهدين في المسائل، ولا يعد القدوري منهم.
نعم إن الخصاف، والطحاوي، والكرخي متقدِّمون على القدوري، فإن الخصاف توفي 261 هـ، والطحاوي 321 هـ، والكرخي 340 هـ، وأما أبو بكر الرازي الجصاص
فوفاته كانت في 370 هـ، كذا في طبقات التميمي، وتراجم العلامة قاسم، وأما صاحب الهداية فوفاته كانت في 593 هـ في السنة التي توفي قاضيخان فيها، وكان صاحب الهداية هو المشار إليه في عصره، والمعقود عليه الخناصر من علماء وقته.
وقد ذكر في الجواهر وغيرها: أنه أقر له أهل عصره بالفضل والتقدم، كالإمام فخر
الدين قاضيخان، والإمام زين الدين العتابي، وغيرهما، وقال:" إنه فاق على أقرانه، بل على شيوخه في الفقه، وأذعنوا له به "، فكيف تُنَزَّل مرتبته عن مرتبة قاضيخان، مع أنه أحق منه بالاجتهاد، وأثبت فيما يقتضيه؟
على أنه قال في الطبقة الخامسة: " إن شأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض إلى آخره "، وقال في الطبقة السادسة:" إنهم قادرون على التمييز بين: القوي، والأقوى، والضعيف " إلى آخره فلم يكن فَرقٌ بين شأن الطبقتين في المعنى، كما هو ظاهر واضح.
وبعد ذلك لا ندري بأي شيء علم مقادير هؤلاء الأئمة، وما بينهم من التفاوت، مع أنه لم يكن في عصرهم، بل عمله هذا دل على أنه لم يكن يعرف كثيرًا منهم،
وكان الواجب عليه أن يرجع إلى تراجمهم، وما دَوَّنُوه في كتبهم إن أراد أن يَتَهَجَّمَ عليهم، ويضع لكل واحد من الفقهاء مرتبة أعلى، أو أنزل.
وإن كان الفقهاء في كل عصر إنما يُعْرَفون بالأوصاف الفاضلة أحياءً، وبالآثار
أمواتًا، ولا عبرة بتقدُّم الزمان، ولا بتأخُّره، بل الفقهاء كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، وفضل اللَّه واسع لا يتقيد بزمان، ولا مكان، ولا بشخص دون شخص، على ما يشير إليه قوله تعالى:(وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) .
يريد واللَّه أعلم أن كل آية يأتي بها اللَّه إذا جَزَدَ الناظر نظره إليها قال: هي أكبر الآيات، فإنه لا يتصور أن يكون كل آية أكبر من
الأخرى من كل وجه للتناقض ".
وقد كان ابن كمال باشا مفتيًا في الدولة العثمانية عالماً جليلًا، ولكنه كان كثيرًا ما يشتبه عليه حال الفقهاء، فيجعل الواحد منهم اثنين، والاثنين واحدًا، وئقدم المؤخَّر منهم، ويؤخر المقدَّم، ويَنسب كثيرًا من الكتب إلى غير مصنفيها، والعصمة للَّه وحده ثم لرسوله صلى الله عليه وسلم من بعده.
وإنما تعرَّضنا لما قاله ابن كمال باشا على الوجه المتقدم لإحقاق الحق، ومخافة أن يكون ما فعله حدًّا لمَن بعده، فلا يتجاوزونه إلى غيره، فلو نُقِلَ إليهم قولٌ عن كبار العلماء الذين أنزل ابن كمال باشا درجتَهم اغتروا بذلك، ويقولون إنه ليس من طبقة المجتهدين في المسائل، لأنه لم يذكر في طبقات ابن كمال باشا، خصوصًا وقد تبعه مَنْ بعده جماعة كثيرون.
ومن الواضح الجَلِي أن ابن كمال باشا لم يذكر من فقهاء الحنفية في طبقاته إلا النزر
اليسير، مع أنه رفع من شاء، وخففمنهم من شاء، ولم ينزل كل واحد منهم منزلته.
وقد روى عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها أنها قالت: " أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم "، صححه الحاكم وغيره.
وكلهم أئمة الدين، ودعاة الحق واليقين، ولكن اللَّه فَضَّلَ بعضهم على بعض، ورفع بعضهم فودتى بعض درجات، واللَّه يختص برحمته من يشاء، واللَّه ذو الفضل
العطم، (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) .
والذي قَفَلَ اللَّهُ بابَه، وختمه ومنعه على الرجال والنساء من الفضائل إنما هو النبوة والرسالة، فلا نبي ولا رسول بعد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، على الإطلاق، وما عداهما من صفات الكمال لا يزال في الأمة المحمدية باقيا، متجددًا إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن
عليها، وهو خير الوارثين، (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) .
وهو القائل: " لا يزال الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة، ولا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم الدين " صلى اللَّه وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين..
انتهى كلام الشيخ بخيت رحمه الله فيما نقله من كلام الشهاب المرجاني ملخصًا.
وقد قسم اللكنوي طبقات الحنفية تقسيمًا آخر فقال رحمه الله: " راعلم أن لأصحابنا الحنفية خمس طبقات:
الأولى: طبقة المتقدمين من أصحابنا: كتلامذة أبي حنيفة، نحو أبي يوسف،
ومحمد، وزفر، وغيرهم، وهم كانوا يجتهدون في المذهب، ويستخرجون الأحكام من الأدلة الأربعة على مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم - فإنهم وإن خالفوه في بعض الفروع لكنهم قلدوه في الأصول - بخلاف مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، فإنهم يخالفونه في الفروع غير مقلدين له في الأصول، وهذه الطبقة هي الطبقة الثانية من الاجتهاد.
والثانية: طبقة أكابر المتأخرين: كأبي بكر الخصاف، والطحاوي، وأبي الحسن الكرخي، والحلوائي، والسرخسي، وفخر الإسلام البزدوي، وقاضيخان، وصاحب الذخيرة "، " والمحيط البرهاني ": الصدر برهان الدين محمود، والشيخ طاهر أحمد صاحب " النصاب " " وخلاصة الفتاوى "، وأمثالهم، فإنهم يقدرون على الاجتهاد في
صفحة ناقصة