الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض الاعتراضات الواردة على هذا الترتيب والرد عليها:
1 -
يدعي بعضهم الإجماع على ترتيب الإمام الغزالي: " الدين ثم النفس ثم العقل فالنسل فالمال "، ويرى أن استقراء موارد الشرع يدل على ذلك.
والرد على ذلك: بأن هذا الإجماع لم يحكه أحد من العلماء السابقين المعتبرين، بل هو من إطلاقات بعض المحدثين، فهو ادعاء يعوزه الدليل، أو النقل الصحيح فضلا عن أننا لم نخالف الغزالي في ترتيبه، إذ إنه قَصَدَ بالدين الإسلامَ، ونحن لم نقصد ذلك،
بل أوردناه بمعناه الأخص كما أسلفنا.
وإن كنا نرى أن هذه المقاصد الخمسة تمثل دائرة واحدة، فنحن وإن رَتَّئضا حسا إلا أنها كالخيمة ذات العمود والأوتاد الأربعة، والخيمة هي الإسلام، والعمود هو الدين، والأوتاد الأربعة هي سائر المقاصد.
على أن الترتيب المنطقي، وإعمال الآيات كلها في محلها دون بعضها البعض يؤيد ما ذهبنا إليه من الترتيب، وهذا ما سنبينه إن شاء اللَّه تعالى في مرحلة تأصيل هذا المدخل.
كما أن ترتيب المقاصد ورد بصورة مختلفة على غير ترتيب الغزالي، فمثلًا عند الزركشي:" النفس، ثم المال، ثم النسل، ثم الدين، ثم العقل ".
2 -
يرى بعضهم أن قضية الجهاد تُبَينِّ لنا أن الدين مُقَدَّم على النفس، إذ قد أودى بها في سبيله، مصداقًا لقوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) .
وللرد عليه نقول: أنا - كمسلم - لم أومر إطلاقًا بالتفريط في النفس من أجل الدين، ولكن أمرت بالمحافظة على النفس بأفعال قد تؤدي بي إلى إهلاكها عَرَضًا لا قصدًا.
ونحن نتكلم في المقاصد، لا في ما يتم من الأمور بالعَرَض.
ففي الجهاد: لم يأمرني ربي بأن أذهب فأقتل نفسي، بل أمرني أن أفعل فعلًا معينًا هذا الفعل أظن فيه السلامة، وإن كان فيه مظنة القتل، ومظنة ذهاب النفس، لكنه ليس قاطعًا في ذهابها، ومن هنا جاءت صيغ الحث على القتال في القرآن، أو المقاتلة.
وفي الجهاد أيضا: محافظة على النفس، والنفس هنا بمعنى (النفس الكلية) ، ولو ذهبت في سبيل ذلك النفس الجزئية.
بمعنى آخر: فإن الجهاد هو من قبيل تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، إذ
قد يتعرض البعض للقتل، أو القتال من أجل الحفاظ على باقي الأمة من ضياع أنفسها.
ويتضح لنا هذا الترتيب أيضًا من خلال موقف عَمَّار مع المشركين، وِإذْن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنطق بكلمة الكفر حفاظا على النفس (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) .
3 -
وقد يعترض بعضهم بأننا في تقديم النفس والعقل على الدين نؤول إلى القول بالتحسين والتقبيح العقليين.
وهذا مردود عليه: بأن مرادنا بالعقل هنا: القدرة على الفهم، تلك القدرة التي بها مناط التكليف.
فالأحكام العلمية والعملية متعلِّقة بهذا المفهوم، وهو القدرة على الفهم.
أما استعمال العقل في إنشاء الأحكام فهذا شيء آخر، ونحن لا نقصده بهذا الاعتبار، بل المقصود هو أن يدرك العقل الأحكام، بمعنى أن العقل الذي له التقبيح والتحسين إنما هو ذلك الذي
ينشئ الأحكام، والذي معنا هو إدراك الأحكام بواسطة العقل.
وقد يعمل العقل في طريق إنشاء الحكم، ولكن دوره هو دور الفهم، ولو كان هذا الفهم مركبًا (كطريق القياس) الذي يكون فيه العقل كاشفًا للحكم، وليس منشئًا له، لأن الذي ينشئ الحكم إنما هو اللَّه تعالى وحده، وهذا الإنشاء يظهر عن طريق كلامه سبحانه
وتعالى في القرآن، وعن طريق كلام نبيه في السنة، وعن طريق إجماع الأمة حول حكم
معين، وكذلك عن طريق إعمال العقل في استنباط حكم معين، وفي كل ذلك فالحكم:
" هو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع ".
فقالوا: " خطاب اللَّه تعالى " وحده، ولم يقولوا:"خطاب اللَّه ورسوله والأمة "؟
لأن الرسول والأمة غير منشئين، وإنما خطاب الله تعالى المدلول عليه ب: القرآن، والسنة، والإجماع، وبإعمال العقل (القياس) ،
وبالاستدلال (وهو باقى الأدلة المختلف فيها) ، وكل هذه كواشف عن الحكم، وليست منشئة له.
4 -
وقد يعترض بعضهم بأن تقديم النفس على الدين يَكِرُّ على حد الردة
بالبطلان، ويصبح لا معنى له.
فنقول: بأن هذا يتصور لو قصدنا بالدين في هذا الترتيب (الإسلام)، أما إذا عرفنا أن المقصود بالدين هنا هو المعنى الأخص الذي قلنا -: لإدراكنا أن هذا الترتيب أدق من سابقه في هذا الاسم، فهو يفرق بين عدم الالتزام بأصل الإيمان وما هو معلوم
ضرورة من الدين (وذلك هو الإسلام) ، وبين عدم الالتزام بالشعائر الدينية (وهو مقصودنا من الدين) .
فنراه يعد الأول كفرًا ينهدم معه الإسلام نفسه، وبالتالي المقاصد كلها عقيدة
ونظامًا، بينما يعد الثاني فسقًا لا يهدم المقاصد الأربعة الأخرى المتعلقة بالوجود والحضارة.
بل إننا نرى أن هذا الترتيب يفرق بدقة بين الكفر والنفاق، وعليه فلا يقتل المنافق لظهور إسلامه.
وذلك ما يتفق مع النصوص كلها، ويتواءم مع القاعدة العريضة
" هلا شققت عن قلبه؟! ".
وما نحب أن نضيفه: هو أن هذه الترتيبات والتقسيمات في الواقع هي تقسيمات نظرية لمزيد من التشغيل والتفعيل، وإن كان الواقع مركبا من هذا كله تركيبا يصعب فيه هذا الفصل، إذ لا تنفك ذات الإنسان عن عقله، أو دينه، أو نسله ومشاعره، فهو مركب من كل هذا.
* * *