الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون، وهو نهر الهند، وجيحون، وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات، وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام، واستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم، وذلك قوله عز وجل: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ
[المؤمنون/ 18] فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام، فرفع من الأرض القرآن كله، والعلم كله، والحجر من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كل ذلك إلى السماء، فذلك قوله تعالى: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ
[المؤمنون/ 18] فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقدت أهلها خير الدنيا والدين، وقال ابن لهيعة عن عقبة بن عامر الحضرميّ عن حيان بن الأعين عن عبد الله بن عمرو قال: إنّ أوّل مصر خرابا أنطابلس، وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن أبي سالم عن عبد الله بن عمرو قال: إني لأعلم السنة التي تخرجون فيها من مصر قال: فقلت له: ما يخرجنا منها يا أبا محمد، أعدوّ؟ قال: لا، ولكن يخرجكم منها نيلكم هذا، يغور فلا تبقى منه قطرة حتى تكون فيه الكثبان من الرمل، وتأكل سباع الأرض حيتانه.
ذكر خراب الفسطاط
وكان لخراب مدينة فسطاط مصر سببان: أحدهما: الشدّة العظمى التي كانت في خلافة المستنصر بالله الفاطمي، والثاني: حريق مصر في وزارة شاور بن مجير السعديّ.
فأما الشدّة العظمى: فإنّ سببها أنّ السعر ارتفع بمصر في سنة ست وأربعين وأربعمائة، وتبع الغلاء، وباء، فبعث الخليفة المستنصر بالله أبو تميم معدّ بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ إلى متملك الروم بقسطنطينية أن يحمل الغلال إلى مصر، فأطلق أربعمائة ألف أردب، وعزم على حملها إلى مصر، فأدركه أجله ومات قبل ذلك، فقام في الملك بعده امرأة، وكتبت إلى المستنصر تسأله أن يكون عونا لها، ويمدّها بعساكر مصر إذا ثار عليها أحد، فأبى أن يسعفها في طلبتها، فجردت لذلك، وعاقت الغلال عن المسير إلى مصر، فخنق المستنصر، وجهز العساكر، وعليها مكين الدولة الحسن بن ملهم، وسارت إلى اللاذقية، فحاربتها بسبب نقض الهدنة وإمساك الغلال عن الوصول إلى مصر، وأمدّها بالعساكر الكثيرة، ونودي في بلاد الشام بالغزو، فنزل ابن ملهم قريبا من فامية «1» ، وضايق أهلها، وجال في أعمال أنطاكية، فسبى ونهب، فأخرج صاحب قسطنطينية ثمانين قطعة في البحر، فحاربها ابن ملهم عدّة مرار، وكانت عليه، وأسر هو وجماعة كثيرة في شهر ربيع
الأوّل منها، فبعث المستنصر في سنة سبع وأربعين: أبا عبد الله القضاعيّ برسالة إلى القسطنطينية فوافى إليها رسول طغربل السلجوقيّ من العراق بكتابة يأمر متملك الروم بأن يمكن الرسول من الصلاة في جامع القسطنطينية، فأذن له في ذلك، فدخل إليه وصلى فيه صلاة الجمعة.
وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسيّ، فبعث القاضي القضاعيّ إلى المستنصر يخبره بذلك، فأرسل إلى كنيسة قمامة بيت المقدس، وقبض على جميع ما فيها، وكان شيئا كثيرا من أموال النصارى، ففسد من حينئذ ما بين الروم والمصريين، حتى استولوا على بلاد الساحل كلها، وحاصروا القاهرة كما يرد في موضعه إن شاء الله تعالى، واشتدّ في هذه السنة الغلاء، وكثر الوباء بمصر والقاهرة، وأعمالها إلى سنة أربع وخمسين وأربعمائة، فحدث مع ذلك الفتنة العظيمة التي خرب بسببها إقليم مصر كله، وذلك أنّ المستنصر لما خرج على عادته في كل سنة على النجب مع النساء، والحشم إلى أرض الجب خارج القاهرة، وجرّد بعض الأتراك سيفا، وهو سكران على أحد عبيد الشراء، فاجتمع عليه كثير من العبيد وقتلوه، فحنق لقتله الأتراك، وساروا بجميعهم إلى المستنصر.
وقالوا: إن كان هذا عن رضاك، فالسمع والطاعة، وإن كان من غير رضى أمير المؤمنين، فلا نرضى بذلك، فتبرّأ المستنصر مما جرى وأنكره، فتجمع الأتراك لمحاربة العبيد، وكانت بينهما حروب شديدة بناحية كوم شريك قتل فيها عدّة من العبيد.
وانهزم من بقي منهم، فشق ذلك على أمّ المستنصر، فإنها كانت السبب في كثرة العبيد السود بمصر، وذلك أنها كانت جارية سوداء، فأحبت الاستكثار من جنسها، واشترتهم من كل مكان، وعرفت رغبتها في هذا الجنس، فجلبت الناس إلى مصر منهم، حتى يقال: إنه صار في مصر إذ ذاك على زيادة على خمسين ألف عبد أسود، فلما كانت وقعة كوم شريك أمدّت العبيد بالأموال والسلاح سرّا، وكانت أمّ المستنصر قد تحكمت في الدولة، وحقدت على الأتراك، وحثت على قتلهم مولاها أبا سعد التستريّ، فقويت العبيد لذلك، حتى صار الواحد منهم يحكم بما يختار، فكرهت الأتراك ذلك، وكان ما ذكر، فظفر بعض الأتراك يوما بشيء من المال والسلاح قد بعثت به أمّ المستنصر إلى العبيد تمدّهم به بعد انهزامهم من كوم شريك، فاجتمعوا بأسرهم، ودخلوا على المستنصر، وأغلظوا في القول، فحلف أنه لم يكن عنده علم بما ذكر، وصار إلى أمه، فأنكرت ما فعلت، وخرج الأتراك، فصار السيف قائما، ووقعت الفتنة ثانيا فانتدب المستنصر: أبا الفرج ابن المغربيّ ليصلح بين الطائفتين، فاصطلحه على غلّ، وخرج العبيد إلى شبرا دمنهور، فكان هذا أوّل اختلال أحوال أهل مصر، ودبت عقارب العداوة بين الفئتين إلى سنة تسع وخمسين، فقويت شوكة الأتراك، وضروا على المستنصر، وزاد طمعهم فيه، وطلبوا منه الزيادة في واجباتهم، وضاقت أحوال
العبيد، واشتدّت ضرورتهم، وكثرت حاجتهم، وقلّ مال السلطان، واستضعف جانبه، فبعثت أم المستنصر إلى قوّاد العبيد تغريهم بالأتراك، فاجتمعوا بالجيزة، وخرج إليهم الأتراك، ومقدّمهم ناصر الدين حسين بن حمدان «1» ، فاقتتلا عدّة مرار ظهر في آخرها الأتراك على العبيد، وهزموهم إلى بلاد الصعيد، فعاد ابن حمدان إلى القاهرة، وقد عظم أمره، وقوي جأشه، وكبرت نفسه، واستخف بالخليفة، فجاءه الخبر: أنه قد تجمع من العبيد ببلاد الصعيد نحو خمسة عشر ألف فارس، فقلق وبعث بمقدّمي الأتراك إلى المستنصر، فأنكر ما كان من اجتماع العبيد، وجفوا في خطابهم، وفارقوه على غير رضى منهم، فبعثت أم المستنصر إلى من بحضرتها من العبيد، تأمرهم بالإيقاع على غفلة بالأتراك، فهجموا عليهم، وقتلوا منهم عدّة، فبادر ابن حمدان إلى الخروج ظاهر القاهرة، وتلاحق به الأتراك، وبرز إليهم العبيد المقيمون بالقاهرة ومصر، وحاربوهم عدّة أيام، فحلف ابن حمدان أنه لا ينزل عن فرسه حتى ينفصل الأمر إمّا له أو عليه، وجدّ كل من الفريقين في القتال، فظهرت الأتراك على العبيد، وأثخنوا في قتلهم وأسرهم، فعادوا إلى القاهرة، وتتبع ابن حمدان من في البلد منهم، حتى أفنى معظمهم، هذا والعبيد ببلاد الصعيد على حالهم، وبالإسكندرية أيضا منهم جمع كثير، فسار ابن حمدان إلى الإسكندرية، وحاصرهم فيها مدّة حتى سألوه الأمان، فأخرجهم، وأقام فيها من يثق به، وانقضت هذه السنة كلها في قتال العبيد، ودخلت سنة ستين وأربعمائة، وقد خرق الأتراك ناموس المستنصر، واستهانوا به، واستخفوا بقدره، وصار مقرّرهم في كل شهر أربعمائة ألف دينار بعدما كان ثمانية وعشرين ألف دينار، ولم يبق في الخزائن مال، فبعثوا يطالبونه بالمال، فاعتذر إليهم بعجزه عما طلبوه، فلم يعذروه، وقالوا: بع ذخائرك، فلم يجد بدّا من إجابتهم، وأخرج ما كان في القصر من الذخائر، فصاروا يقوّمون ما يخرج إليهم بأخس القيم، وأقل الأثمان، ويأخذون ذلك في واجباتهم.
وتجهز ابن حمدان، وسار إلى الصعيد يريد قتال العبيد، وكانت شرورهم قد كثرت، وضررهم وفسادهم قد تزايد، فلقيهم وواقعهم غير مرّة، والأتراك تنكسر منهم، وتعود إلى محاربتهم إلى أن حمل العبيد عليهم حملة انهزموا فيها إلى الجيزة، فأفحشوا عند ذلك في أمر المستنصر، ونسبوه إلى مباطنة العبيد، وتقويتهم، فأنكر ذلك، وحلف عليه، فأخذوا في إصلاح شأنهم، ولمّ شعثهم وساروا لقتال العبيد، وما زالوا يلحون في قتالهم حتى انكسرت العبيد كسرة شنيعة، وقتل منهم خلق كثير، وفرّ من بقي، فذهبت شوكتهم، وزالت دولتهم، ورجع ابن حمدان، وقد كشف قناع الحياء، وجهر بالسوء للمستنصر، واستبدّ بسلطنة
البلاد، ودخلت سنة إحدى وستين وابن حمدان مستبدّ بالأمر مجاف للمستنصر، فنقل مكانه على الأتراك، وتفرّغوا من العبيد، والتفتوا إليه، وقد استبدّ بالأمور دونهم، واستأثر بالأموال عليهم، ففسد ما بينهم وبينه، وشكوا منهم إلى الوزير خطير الملك، فأغراهم به، ولامهم على ما كان من تقويته، وحسن لهم الثورة به، فصاروا إلى المستنصر، ووافقوه على ذلك، فبعث إلى ابن حمدان يأمره بالخروج عن مصر، ويهدّده إن امتنع، فلم يقدر على الامتناع منه، لفساد الأتراك عليه، وميلهم مع المستنصر، فخرج إلى الجيزة، وانتهب الناس دوره ودور حواشيه، فلما جنّ عليه الليل عاد من الجيزة سرّا إلى دار القائد تاج الملوك شادي، وترامى عليه، وقبل رجليه، وسأله النصرة على الذكر والوزير الخطير، فإنهما قاما بهذه الفتنة، فأجابه إلى ذلك، ووعده بقتل المذكورين وفارقه ابن حمدان، فلما كان من الغد ركب شادي في أصحابه، وأخذ يسير بين القصرين بالقاهرة، وأقبل الوزير الخطير، في موكبه، فبادره شادي على حين غفلة وقتله، ففرّ الذكر إلى القصر، والتجأ بالمستنصر، فلم يكن بأسرع من قدوم ابن حمدان، وقد استعدّ للحرب، فيمن معه فركب المستنصر بلأمة الحرب، واجتمع إليه الأجناد والعامّة، وصار في عدد لا ينحصر، وبرزت الفرسان، فكانت بين الخليفة، وابن حمدان حروب آلت إلى هزيمة ابن حمدان، وقتل كثير من أصحابه، فمضى في طائفة إلى البحيرة، وترامى على بني سيس، وتزوّج منها، فعظم الأمر بالقاهرة ومصر من شدّة الغلاء، وقلة الأقوات لما فسد من الأعمال بكثرة النهب، وقطع الطريق حتى أكل الناس الجيف والميتات، ووقف أرباب الفساد في الطريق، فصاروا يقتلون من ظفروا به في أزقة مصر، فهلك من أهل مصر في هذه الحروب والفتن ما لا يمكن حصره، وامتدّ ذلك إلى أن دخلت سنة ثلاث وستين، فجهز المستنصر عساكره لقتال ابن حمدان بالبحيرة، فسارت إليه ولم يوفق في محاربته، فكسرها كلها، واحتوى على ما كان معها من سلاح وكراع ومال، فتقوّى به، وقطع الميرة عن البلد، ونهب أكثر الوجه البحريّ، وقطع منه الخطبة للمستنصر، ودعا للخليفة القائم بأمر الله العباسيّ بالإسكندرية ودمياط، وعامّة الوجه البحريّ، فاشتدّ الجوع، وتزايد الموتان بالقاهرة ومصر حتى أنه كان يموت الواحد من أهل البيت، فلا يمضي يوم وليلة من موته، حتى يموت سائر من في ذلك البيت، ولا يوجد من يستولي عليه، ومدّت الأجناد أيديها إلى النهب، فخرج الأمر عن الحدّ، ونجا أهل القوّة بأنفسهم من مصر، وساروا إلى الشام والعراق، وخرج من خزائن القصر ما يجل وصفه، وقد ذكر طرف من ذلك في أخبار القاهرة عند ذكر خزائن القصر، فاضطرّ الأجناد ما هم فيه من شدّة الجوع إلى مصالحة ابن حمدان بشرط أن يقيم في مكانه، ويحمل إليه مال مقرّر، وينوب عنه شادي بالقاهرة، فرضي بذلك، وسير الغلال إلى القاهرة ومصر، فسكن ما بالناس من شدّة الجوع قليلا، ولم يكن ذلك إلا نحو شهر، ووقع الاختلاف عليه، فقدم من البحيرة إلى مصر، وحاصرها وانتهبها، وأحرق دورا عديدة بالساحل، ورجع إلى البحيرة،
فدخلت سنة أربع وستين، والحال على ذلك، وشادى قد استبدّ بأمر الدولة، وفسد ما بينه وبين ابن حمدان، ومنعه من المال الذي تقرّر له وشح به عليه، فلم يوصله إلى القليل، فجرد من ذلك ابن حمدان، وجمع العربان، وسار إلى الجيزة، وخادع شادي حتى صار إليه ليلا في عدّة من الأكابر، فقبض عليه وعليهم، وبعث أصحابه فنهبوا مصر، وأطلقوا فيها النار، فخرج إليهم عسكر المستنصر من القاهرة، وهزموهم، فعاد إلى البحيرة، وبعث رسولا إلى الخليفة القائم بأمر الله ببغداد بإقامة الخطبة له، وسأله الخلع والتشاريف فاضمحل أمر المستنصر، وتلاشى ذكره، وتفاقم الأمر في الشدّة من الغلاء، حتى هلكوا فسار ابن حمدان إلى البلد، وليس في أحد قوّة يمنعه بها، فملك القاهرة وامتنع المستنصر بالقصر، فسير إليه رسولا يطلب منه المال، فوجده، وقد ذهب سائر ما كان يعهده من أبهة الخلافة، حتى جلس على حصير، ولم يبق معه سوى ثلاثة من الخدم، فبلغه رسالة ابن حمدان، فقال المستنصر للرسول: ما يكفي ناصر الدولة أن اجلس في مثل هذا البيت على هذا الحال؟ فبكى الرسول رقة له، وعاد إلى ابن حمدان فأخبره بما شاهد من اتضاع أمر المستنصر، وسوء حاله، فكف عنه، وأطلق له في كل شهر مائة دينار، وامتدّت يده وتحكم وبالغ في إهانة المستنصر مبالغة عظيمة، وقبض على أمه وعاقبها أشد العقوبة، واستصفى أموالها، فحاز منها شيئا كثيرا، فتفرّق حينئذ عن المستنصر جميع أقاربه، وأولاده من الجوع فمنهم من سار إلى المغرب، ومنهم من سار إلى الشام والعراق.
قال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ «1» النسابة في كتاب النقط: حلّ بمصر غلاء شديد، في خلافة المستنصر بالله في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وأقام إلى سنة أربع وستين وأربعمائة، وعمّ مع الغلاء وباء شديد، فأقام ذلك سبع سنين، والنيل يمدّ وينزل، فلا يجد من يزرع، وشمل الخوف من العسكرية، وفساد العبيد، فانقطعت الطرقات برّا وبحرا إلّا بالخفارة الكثيرة مع ركوب الغرر، ونزا المارقون بعضهم على بعض، واستولى الجوع لعدم القوت، وصار الحال إلى أن بيع رغيف من الخبز الذي وزنه رطل بزقاق القناديل:
كبيع الطرف في النداء بأربعة عشر درهما، وبيع أردب من القمح بثمانين دينارا، ثم عدم ذلك، وأكلت الكلاب والقطاط، ثم تزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وكان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سكنوا بيوتا قصيرة السقوف قريبة ممن يسعى في الطرقات ويطوف، وقد أعدّوا سلبا، وخطاطيف فإذا مرّ بهم أحد شالوه في أقرب وقت، ثم ضربوه بالأخشاب، وشرّحوا لحمه وأكلوه.
قال: وحدّثني بعض نسائنا الصالحات قالت: كانت لنا من الجارات امرأة ترينا أفخاذها، وفيها كالحفر، فكنا نسألها، فتقول: أنا ممن خطفني أكلة الناس في الشدّة،
فأخذني إنسان، وكنت ذات جسم وسمن، فأدخلني إلى بيت فيه سكاكين وآثار الدماء، وزفرة القتلى، فأضجعني على وجهي، وربط في يديّ ورجليّ سلبا إلى أوتاد حديد عريانة، ثم شرّح من أفخاذي شرائح وأنا أستغيث، ولا أحد يجيبني، ثم أضرم الفحم وشوي من لحمي، وأكل أكلا كثيرا، ثم سكر حتى وقع على جنبه لا يعرف أين هو، فأخذت في الحركة إلى أن انحل أحد الأوتاط، وأعان الله على الخلاص، وتخلصت وحللت الرباط، وأخذت خرقا من داره، ولففت بها أفخاذي، وزحفت إلى باب الدار، وخرجت أزحف إلى أن وقعت إلى المأمن، وجئت إلى بيتي، وعرّفتهم بموضعه، فمضوا إلى الوالي، فكبس عليه وضرب عنقه، وأقام الدواء في أفخاذي سنة إلى أن ختم الجرح، وبقي كذا حفرا، وبسبب هذا الغلاء خرب الفسطاط، وخلا موضع العسكر والقطائع، وظاهر مصر، مما يلي القرافة حيث الكيمان الآن إلى بركة الحبش، فلما قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ إلى مصر، وقام بتدبير أمرها نقلت أنقاض ظاهر مصر مما يلي القاهرة حيث كان العسكر والقطائع، وصار فضاء وكيمانا، فيما بين مصر والقاهرة، وفيما بين مصر والقرافة، وتراجعت أحوال الفسطاط بعد ذلك حتى قارب ما كان عليه قبل الشدّة.
وأما حريق مصر: فكان سببه: أنّ الفرنج لما تغلبوا على ممالك الشام، واستولوا على الساحل حتى صار بأيديهم ما بين ملطية «1» إلى بلبيس إلّا مدينة دمشق فقط، وصار أمر الوزارة بديار مصر: لشاور بن مجير السعديّ، والخليفة يومئذ العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف، اسم لا معنى له، وقام في منصب الوزارة بالقوّة في صفر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وتلقب بأمير الجيوش، وأخذ أموال بني رزيك وزراء مصر، وملوكها من قبله، فلما استبدّ بالإمرة حسده ضرغام صاحب الباب، وجمع جموعا كثيرة، وغلب شاور على الوزارة في شهر رمضان منها، فسار شاور إلى الشام، واستقل ضرغام بسلطنة مصر، فكان بمصر في هذه السنة ثلاثة وزراء هم: العادل بن رزيك بن طلائع بن رزيك، وشاور بن مجير، وضرغام، فأساء ضرغام السيرة في قتل أمراء الدولة، وضعفت من أجل ذلك دولة الفاطميين بذهاب رجالها الأكابر، ثم إن شاور استنجد بالسلطان: نور الدين محمود بن زنكي «2» صاحب الشام، فأنجده وبعث معه عسكرا كثيرا في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين، وقدم عليه أسد الدين شيركوه على أن يكون لنور الدين إذا عاد شاور إلى منصب الوزارة ثلث خراج مصر بعد إقطاعات العساكر، وأن يكون شيركوه عنده بعساكره في مصر، ولا يتصرّف إلا بأمر نور الدين، فخرج ضرغام بالعسكر، وحاربه في بلبيس فانهزم، وعاد إلى مصر، فنزل شاور بمن معه عند التاج خارج القاهرة، وانتشر عسكره في البلاد، وبعث
ضرغام إلى أهل البلاد، فأتوه خوفا من الترك القادمين معه، وأتته الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية، فامتنعوا بالقاهرة، وتطاردوا مع طلائع شاور بأرض الطبالة، فنزل شاور في المقس، وحارب أهل القاهرة فغلبوه، وحتى ارتفع إلى بركة الحبش، فنزل على الرصد واستولى على مدينة مصر، وأقام أياما فمال الناس إليه، وانحرفوا عن ضرغام لأمور، فنزل شاور باللوق، وكانت بينه وبين ضرغام حروب آلت إلى إحراق الدور من باب سعادة إلى باب القنطرة خارج القاهرة، وقتل كثير من الفريقين، واختلّ أمر ضرغام، وانهزم، فملك شاور القاهرة، وقتل ضرغام آخر جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، فأخلف شيركوه ما وعد به السلطان نور الدين، وأمره بالخروج عن مصر، فأبى عليه واقتتلا.
وكان شيركوه قد بعث بابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بلبيس، ليجمع له الغلال وغيرها من الأموال، فحشد شاور، وقاتل الشاميين، فجرت وقائع، واحترق وجه الخليج خارج القاهرة بأسره، وقطعة من حارة زويلة، فبعث شاور إلى الفرنج واستنجد بهم فطمعوا في البلاد، وخرج ملكهم مري من عسقلان بجموعه، فبلغ ذلك شيركوه، فرحل عن القاهرة بعد طول محاصرتها، ونزل بلبيس فاجتمع على قتاله بها شاور وملك الفرنج، وحصروه بها، وكانت إذا ذاك حصينة ذات أسوار، فأقام محصورا مدّة ثلاثة أشهر، وبلغ ذلك نور الدين، فأغار على ما قرب منه من بلاد الفرنج، وأخذها من أيديهم، فخافوه، ووقع الصلح مع شيركوه على عوده إلى الشام، فخرج في ذي الحجة، ولحق بنور الدين، فأقام وفي نفسه من مصر أمر عظيم إلى أن دخلت سنة اثنتين وستين، فجهزه نور الدين إلى مصر في جيش قويّ في ربيع الأوّل، وسيره فبلغ ذلك شاور، فبعث إلى مري ملك الفرنج مستنجدا به، فسار بجموع الفرنج، حتى نزل بلبيس، فوافاه شاور وأقام حتى قدم شيركوه إلى أطراف مصر، فلم يطق لقاء القوم، فسار حتى خرج من إطفيح «1» إلى جهة بلاد الصعيد من ناحية بحر القلزم، فبلغ شاور أنّ شيركوه قد ملك بلاد الصعيد، فسقط في يده، ونهض للفور من بلبيس ومعه الفرنج، فكان من حروبه مع شيركوه ما كان حتى انهزم بالأشمونين، وسار منها بعد الهزيمة إلى الإسكندرية فملكها، وأقرّ بها ابن أخيه صلاح الدين، وخرج إلى الصعيد، فخرج شاور بالفرنج وحصر الإسكندرية أشدّ حصار، فسار شيركوه من قوص ونزل على القاهرة، وحاصرها، فرحل إليه شاور، وكانت أمور آلت إلى الصلح وسار شيركوه بمن معه إلى الشام في شوّال، فطمع مري في البلاد، وجعل له شحنة بالقاهرة، وصارت أسوارها بيد فرسان الفرنج، وتقرّر لهم في كل سنة مائة ألف دينار، ثم رحل إلى بلاده، وترك بالقاهرة من يثق به من الفرنج، وسار شيركوه إلى الشام، فتحكم الفرنج في القاهرة حكما جائرا، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم، وتيقنوا عجز الدولة عن مقاومتهم، وانكشفت لهم
عورات الناس إلى أن دخلت سنة أربع وستين، فجمع مري جمعا عظيما من أجناس الفرنج، وأقطعهم بلاد مصر، وسار يريد أخذ مصر، فبعث إليه شاور يسأله عن سبب مسيره، فاعتل بأنّ الفرنج غلبوه على قصد ديار مصر، وأنه يريد ألفي ألف دينار يرضيهم بها، وسار فنزل على بلبيس، وحاصرها حتى أخذها عنوة في صفر، فسبي أهلها، وقصد القاهرة، فسير العاضد كتبه إلى نور الدين، وفيها شعور نسائه وبناته يسأله إنقاذ المسلمين من الفرنج، وسار مري من بلبيس، فنزل على بركة الحبش، وقد انضم الناس من الأعمال إلى القاهرة، فنادى شاور بمصر أن لا يقيم بها أحد، وأزعج الناس في النقلة منها، فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم، وأولادهم وقد ماج الناس واضطربوا كأنما خرجوا من قبورهم إلى المحشر لا يعبأ والد بولده، ولا يلتفت أخ إلى أخيه، وبلغ كراء الدابة من مصر إلى القاهرة بضعة عشر دينارا، وكراء الحمل إلى ثلاثين دينارا، ونزلوا بالقاهرة في المساجد، والحمامات والأزقة وعلى الطرقات، فصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم، وقد سلبوا سائر أموالهم، وينتظرون هجوم العدوّ على القاهرة بالسيف، كما فعل بمدينة بلبيس، وبعث شاور إلى مصر بعشرين ألف قارورة نفط، وعشرة آلاف مشعل نار، فرّق ذلك فيها، فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء، فصار منظرا مهولا، فاستمرّت النار تأتي على مساكن مصر من اليوم التاسع والعشرين من صفر لتمام أربعة وخمسين يوما، والنّهابة من العبيد، ورجال الأسطول وغيرهم بهذه المنازل في طلب الخبايا، فلما وقع الحريق بمصر، رحل مري من بركة الحبش، ونزل بظاهر القاهرة، مما يلي باب البرقية، وقاتل أهلها قتالا كثيرا، حتى زلزلوا زلزالا شديدا، وضعفت نفوسهم، وكادوا يؤخذون عنوة، فعاد شاور إلى مقاتلة الفرنج، وجرت أمور آلت إلى الصلح على مال، فبينا هم في جبايته إذ بلغ الفرنج مجيء أسد الدين شيركوه بعساكر الشام من عند السلطان نور الدين محمود، فرحلوا في سابع ربيع الآخر إلى بلبيس، وساروا منها إلى فاقوس، فصاروا إلى بلادهم بالساحل، ونزل شيركوه بالمقس خارج القاهرة، وكان من قتل شاور، واستيلاء شيركوه على مصر ما كان، فمن حينئذ خربت مصر الفسطاط هذا الخراب الذي هو الآن: كيمان مصر، وتلاشى أمرها، وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم، وزالت نعمهم، فلما استبدّ شيركوه بوزارة العاضد، أمر بإحضار أعيان أهل مصر الذين خلوا عن ديارهم في الفتنة، وصاروا بالقاهرة، وتغمم لمصابهم وسفه رأي شاور في إحراق المدينة، وأمرهم بالعود إليها، فشكوا إليه ما بهم من الفقر والفاقة وخراب المنازل، وقالوا: إلى أيّ مكان نرجع؟ وفي أيّ مكان ننزل ونأوي؟
وقد صارت كما ترى، وبكوا وأبكوا، فوعدهم جميلا، وترفق بهم وأمر، فنودي في الناس بالرجوع إلى مصر، فتراجع إليها الناس قليلا وعمروا ما حول الجامع إلى أن كانت المحنة من الغلاء والوباء العظيم في سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب لسنتي خمس وخمسمائة فخرب من مصر جانب كبير، ثم تحايا الناس بها، وأكثروا من العمارة بجانب