الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث عشر
حكم تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة
للعلماء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث إلى كراهة تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة، لأن ذلك من عادة أهل الجاهلية، وهو قول الزهري وإسحاق وابن المنذر وداود (1).
وقال بعض الشافعية بتحريم ذلك، قال الحافظ العراقي: [وأنكر شيخنا الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي على أصحابنا اقتصارهم على كراهة لطخ رأس المولود بدم العقيقة وقال المشهور تحريم التضمخ بالنجاسة ويحرم على الولي أن يفعل به شيئاً من المحرمات على المكلفين كسقيه الخمر
…
فينبغي في اللطخ مثله] (2).
القول الثاني: ذهب الحسن البصري وقتادة من التابعين وابن حزم الظاهري إلى أن ذلك مستحب فيلطخ رأس المولود بدم العقيقة ثم يغسل بعد ذلك، ونقله ابن حزم عن ابن عمر وهو قول عند الحنابلة (3).
(1) المجموع 8/ 432، 448، المغني 9/ 462، عون المعبود 8/ 28، شرح الخرشي 3/ 48، بداية المجتهد 1/ 377، الإنصاف 4/ 112، التهذيب 8/ 50، التاج والإكليل 4/ 394.
(2)
طرح التثريب 5/ 216.
(3)
المحلى 6/ 234، المجموع 8/ 432، المغني 9/ 462 الإنصاف 4/ 112.
قال الحافظ ابن عبد البر: [ولا أعلم أحداً من أهل العلم قال: يدمَّى رأس الصبي إلا الحسن وقتادة فإنهما قالا: يطلى رأس الصبي بدم العقيقة، وأنكر ذلك سائر أهل العلم وكرهوه](1).
وذكر الحافظ ابن حجر أنه قد ورد عن الحسن كراهة التدمية رواه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح (2).
واحتج هؤلاء بما رواه همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق ويدمَّى) فكان قتادة إذا سئل عن الدم كيف يصنع به قال: [إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت بها أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل رأسه بعد ويحلق](3).
وروى ابن حزم بسنده عن ابن عمر قال: [يحلق رأسه ويلطخه بالدم](4).
وقد أجاب الجمهور على هذا الاستدلال وبينوا أن هذا القول شاذ وأن الرواية المحفوظة لحديث سمرة (يسمَّى) وليست (يدمَّى) وهذا بيان ما قالوه:
1.
قال أبو داود صاحب السنن بعد روايته للحديث المذكور: [هذا وهم من همام ويدمَّى. قال أبو داود: خولف همام في هذا الكلام وهو وهم من همام وإنما قالوا
يسمَّى. فقال: همام: يدمَّى. قال أبو داود وليس يؤخذ بهذا] (5).
(1) فتح المالك 7/ 108.
(2)
فتح الباري 12/ 12.
(3)
سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/ 27.
(4)
المحلى 6/ 236.
(5)
سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/ 27 - 28.
2.
وقال أبو داود بعد أن ساق الرواية الثانية لحديث سَمُرة وفيها: (يسمَّى)، قال أبو داود:[ويسمَّى أصح، كذا قال سلام بن أبي مطيع عن قتادة وإياس ابن دغفل وأشعث عن الحسن قال: ويسمَّى، ورواه أشعث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ويسمَّى](1).
3.
نقل الخلال عن الإمام أحمد أنه سئل: [فيحلق رأسه؟ قال: نعم. قلت: فيدمَّى؟ قال: لا هذا من فعل الجاهلية. قلت: فحديث قتادة عن الحسن كيف ويدمَّى؟ فقال: أما همام فيقول: ويدمَّى وأما سعيد فيقول ويسمَّى].
وقال في رواية الأثرم: [قال ابن عروبة: يسمَّى، وقال همام: يدمَّى. وما أراه إلا خطأ](2).
4.
ويرى الشيخ ناصر الدين الألباني أن رواية الحديث بلفظ: (ويسمَّى) هي التي ينشرح لها الصدر لاتفاق الأكثر عليها ولا سيما أن لها متابعات وشواهد بخلاف رواية (ويدمَّى) فهي غريبة وأكد كلام أبي داود في تخطئة همام في قوله (ويدمَّى) وإن كان ثقة فقال: [وهذا وإن كان بعيداً بالنسبة للثقة فلا بد من ذلك ليسلم لنا حفظ الجماعة فإنه إذا كان صعباً تخطئة الثقة الذي زاد على الجماعة فتخطئة هؤلاء ونسبتهم إلى عدم الحفظ أصعب](3).
وقال الجمهور لو سلمنا أن رواية (يدمَّى) ثابتة ومحفوظة، فهي منسوخة (4).
(1) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/ 29.
(2)
تحفة المودود ص 35 - 36.
(3)
إرواء الغليل 4/ 387 - 388.
(4)
الاستذكار 15/ 381، فتح المالك 7/ 109، فتح الباري 12/ 11.
5.
وأكد الجمهور قولهم بأن التدمية منسوخة أنها كانت من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أبطلها ويدل على نسخها وإبطالها ما يلي:
أ. حديث عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: سمعت أبي - بريدة - يقول: [كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران](1).
ب. عن عائشة رضي الله عنها في حديث العقيقة قالت: (وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونه على رأس الصبي فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكان الدم خلوقاً) رواه البيهقي وهذا لفظه (2)، وقال النووي بإسناد صحيح (3). وقال الحافظ ابن حجر:[وزاد أبو الشيخ (ونهى أن يمس رأس المولود بدم)](4). وقال الألباني: [بإسناد رجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن جريج لكن قد صرح بالتحديث عند ابن حبان فصح الحديث والحمد لله](5)، ورواه ابن حبان وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح (6).
والخَلوق: بفتح الخاء هو طيب معروف مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب وتغلب عليه الحمرة والصفرة، قاله الإمام النووي (7).
ج. عن يزيد بن عبدٍ المزني عن أبيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم)(8). [قال مهنا بن يحيى الشامي: ذكرت لأبي عبد الله
(1) سبق تخريجه ص 8.
(2)
سنن البيهقي 9/ 303.
(3)
المجموع 8/ 428.
(4)
فتح الباري 12/ 11.
(5)
إرواء الغليل 4/ 389.
(6)
الإحسان 12/ 124.
(7)
المجموع 8/ 429، وانظر المصباح المنير ص 180.
(8)
سبق تخريجه.
أحمد بن حنبل حديث يزيد بن عبدٍ المزني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم) فقال أحمد: ما أظرفه! ورواه ابن ماجة في سننه ولم يقل عن أبيه] (1).
فهذه الأحاديث تدل على نسخ التدمية وأنها كانت من أمر الجاهلية، قال ابن رشد: [وجميع العلماء على أنه كان يدمَّى رأس الطفل في الجاهلية بدمها وأنه نسخ في الإسلام بحديث بريدة
…
] (2).
6.
قالوا لقد ورد في حديث سلمان بن عامر الضبي: (
…
وأميطوا عنه الأذى) وهذا يفسر بترك ما كانت الجاهلية تفعله في تلطيخ رأس المولود بدم العقيقة (3).
وقالوا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أميطوا عنه الأذى) والدم أذى فيكف يؤمر بأن يصاب بالأذى ويلطخ به (4).
7.
وقالوا إن الدم نجس فلا يشرع إصابة الصبي به كسائر النجاسات (5).
وبعد هذا الاستعراض لحجج الفريقين أرى أن قول الجمهور هو الصحيح وأن التدمية غير جائزة وأن تدمية رأس المولود كانت من أمر الجاهلية ونسخها الإسلام.
قال ابن القيم: [ولما أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم العقيقة في الإسلام وأكد أمرها وأخبر أن الغلام مرتهن بها. نهاهم أن يجعلوا على رأس الصبي من الدم شيئاً وسن لهم
(1) شرح ابن القيم على سنن أبي داود 8/ 28، وانظر المغني 9/ 462.
(2)
بداية المجتهد 1/ 377.
(3)
الاستذكار 15/ 382، شرح الخرشي 3/ 48.
(4)
تحفة المودود ص 36.
(5)
شرح ابن القيم على سنن أبي داود 8/ 29، المغني 9/ 462.
أن يجعلوا عليه شيئاً من الزعفران لأنهم في الجاهلية إنما كانوا يلطخون رأس المولود بدم العقيقة تبركاً به فإن دم الذبيحة كان مباركاً عندهم حتى كانوا يلطخون منه آلهتهم تعظيماً لها وإكراماً فأمروا بترك ذلك لما فيه من التشبه بالمشركين وعوضوا عنه بما هو أنفع للأبوين وللمولود وللمساكين وهو حلق رأس الطفل والتصدق بزنة شعره ذهباً أو فضة وسن لهم أن يلطخوا الرأس بالزعفران الطيب الرائحة الحسن اللون بدلاً عن الدم الخبيث الرائحة النجس العين، والزعفران من أطيب الطيب وألطفه وأحسنه لوناً] (1).
وقال الإمام النووي: [ولا بأس بلطخه بخلوق أو زعفران](2).
(1) تحفة المودود ص 56.
(2)
المجموع 8/ 432.