الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توثيق التراث
هذا التراث - الذي بدأ مع تدوين العلوم عند المسلمين الأوائل في أواخر القرن الثاني الهجري، وامتد إلى عصر شيخ الإسلام الباجوري (1227 هـ/1856 م) - هو
النتاج الفكري الذي جعل لنفسه محورًا هو النص: الكتاب والسنة، النص بما اشتمل عليه من أحكام، ومن مقاصد شرعية تشتمل على قيم، وهذه القاصد والقيم تعمل في وسط قواعد، وتعمل كل هذه المنظومة في مجال السنن الإلهية التي خلقها اللَّه عز وجل في الكون، والنفس، والمجتمع.
فقد جعل المسلمون النص محورًا لحضارتهم، ومحور الحضارة معناه: أنهم جعلوه معيارا للتقويم، وجعلوه منطلَقًا للخدمة، وجعلوه مرجِعًا يرجعون إليه.
ولذلك نجد أنهم قد وَلَّدوا علومًا كثيرةً، كعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلم
النحو، وعلم الصرف، وعلم الوضع، وعلم البلاغة،
…
، أرادوا بهذه العلوم أن يخدموا النص، وكذلك علم الخط يريدون به أن يخدموا النص، هذا الخط العجيب الذي يقول عنه ابن مقلة: إن كتاب اللَّه قد نزل على نسبة إلهية فاضلة، نظمه عجيب معجز، فلا بد أن يكتب بخط مبني على نسبة إلهية فاضلة، وتفتق ذهن ابن مقلة على
مسألة المسدس الدائري الذي رسم فيه الألف، واستطاع بميزان الألف أن يرسم الحروف كلها، فرسمت كل الحروف داخل المسدس داخل الدائرة.
يقول أبو حيان: لقد أوحى اللَّه تسديس الخط لابن مقلة كما أوحى للنحل
بتسديس بيوتها.
وليس هناك خط على وجه الأرض وإلى يومنا هذا يسير على نسبة واحدة كالخط العربي وما تفتق ذهن المسلمين بذلك إلا لأنهم قد خدموا النص، وأرادوا خدمته، وجعلوه محورًا واضخا لحضارتهم.
الفنون مثلًا وما حدث فيها من رسم وتعشيبات نباتية، وتلاعب بالخطوط،
والأشكال الهندسية، والتلاعب بالألوان، كل هذا إنما يحاولون به أن يصلوا إلى خدمة شيء معين جعلوه محورًا ينطلقون منه في حياتهم.
اقتضى وجود النص مسألة التوثيق، فالتوثيق هو السؤال الأول الذي يطرح نفسه على
الإنسان الذي يسعى إلى معرفة الحق، هل الذي بين يديَّ الآن هو الذي نطق به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، سواء أكان قرآناً، أم سنة صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
فمن أجل الإجابة على هذا السؤال وُجِدَ ما يقرب من عشرين علمًا، تتعلق بعلم الرجال وعلم الأسانيد، وعلوم الجرح والتعديل، وعلوم مصطلح الحديث، علوم كثيرة تحاول أن تضبط المسألة.
ليس هناك كتاب على وجه الأرض له تلك الأسانيد المتصلة، التي يقول كل قارئ للقرآن فيها (والقارئ هنا معناه: متحمل القراءة، وعالم القراءة) لقد سمعت هذا الكلام حرفًا حرفًا بالتشكيل، وعلى هذا الخط الموجود أمامنا، من شيخي الذي ولد يوم كذا وتوفي سنة كذا، وكان اسمه كذا وكان يضحك ويقول كذا وكذا، وكان يبكي
في المواقف الفلانية، تاريخ حياته كاملًا موجود في ملف في هذا العلم، وهذا الشيخ يقول أيضًا: إنه سمع هذا الكلام عن شيخ آخر، وله كل هذه المواصفات، ليس هناك أحد في هذا السند من المجاهيل التي لا نعرفها، فنحن وحتى الآن نعرف كل واحد في هذه السلسلة، وهذا النقل ليس عن شخصٍ واحدٍ يمكن أن يكذب، ويمكن أن يخطئ، ويمكن أن يضعف في موقف معين، لا عن ألف، بل قد يكون عن آلاف،
فابن الجزري في كتابه النشر في القراءات العشر، أورد ما يقرب من ألفى طريق للقرآن، وكتاب النشر هذا، كتاب واحد، حصر ألف طريق، كأن هناك ألفًا قد تلقى عنهم ابن الجزري، وهؤلاء الألف قد تلقوا عن ألف من مشايخهم وهكذا، والأمر أعظم من هذا بكثير.
إن المسلمين يفتخرون بكتابهم، وأنه محفوظ عليهم، وأنه وارد إليهم بالأسانيد التي لو قارناها بكتب الديانات الأخرى، لوجدنا أن التوراة مثلًا يقول ابن حزم عنها:
لها سندُ واحدُ فقط، آخر شخصٍ في السند بينه وبين سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم ألف سنة أو أكثر.
كما أنه لا توجد النسخة الأصلية من الإنجيل، وإنما الذي يوجد له ترجمة يونانية، ومع ذلك، فمن المتُرجِم؟ لا نعرف.
مسألة مضحكة، ومحزنة، ومخزية أن يظل العقل البشري في حيرة من أمره أمام هذا الوضوح البين، بين مقارنة ظاهرية سطحية، تثبت من كل جهة قبل التعمق أن هذا
الدين، دين حفظه اللَّه سبحانه وتعالى، ودين قد دافع عنه اللَّه تعالى، وجعله مهيمنًا على ما بين يديه من تلك الأديان والكتب.
من المترجم؟ لا نعرف، ما هي الأسانيد إلى تلك الترجمة؟ لا نعرف.
ثم إن مجموعة الباباوات الذين تولوا الكنيسة، والمعروف عنهم النقل إلى هذا المصدر المبتور: واحد منهم ثبت لديهم أنه من عبدة الشياطين، ومجموعة منهم ثبت لديهم أنهم من المجرمين السفاحين، ومجموعة أخرى من الداعرين، هذا ليس كلامنا، هذا كلامهم.
أما السند عندنا فوصل به الحال إلى أن رحل البخاري الطلب الحديث فذهب إلى شخص للرواية، فوجده ممسكًا بعشب في يده يحاول أن يجذب إليه بهيمته، فلما جاءت إليه أمسك بها ورمى العشب، فتركه البخاري، ولم يُحَدث عنه، وقال: إنك قد كذبت عليها فلم يأمنه.
إلى هذا الحد يتم عندنا التوثق.
وَتذكَّر البخاريُّ أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما وجد امرأة تريد أن تمسك بصبيها، فقدمت له تمرة، ثم لما أمسكت به أرادت أن تحرمه منها، فقال لها: لو فعلت لكذبت.
هذا المنهج - منهج توثيق المصدر - أثر تأثيرًا كبيرًا في عقلية المسلمين، وامتد ذلك التوثيق من المصدر (الكتاب والسنة) إلى الكتب التي ألفها الناس لخدمة هذا المصدر.
ولذلك هناك علم قد نشأ اسمه " علم الأثبات والمسانيد "،
علم الأثبات؟ السند ينتهي إلى المؤلف، وليس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،
وأصبحنا إذا ما أردنا أن نقرأ كتابًا، لا بد علينا أولًا أن نتوثق أن هذا الكتاب منسوب نسبةً صحيحة إلى مؤلفه بالسند المتصل أيضًا.
ألف الشوكاني كتابًا ماتعًا أسماه: " إتحاف الأكابر بأسانيد الدفاتر "،
وليست بأسانيد الأحاديث النبوية فقط، هذا أمر آخر في علم الحديث، لكن علم الحديث،
وعلم القراءات، وما حدث فيه من توثيق أثر على عقلية المسلم، فأصبح طلب التوثيق ضروريًّا في كل حياته، فأصبح هناك طلب لقضية أسانيد الدفاتر، وأصبح منهجًا يتخذ، وأثر هذا حتى في شكل النقل، فلا بد علينا أن نحفظ الوسيلة، والطريقة التي
بها النقل، ومن هنا وضع العلماء الأثبات التي جمعت أسانيد العلوم كلها.
ومن جهة أخرى أخذ توثيق النص منحىً آخر بتصحيحه، وإتقانه في نفسه: فنرى
ابن الصلاح في مقدمته يرشد الطلبة والنساخ إلى كيفية كتابة النصوص، ونقلها، والتأكد من صحتها بمصطلحات هي أنقى وأبر من مصطلحات المستشرقين وأضبط،
ومن ضمن ما ذكره ابن الصلاح: أنه ينبغي على القارئ عند القراءة إذا ما وجد سقطًا أو خطأ أن لا يصلح في أصل النسخة، خيفة أن يكون ما ظنه سقطًا، أو خطأ ليس كذلك، بل على القارئ أن يصلح في الهامش وأن يشير بعلامة " صح " فوق الكلمة، ويخرج في الهامش ويقول ما يريد، سواء أكان من عنده أم كان من نسخة أخرى،
حتى يدع لآخرين من بعده ينظرون في هذه النسخة، ولا يقطع عليهم الطريق، ولا يحرف كلام الناس، وحتى لا يصبح عنده تسلط على الآخرين في العلم، وأن ما ذهب إليه قطعي، وأن ما ذهب إليه لابد على الناس جميعًا أن يتمثلوا به.
وتثبت أيضًا السماعات على النسخة، ومعنى السماعات: أن يقول المتلقي للكتاب مثلًا: " سمعت هذا الكتاب من الشيخ الفلاني، حيث قال لي: إنه سمعه من الشيخ الفلاني بتاريخ كذا في المكان الفلاني "، فيحدد الشخص، والزمان، والمكان، حتى إذا ما كان هناك اشتباه في الأسماء بين المشايخ يحدث تمييز بينهم بالتاريخ، وإذا ما كان هناك كذب، أو زيادة قد حرفها محرف، أو وضعها واضع، تتضح هذه عند العلماء
الذين يعرفون..
وبهذه الطريقة كشف عن كثير من أنواع التلاعب، وهذا علم قائم بذاته.
الحقيقة أن تحول المناهج إلى تلك الملكات، هي التي نفتقدها نحن الآن، نحن
أصبح عندنا معلومات، ولم يعد عندنا علم.
والفرق يينهما: أن المعلومات مفردة، والعلم نسق مرتبط بعضه مع بعض، له منهج، وله استعمال، وهذا هو الفرق بين العالم والمثقف، فالمثقف عنده كثير من المعلومات في مادة معينة، لكن ليس عالماً في هذه المادة، وقد تفوق معلوماته معلومات بعض علماء هذه المادة، لكن لابد علينا أن نعي المنهج، وأن نعي طرق الاستعمال، وأن نعي الربط بين المعلومات، وأن نعي المعلومات أيضًا حتى نُحصِّل علمًا معينا.
وضع العلماء طرقًا ثمانية من طرق التحمل - أي تحمل العلم - أيضًا أخذوها من الحديث بعضها يتعلق بطريقة الأداء:
فمن ذلك: أن يقرأ الشيخ والتلميذ يسمع، ويقول: قد سمعت هذا، وهذا يكون أضبط؛ لأن الشيخ عندما يقرأ، يقرأ كثير من طلبة العلم الآن، من غير قراءة على عالم يستطيع أن يصحح، وأن ينقل الملكات، والمعلومات، ومناهج البحث العلمي منه إلى الطالب.
على كل حال فإن حضارة المسلمين لم تمت، بل نامت فقط، والنائم يستيقظ، واللَّه عز وجل ييعث مَنْ في القبور، على أن حالة النوم هذه استمرت عند المسلمين حتى دخول المطبعة الأميرية التي فتحها محمد علي (821 ام) لطبع كتب الجهادية،
وا لفنون، والزراعة، والصناعة، والطب، وغيرها.
ثم بعد ذلك بدأت في طباعة المصحف سنة 1832 م) ، لأن المشايخ حرموا طباعة الصحف ابتداء لسببين: أحدهما موضوعي، والآخر شكلي.
السبب الموضوعي: أنه سيكون فيه أخطاء فادحة نظرًا لصعوبة التصحيح وبدائية عملية الطباعة، وأنه لا بد علينا أن نكتبه بأيدينا حتى نتأكد من عدم وجود الأخطاء.
والسبب الشكلي: أنهم قد سمعوا أن الاسطوانة التي تدور عليها ورق الطباعة
مصنوعة من جلد الخنزير، فلا ينبغي أن تدنس صفحات المصحف بجلد الخنزير، فتأخرت طباعة المصحف.
ثم بعد ذلك أصدر محمد علي باشا، قرارا بطبع المصحف حتى ولو كان حرامًا!
وكانت هذه خطوة وعلامة فارقة من ارتباط الأحكام الشرعية بالسياسة فطبع
المصحف، طبع منه أول الأمر مائتا نسخة، واتضح أن فيه أخطاء فاحشة، فصححها،
وأذكر أن التصحيح قد تكلف 13 جنيهًا ذهبا لأجل تصحيح المصحف المطبوع.
وبعد ذلك بدأت دار الطاعة الأميرية في إخراج أوائل منتجاتها الأدبية، فقام
علماء المطبعة الأميرية من المصححين المطعيين.
وكانوا من أكابر العلماء أمثال الشيخ
قطة العدوي، والشيخ نصر الهوريني.
والشيخ نصر الهوريني هذا له شرح على ديباجة القاموس المحيط للفيروزآبادي، حيث إنه أشرف على طبعه فألف هذا الشرح، ولا يؤلف مثله إلا من هو أعلى من الفيروزآبادي أو مثله، وهذا ييين لك من المصحح، ليس كالمصحح المطبعي الآن لا يدري عن نفسه شيئًا، حتى أصبحت مهنة مَنْ لا مهنة له، بل لقد كان المصحح من كبار العلماء.
لقد لاقى التراث اهتمامًا كبيرًا في قضايا التوثيق والنقل إلى أن أصبحت الطبعة
الأميرية من أي كتاب وإلى يومنا هذا، هي العمدة والمعتمد.
ومثل الشيخ نصر الهوريني: الشيخ قطة العدوي، وحسن بك حسني، وأحمد باشا زكي شيخ العروبة، وأحمد باشا تيمور.
وبدأ أحمد باشا تيمور ما نطلق عليه الآن بتكشيف التراث، وذلك في التذكرة التيمورية، وفي الموسوعة التيمورية، فقد كان يقرأ، ويأخذ الفوائد والقواعد والشوارد،
ويضعها في نظام خاص، طبع بعد موته؛ لأنه كان يفتح الملفات ولا يغلقها، لأنه كان دائمًا يلقي فيها بالدرر التي يلتقطها من بحار التراث في اتجاهه الأدبي اللغوي إلى أن ألفى أكثر من ثلاثين كتابًا على هذا الوضع، وأغلبها قد طبع بعد وفاته، لأنها لم تكمل حتى في حياته، لأنها مستمرة،
ولأنها ملفات تكشيف.
لقد قام كثير من علماء الأمة ممن عرفناهم وممن لم نعرفهم من الجنود المجهولين
بالحفاظ على قضية التوثيق أثناء الانتقال من المخطوط إلى المطبوع.
وأول من كتب في علم مستقل هو علم نقد النصوص، ومحاولة نشرها نشرًا علميًّا
هو: " برجستراسر " كتب كتابه بالعربية سماه " نقد النصوص "، وكان مجموعة من المحاضرات التي يلقيها على طلبته في جامعة القاهرة.
وبعد ذلك كتب من العرب عبد السلام هارون رحمه الله، وترجم أحمد شلبي شيئًا ما في الموضوع.
ثم انثالت بعد ذلك الكتب التي تتكلم عن كيفية نشر التراث نشرًا محققًا مخدومًا، له فهارس وله مقدمة، كيف نقارن بين النسخ، وكيف نخرج نسخة معتمدة؟ وما هي شروط تلك النسخ؟.
واستفيد في هذا المجال بكثير مما وصل إليه الإنسان في الشرق والغرب، واختلفت المصطلحات، ولكن المقصود هو الوصول إلى المضمون والمعنى، وهو أن نحافظ على التراث، وأن نوثقه، هذه إطلالة سريعة على قضية توثيق التراث قديمًا وحديثًا.