الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ساحل النيل بمدينة مصر
قد تقدّم أنّ مدينة فسطاط مصر اختطها المسلمون حول جامع عمرو بن العاص، وقصر الشمع، وأنّ بحر النيل كان ينتهي إلى باب قصر الشمع الغربيّ المعروف بالباب الجديد، ولم يكن عند فتح أرض مصر بين جامع عمرو وبين النيل حائل، ثم انحسر ماء النيل عن أرض تجاه الجامع، وقصر الشمع، فابتنى فيها عبد العزيز بن مروان، وحاز منه بشر بن مروان لما قدم على أخيه عبد العزيز، ثم حاز منه هشام بن عبد الملك في خلافته، وبنى فيه، فلما زالت دولة بني أمية قبض ذلك في الصوافي، ثم أقطعه الرشيد السريّ بن الحكم، فصار في يد ورثته من بعده يكترونه، ويأخذون حكره، وذلك أنه كان قد اختط فيها المسلمون شيئا بعد شيء وصار شاطىء النيل بعد انحساره ماء النيل عن الأرض المذكورة حيث الموضع الذي يعرف اليوم بسوق المعاريج.
قال القضاعيّ: كان ساحل أسفل الأرض بإزاء المعاريج القديم، وكانت آثار المعاريج قائمة سبع درج حول ساحل البيما إلى ساحل البوريّ اليوم، فعرف ساحل البوريّ بالمعاريج الجديد، يعني بالمعاريج الجديد: موضع سوق المعاريج اليوم، وكان من جملة خطط مدينة فسطاط مصر: الحمراوات الثلاث، فالحمراء الأولى من جملتها سوق وردان، وكان يشرف بغربيه على النيل، ويجاوره: الحمراء الوسطى، ومن بعضها الموضع الذي يعرف اليوم بالكبارة، وكانت على النيل أيضا، وبجانب الكبارة: الحمراء القصوى، وهي من بحريّ الحمراء الوسطى إلى الموضع الذي هو اليوم: خط قناطر السباع، ومن جملة الحمراء القصوى: خط خليج مصر من حدّ قناطر السباع إلى تجارة قنطرة السدّ من شرقيها، وبآخر الحمراء القصوى: الكبش وجبل يشكر، وكان الكبش يشرف على النيل من غربيه، وكان الساحل القديم، فيما بين سوق المعاريج اليوم إلى دار التفاح بمصر، وأنت مارّ إلى باب مصر بجوار الكبارة، وموضع الكوم المجاور لباب مصر من شرقيه، فلما خربت مصر بحريق شاور بن مجير إياها صار هذا الكوم من حينئذ، وعرف بكوم المشانيق، فأنه كان يشنق بأعلاه أرباب الجرائم، ثم بنى الناس فوقه دورا فعرف إلى يومنا هذا بكوم الكبارة، وكان يقال لما بين سوق المعاريج، وهذا الكوم لما كان ساحل النيل القالوص «1» .
قال القضاعيّ: رأيت بخط جماعة من العلماء القالوص: بألف، والذي يكتب في هذا الزمان القلوص بحذف الألف، فأما القلوص: بحذف الألف، فهي من الإبل والنعام الشابة، وجمعها قلص، وقلاص وقلائص، والقلوص من الحباري الأنثى الصغيرة، فلعل هذا المكان سمي بالقلوص لأنه في مقابلة الجمل الذي كان على باب الريحان الذي يأتي ذكره في
عجائب مصر، وأما القالوص بالألف: فهي كلمة رومية ومعناها بالعربية: مرحبا بك، ولعل الروم كانوا يصفقون لراكب هذا الجمل، ويقولون هذه الكلمة على عاداتهم. وقال ابن المتوّج: والساحل القديم أوّله من باب مصر المذكور يعني المجاور للكبارة، وإلى المعاريج جميعه كان بحرا يجري فيه ماء النيل، وقيل: إنّ سوق المعاريج كان موردة سوق السمك يعني ما ذكره القضاعيّ من أنه كان يعرف بساحل البوريّ، ثم عرف بالمعاريج الجديد.
قال ابن المتوّج «1» : ونقل أنّ بستان الجرف المقابل لبستان حوض ابن كيسان كان صناعة العمارة، وأدركت أنا فيه بابها، ورأيت زريبة من ركن المسجد المجاور للحوض من غربيه تتصل إلى قبالة مسجد العادل الذي بمراغة الدواب الآن.
قال مؤلفه رحمه الله: بستان الجرف يعرف بذلك إلى اليوم، وهو على يمنة من سلك إلى مصر من طريق المراغة، وهو جار في وقف الخانقاه التي تعرف بالواصلة بين الزقاقين، وحوض ابن كيسان يعرف اليوم: بحوض الطواشي، تجاه غيط الجرف المذكور، يجاوره بستان ابن كيسان الذي صار صناعة، وقد ذكر خبر هذه الصناعة عند ذكر مناظر الخلفاء، ويعرف بستان ابن كيسان اليوم ببستان الطواشي أيضا، وبين بستان الجرف، وبستان الطواشي هذا مراغة مصر المسلوك منها إلى الكبارة، وباب مصر.
قال ابن المتوّج: ورأيت من نقل عمن نقل عمن رأى هذا القلوص يتصل إلى آدر الساحل القديم، وأنه شاهد ما عليه من العمائر المطلة على بحر النيل من الرباع والدور المطلة، وعدّ الأسطال التي كانت بالطاقات المطلة على بحر النيل، فكانت عدّتها ستة عشر ألف سطل مؤبدة ببكر مؤبدة فيها أطناب ترخى بها وتملأ أخبرني بذلك من أثق بنقله، وقال: إنه أخبره به من يثق به متصلا بالمشاهد له الموثوق به، قال: وباب مصر الآن بين البستان الذي قبليّ الجامع الجديد يعني بستان العالمة، وبين كوم المشانيق يعني كوم الكبارة، ورأيت السور يتصل به إلى دار النحاس، وجميع ما بظاهره شون، ولم يزل هذا السور القديم الذي هو قبليّ بستان العالمة موجودا أراه وأعرفه إلى أن اشترى أرضه من باب مصر إلى موقف المكارية بالخشابين القديمة الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري، فأجّر مكانه للعامة، وصار كل من استأجر قطعة هدم ما بها من البناء بالطوب اللبن، وقلع الأساس الحجر، وبنى به، فزال السور المذكور، ثم حدث الساحل الجديد.
قال مؤلفه رحمه الله: وهذا الباب الذي ذكره ابن المتوّج كان يقال له: باب الساحل، وأوّل حفر ساحل مصر في سنة ست وثلاثين وثلثمائة، وذلك أنه جف النيل عن برّ مصر
حتى احتاج الناس أن يستقوا من بحر الجيزة الذي هو فيما بين جزيرة مصر التي تدعى الآن بالروضة، وبين الجيزة، وصار الناس يمشون هم والدواب إلى الجزيرة، فحفر الأستاذ كافور الإخشيديّ، وهو يومئذ مقدّم أمراء الدولة لأونوجور بن الإخشيد خليجا حتى اتصل بخليج بني وائل، ودخل الماء إلى ساحل مصر، ثم إنه لما كان قبل سنة ستمائة تقلص الماء عن ساحل مصر القديمة، وصار في زمن الاحتراق يقل حتى تصير الطريق إلى المقاييس يبسا، فلما كان في سنة ثمان وعشرين وستمائة خاف السلطان الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب من تباعد البحر عن العمران بمصر، فاهتم بحفر البحر من دار الوكالة بمصر إلى صناعة التمر الفاضلية، وعمل فيه بنفسه فوافقه على العمل في ذلك الجمّ الغفير، واستوى في المساعدة السوقة، والأمير، وقسط مكان الحفر على الدور بالقاهرة ومصر والروضة والمقياس، فاستمرّ العمل فيه من مستهلّ شعبان إلى سلخ شوّال مدّة ثلاثة أشهر حتى صار الماء يحيط بالمقياس، وجزيرة الروضة دائما بعد ما كان عند الزيادة يصير جدولا رقيقا في ذيل الروضة، فإذا اتصل ببحر بولاق في شهر أبيب كان ذلك من الأيام المشهودة بمصر، فلما كانت أيام الملك الصالح، وعمر قلعة الروضة، أراد أن يكون الماء طول السنة كثيرا فيما دار بالروضة، فأخذ في الاهتمام بذلك، وغرّق عدّة مراكب مملوءة بالحجارة في برّ الجيزة تجاه باب القنطرة خارج مدينة مصر، ومن قبليّ جزيرة الروضة، فانعكس الماء، وجعل البحر حينئذ يمرّ قليلا قليلا، وتكاثر أوّلا فأوّلا في برّ مصر من دار الملك إلى قريب المقس، وقطع المنشأة الفاضلية.
قال ابن المتوّج عن موضع الجامع الجديد: وكان في الدولة الصالحية، يعني الملك الصالح نجم الدين أيوب: رملة تمرّغ الناس فيها الدواب في زمن احتراق النيل، وجفاف البحر الذي هو أمامها، فلما عمر السلطان الملك الصالح قلعة الجزيرة، وصار في كل سنة يحفر هذا البحر بجنده ونفسه، ويطرح بعض رمله في هذه البقعة، شرع خواص السلطان في العمارة على شاطىء هذا البحر، فذكر من عمّر على هذا البحر من قبالة موضع الجامع الجديد الآن إلى المدرسة المعزية، وذكر ما وراء هذه الدور من بستان العالمة المطل عليه الجامع الجديد وغيره، ثم قال: وإنما عرف بالعالمة لأنه كان قد حله السلطان الملك الصالح لهذه العالمة، فعمرت بجانبه منظرة لها، وكان الماء يدخل من النيل لباب المنظرة المذكورة، فلما توفيت بقي البستان مدّة في يد ورثتها، ثم أخذ منهم، وذكر أن بقعة الجامع الجديد كانت قبل عمارته شونا للأتبان السلطانية، وكذلك ما يجاورها، فلما عمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون الجامع الجديد كثرت العمائر من حدّ موردة الحلفاء على شاطىء النيل، حتى اتصلت بدير الطين، وعمر أيضا ما وراء الجامع من حدّ باب مصر الذي كان بحرا كما تقدّم إلى حدّ قنطرة السدّ، وأدركنا ذلك كله على غاية العمارة، وقد اختل منذ الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، فخرب خط بين الزقاقين المطل من غربيه على الخليج،