الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الدار المأمونية
وكان بجوار درب السلسلة الدار المأمونية، وهي المدرسة السيوفية، وكانت هذه الدار سكن المأمون ابن البطائحي، وعرفت قديما، بقوام الدولة حبوب، ثمجدّدها المأمون محمد ابن فاتك.
المأمون البطائحي: هو أبو عبد الله محمد ابن الأمير نور الدولة أبي شجاع فاتك بن الأمير منجد الدولة أبي الحسن مختار المستنصري، اتصل بخدمة الأفضل بن أمير الجيوش في شهر شوّال سنة إحدى وخمسمائة، عند ما تغير على تاج المعالي المختار الذي كان اصطنعه، وفخم أمره وسلم إليه خزائن أمواله، وكسواته، وسلم ما كان بيده من الخدمة لمحمد بن فاتك، فتصرّف فيها، وقرّر له الأفضل ما كان باسم مختار من العين خاصة دون الإقطاع، وهو مائة دينار في كل شهر، وثلاثون دينارا عن جاري الخزائن مضافا إلى الأصناف الراتبة مياومة ومشاهرة ومسانهة فحسن عند الأفضل موقع خدمته، فاعتمد عليه وسلم له جميع أموره، وصرّفه في كل أحواله.
فلما كثر عليه الشغل استعان بأخويه أبي تراب حيدرة، وأبي الفضل جعفر، فأطلق الأفضل لهما ما وسع به عليهما من المياومة والمشاهرة والمسانهة، ونعته الأفضل بالقائد، فصار يخاطب بالقائد، ويكاتب به، وصار عنده بمنزلة الأستادار «1» ، فلما قتل الأفضل ليلة عيد الفطر من سنة خمس عشرة وخمسمائة، قام القائد أبو عبد الله بن فاتك لخدمة الخليفة الآمر بأحكام الله وأطلعه على أموال الأفضل، وبالغ في مناصحته، حتى لقد اتهم أنه هو الذي دبر في قتل الأفضل بإشارة الخليفة، فخلع عليه الآمر في مستهل ذي القعدة، بمجلس اللعبة من القصر، وهو المجلس الذي يجلس فيه الخليفة، ولم يخلع قبله على أحد فيه، وحل المنطقة من وسطه، وخلع على ولده، وحل منطقته، وخلع على إخوته، واستمرّ تنفيذ الأمور إليه إلى أن استهل ذو الحجة، ففي يوم الجمعة ثانية، خلع عليه من الملابس الخاص في فرد كمّ مجلس اللعبة طوق ذهب مرصع، وسيف ذهب كذلك، وسلم على الخليفة، وتقدّم الأمر للأمراء، وكافة الأستاذين المحنكين بالخروج بين يديه، وأن يركب من المكان الذي كان الأفضل يركب منه، ومشى في ركابه القوّاد، على عادة من تقدّمه، وخرج بتشريف الوزارة، ودخل من باب العيد راكبا، ووصل إلى داره، فضاعف الرسوم، وأطلق الهبات.
فلما كان يوم الاثنين خامسه اجتمع الأمراء بين يدي الخليفة، وأحضر السجل في لفافة خاص مذهبة، فسلمه الخليفة له من يده فقبله، وسلمه لزمام القصر، فأمره الخليفة
بالجلوس إلى جانبه عن يمينه، وقرىء السجل على باب المجلس، وهو أوّل سجل قرىء هناك، وكانت سجلات الوزراء قبل ذلك تقرأ بالإيوان، ورسم للشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست أن ينقل نسبة الأمراء، والمحنكين من الآمريّ إلى المأمونيّ، وكذا الناس أجمع، ولم يكن أحد ينتسب إلى الأفضل، ولا لأمير الجيوش، وقدّمت له الدواة، فعلم في مجلس الخليفة، ونعت بالسيد الأجل، المأمون تاج الخلافة ووجيه الملك، فخر الصنائع، ذخر أمير المؤمنين، عز الإسلام، فخر الأنام، نظام الدين، أمير الجيوش سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، وكان يجلس بداره في يومي الأحد والأربعاء للراحة والنفقة في العسكر البساطية إلى الظهر، ثم يرفع النفقة، ويحط السماط، ويجلس بعد العصر، والكتاب بين يديه، فينفق في الراجل إلى آخر النهار، وفي يوم الجمعة يطلق للمقرئين بحضرته خمسة دنانير، ولكل من هو مستمرّ القراءة على بابه من الضعفاء، والأجراء مما هو ثابت بأسمائهم: خمسمائة درهم، ولبقية الضعفاء والمساكين: خمسمائة درهم أخرى.
فإذا توجه يوم الجمعة إلى القرافة يكون المبلغ المذكور مستقرّا لأربابه، ولم يزل إلى ليلة السبت الرابع من رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة، فقبض الآمر المذكور عليه، وعلى إخوته الخمسة «1» مع ثلاثين رجلا من خواصه وأهله، واعتقله ثم صلبه مع إخوته في سنة اثنتين وعشرين.
قيل: إن سبب القبض عليه ما بلغ الآمر عنه أنه بعث إلى الأمير جعفر بن المستعلي يغريه بقتل أخيه، ليقيمه مكانه في الخلافة، وكان الذي بلّغ الآمر ذلك الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة، وبلغه أيضا عنه أنه: سير نجيب الدولة أبا الحسن إلى اليمن ليضرب سكة عليها، الإمام المختار محمد بن نزار، وذكر عنه أنه سمّ شيئا، ودفعه لقصاد الخليفة، فنمّ عليه القصاد.
وكان مولد المأمون في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وكان من ذوي الآراء، والمعرفة التامّة بتدبير الدول كريما واسع الصدر سفاكا للدماء، كثير التحرّز والتطلع إلى معرفة أحوال الناس من العامّة والجند، فكثر الوشاة في أيامه.
حبس المعونة: وكان بجوار الدار المأمونية حبس المعونة، وموضعه اليوم: قيسارية العنبر.
قال ابن المأمون في سنة سبع عشرة وخمسمائة: تقدّم أمر المأمون إلى الواليين بمصر والقاهرة بإحضار عرفاء السقائين وأخذ الحج على المتعيشين منهم بالقاهرة بحضورهم، متى
دعت الحاجة إليهم ليلا ونهارا، وكذلك يعتمد في القربيين، وأن يبيتوا على باب كل معونة، ومعهم عشرة من الفعلة بالطوارىء والمساحي، وأن يقوما لهم بالعشاء من أموالهما بحكم فقرهم، انتهى.
وكان حبس المعونة هذا يسجن فيه أرباب الجرائم، كما هو اليوم السجن المعروف:
بخزانة شمائل، وأما الأمراء، والأعيان، فيسجنون: بخزانة البنود، كما تقدّم، ولم يزل هذا الموضع سجنا مدّة الدولة الفاطمية، ومدّة دولة بني أيوب إلى أن عمره: الملك المنصور قلاون قيسارية، أسكن فيها العنبرانيين في سنة ثمانين وستمائة.
ذكر الحسبة «1» ودار العيار
وكان بجوار حبس المعونة: دكة الحسبة، ومكانها اليوم يعرف: بالإبازرة، ومكسر الحطب بجوار سوق القصارين والفحامين.
قال ابن الطوير: وأما الحسبة، فإنّ من تسند إليه لا يكون إلّا من وجوه المسلمين وأعيان المعدّلين لأنها خدمة دينية، وله استخدام النوّاب عنه بالقاهرة ومصر، وجميع أعمال الدولة، كنوّاب الحكم، وله الجلوس بجامعي القاهرة ومصر يوما بعد يوم، ويطوف نوّابه على أرباب الحرف، والمعايش ويأمر نوّابه بالختم على قدور الهرّاسين، ونظر لحمهم ومعرفة من جزاره، وكذلك الطباخون ويتتبعون الطرقات، ويمنعون من المضايقة فيها، ويلزمون رؤساء المراكب أن لا يحملوا أكثر من وسق السلامة، وكذلك مع الحمالين على البهائم ويأمرون السقائين بتغطية الروايا بالأكسية، ولهم عيار: وهو أربعة وعشرون دلوا، كل دلو: أربعون رطلا، وأن يلبسوا السراويلات القصيرة الضابطة لعوراتهم، وهي زرق، وينذرون معلمي المكاتب بأن لا يضربوا الصبيان ضربا مبرّحا، ولا في مقتل، وكذلك معلمو العلوم بتحذيرهم من التغرير بأولاد الناس، ويقفون على من يكون سيء المعاملة، فينهونه بالردع والأدب، وينظرون المكاييل والموازين، وللمحتسب النظر في دار العيار، ويخلع عليه ويقرأ سجله بمصر والقاهرة على المنبر، ولا يحال بينه، وبين مصلحة إذا رآها، والولاة تشدّ معه إذا احتاج إلى ذلك وجاريه: ثلاثون دينارا في كل شهر، انتهى.
وكان للعيار: مكان يعرف بدار العيار تعير فيه الموازين بأسرها، وجميع الصنج، وكان ينفق على هذه الدار من الديوان السلطانيّ، فيما تحتاج إليه من الأصناف كالنحاس والحديد والخشب والزجاج، وغير ذلك من الآلات، وأجر الصناع والمشارفين ونحوهم،
ويحضر المحتسب أو نائبه إلى هذه الدار ليعير المعمول فيها بحضوره، فإن صح ذلك أمضاه، وإلّا أمر بإعادة عمله، حتى يصح، وكان بهذه الدار أمثلة يصحح بها العيار، فلا تباع الصنج، والموازين والأكيال، إلّا بهذه الدار، ويحضر جميع الباعة إلى هذه الدار باستدعاء المحتسب لهم، ومعهم موازينهم، وصنجهم ومكاييلهم، فتعير في كل قليل، فإن وجد فيها الناقص استهلك، وأخذ من صاحبه لهذه الدار، وألزم بشراء نظيره، مما هو محرّر بهذه الدار، والقيام بثمنه، ثم سومح الناس وصار يلزم من يظهر في ميزانه أو صنجه خلل بإصلاح ما فيها من فساط فقط، والقيام بأجرته فقط، وما زالت هذه الدار باقية جميع الدولة الفاطمية.
فلما استولى صلاح الدين على السلطنة أقرّ هذه الدار، وجعلها وقفا على سور القاهرة مع كان جاريا في أوقاف السور من الرباع والنواحي الجارية في ديوان الأسوار، وما زالت هذه الدار باقية.
اصطبل الجميزة: وكان بجوار القصر الغربيّ من قبليه اصطبل الجميزة من جانب باب الساباط الذي هو الآن: باب سرّ المارستان المنصوريّ، وقيل له: اصطبل الجميزة من أجل أنه كان في وسطه شجرة جميز كبيرة، وكان موضع هذا الاصطبل، تجاه من يخرج من باب الساباط، فينزل من الحدرة التي هي الآن تجاه باب سرّ المارستان المتوصل منها إلى حارة زويلة، ويمتدّ فيما حاذاه يسارك، إذا وقفت بأوّل هذه الحدرة، حيث الطاحون الكبيرة التي هي الآن في أوقاف المارستان، وما وراءها ويحاذيها إلى الموضع المعروف اليوم:
بالبندقانيين، وكانت بئره تعرف: ببئر زويلة، وعليها ساقية تنقل الماء لشرب الخيول، وموضع هذا البئر اليوم: قيسارية تعرف بقيسارية يونس تجاه درب الأنجب، وقد شاهدت هذه البئر، لما أنشأ الأمير يونس الدوا دار هذه القيسارية والربع علوها، فرأيت بئرا كبيرة جدّا، وقد عقد على فوهتها عقد ركب فوقه بعض القيسارية، وترك منها شيء، ومنها الآن الناس تسقي بالدلاء، وما زال هذا الاصطبل باقيا إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية، فحكر وبنى في مكانه الآدار التي هي موجودة الآن، وحكره جار في أوقاف الصلاح الأزبكيّ، وقد تقدّم ذكر هذا الاصطبل عند ذكر اصطبل الطارمة، فانظر رسومه هناك.
دار الديباج «1» : وكان بجوار اصطبل الطارمة من غربيه: دار الديباج، وهي حيث المدرسة الصاحبية بسويقة الصاحب وما جاورها من جانبها، وما خلفها إلى الوزيرية، وكانت هي: دار الوزارة القديمة، وأوّل من أنشأها: الوزير يعقوب بن يونس بن كاس وزير العزيز بالله، ثم سكنها الوزير الناصر للدين قاضي القضاة، وداعي الدعاة علم المجد أبو
محمد الحسن بن عليّ بن عبد الرحمن البازوريّ، وما زالت سكن الوزراء إلى أن قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ من عكا، ووزره المستنصر، وصار وزيرا مستبدّا، فأنشأ داره: بحارة برجوان، وسكنها وسكن من بعده ابنه الأفضل ابن أمير الجيوش بدار القباب التي عرفت:
بدار الوزارة الكبرى، وصارت هذه الدار تعرف: بدار الديباج، لأنه يعمل فيها الحرير الديباج، ويتولاها الأماثل والأعيان.
فمن وليها أبو سعيد بن قرقة الطبيب متولي خزائن السلاح، وخزائن السروج والصناعات، فلما انقرضت الدولة الفاطمية بنى الناس في مكان دار الديباج المدرسة السيفية، وما وراءها من المواضع التي تعرف أماكنها اليوم: بدرب الحريريّ، وما جاور هذا الدرب إلى المدرسة الصاحبية، وما بجوارها وما هو في ظهرها، فصار يعرف خط دار الديباج في زمننا بخط سويقة الصاحب.
الأهراء السلطانية «1» : وكانت أهراء الغلال السلطانية في دولة الخلفاء الفاطميين حيث المواضع التي فيها الآن خزانة شمائل، وما وراءها إلى قرب الحارة الوزيرية.
قال ابن الطوير: وأما الأهراء فإنها كانت في عدّة أماكن بالقاهرة وهي اليوم:
اصطبلات ومناخات، وكانت تحتوي على ثلثمائة ألف أردب من الغلات، وأكثر من ذلك.
وكان فيها مخازن يسمى أحدها: بغداي، وآخر: الفول، وآخر: القرافة، ولها الحماة من الأمراء والمشارفين من العدول، والمراكب واصلة إليها بأصناف الغلات إلى ساحل مصر، وساحل المقس، والحمالون يحملون ذلك إليها بالرسائل على يد رؤساء المراكب، وأمنائها من كل ناحية سلطانية، وأكثر ذلك من الوجه القبليّ، ومنها إطلاق الأقوات لأرباب الرتب والخدم وأرباب الصدقات، وأرباب الجوامع، والمساجد، وجرايات العبيد السودان بتعريفات، وما ينفق في الطواحين برسم خاص الخليفة، وهي طواحين مدارها سفل، وطواحينها علو حتى لا تقارب زبل الدواب، ويحمل دقيقها للخاص، وما يختص بالجهات في خرائط من شقق حلبية.
ومن الأهراء تخرج جرايات رجال الأسطول، وفيها ما هو قديم يقطع بالمساحي، ويخلط في بعض الجرايات بالجديد بجرايات المذكورين وجرايات السودان، ومنها ما يستدعي بدار الضيافة لإخباز الرسل، ومن يتبعهم، وما يعمل من القمح برسم الكعك لزاد الأسطول، فلا يفتر مستخدموها من دخل وخرج ولهم جامكية مميزة، وجرايات برسم أقواتهم، وشعير لدوابهم وما يقبض من الواصلين بالغلال إلّا ما يماثل العيون المختومة معهم، وإلّا ذرّي، وطلب العجز بالنسبة.
وذكر ابن المأمون: أن غلّات الوجه القبليّ، كانت تحمل إلى الأهراء، وأما الأعمال البحرية، والبحيرة والجزيرتان والغربية والكفور، والأعمال الشرقية، فيحمل منها اليسير، ويحمل باقيها إلى الإسكندرية، ودمياط وتنيس ليسير إلى ثغر عسقلان، وثغر صور، وإنه كان يسير إليهما في كل سنة مائة وعشرون ألف أردب، منها العسقلان خمسون ألفا، ولصور: سبعون ألفا، فيصير هناك ذخيرة، ويباع منها عند الغنى عنها.
قال: وكان متحصل الديوان في كل سنة ألف ألف أردب.
وذكر جامع السيرة البازورية: أن المتجر كان يقام به للديوان من الغلة، وأن الوزير أبا محمد البازوريّ قال للخليفة المستنصر: وهو يومئذ يتقلّد وظيفة قاضي القضاة، وقد قصر النيل في سنة أربع وأربعين وأربعمائة ولم يكن بالمخازن السلطانية غلال، فاشتدّت المسغبة بأمير المؤمنين: إنّ المتجر الذي يقام بالغلة فيه أو في مضرّة على المسلمين، وربما أقحط السعر من مشتراها، ولا يمكن بيعها، فتتغير في المخازن وتتلف، وإنه يقام متجر لا كلفة فيه على الناس، ويفيد أضعاف فائدة الغلة، ولا يخشى عليه من تغير في المخازن، ولا انحطاط سعر، وهو الصابون والخشب والحديد، والرصاص، والعسل، وما أشبه ذلك، فأمضى الخليفة ما رآه، واستمرّ ذلك ودام الرخاء على الناس وتوسعوا.