الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أربعين رجلاً كبراء الكبراء ".
وقال أسد بن الفرات أيضًا بهذا السند: قال لي أسد بن عمرو: " كانوا يختلفون عند أبي حنيفة في جواب المسألة فيأتي هذا بجواب، وهذا بجواب، ثم يرفعونها إليه، ويسألونه عنها، فيأتي الجواب من كثب - أي من قرب - وكانوا يقيمون في المسألة ثلاثة أيام ثم يكتبونها في الديوان ".
وضع أبو حنيفة مذهبه شورى بينهم لم يستبد فيه بنفسه دونهم، اجتهادًا منه في الدين، ومبالغة في النصيحة للَّه ورسوله والمؤمنين، فكان يلقى المسائل مسألةً مسألةً، ويسمع ما عندهم، ويقول ما عنده ويناظرهم شهرًا، أو أكثر حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها أبو يوسف في الأصول حتى أثبت الأصول كلها، وهذا يكون أولى
وأصوب، وإلى الحق أقرب، والقلوب إليه أسكن وبه أطيب، من مذهب من انفرد فوضع مذهبه بنفسه، ويرجع فيه إلى رأيه "..
انتهى ما أردته من كلام الكوثري رحمه اللَّه تعالى.
* * *
أسس المذهب الحنفي:
1 -
يمتاز مذهب أبي حنيفة بالفقه التقديري في مسائل لم تقع، ويفرض وقوعها، وقد كثر هذا النوع عند أهل القياس، لأنهم إذ يحاولون استخراج العلل للأحكام الثابتة بالكتاب، والسنة يوجهونها، فيضطرون إلى فرض وقائع، لكي يسيروا بما اقتبسوا من
علل الأحكام في مسارها واتجاهها، فيوضحونها بالتطيق على وقائع مفروضة، وقد توسع أبو حنيفة في الفقه التقديري إلى مدى لم يسبق إليه، وسلك الفقهاء من بعده مسلكه فكانوا يفرضون مسائل أحيانًا ويفتون فيها، وكان في ذلك نمو عظيم للفقه والاستنباط.
2 -
وقد نص الإمام أبو حنيفة على أصوله التي بنى عليه مذهبه، فروى الخطب في تاريخه عنه: " آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب اللَّه ولا سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أخذت بقول الصحابة، آخذُ بقول من شئتُ
منهم، وأدع من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، وابن سيرين، والحسن، وعطاء، وسعيد بن المسيب -
وعَدَّدَ رجالا - فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا ".
3 -
ويقول الموفق المكي: " وكلامُ أبي حنيفة أخذٌ بالثقة، وفرار من القبح، والنظر في معاملات الناس، وما استقاموا عليه، وصلحت عليه أمورهم، يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح القياس يمضيها على الاستحسان، ما دام يمضي له، فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به، وكان يوصل الحديث المعروف الذي قد أجمع عليه،
ثم يقيس عليه ما دام القياس سائغًا، ثم يرجع إلى الاستحسان، أيهما كان أوفق رجع إليه....
قال: كان أبو حنيفة شديد الفحص عن الناسخ من الحديث والمنسوخ، فيعمل بالحديث إذا ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه، وكان عارفا بحديث أهل الكوفة،
شديد الاتباع لما كان عليه ببلده ".
4 -
وعلى ذلك تكون الأدلة الفقهية عند أبي حنيفة سبعة: الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعرف.
5 -
وفقهاء الرأي، وعلى رأسهم أبو حنيفة يرون أن السنة مبينة للكتاب إن احتاج إلى بيان، وإن كانت الحاجة إلى بيان في نظرهم أقل من الحاجة في نظر فقهاء الأثر.
6 -
والحنفية يفرقون بين أمر ثابت بالقرآن إذا كانت الدلالة قطعية، وأمر ثابت بالسنة الظنية، والثابت بالقرآن من الأوامر فرض، والثابت بالسنة الظنية من الأوامر واجب، وكذلك المنهي عنه في القرآن حرام، إذا لم يكن ثمة ظن في الدلالة، والثابت بالسنة الظنية مكروه كراهة تحريمية مهما تكن الدلالة، وذلك لتأخر رتبة السنة الظنية عن القرآن الكريم من حيث الثبوت من جهة، والاستدلال بها على الأحكام من
جهة أخرى.
7 -
ولا يعني هذا مخالفة الإمام للسنة - كما اتهمه بها منتقصوه، وهو بريء من ذلك - وقد كان يقول:" ما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين بأبي وأمي، وليس لنا مخالفته، وما جاء عن الصحابة تخيرنا، وما جاء عن غيرهم فهم رجال ونحن رجال ".
8 -
ومن أصول الإمام المقررة: أن القياس مؤخر عن النص، وقد توهم مخالفوه أنه
يقدمه على النص، وقد قال رحمه الله:"كذب واللَّه وافترى علينا من يقول إننا نقدم القياس على النص، وهل يحتاج بعد النص إلى القياس ".
9 -
والأحاديث المتواترة حجة عند أبي حنيفة، ولم يعرف عنه أنه أنكر خبرًا
متواترا، وأنى يكون ذلك، كما يعلم من خلال فروعه الفقهية أنه كان يرفع المشهور إلى مرتبة قريية من اليقين، حتى إنه يصل إلى درجة تخصيص القرآن الكريم، والزيادة به على أحكامه.
10 -
كما يتبين من فروع الفقه المروية عن أبي حنيفة وأصوله أنه كان يأخذ
بأحاديث الآحاد، ويتخذ منها سنادًا لأقيسته وأصولها، ولقد كان أبو حنيفة وأصحابه يشترطون في الراوي ما اشترطه سائر الفقهاء والمحدثين من العدالة والضبط، ولكن الحنفية شددوا في تفسير معنى الضبط بأكثر مما شدد فيه غيرهم، نظرًا لكثرة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم في الكوفة، كما يقدمون رواية الفقيه على غير الفقيه عند التعارض.
11 -
وقد اختلف العلماء في حقيقة موقف أبي حنيفة إذا تعارض خبر الآحاد مع القياس، أيرد خبر الآحاد لمخالفته القياس، وتعتبر هذه المخالفة علة في الحديث، أم يقبل الحديث، ويهمل القياس؛ لأنه لا قياس مع النص؟.
12 -
فعامة فقهاء الأثر لا يجعلون للرأي مجالًا عند وجود الحديث، ولو كان
آحادًا طالما كان صحيحًا، ولا يشترطون فقه الراوي، ولا موافقة القياس.
13 -
أما الحنفية فيرون أنه لا يرد خبر الراوي غير الفقيه المخالف للقياس جملة، بل يجتهد المجتهد، فإن وجد له وجهًا من التخريج، بحيث لا ينسد فيه باب الرأي مطلقا قُبِلَ، بأن كان يخالف قياسا، ولكنه يوافق من بعض الوجوه قياسًا آخر، فلا يترك ذلك الخبر، بل يعمل به، وهذا معنى قولهم: لا يترك خبر الواحد العدل الضابط غير الفقيه
إلا للضرورة، بأن ينسد فيه باب الرأي من كل الوجوه.
14 -
ولهذا نرى فروعًا كثيرة عن أبي حنيفة أخذ فيها بالحديث وترك القياس، وفروعًا أخرى أخذ فيها بالقياس وخالف خبرًا روى فيها رأى مخالفته للقواعد العامة.