الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر القطائع ودولة بني طولون
اعلم: أنّ القطائع قد زالت آثارها، ولم يبق لها رسم يعرف، وكان موضعها: من قبة الهواء التي صار مكانها قلعة الجبل إلى جامع ابن طولون، وهذا أشبه أن يكون طول القطائع، وأمّا عرضها: فإنه من أوّل الرميلة تحت القلعة إلى الموضع الذي يعرف اليوم بالأرض الصفراء عند مشهد الرأس الذي يقال له الآن: زين العابدين، وكانت مساحة القطائع ميلا في ميل، فقبة الهواء كانت في سطح الجرف الذي عليه قلعة الجبل.
وتحت قبة الهواء: قصر ابن طولون، وموضع هذا القصر: الميدان السلطانيّ تحت القلعة والرميلة التي تحت القلعة مكان سوق الخيل والحمير والجمال. كانت بستانا، ويجاورها الميدان في الموضع الذي يعرف اليوم: بالقبيبات، فيصير الميدان، فيما بين القصر والجامع الذي أنشأه أحمد بن طولون، وبحذاء الجامع: دار الأمارة في جهته القبلية، ولها باب من جدار الجامع يخرج منه إلى المقصورة المحيطة بمصلى الأمير إلى جوار المحراب، وهناك أيضا دار الحرم، والقطائع: عدّة قطع، تسكن فيها عبيد ابن طولون، وعساكره وغلمانه، وكل قطيعة لطائفة، فيقال: قطيعة السودان، وقطيعة الروم، وقطيعة الفرّاشين، ونحو ذلك، فكانت كل قطيعة لسكنى جماعة بمنزلة الحارات التي بالقاهرة، وكان ابتداء عمارة هذه القطائع، وسببها: أنّ أمير المؤمنين المعتصم بالله أبا إسحاق محمد بن هارون الرشيد، لما اختص بالأتراك، ووضع من العرب، وأخرجهم من الديوان، وأسقط أسماءهم، ومنعهم العطاء، وجعل الأتراك أنصار دولته، وأعلام دعوته. كان من عظمت عنده منزلته قلّده الأعمال الجليلة الخارجة عن الحضرة فيستخلف على ذلك العمل الذي تقلده من يقوم بأمره، ويحمل إليه ماله، ويدعى له على منابره كما يدعى للخليفة، وكانت مصر عندهم بهذه السبيل.
وقصد المعتصم، ومن بعده من الخلفاء بذلك، العمل مع الأتراك محاكاة ما فعله الرشيد، بعبد الملك بن صالح، والمأمون بطاهر بن الحسين، ففعل المعتصم مثل ذلك بالأتراك، فقلد أشناس، وقلّد الواثق إيتاخ، وقلد المتوكل نقا ووصيف، وقلد المهتدي ماجور، وغير من ذكرنا من أعمال الأقاليم ما قد تضمنته كتب التاريخ، فتقلد باكباك مصر، وطلب من يخلفه عليها، وكان أحمد بن طولون قد مات أبوه في سنة أربعين ومائتين، ولأحمد عشرون سنة منذ ولد من جارية كانت تدعى قاسم، وكان مولده في سنة عشرين ومائتين، وولدت أيضا أخاه موسى وحبسية وسمانة، وكان طولون من الطغرغر مما حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظفا عليه من المال، والرقيق والبراذين، وغير ذلك في كل سنة، وذلك في سنة مائتين، فنشأ أحمد بن طولون نشأ جميلا غير نشء أولاد العجم، فوصف بعلوّ الهمة، وحسن الأدب والذهاب بنفسه عما كان يترامى إليه أهل
طبقته، وطلب الحديث، وأحب الغزو، وخرج إلى طرسوس «1» مرّات، ولقي المحدّثين، وسمع منهم، وكتب العلم، وصحب الزّهاد وأهل الورع، فتأدّب بآدابهم، وظهر فضله، فاشتهر عند الأولياء، وتميز على الأتراك، وصار في عداد من يوثق به، ويؤتمن على الأموال والأسرار، فزوّجه ماجور ابنته، وهي أم ابنه العباس، وابنته فاطمة.
ثم إنه سأل الوزير عبيد الله بن يحيى أن يكتب له برزقه على الثغر، فأجابه وخرج إلى طرسوس، فأقام بها وشق على أمّه مفارقته، فكاتبته بما أقلقه، فلما قفل الناس إلى سرّ من رأى سار معهم إلى لقاء أمّه، وكان في القافلة، نحو خمسمائة رجل، والخليفة إذ ذاك:
المستعين بالله أحمد بن المعتصم، وكان قد أنفذ خادما إلى بلاد الروم لعمل أشياء نفيسة، فلما عاد بها، وهي: وقر بغل إلى طرسوس، خرج مع القافلة، وكان من رسم الغزاة أن يسيروا متفرّقين، فطرق الأعراب بعض سوادهم، وجاء الصائح: فبدر أحمد بن طولون لقتالهم وتبعوه، فوضع السيف في الأعراب، ورمى بنفسه فيهم حتى استنفذ منهم جميع ما أخذوه، وفرّوا منه، وكان من جملة ما استنفذ من الأعراب البغل المحمل بمتاع الخليفة، فعظم أحمد بما فعل عند الخادم، وكبر في أعين القافلة، فلما وصلوا إلى العراق، وشاهد المستعين ما أحضره الخادم أعجب به، وعرّفه الخادم خروج الأعراب، وأخذهم البغل بما عليه، وما كان من صنع أحمد بن طولون، فأمر له بألف دينار، وسلم عليه مع الخادم، وأمره أن يعرّفه به إذا دخل مع المسلمين، ففعل ذلك، وتوالت عليه صلاة الخليفة حتى حسنت حاله، ووهبه جارية اسمها: مياس استولدها ابنه خمارويه في النصف من المحرّم سنة خمسين ومائتين، فلما خلع المستعين، وبويع المعتز أخرج المستعين إلى واسط، واختار الأتراك أحمد بن طولون أن يكون معه، فسلم إليه ومضى به، فأحسن عشرته، وأطلق له التنزه والصيد، وخشي أن يلحقه منه احتشام، فألزمه كاتبه أحمد بن محمد الواسطيّ، وهو إذ ذاك غلام حسن الشاهد حاضر النادرة، فأنس به المستعين.
ثم إن فتيحة أم المعتز كتبت إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين، وقلدته واسط، فامتنع من ذلك، وكتب إلى الأتراك يخبرهم بأنه لا يقتل خليفة له في رقبته بيعة، فزاد محله عند الأتراك بذلك، ووجهوا سعيد الحاجب، وكتبوا إلى ابن طولون بتسليم المستعين له، فتسلمه منه وقتله، وواراه ابن طولون، وعاد إلى سرّ من رأى، وقد تقلد باكباك مصر، وطلب من يوجهه إليها، فذكر له أحمد بن طولون، فقلده خلافته، وضم إليه جيشا، وسار إلى مصر، فدخلها يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين متقلّدا للقصبة دون غيرها من الأعمال الخارجة عنها، كالإسكندرية ونحوها، ودخل معه
أحمد بن محمد الواسطيّ، وجلس الناس لرؤيته، فسأل بعضهم غلام أبي قبيل: صاحب الملاحم، وكان مكفوفا عما يجده في كتبهم، فقال: هذا رجل نجد صفته كذا وكذا وأنه يتقلد الملك هو وولده قريبا من أربعين سنة، فما تمّ كلامه حتى أقبل أحمد بن طولون، وإذا هو على النعت الذي قال.
ولما تسلم أحمد بن طولون مصر كان على الخراج أحمد بن محمد بن المدبر، وهو من دهاة الناس، وشياطين الكتاب، فأهدى إلى أحمد بن طولون هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار بعد ما خرج إلى لقائه هو وشقير الخادم غلام فتيحة أم المعتز، وهو يتقلد البريد، فرأى ابن طولون بين يدي ابن المدبر مائة غلام من الغور، قد انتخبهم وصيرهم عدّة وجمالا، وكان لهم خلق حسن وطول أجسام، وبأس شديد، وعليهم أقبية ومناطق تقال عراض، وبأيديهم مقارع غلاظ على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة، وكانوا يقفون بين يديه في حافتي مجلسه إذا جلس، فإذا ركب ركبوا بين يديه، فيصير له بهم هيبة عظيمة في صدور الناس، فلما بعث ابن المدبر بهديته إلى ابن طولون ردّها عليه، فقال ابن المدبر: إنّ هذه لهمة عظيمة، من كانت هذه همته لا يؤمن على طرف من الأطراف، فخافه وكره مقامه بمصر معه، وسار إلى شقير الخادم صاحب البريد، واتفقا على مكاتبة الخليفة بإزالة ابن طولون، فلم يكن غير أيام حتى بعث ابن طولون إلى ابن المدبر يقول له: قد كنت أعزك الله أهديت لنا هدية وقع الغنى عنها، ولم يجز أن يغتنم مالك كثّره الله، فرددتها توفيرا عليك، ونحب أن تجعل العوض منها الغلمان الذين رأيتهم بين يديك، فأنا إليهم أحوج منك، فقال ابن المدبر: لما بلغته الرسالة هذه أخرى أعظم مما تقدّم قد ظهرت من هذا الرجل إذ كان يردّ الأعراض، والأموال ويستهدي الرجال، ويثابر عليهم، ولم يجد بدّا من أن بعثهم إليه، فتحوّلت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون، ونقصت مهابة ابن المدبر بمفارقة الغلمان مجلسه.
فكتب ابن المدبر فيه إلى الحضرة يغري به، ويحرّض على عزله، فبلغ ذلك ابن طولون، فكتم في نفسه، ولم يبده واتفق موت المعتز في رجب سنة خمس وخمسين، وقيام المهتدي بالله محمد بن الواثق، وقتل باكباك، وردّ جميع ما كان بيده إلى ماجور التركيّ حموا بن طولون، فكتب إليه: تسلم من نفسك لنفسك، وزاده الأعمال الخارجة عن قصبة مصر، وكتب إلى إسحاق بن دينار، وهو يتقلد الإسكندرية أن يسلمها لأحمد بن طولون، فعظمت لذلك منزلته، وكثر قلق ابن المدبر وغمه، ودعته ضرورة الخوف من ابن طولون إلى ملاطفته، والتقرّب من خاطره، وخرج ابن طولون إلى الإسكندرية وتسلمها من إسحاق بن دينار، وأقرّه عليها، وكان أحمد بن عيسى «1» بن شيخ الشيبانيّ يتقلد جندي فلسطين والأردن.
فلما مات وثب ابنه على الأعمال، واستبدّ بها، فبعث ابن المدبر سبعمائة ألف وخمسين ألف دينار حملا من مال مصر إلى بغداد، فقبض ابن شيخ عليها، وفرّقها في أصحابه، وكانت الأمور قد اضطربت ببغداد، فطمع ابن شيخ في التغلب على الشامات، وأشيع أنه يريد مصر، فلما قتل المهتدي في رجب سنة ست وخمسين، وبويع المعتمد بالله أحمد بن المتوكل لم يدع ابن شيخ له، ولا بايع هو، ولا أصحابه، فبعث إليه بتقليد أرمينية زيادة على ما معه من بلاد الشام، وفسح له في الاستخلاف عليها، والإقامة على عمله، فدعا حينئذ للمعتمد، وكتب إلى ابن طولون أن يتأهب لحرب ابن شيخ، وأن يزيد في عدّته، وكتب لابن المدبر أن يطلق له من المال ما يريد، فعرض ابن طولون الرجال، وأثبت من يصلح، واشترى العبيد من الروم والسودان، وعمل سائر ما يحتاج إليه، وخرج في تجمل كبير وجيش عظيم، وبعث إلى ابن شيخ يدعوه إلى طاعة الخليفة، وردّ ما أخذ من المال، فأجاب بجواب قبيح، فسار لست خلون من جمادى الآخرة، واستخلف أخاه موسى بن طولون على مصر، ثم رجع من الطريق بكتاب ورد عليه من العراق، ودخل الفسطاط في شعبان.
وقدم من العراق: ماجور التركيّ لمحاربة ابن شيخ، فلقيه أصحاب ابن شيخ، وعليهم ابنه، فانهزموا منه، وقتل الابن، واستولى ماجور على دمشق، ولحق ابن شيخ بنواحي أرمينية، وتقلد ماجور أعمال الشام كله، وصار أحمد بن طولون من كثرة العبيد، والرجال والآلات بحال يضيق به داره، ولا يتسع له فركب إلى سفح الجبل في شعبان، وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى، واختط موضعها فبنى القصر والميدان، وتقدّم إلى أصحابه وغلمانه وأتباعه أن يختطوا لأنفسهم حوله، فاختطوا وبنوا حتى اتصل البناء لعمارة الفسطاط، ثم قطعت القطائع، وسميت كل قطيعة باسم من سكنها، فكانت للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم، وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم، وللفرّاشين قطيعة مفردة تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم.
وبنى القوّاد مواضع متفرّقة، فعمرت القطائع عمارة حسنة، وتفرّقت فيها السكك والأزقة، وبنيت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمامات والأفران، وسميت أسواقها، فقيل: سوق العيارين، وكان يجمع العطارين والبزازين، وسوق الفاميين، ويجمع الجزارين والبقالين والشوّايين، فكان في دكاكين الفاميين جميع ما في دكاكين نظرائهم في المدينة.
وأكثر وأحسن، وسوق الطباخين، ويجمع الصيارف، والخبازين والحلوانيين، ولكل من الباعة سوق حسن عامر، فصارت القطائع مدينة كبيرة، أعمر وأحسن من الشام، وبنى ابن طولون قصره ووسعه وحسنه، وجعل له ميدانا كبيرا يضرب فيه بالصوالجة، فسمي القصر كله الميدان، وكان كل من أراد الخروج من صغير وكبير إذا سئل عن ذهابه يقول:
إلى الميدان، وعمل للميدان أبوابا لكل باب اسم، وهي باب الميدان، ومنه كان يدخل ويخرج معظم الجيش، وباب الصوالجة، وباب الخاصة، ولا يدخل منه إلا خاصة ابن طولون، وباب الجبل لأنه مما يلي جبل المقطم، وباب الحرم، ولا يدخل منه إلا خادم خصيّ أو حرمة، وباب الدرمون لأنه كان يجلس عنه حاجب أسود عظيم الخلقة يتقلد جنايات الغلمان السودان الرجالة فقط يقال له: الدرمون، وباب دعناج لأنه كان يجلس عنده حاجب يقال له: دعناج، وباب الساج لأنه عمل من خشب الساج، وباب الصلاة لأنه كان في الشارع الأعظم، ومنه يتوصل إلى جامع ابن طولون، وعرف هذا الباب أيضا بباب السباع، لأنه كان عليه صورة سبعين من جبس، وكان الطريق الذي يخرج منه ابن طولون، وهو الذي يعرج منه إلى القصر طريقا واسعا فقطعه بحائط وعمل فيه ثلاثة أبواب كأكبر ما يكون من الأبواب، وكانت متصلة بعضها ببعض واحدا بجانب الآخر.
وكان ابن طولون إذا ركب يخرج معه عسكر متكاثف الخروج على ترتيب حسن بغير زحمة، ثم يخرج ابن طولون من الباب الأوسط من الأبواب الثلاثة بمفرده من غير أن يختلط به أحد من الناس، وكانت الأبواب المذكورة تفتح كلها في يوم العيد، أو يوم عرض الجيش، أو يوم صدقة، وما عدا هذه الأيام لا تفتح إلا بترتيب في أوقات معروفة، وكان القصر له مجلس يشرف منه ابن طولون يوم العرض، ويوم الصدقة لينظر من أعلاه من يدخل ويخرج، وكان الناس يدخلون من باب الصوالجة، ويخرجون من باب السباع، وكان على باب السباع مجلس يشرف منه ابن طولون ليلة العيد على القطائع ليرى حركات الغلمان، وتأهبهم وتصرّفهم في حوائجهم، فإذا رأى في حال أحد منهم نقصا أو خللا، أمر له بما يتسع به، ويزيد في تجمله، وكان يشرف منه أيضا على البحر، وعلى باب مدينة الفسطاط، وما يلي ذلك.
فكان منتزها حسنا، وبنى الجامع، فعرف بالجامع الجديد، وبنى العين والسقاية بالمغافر، وبنى تنور فرعون فوق الجبل، واتسعت أحواله وكثرت اصطبلاته وكراعه، وعظم صيته، فخافه ماجور، وكتب فيه إلى الحضرة يغري به، وكتب فيه ابن المدبر وشقير الخادم، وكانت لابن طولون أعين، وأصحاب أخبار يطالعونه بسائر ما يحدث، فلما بلغه ذلك تلطف أصحاب الأخبار له ببغداد عند الوزير، حتى سير إلى ابن طولون بكتب ابن المدبر، وكتب شقير من غير أن يعلما بذلك، فإذا فيها: أنّ أحمد بن طولون عزم على التغلب على مصر والعصيان بها، فكتم خبر الكتب وما زال بشقير حتى مات وكتب إلى الحضرة يسأل صرف ابن المدبر عن الخراج، وتقليد هلال فأجيب إلى ذلك، وقبض على ابن المدبر وحبسه.
وكات له معه أمور آلت إلى خروج ابن المدبر عن مصر، وتقلد ابن طولون خراج مصر مع المعونة والثغور الشامية، فأسقط المعاون والمرافق، وكانت بمصر خاصة في كل سنة مائة ألف دينار، فأظفره الله عقيب ذلك، بكنز فيه ألف ألف دينار: بنى منه المارستان، وخرج إلى الشام، وقد تقلدها فتسلم دمشق وحمص، ونازل أنطاكية حتى أخذها، وكانت صدقاته على أهل المسكنة والستر، وعلى الضعفاء والفقراء، وأهل التجمل متواترة، وكان راتبه لذلك في كل شهر ألفي دينار سوى ما يطرأ عليه من النذور، وصدقات الشكر على تجديد النعم، وسوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم للصدقات في داره وغيرها. يذبح فيها البقر والكباش، ويغرف للناس في القدور والفخار والقصاع على كل قدر أو قصعة لكل مسكين أربعة أرغفة في اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران على القدر، وكانت تعمل في داره، وينادي من أحبّ أن يحضر دار الأمير فليحضر، وتفتح الأبواب ويدخل الناس الميدان، وابن طولون في المجلس الذي تقدّم ذكره ينظر إلى المساكين، ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون، فيسرّه ذلك، ويحمد الله على نعمته.
ولقد قال له مرّة إبراهيم ابن قراطغان، وكان على صدقاته: أيّد الله الأمير إنّا نقف في المواضع التي تفرّق فيها الصدقة، فتخرج لنا الكف الناعمة المخضوبة نقشا، والمعصم الرائع فيه الحديدة، والكف فيها الخاتم فقال: يا هذا كل من مدّ يده إليك، فأعطه فهذه هي اللطيفة المستوردة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
[البقرة/ 273] فاحذر أن تردّ يدا امتدّت إليك، وأعط كل من يطلب منك.
فلما مات أحمد بن طولون، وقام من بعده ابنه خمارويه أقبل على قصر أبيه، وزاد فيه، وأخذ الميدان الذي كان لأبيه، فجعله كله بستانا، وزرع فيه أنواع الرياحين، وأصناف الشجر، ونقل إليه الودى اللطيف الذي ينال ثمره القائم، ومنه ما يتناوله الجالس من أصناف خيار النخل، وحمل إليه كل صنف من الشجر المطعم العجيب، وأنواع الورد، وزرع فيه الزعفران، وكسا أجسام النخل نحاسا مذهبا حسن الصنعة، وجعل بين النحاس، وأجساد النخل مزاريب الرصاص، وأجرى فيها الماء المدبر، فكان يخرج من تضاعيف، قائم النخل عيون الماء، فتنحدر إلى فساقي معمولة، ويفيض منها الماء إلى مجار تسقي سائر البستان، وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة، وكتابات مكتوبة يتعاهدها البستانيّ بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وزرع فيه النيلوفر الأحمر، والأزرق والأصفر والجنوى العجيب، وأهدى إليه من خراسان وغيرها، كل أصل عجيب، وطعموا له شجر المشمش باللوز، وأشباه ذلك من كل ما يستظرف ويستحسن، وبنى فيه برجا من خشب الساج المنقوش بالنقر النافذ، ليقوم مقام الأقفاص، وزوّقه بأصناف الأصباغ وبلط أرضه، وجعل في تضاعيفه أنهارا لطافا جدا ولها يجري فيها الماء مدبرا من السواقي التي تدور على
الآبار العذبة، ويسقي منها الأشجار وغيرها، وسرّح في هذا البرج من أصناف القماري «1» والدباسي «2» والنونيات، وكل طائر مستحسن حسن الصوت، فكانت الطير تشرب، وتغتسل من تلك الأنهار الجارية في البرج، وجعل فيه أوكارا في قواديس لطيفة ممكنة في جوف الحيطان، لتفرخ الطيور فيها، وعارض لها فيه عيدانا ممكنة في جوانبه لتقف عليها إذا تطايرت حتى يجاوب بعضها بعضا بالصياح، وسرّح في البستان من الطير العجيب كالطواويس، ودجاج الحبش، ونحوها شيئا كثيرا.
وعمل في داره مجلسا برواقة سماه بيت الذهب طلى حيطانه كلها بالذهب المجاول باللازورد المعمول في أحسن نقش، وأظرف تفصيل، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صورا في حيطانه بارزة من خشب معمول على صورته، وصور حظاياه، والمغنيات اللّاتي تغنينه بأحسن تصوير، وأبهج تزويق، وجعل على رؤوسهنّ الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين، والكوادن المرصعة بأصناف الجواهر، وفي آذانها الأجراس الثقال الوزن، المحكمة الصنعة، وهي مسمرة في الحيطان، ولوّنت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة.
فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا وجعل بين يدي هذا البيت فسقية مقدّرة وملأها زئبقا، وذلك أنه شكا إلى طبيبه كثرة السهر، فأشار عليه بالتغمير «3» ، فأنف من ذلك، وقال: لا أقدر على وضع يد أحد عليّ، فقال له: تأمر بعمل بركة من زئبق، فعمل بركة يقال: إنها خمسون ذراعا طولا في خمسين ذراعا عرضا، وملأها من الزئبق، فأنفق في ذلك أموالا عظيمة، وجعل في أركان البركة سككا من الفضة الخالصة، وجعل في السكك زنانير من حرير محكمة الصنعة في حلق من الفضة، وعمل فرشا من أدم يحشى بالريح حتى ينتفخ، فيحكم حينئذ شدّة، ويلقي على تلك البركة الزئبق، وتشدّ زنانير الحرير التي في حلق الفضة بسكك الفضة، وينام على هذا الفرش، فلا يزال الفرش يرتج ويتحرّك بحركة الزئبق، ما دام عليه، وكانت هذه البركة من أعظم ما سمع به من الهمم الملوكية، فكان يرى لها في الليالي المقمرة منظر عجيب، إذا تألف نور القمر بنور الزئبق، ولقد أقام الناس بعد خراب القصر مدّة يحفرون لأخذ الزئبق من شقوق البركة، وما عرف ملك قط تقدّم خمارويه «4» في عمل مثل هذه البركة.
وبنى أيضا في القصر قبة تضاهي قبة الهواء سماها الدكة، فكانت أحسن شيء بني، وجعل لها الستر التي تقي الحرّ والبرد، فتسبل إذا شاء، وترفع إذا أحب، وفرش أرضها بالفرش السرية، وعمل لكل فصل فرشا يليق به، وكان كثيرا ما يجلس في هذه القبة ليشرف منها على جميع ما في داره من البستان وغيره، ويرى الصحراء والنيل والجبل، وجميع المدينة، وبنى ميدانا آخر أكبر من ميدان أبيه، وكان أحمد بن طولون، قد اتخذ حجرة بقربه فيها رجال سمّاهم بالمكبرين عدّتهم اثنا عشر رجلا يبيت منهم في كل ليلة أربعة يتعاقبون الليل نوبا يكبرون ويسبحون ويحمدون، ويهللون ويقرءون القرآن تطريبا بألحان، ويتوسلون بقصائد زهدية، ويؤذنون أوقات الأذان، فلما ولي خمارويه: أقرّهم على حالهم، وأجراهم على رسمهم، وكان يجلس للشرب مع حظاياه في الليل، وقيناته تغنين، فإذا سمع أصوات هؤلاء يذكرون الله، والقدح في يده وضعه بالأرض، وأسكت مغنياته، وذكر الله معهم أبدا، حتى يسكت القوم لا يضجره ذلك، ولا يغيظه أن قطع عليه ما كان فيه من لذته بالسماع.
وبنى أيضا في داره: دارا للسباع عمل فيها بيوتا بآزاج، كل بيت يسع سبعا، ولبوته، وعلى تلك البيوت أبواب تفتح من أعلاها بحركات، ولكل بيت منها طاق صغير يدخل منه الرجل الموكل بخدمة ذلك البيت يفرشه بالزبل، وفي جانب كل بيت حوض من رخام بميزاب من نحاس يصب فيه المال، وبين يدي هذه البيوت قاعة فسيحة متسعة فيها رمل مفروش بها، وفي جانبها حوض كبير من رخام يصب فيه ماء من ميزاب كبير، فإذا أراد سائس سبع من تلك السباع تنظيف بيته أو وضع وظيفة اللحم التى لغذائه، رفع الباب بحيلة من أعلى البيت، وصاح بالسبع، فيخرج إلى القاعة المذكورة، ويردّ الباب، ثم ينزل إلى البيت من الطاق، فيكنس الزبل، ويبدّل الرمل بغيره مما هو نظيف، ويضع الوظيفة من اللحم في مكان معدّ لذلك بعدما يخلص ما فيه من الغدد، ويقطعه لهما، ويغسل الحوض، ويملأه ماء، ثم يخرج ويرفع الباب من أعلاه، وقد عرف السبع ذاك، فحال ما يرفع السائس باب البيت دخل إليه الأسد، فأكل ما هيئ له من اللحم، حتى يستوفيه، ويشرب من الماء كفايته، فكانت هذه مملوءة من السباع، ولهم أوقات يفتح فيها سائر بيوت السباع، فتخرج إلى القاعة، وتتمشى فيها وتمرح وتلعب، ويهارش بعضها بعضا، فتقيم يوما كاملا إلى العشيّ، فيصبح بها السّواس، فيدخل كل سبع إلى بيته لا يتخطاه إلى غيره.
وكان من جملة هذه السباع: سبع أزرق العينين يقال له: زريق قد أنس بخمارويه، وصار مطلقا في الدار لا يؤذي أحدا، ويقام له بوظيفته من الغذاء في كل يوم، فإذا نصبت مائدة خمارويه أقبل زريق معها، وربض بين يديه، فرمى إليه بيده الدجاجة بعد الدجاجة، والفضلة الصالحة من الجدي، ونحو ذلك مما على المائدة، فيتفكه به.
وكانت له لبوة لم تستأنس كما أنس، فكانت مقصورة في بيت، ولها وقت معروف
يجتمع معها فيه، فإذا نام خمارويه جاء زريق ليحرسه، فإن كان قد نام على سرير ربض بين يدي السرير، وجعل يراعيه، ما دام نائما، وإن كان إنما نام على الأرض بقي قريبا منه، وتفطن لمن يدخل، ويقصد خمارويه لا يغفل عن ذلك لحظة واحدة، وكان على ذلك دهره قد ألف ذلك، ودرب عليه، وكان في عنقه طوق من ذهب، فلا يقدر أحد من أن يدنو من خمارويه ما دام نائما لمراعاة زريق له، وحراسته إياه حتى إذا شاء الله إنفاذ قضائه في خمارويه كان بدمشق، وزريق غائب عنه بمصر، ليعلم أنه لا يغني حذر من قدر، وبنى أيضا دار الحرم، ونقل إليها أمهات أولاد أبيه، مع أولادهنّ، وجعل معهنّ المعزولات من أمهات أولاده، وأفرد لكل واحدة حجرة واسعة نزل في كل حجرة منها بعد زوال دولتهم قائد جليل فوسعته، وفضل عنه منها شيء، وأقام لكل حجرة من الأنزال والوظائف الواسعة، ما كان يفضل عن أهلها منه شيء كثير، فكان الخدم الموكلون بالحرم من الطباخين، وغيرهم يفضل لكل منهم مع كثرة عددهم بعد التوسع في قوته الزلة «1» الكبيرة، والتي فيها العدّة من الدجاج، فمنها ما قلع فخذها، ومنها ما قد تشعب صدرها، ومن الفراخ مثل ذلك مع القطع الكبار من الجدي ولحوم الضأن، والعدّة من ألوان عديدة، والقطع الصالحة من الفالوذج، والكثير من اللوزينج، والقطائف والهرائس من العصيدة التي تعرف اليوم في وقتنا هذا بالمامونية، وأشباه ذلك مع الأرغفة الكبار، واشتهر بمصر بيعهم لذلك، وعرفوا به، فكان الناس يتناوبونهم لذلك، وأكثر ما تباع الزلة الكبيرة منها بدرهمين، ومنها ما يباع بدرهم، فكان كثير من الناس يتفكهون من هذه الزلات، وكان شيئا موجودا في كل وقت لكثرته، واتساعه بحيث إنّ الرجل إذا طرقه ضيف، خرج من فوره إلى باب دار الحرم، فيجد ما يشتريه ليتجمل به لضيفه، مما لا يقدر على عمل مثله، ولا يتهيأ له من اللحوم، والفراخ والدجاج والحلوى مثل ذلك.
واتسعت أيضا اصطبلات خمارويه، فعمل لكل صنف من الدواب اصطبلا مفردا، لكان للخيل الخاص اصطبل مفرد ولدواب الغلمان اصطبلات عدّة، ولبغال القباب اصطبلات، ولبغال النقل غير بغال القباب اصطبلات، وللنجائب والبخاتي «2» اصطبلات لكل صنف اصطبل مفرد للاتساع في المواضع والتفنن في الأثقال، وعمل للنمور دارا مفردة، وللفهود دارا مفردة، وللفيلة دارا، وللزرافات دارا، كل ذلك سوى الاصطبلات التي بالجيزة، فإنه كان له عدّة ضياع من الجيزة اصطبلات مثل: نهيا، ووسيم، وسفط، وطهرمس، وغيرها، وكانت هذه الضياع لا تزرع إلا القرط برسم الدواب، وكان للخليفة أيضا بمصر اصطبلات سوى ما ذكر تنتج فيها الخيل: لحلبة السباق، وللرباط في سبيل الله تعالى برسم الغزو، وكان لكل دار من الدور المذكورة، ولكل اصطبل وكلاء لهم الرزق
السنيّ والوظائف الكثيرة والأموال المتسعة، وبلغ رزق الجيش في أيام خمارويه تسعمائة ألف دينار في كل سنة، وقام مطبخه المعروف بمطبخ العامة بثلاثة وعشرين ألف دينار في كل شهر، سوى ما هو موظف لجواريه وأرزاق من يخدمهنّ ويتصرّف في حوائجهنّ.
وكان قد اتخذ لنفسه من ولد الحوف وشناترة الضياع قوما معروفين بالشجاعة، والبأس لهم خلق عظيم تامّ، وعظم أجسام، وأدرّ عليهم الأرزاق، ووسع لهم في العطاء، وشغلهم عما كانوا فيه من قطع الطريق، وأذية الناس بخدمته، وألبسهم الأقبية، وجواشن الديباج، وصاغ لهم المناطق العراض الثقال، وقلّدهم السيوف المحلاة يضعونها على أكتافهم، فإذا مشوا بين يديه، وموكبه على ترتيبه، ومضت أصناف العسكر وطوائفه تلاهم السودان، وعدّتهم ألف أسود لهم درق من حديد، محكم الصنعة، وعليهم أقبية سود، وعمائم سود، فيخالهم الناظر إليهم بحرا أسود يسير، لسواد ألوانهم، وسواد قيابهم، ويصير لبريق درقهم وحلي سيوفهم والبيض التي تلمع على رؤوسهم من تحت العمائم زيّ بهج، فإذا مضى السودان قدم خمارويه، وقد انفرد عن موكبه، وصار بينه وبين الموكب نحو نصف غلوة سهم والمختارة تحف به، وكان تامّ الظهر، ويركب فرسا تامّا، فيصير كالكوكب إذا أقبل لا يخفى على أحد، كأنه قطعة جبل في وسط المختارة، وكان مهابا ذا سطوة، وقد وقع في قلوب الكافة أنه متى أشار إليه أحد بإصبعه، أو تكلم أو قرب من، لحقه مكروه عظيم، فكان إذا أقبل كما ذكرنا لا يسمع من أحد كلمة، ولا سعلة ولا عطسة، ولا نحنحة البتة، كأنما على رؤوسهم الطير، وكان يتقلد في يوم العيد سيفا بحمائل، ولا يزال يتفرّج ويتنزه ويخرج إلى مواضع لم يكن أبوه يهش إليها، كالأهرام، ومدينة العقاب، ونحو ذلك لأجل الصيد، فإنه كان مشغوفا به لا يكاد يسمع بسبع، إلا قصده، ومعه رجال عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنوة، وهو سليم فيضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنعة يسع الواحد منها السبع، وهو قائم فإذا قدم خمارويه من الصيد سار القفص، وفيه السبع بين يديه، وكانت حلبة السباق في أيامهم تقوم مقام الأعياد، لكثرة الزينة وركوب سائر الغلمان، والعساكر على كثرتهم بالسلاح التام، والعدد الكاملة، فيجلس الناس لمشاهدة ذلك، كما يجلسون في الأعياد وتطلق الخيل من غايتها، فتمرّ متفاوتة يقدم بعضها بعضا حتى يتم السبق.
قال القضاعيّ: المنظر بناه أحمد بن طولون في ولايته لعرض الخيل، وكان عرض الخيل من عجائب الإسلام الأربعة التي منها هذا العرض، ورمضان بمكة، والعيد كان بطرسوس، والجمعة ببغداد، فبقي من هذه الأربعة، شهر رمضان بمكة، والجمعة ببغداد، وذهبت اثنتان، قال كاتبه: وقد ذهبت الجمعة ببغداد أيضا بعد القضاعيّ، بقتل هولاكو للخليفة المستعصم، وزوال شعائر الإسلام من العراق، وبقيت مكة شرّفها الله تعالى، وليس في شهر رمضان الآن بها ما يقال فيه أنه من عجائب الإسلام، ولما تكامل عزّ خمارويه،
وانتهى أمره بدأ يسترجع منه الدهر ما أعطاه، فأوّل ما طرقه موت خطيبته بوران التي من أجلها بنى بيت الذهب، وصوّر فيه صورتها وصورته، كما تقدّم، وكان يرى أن الدنيا لا تطيب له إلا بسلامتها وبنظره إليها، وتمتعه بها فكدّر موتها عيشه، وانكسر انكسارا بان عليه، ثم إنه أخذ في تجهيز ابنته، فجهزها جهازا ضاهى به نعم الخلافة، فلم يبق خطيرة ولا طرفة من كل لون وجنس إلا حمله معها، فكان من جملته: دكة أربع قطع من ذهب عليها قبة من ذهب مشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا يعرف لها قيمة، ومائة هون من ذهب.
قال القضاعيّ: وعقد المعتضد النكاح على ابنته، يعني ابنة خمارويه: قطر الندى، فحملها أبو الجيش خمارويه مع عبد الله بن الخصاص، وحمل معها ما لم ير مثله، ولا يسمع به، ولما دخل إليه ابن الخصاص يودّعه، قال له خمارويه: هل بقي بيني وبينك حساب؟ فقال: لا، فقال: انظر حسابك، فقال: كسر بقي من الجهاز، فقال: أحضروه، فأخرج ربع طومار فيه سبت ذكر النفقة، فإذا هي أربعمائة ألف دينار، قال محمد بن عليّ المادرانيّ، فنظرت في الطومار، فإذا فيه وألف تكة الثمن عنها عشرة آلاف دينار، فأطلق له الكل.
قال القضاعيّ: وإنما ذكرت هذا الخبر لتستدل به على أشياء منها سعة نفس أبي الجيش، ومنها كثرة ما كان يملكه ابن الخصاص حتى أنه قال: كسر بقي من الجهاز، وهو أربعمائة ألف دينار، لو لم يقتضه ذلك، لم يذكره، ومنها ميسور ذلك الزمان لما طلب فيه ألف تكة من أثمان عشرة دنانير قدر عليها في أيسر وقت، وبأهون سعي، ولو طلب اليوم خمسون، لم يقدر عليها، قال كاتبه: ولا يعرف اليوم في أسواق القاهرة ومصر تكة بعشرة دنانير، إذا طلبت توجد في الحال، ولا بعد شهر، إلّا أن يتعنى بعملها، فتعمل، ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته أمر فبنى لها على رأس كل مرحلة تنزل بها قصر، فيما بين مصر وبغداد، وأخرج معها أخاه شيبان بن أحمد بن طولون في جماعة مع ابن الخصاص، فكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فإذا وافت المنزل وجدت قصرا قد فرش فيه جميع ما يحتاج إليه، وعلقت فيه الستور، وأعدّ فيه كل ما يصلح لمثلها في حال الإقامة، فكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد على بعد الشقة، كأنها في قصر أبيها تنتقل من مجلس إلى مجلس، حتى قدمت بغداد أوّل المحرّم سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فزفت على الخليفة المعتضد.
وبعد ذلك قتل خمارويه بدمشق، وكانت مدّة بني طولون بمصر سبعا وثلاثين سنة، وستة أشهر واثنين وعشرين يوما.
وولي منهم خمسة أمراء أوّلهم: أحمد بن طولون، ولي مصر من قبل المعتز على
صلاتها، فدخل يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، وخرج بغا الأصفر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا، فيما بين برقة والإسكندرية في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين، وسار إلى الصعيد، فقتل في الحرب، وحمل رأسه إلى الفسطاط لإحدى عشرة بقيت من شعبان، وخرج ابن الصوفي العلويّ، وهو إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، ودخل إسنا في ذي القعدة، فنهب وقتل، فبعث إليه ابن طولون جيشا، فهزم الجيش في ربيع الأوّل سنة ست وخمسين، فبعث بجيش آخر، فواقعه بإخميم في ربيع الآخر، فانهزم ابن الصوفيّ إلى الواح، فأقام به، وخرج أحمد بن طولون يريد حرب عيسى بن الشيخ، ثم عاد، فابتدأ في أبناء الميدان، وقدم العباس وخمارويه ابنا أحمد بن طولون من العراق على طريق مكة سنة سبع وخمسين، وورد كتاب ماجور بتسلم أحمد بن طولون الأعمال الخارجة عن يده من أرض مصر، فتسلم الإسكندرية، وخرج إليها لثمان خلون من شهر رمضان، واستخلف طفج صاحب الشرط، ثم قدم لأربع عشرة بقيت من شوّال، وسخط على أخيه موسى، وأمره بلباس البياض.
وخرج إلى الإسكندرية ثانيا لثمان بقين من شعبان سنة تسع وخمسين، واستخلف ابنه العباس، وقدم لثمان خلون من شوّال، وأمر ببناء المسجد الجامع على الجبل في صفر سنة تسع وخمسين، وببناء المارستان للمرضى، وورد كتاب المعتمد يستحثه في حمل الأموال، فكتب إليه لست أطيق ذلك، والخراج بيد غيري، فأنفذ المعتمد نفيسا الخادم بتقليد أحمد بن طولون الخراج، وبولايته على الثغور الشامية، فأقرّ أبا أيوب أحمد بن محمد بن شجاع على الخراج خليفة له عليه، وعقد لطخشى بن بلبرد على الثغور، فخرج في جمادى الأولى سنة أربع وستين، وتقدّم أبو أحمد الموفق إلى موسى بن بغا في صرف أحمد بن طولون، وتقليدها ماجور التركي والي دمشق، فكتب إليه بذلك، فتوقف لعجزه عن مقاومة ابن طولون، فخرج موسى بن بغا، ونزل الرقة، فبلغ ابن طولون أنه سائر إليه فابتدأ في بناء الحصن بالجزيرة، ليكون معقلا لماله وحرمه في سنة ثلاث وستين، واجتهد في عمل المراكب الحربية، وأظافها بالجزيرة، فأقام موسى بالرقة عشرة أشهر، واضطربت أموره، ومات في صفر سنة أربع وستين، ومات ماجور بدمشق، واستخلف ابنه عليّ بن ماجور، فحرّك ذلك أحمد بن طولون على المسير، وكتب إلى ابن ماجور أنه سائر إليه، وأمره بإقامة الأنزال والميرة، فأجاب بجواب حسن، وشكا أهل مصر إلى ابن طولون ضيق المسجد الجامع يوم الجمعة بجنده وسودانه، فأمر ببناء المسجد الجامع بجبل يشكر، فابتدأ ببنائه في سنة أربع وتم في سنة ست وستين ومائتين، وخرج في جيوشه لثمان بقين من شعبان سنة أربع وستين، واستخلف ابنه العباس، وضم إليه أحمد بن محمد الواسطيّ مدبرا ووزيرا، فبلغ الرملة، وتلقاه محمد بن رافع واليها، وأقام له بها الدعوة، فأقرّه ومضى إلى دمشق،
فتلقاه عليّ بن ماجور، وأقام له بها الدعوة، فأقام بها حتى استوثق له أمرها، ومضى إلى حمص فتسلمها، وبعث إلى سيما الطويل، وهو بأنطاكية يأمره بالدعاء له فأبى، فسار إليه في جيش عظيم، وحاصره، ورماه بالمجانيق، حتى دخلها في المحرّم سنة خمس وستين، فقتل سيما، واستباح أمواله ورجاله، ومضى إلى طرسوس، فدخلها في ربيع الأوّل، فضاقت به، وغلا السعر بها، فنابذه أهلها، فقاتلهم وأمر أصحابه أن ينهزموا عن أهل طرسوس ليبلغ طاغية الروم، فيعلم أنّ جيوش ابن طولون مع كثرتها وشدّتها، لم تقم لأهل طرسوس، فانهزموا، وخرج عنهم واستخلف عليها طخشي، فورد الخبر عليه بأنّ ابنه العباس قد خالف عليه، فأزعجه ذلك، وسار فخاف العباس، وقيد الواسطيّ، وخرج بطائفته إلى الجيزة لثمان خلون من شعبان سنة خمس وستين ومائتين، فعسكر بها، واستخلف أخاه ربيعة بن أحمد، وأظهر أنه يريد الإسكندرية، وسار إلى برقة، فقدم أحمد بن طولون من الشام لأربع خلون من رمضان، لأنفذ القاضي بكار بن قتيبة في نفر بكتابه إلى العباس، فساروا إليه ببرقة، فأبى أن يرجع، وعاد بكار في أوّل ذي الحجة، ومضى العباس يريد إفريقية في جمادى الأولى سنة ست وستين، فنهب لبدة «1» ، وقتل من أهلها عدّة، وضجت نساؤهم، فاجتمع عليه: جيش ابن الأغلب والإباضية، فقاتلهم بنفسه، وحسن بلاؤه يومئذ وقال:
لله درّي إذ أعدوا على فرسي
…
إلى الهياج ونار الحرب تستعر
وفي يدي صارم أفري الرءوس به
…
في حدّه الموت لا يبقي ولا يذر
إن كنت سائلة عني وعن خبري
…
فها أنا الليث والصمصامة الذكر
من آل طولون أصلي إن سألت فما
…
فوقي لمفتخر بالجود مفتخر
لو كنت شاهدة كرّي بلبدة إذ
…
بالسيف أضرب والهامات تبتذر
إذا لعاينت مني ما تبادره
…
عني الأحاديث والأنباء والخبر
وقتل يومئذ صناديد عسكره، ووجوه أصحابه، ونهبت أمواله، وفرّ إلى برقة في ضرّ.
وعقد أحمد بن طولون على جيش، وبعث به إلى برقة في رمضان سنة سبع وستين، ثم خرج بنفسه في عسكر عظيم يقال: إنه بلغ مائة ألف لثنتي عشر خلت من ربيع الأوّل سنة ثمان وستين، فأقام بالإسكندرية، وفرّ إليه أحمد بن محمد الواسطيّ من عند العباس، فصغر عنده أمر العباس، فعقد على جيش سيّره إلى برقة، فواقعوا أصحاب العباس وهزموهم، وقتلوا منهم كثيرا، وأدركوا العباس لأربع خلون من رجب وعاد أحمد إلى الفسطاط لثلاث عشرة خلت منه، وقدم العباس والأسرى في شوّال، ثم أخرجوا أوّل ذي
القعدة، وقد بنيت لهم دكة عالية، فضربوا وألقوا من أعلاها، ثم بعث بلؤلؤ في جيش إلى الشام، فخالف على أحمد، ومال مع الموفق، وصار إليه، فخرج أحمد، واستخلف ابنه خمارويه في صفر سنة تسع وستين، فنزل دمشق، ومعه ابنه العباس مقيدا، فخالف عليه أهل طرسوس، فخرج يريد محاربتهم ثم توقف لورود كتاب المعتمد عليه، أنه قادم عليه ليلتجئ إليه، فخرج كالمتصيد من بغداد، وتوجه نحو الرقة، فبلغ أبا أحمد الموفق مسيره، وهو محارب لصاحب الزنج، فعمل عليه حتى عاد إلى سامراء، ووكل به جماعة، وعقد لإسحاق بن كنداخ الخزريّ على مصر، فبلغ ذلك ابن طولون، فرجع إلى دمشق، وأحضر القضاة والفقهاء من الأعمال، وكتب إلى مصر كتابا قرئ على الناس بأنّ: أبا أحمد الموفق نكث بيعة المعتمد، وأسره في دار أحمد بن الخصيب، وإنّ المعتمد قد صار من ذلك إلى ما لا يجوز ذكره، وإنه بكى بكاء شديدا، فلما خطب الخطيب يوم الجمعة، ذكر ما نيل من المعتمد، وقال: اللهم فاكفه من حصره وظلمه، وخرج من مصر بكار بن قتيبة «1» ، وجماعة إلى دمشق، وقد حضر أهل الشامات والثغور، فأمر ابن طولون بكتاب فيه: خلع الموفق من ولاية العهد، لمخالفة المعتمد، وحصره إياه، وكتب فيه: إنّ أبا أحمد الموفق خلع الطاعة، وبرىء من الذمّة، فوجب جهاده على الأمّة، وشهد على ذلك جميع من حضر إلّا بكار بن قتيبة وآخرين.
وقال بكار: لم يصح عندي ما فعله أبو أحمد، ولم أعلمه، وامتنع من الشهادة والخلع، وكان ذلك لإحدى عشرة خلت من ذي القعدة، فبلغ ذلك الموفق، فكتب إلى عماله: بلعن أحمد بن طولون على المنابر، فلعن عليه بما صيغته: اللهم العنه لعنا يفلّ حدّه، ويتعس جدّه، واجعله مثلا للغابرين إنك لا تصلح عمل المفسدين، ومضى أحمد إلى طرسوس، فنازلها، وكان البرد شديدا، ثم رحل عنها إلى أذنة «2» ، وسار إلى المصيصة «3» ، فنزلت به علة الموت، فأعدّ السير يريد مصر، حتى بلغ الفرما، فركب النيل إلى الفسطاط، فدخل لعشر بقين من جمادى الآخرى سنة سبعين، فأوقف بكار بن قتيبة، وبعث به إلى السجن، وتزايدت به العلة، حتى مات ليلة الأحد لعشر خلون من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين، فلما بلغ المعتمد موته اشتدّ وجده وجزعه عليه، وقال يرثيه:
إلى الله أشكو أسى
…
عراني كوقع الأسل
على رجل أروع «1»
…
يرى منه فضل الوجل
شهاب خبا وقده
…
وعارض غيث أفل
شكت دولتي فقده
…
وكان يزين الدول
فقام بعده ابنه: أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وبايعه الجند يوم الأحد لعشر خلون من ذي القعدة، فأمر بقتل أخيه العباس لامتناعه من مبايعته، وعقد لأبي عبد الله أحمد الواسطيّ، على جيش إلى الشام لست خلون من ذي الحجة، وعقد لسعد الأعسر على جيش آخر، وبعث بمراكب في البحر لتقيم على السواحل الشامية، فنزل الواسطيّ فلسطين، وهو خائف من خمارويه أن يوقع به، لأنه كان أشار عليه بقتل أخيه العباس، فكتب إلى أبي أحمد الموفق: يصغر أمر خمارويه، ويحرّضه على المسير إليه، فأقبل من بغداد، وانضمّ إليه إسحاق بن كنداح، ومحمد بن أبي الساج، ونزل الرقة، فتسلم قنسرين «2» والعواصم وسار إلى شيرز «3» ، فقاتل أصحاب خمارويه، وهزمهم ودخل دمشق، فخرج خمارويه في جيش عظيم لعشر خلون من صفر سنة إحدى وسبعين، فالتقى مع أحمد بن الموفق بنهر أبي بطرس المعروف بالطواحين من أرض فلسطين، فاقتتلا فانهزم أصحاب خمارويه، وكان في سبعين ألفا، وابن الموفق في نحو أربعة آلاف، واحتوى على عسكر خمارويه بما فيه، ومضى خمارويه إلى الفسطاط، وأقبل كمين له عليه: سعد الأعسر، ولم يعلم بهزيمة خمارويه، فحارب ابن الموفق، حتى أزاله عن المعسكر، وهزمه اثني عشر ميلا ومضى إلى دمشق، فلم يفتح له، ودخل خمارويه إلى الفسطاط لثلاث خلون من ربيع الأوّل، وسار سعد الأعسر والواسطيّ، فملكا دمشق، وخرج خمارويه من مصر لسبع بقين من رمضان، فوصل إلى فلسطين، ثم عاد لاثنتي عشرة بقيت من شوّال، ثم خرج في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، فقتل سعدا الأعسر، ودخل دمشق لسبع خلون من المحرّم سنة ثلاث وسبعين، وسار لقتال ابن كنداح، فكانت على خمارويه، فانهزم أصحابه، وثبت هو في طائفة، فهزم ابن كنداح، وأتبعه حتى بلغ أصحابه سرّ من رأى، ثم اصطلحا وتظاهرا، وأقبل إلى خمارويه، فأقام في عسكره، ودعا له في أعماله التي بيده، وكاتب خمارويه أبا أحمد الموفق في الصلح، فأجابه إلى ذلك، وكتب له بذلك كتابا، فورد عليه به: فالق الخادم إلى مصر في رجب ذكر فيه: أنّ المعتمد والموفق وابنه كتبوه بأيديهم، وبولاية خمارويه وولده ثلاثين سنة على مصر والشامات، ثم قدم خمارويه سلخ رجب،
فأمر بالدعاء لأبي أحمد الموفق، وترك الدعاء عليه، وجعل على المظالم بمصر: محمد بن عبدة بن حرب، وبلغه مسير محمد بن أبي الساج إلى أعماله، فخرج إليه في ذي القعدة، ولقيه شيبة العقاب من دمشق، فانهزم أصحاب خمارويه وثبت هو، فحاربه حتى هزمه أقبح هزيمة، وعاد إلى مصر فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين، ثم خرج إلى الإسكندرية لأربع خلون من شوّال، وورد الخبر أنه دعي له بطرسوس في جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين، وخرج إلى الشام لسبع عشرة من ذي القعدة، ومات الموفق في سنة ثمان وسبعين، ثم مات المعتمد في رجب سنة تسع وسبعين، وبويع المعتضد أبو العباس أحمد بن الموفق، فبعث إليه خمارويه بالهدايا، وقدم من الشام لست خلون من ربيع الأوّل سنة ثمانين، فورد كتاب المعتضد بولاية خمارويه على مصر هو وولده ثلاثين سنة، من الفرات إلى برقة، وجعل له الصلاة والخراج والقضاء وجميع الأعمال، على أن يحمل في كل عام مائتي ألف دينار عما مضى، وثلثمائة ألف للمستقبل، ثم قدم رسول المعتضد بالخلع، وهي اثنتا عشرة خلعة وسيف وتاج ووشاح مع خادم في رمضان، وعقد المعتضد نكاح قطر الندى بنت خمارويه في سنة إحدى وثمانين، وفيها خرج خمارويه إلى نزهته ببربوط في شعبان، ومضى إلى الصعيد فبلغ سيوط، ثم رجع من الشرق إلى الفسطاط أوّل ذي القعدة، وخرج إلى الشام لثمان خلون من شعبان سنة اثنتين وثمانين، فأقام بمنية الأصبغ، ومنية مطر، ثم رحل حتى أتى دمشق، فقتل بها على فراشه، ذبحه جواريه وخدمه، وحمل في صندوق إلى مصر، وكان لدخول تابوته يوم عظيم، واستقبله جواريه، وجواري غلمانه، ونساء قوّاده، ونساء القطائع بالصياح، وما يصنع في المآتم، وخرج الغلمان، وقد حلوا أقبيتهم، وفيهم من سوّد ثيابه وشققها، وكانت في البلد ضجة عظيمة، وصرخة تتعتع القلوب حتى دفن، وكانت مدّته اثنتي عشرة سنة، وثمانية عشر يوما.
ثم ولي أبو العساكر بن خمارويه «1» بن أحمد بن طولون لليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائتين بدمشق، فسار إلى مصر، واشتمل على أمور أنكرت عليه، فاستوحش من عظماء الجند وتنكر لهم، فخافوه ودأبوا في الفساد، فخرج منتزها إلى منية الأصبغ، ففرّ جماعة من عظماء الدولة إلى المعتضد، وخلعه أحمد بن طغان، وكان على الثغر، وخلعه طغج بن جف بدمشق، فوثب جيش على عمه مضر بن أحمد بن طولون فقتله، فوثب عليه الجيش، وخلعوه وجمعوا الفقهاء والقضاة، فتبرّأ من بيعته وحللهم منها، وكان خلعه لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين، فولي ستة أشهر واثني عشر يوما، ومات في السجن بعد أيام.
ثم ولي أبو موسى هارون بن خمارويه يوم خلع جيش، فقام طائفة من الجند، وكاتبوا ربيعة بن أحمد بن طولون، وكان بالإسكندرية، ودعوه، ووعدوه بالقيام معه، فجمع جمعا كثيرا من أهل البحيرة، ومن البربر وغيرهم، وسار حتى نزل ظاهر فسطاط مصر، فخذله القوم، وخرج إليه القوّاد، فقاتلوه وأسروه لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان سنة أربع وثمانين، وضرب ألف سوط ومائتي سوط فمات، ومات المعتضد في ربيع الآخر سنة تسع وثمانين، وبويع ابنه محمد المكتفي بالله، وخرج القرمطيّ بالشام في سنة تسعين، فخرج القوّاد من مصر وحاربوه، فهزمهم، وبعث المكتفي محمد بن سليمان الكاتب «1» ، فنزل حمص، وبعث بالمراكب من الثغر إلى سواحل مصر، وأقبل إلى فلسطين، فخرج هارون يوم التروية سنة إحدى وتسعين، وسير المراكب الحربية، فالتقوا بمراكب محمد بن سليمان في تنيس، فغلبوا، وملك أصحاب محمد بن سليمان تنيس ودمياط، فسار هارون إلى العباسة، ومعه أهله وأعمامه في ضيق وجهد، فتفرّق عنه كثير من أصحابه وبقي في نفر يسير، وهو متشاغل باللهو، فأجمع عمّاه: شيبان وعديّ: ابنا أحمد بن طولون على قتله، فدخلا عليه وهو ثمل، فقتلاه ليلة الأحد لإحدى عشرة بقيت من صفر سنة اثنتين وتسعين، وسنه يومئذ اثنان وعشرون سنة، فكانت ولايته ثمان سنين وثمانية أشهر وأياما.
ثم ولي شيبان بن أحمد بن طولون أبو المواقيت لعشر بقين من صفر، فرجع إلى الفسطاط، وبلغ طفج بن جف، وغيره من القوّاد قتل هارون، فأنكروه، وخالفوا على شيبان، وبعثوا إلى محمد بن سليمان فأمنهم، وحرّكوه على المسير إلى مصر، فسار حتى نزل العباسة، فلقيه طفج في ناس من القوّاد كثير، فساروا به إلى الفسطاط، وأقبل إليهم عامّة أصحاب شيبان، فخاف حينئذ شيبان، وطلب الأمان فأمنه محمد بن سليمان، وخرج إليه لليلة خلت من ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وكانت ولايته اثني عشر يوما، ودخل محمد بن سليمان يوم الخميس أوّل ربيع الأوّل، فألقى النار في القطائع، ونهب أصحابه الفسطاط، وكسروا السجون، وأخرجوا من فيها، وهجموا الدور، واستباحوا الحريم، وهتكوا الرعية، وافتضوا الأبكار، وساقوا النساء، وفعلوا كل قبيح من إخراج الناس من دورهم، وغير ذلك، وأخرج ولد أحمد بن طولون، وهم عشرون إنسانا، وأخرج قوّادهم، فلم يبق بمصر منهم أحد يذكر، وخلت منهم الديار، وعفت منهم الآثار، وتعطلت منهم المنازل، وحلّ بهم الذل بعد العز، والتطريد والتشريد بعد اجتماع الشمل، ونضرة الملك، ومساعدة الأيام، ثم سيق أصحاب شيبان إلى محمد بن سليمان، وهو راكب،
فذبحوا بين يديه، كما تذبح الشياه، وقتل من السودان سكان القطائع خلقا كثيرا فقال أحمد بن محمد الحبيشيّ:
الحمد لله إقرارا بما وهبا
…
قد لمّ بالأمن شعب الحق فانشعبا
الله أصدق هذا الفتح لا كذب
…
فسوء عاقبة المثوى لمن كذبا
فتح به فتح الدنيا محمدها
…
وفرّج الظلم والإظلام والكربا
لا ريب رب هياج يقتضي دعة
…
وفي القصاص حياة تذهب الريبا
رمى الإمام به عذراء غادره
…
فاقتض عذرتها بالسيف واقتضبا
محمد بن سليمان أعزهم
…
نفسا وأكرمهم في الذاهبين أبا
سرى بأسد الشرى لو لم يروا بشرا
…
أضحى عرينهم الخطيّ لا القضبا
جمّ الفضاء على اليحموم حين أتوا
…
مثل الزبا يمتحون الزبية الذأبا
أيها علوت على الأيام مرتبة
…
أبا عليّ ترى من دونها الرتبا
لما أطال بنو طولون خطبتهم
…
من الخطوب وعافت منهم الخطبا
هارت بهارون من ذكراك بقعته
…
وشيّب الرعب شيبانا وقد رعبا
وكم ترى لهم من جنة أنف
…
ومن نعيم جنى من غدرهم عطبا
فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم
…
كأنها من زمان غابر ذهبا
وقال أحمد بن يعقوب:
إن كنت تسأل عن جلالة ملكهم
…
فارتع وعج بمرابع الميدان
وانظر إلى تلك القصور وما حوت
…
واسرح بزهرة ذلك البستان
وإن اعتبرت ففيه أيضا عبرة
…
تنبيك كيف تصرّف العصران
يا قتل هارون اجتثثت أصولهم
…
وأشبت رأس أميرهم شيبان
لم يغن عنكم بأس قيس إذا غدا
…
في جحفل لجب ولا غسان
وعديه البطل الكميّ وخزرج
…
لم ينصرا بأخيهما عدنان
زفت إلى آل النبوّة والهدى
…
وتمزقت عن شيعة الشيطان
وقال إسماعيل بن أبي هاشم:
قف وقفة بقباب باب الساج
…
والقصر ذي الشرفات والأبراج
وربوع قوم أزعجوا عن دارهم
…
بعد الإقامة أيما إزعاج
كانوا مصابيحا لدى ظلم الدجى
…
يسري بها السارون في الإدلاج
وكأنّ أوجههم إذا أبصرتها
…
من فضة بيضاء أو من عاج
كانوا ليوثا لا يرام حماهم
…
في كل ملحمة وكل هياج
فانظر إلى آثارهم تلقي لهم
…
علما بكل ثنية وفجاج
وعليهم ما عشت لا أدع البكا
…
مع كل ذي نظر وطرف ساجي
وقال سعيد القاص:
تجري دمعه ما بين سحر إلى نحر
…
ولم يجر حتى أسلمته يد الصبر
وبات وقيذا للذي خامر الحشا
…
يئنّ كما أنّ الأسير من الأسر
وهل يستطيع الصبر من كان ذا أسى
…
يبيت على جمر ويضحى على جمر
تتابع أحداث يضيعن صبره
…
وغدر من الأيام والدهر ذو غدر
أصاب على رغم الأنوف وجدعها
…
ذوي الدين والدنيا بقاصمة الظهر
طوى زينة الدنيا ومصباح أهلها
…
بفقد بني طولون والأنجم الزهر
وفقد بني طولون في كل موطن
…
أمرّ على الإسلام فقدا من القطر
فبادوا وأضحوا بعد عز ومنعة
…
أحاديث لا تخفى على كل ذي حجر
وكان أبو العباس أحمد ماجدا
…
جميل المحيّا لا يبيت على وتر
كأنّ ليالي الدهر كانت لحسنها
…
وإشرافها في عصره ليلة القدر
يدل على فضل ابن طولون همة
…
محلقة بين المساكين والغفر
فإن كنت تبغي شاهدا ذا عدالة
…
يخبر عنه بالجليّ من الأمر
فبالجبل الغربيّ خطة يشكر
…
له مسجد يغني عن المنطق الهذر
يدل ذوي الألباب أن بناءه
…
وبانيه لا بالضنين ولا الغمر
بناه بآجرّ وساج وعرعر
…
وبالمرمر المسنون والجص والصخر
بعيد مدى الأقطار سام بناؤه
…
وثيق المباني من عقود ومن جدر
فسيح رحاب يحصر الطرف دونه
…
رقيق نسيم طيب العرف والنشر
وتنور فرعون الذي فوق قلة
…
على جبل عال على شاهق وعر
بنى مسجدا فيه يروق بناؤه
…
ويهدي به في الليل إن ضلّ من يسري
تخال سنا قنديله وضياءه
…
سهيلا إذا ما لاح في الليل للسفر
وعين معين الشرب عين زكية
…
وعين أجاج للرواة وللطهر
كأن وفود النيل في جنباتها
…
تروح وتغدو بين مدّ إلى جزر
فأرك بها مستنبطا لمعينها
…
من الأرض من بطن عميق إلى ظهر
بناء لو أنّ الجنّ جاءت بمثله
…
لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر
يمرّ على أرض المغافر كلها
…
وشعبان والأحمور والحيّ من بشر
قبائل لا نوء السحاب يمدّها
…
ولا النيل يرويها ولا جدول يجري
ولا تنس مارستانه واتساعه
…
وتوسعة الأرزاق للحول والشهر
وما فيه من قوّامه وكفاته
…
ورفقتهم بالمعتفين ذوي الفقر
فللميت المقبور حسن جهازه
…
وللحيّ رفق في علاج وفي جبر
وإن جئت رأس الجسر فانظر تأمّلا
…
إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثرا لم يبق من يستطيعه
…
من الناس في بدو البلاد ولا حضر
مآثر لا تبلى وإن باد أهلها
…
ومجد يؤدي وارثيه إلى الفخر
لقد ضمن القبر المقدّر ذرعه
…
أجلّ إذا ما قيس من قبتي حجر
وقام أبو الجيش ابنه بعد موته
…
كما قام ليث الغاب في الأسل السمر
أتته المنايا وهو في أمن داره
…
فأصبح مسلوبا من النهي والأمر
كذاك الليالي من أعارته بهجة
…
فيا لك من ناب حديد ومن ظفر
وورث هارون ابنه تاج ملكه
…
كذاك أبو الأشبال ذو الناب والهصر
وقد كان جيش قبله في محله
…
ولكنّ جيشا كان مستقصر العمر
فقام بأمر الملك هارون مدّة
…
على كظظ «1» من ضيق باع ومن حصر
وما زال حتى زال والدهر كاشح «2»
…
عقاربه من كل ناحية تسري
تذكرتهم لما مضوا فتتابعوا
…
كما أرفض سلك من جمان ومن شذر
فمن يبك شيئا ضاع من بعد أهله
…
لفقدهم فليبك حزنا على مصر
ليبك بني طولون إذ بان عصرهم
…
فبورك من دهر وبورك من عصر
وقال أيضا:
من لم ير الهدم للميدان لم يره
…
تبارك الله ما أعلى وأقدره
لو أن عين الذي أنشأه تبصره
…
والحادثات تعاديه لأكبره
كانت عيون الورى تعشوا لهيبته
…
إذا أضاف إليه الملك عسكره
أين الملوك التي كانت تحلّ به
…
وأين من كان بالإنفاذ دبره
وأين من كان يحميه ويحرسه
…
من كل ليث يهاب الليث منظره
صاح الزمان بمن فيه ففرّقهم
…
وحط ريب البلى فيه فدعثره «3»
وأخلق الدهر منه حسن جدّته
…
مثل الكتاب محا العصر أن أسطره
دكت مناظره واجتثّ جوسقه
…
كأنما الخسف فاجأه فدمّره
أو هبّ إعصار نار في جوانبه
…
فعاد معروفه للعين منكره
كم كان يأوي إليه في مقاصره
…
أحوى أغنّ غضيض الطرف أحوره
كم كان فيه لهم من مشرب غدق
…
فعب صرف الردى فيه فكدّره
أين ابن طولون بانيه وساكنه
…
أماته الملك الأعلى فأقبره
ما أوضح الأمر لو صحت لنا فكر
…
طوبى لمن خصه رشد فذكره
وقال أحمد بن إسحاق الجفر:
وإذا ما أردت أعجوبة الده
…
ر تراها فانظر إلى الميدان
تنظر البين والهموم وأنوا
…
عا توالت به من الأشجان
يعلم العالم المبصر أن الده
…
ر فيما يراه ذو ألوان
أين ما فيه من نعيم ومن عي
…
ش رخيّ ونضرة وحسان
أين ذاك المسك الذي ديف «1» بالعن
…
بر بحتا وعلّ «2» بالزعفران
أين ذاك الخز المضاعف والوشي
…
وما استخلصوا من الكتان
أين تلك القيان تشدو على العر
…
س بما استحسنوا من الألحان
حوّز الدهر آل طولون في هوّة
…
نقر مسكونها غير دان
وأعاض الميدان من بعد أهليه
…
ذئابا تعوي بتلك المغاني
ثم أمر الحسين بن أحمد المادراني متولي خراج مصر بهدم الديوان، فابتدىء في هدمه في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وبيعت أنقاضه، ودثر كأنه لم يكن. فقال محمد بن طسويه:
وكأنّ الميدان ثكلى أصيبت
…
بحبيب قد ضاع ليلة عرس
تتغشى الرياح منه محلا
…
كان للصون في ستور الدمقس
وبفرش الأضريج والبسط الدي
…
باج في نعمة وفي لين لمس
ووجوه من الوجوه حسان
…
وخدود مثل اللآلئ ملس
وكل نجلاء كالغزال وبخلا
…
ورداح «3» من بين حور ولعس «4»
آل طولون كنتم زينة الأر
…
ض فأضحى الجديد أهدام لبس
وقال ابن أبي هاشم:
يا منزلا لبني طولون قد دثرا
…
سقاك صرف الغوادي القطر والمطرا
يا منزلا صرت أجفوه وأهجره
…
وكان يعدل عندي السمع والبصرا
بالله عندك علم من أحبتنا
…
أم هل سمعت لهم من بعدنا خبرا
وقال:
ألا فاسأل الميدان ثم اسأل الجبل
…
عن الملك الماضي ابن طولون ما فعل
وعن ابنه العباس إن كنت سائلا
…
وأين أبو الجيش الفصافصة البطل
وجيش وهارون الذي قام بعده
…
وشيبان بالأمس الذي خانه الأمل
ومن قبله أردى ربيعة يومه
…
وكان هزبرا لا يطاق إذا حمل
وأين ذراريهم وأين جموعهم
…
وكيف تقضي عنهم الملك فاضمحل
وأين بناء القصر والجوسق الذي
…
عهدناه معمور الفناء له زجل
لقد ملكوه برهة من زماننا
…
بدولتهم ثم انقضوا بانقضا الدول
فما منهم خلق يحس ولا يرى
…
بذكر طوال الدهر لما انقضى الأجل
وصاروا أحاديثا لمن جاء بعدهم
…
وكان بهم في ملكهم يضرب المثل
وقال:
قف وقفة وانظر إلى الميدان
…
والقصر ذي الشرفات والإيوان
والجوسق العالي المنيف بناؤه
…
ما باله قفر من السكان
أين الذين لهوا به وعنوا به
…
زمنا مع القينات والنسوان
يجبي الخراج إليهم في دارهم
…
لا يرهبون غوائل الحدثان
جمعوا الجموع مع الجموع فأكثروا
…
واستأثروا بالروم والسودان
فانظر إلى ما شيدوا من بعدهم
…
هل فيه غير البوم والغربان
أين الأولى حفروا العيون بأرضه
…
وتأنقوا فيه وفي البنيان
غرسوا صنوف النخل في ساحاته
…
وغرائب الأعناب والرّمان
والزعفران مع البهاء بأرضه
…
والورد بين الآس والريحان
كانوا ملوك الأرض في أيامهم
…
كبراء كل مدينة ومكان
فتمزقوا وتفرّقوا فهناك هم
…
تحت الثرى يبلون في الأكفان
إلا أغيلمة أسارى بعدهم
…
في دار مضيعة ودار هوان
متلذذين بأسرهم قد شرّدوا
…
ونفوا عن الأهلين والأوطان
والله وارث كل حيّ بعدهم
…
وله البقاء وكل شيء فان
وقال:
إن في قبة الهواء لذي اللب معتبر
…
والقصور المشيدات مع الدور والحجر
والبساتين والمجالس والبيت والزهر
…
والجواري المغنيات ذوي الدل والخفر
يتبخترن في الحرير وفي الوشي والحبر
…
وملوك عبيدهم عدد الشوك والشجر
وجيوش مؤيدوون لدى البأس بالظفر
…
من صنوف السودان والترك والروم والخزر
عمروا الأرض مدّة ثم صاروا إلى الحفر
…
واستبدّ الزمان من عاش منهم فلم يذر
فهم في الهوان والذل أسرى على خطر
…
وهم بعد صفو عيش من الذل في كدر
يا آل طولون ما لكم صرتم للورى سمر
…
يا آل طولون كنتم خبرا فانقضى الخبر
وقال:
مررت على الميدان معتبرا به
…
فناديته أين الجبال الشوامخ
خمار وعباس وأحمد قبلهم
…
وأين ترى شبانهم والمشايخ
وأين ذراري آل طولون بعدهم
…
أما فيك منهم أيها الربع صارخ
وأين ثياب الخز والوشي والحلى
…
وأربابها أم أين تلك المطابخ
وأين فتات المسك والعنبر الذي
…
عنيت به دهرا وتلك اللطائخ
لقد غالك الدهر الخؤون بصرفه
…
فأصبحت منحطا وغيرك باذخ
وقال:
مررت على الميدان بالأمس ضاحيا
…
فأبصرته قفر الجناب فراعني
فناديت فيه يا آل طولون ما لكم
…
فهود فما حلق بحرف أجابني
فأذريت عينا ذات دمع غزيرة
…
ورحت كئيب القلب مما أصابني
وإني عليهم ما بقيت لموجع
…
ولست أبالي من لحاني وعابني
وحدّث محمد بن أبي يعقوب الكاتب قال: لما كانت ليلة عيد الفطر من سنة اثنتين وتسعين ومائتين تذكرت ما كان فيه آل طولون في مثل هذه الليلة من الزيّ الحسن بالسلاح، وملوّنات البنود والأعلام، وشهرة الثياب، وكثرة الكراع وأصوات الأبواق والطبول، فاعتراني لذلك فكرة، ونمت في ليلتي، فسمعت هاتفا يقول: ذهب الملك التملك والزينة لما مضى بنو طولون.
وقال القاضي أبو عمرو عثمان النابلسيّ في كتاب حسن السيرة في اتخاذ الحصن بالجزيرة: رأيت كتابا قدر اثنتي عشرة كراسة مضمونة فهرست شعراء الميدان الذي لأحمد بن طولون قال: فإذا كانت أسماء الشعراء في ثنتي عشرة كراسة، كم يكون شعرهم؟ مع أنه لم يوجد من لك الآن ديوان واحد. وقال أبو الخطاب بن دحية في كتاب النبراس: وخربت قطائع أحمد بن طولون، يعني في الشدّة العظمى زمن الخليفة المستنصر، وهلك جميع من كان بها من الساكنين، وكانت نيفا على مائة ألف دار نزهة للناظرين محدقة بالجنان والبساتين، والله يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.