المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر ما كانت عليه مدينة الفسطاط من كثرة العمارة - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - جـ ٢

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثانى

- ‌ذكر تاريخ الخليقة

- ‌ذكر ما قيل في مدّة أيام الدنيا ماضيها وباقيها

- ‌ذكر التواريخ التي كانت للأمم قبل تاريخ القبط

- ‌ذكر تاريخ القبط

- ‌ذكر أسابيع الأيام

- ‌ذكر أعياد القبط من النصارى بديار مصر

- ‌ذكر ما يوافق أيام الشهور القبطية من الأعمال في الزراعات، وزيادة النيل، وغير ذلك على ما نقله أهل مصر عن قدمائهم واعتمدوا عليه في أمورهم

- ‌ذكر تحويل السنة الخراجية القبطية إلى السنة الهلالية العربية

- ‌ذكر فسطاط مصر

- ‌ذكر ما كان عليه موضع الفسطاط قبل الإسلام إلى أن اختطه المسلمون مدينة

- ‌ذكر الحصن الذي يعرف بقصر الشمع

- ‌ذكر حصار المسلمين للقصر وفتح مصر

- ‌ذكر ما قيل في مصر هل فتحت بصلح أو عنوة

- ‌ذكر من شهد فتح مصر من الصحابة رضي الله عنهم

- ‌ذكر السبب في تسمية مدينة مصر بالفسطاط

- ‌ذكر الخطط التي كانت بمدينة الفسطاط

- ‌ذكر أمراء الفسطاط من حين فتحت مصر إلى أن بني العسكر

- ‌ذكر العسكر الذي بني بظاهر مدينة فسطاط مصر

- ‌ذكر من نزل العسكر من أمراء مصر من حين بني إلى أن بنيت القطائع

- ‌ذكر القطائع ودولة بني طولون

- ‌ذكر من ولي مصر من الأمراء بعد خراب القطائع إلى أن بنيت قاهرة المعز على يد القائد جوهر

- ‌ذكر ما كانت عليه مدينة الفسطاط من كثرة العمارة

- ‌ذكر الآثار الواردة في خراب مصر

- ‌ذكر خراب الفسطاط

- ‌ذكر ما قيل في مدينة فسطاط مصر

- ‌ذكر ما عليه مدينة مصر الآن وصفتها

- ‌ذكر ساحل النيل بمدينة مصر

- ‌ذكر المنشأة

- ‌ذكر أبواب مدينة مصر

- ‌ذكر القاهرة قاهرة المعز لدين الله

- ‌ذكر ما قيل في نسب الخلفاء الفاطميين بناة القاهرة

- ‌ذكر الخلفاء الفاطميين

- ‌ذكر ما كان عليه موضع القاهرة قبل وضعها

- ‌ذكر حدّ القاهرة

- ‌ذكر بناء القاهرة وما كانت عليه في الدولة الفاطمية

- ‌ذكر ما صارت إليه القاهرة بعد استيلاء الدولة الأيوبية عليها

- ‌ذكر طرف مما قيل في القاهرة ومنتزهاتها

- ‌ذكر ما قيل في مدّة بقاء القاهرة ووقت خرابها

- ‌ذكر مسالك القاهرة وشوارعها على ما هي عليه الآن

- ‌ذكر سور القاهرة

- ‌ذكر أبواب القاهرة

- ‌ باب زويلة

- ‌باب النصر

- ‌باب الفتوح

- ‌باب القنطرة

- ‌باب الشعرية

- ‌باب سعادة

- ‌الباب المحروق

- ‌باب البرقية

- ‌ذكر قصور الخلفاء ومناظرهم والإلماع بطرف من مآثرهم وما صارت إليه أحوالها من بعدهم

- ‌ القصر الكبير

- ‌كيفية سماط شهر رمضان بهذه القاعة

- ‌عمل سماط عيد الفطر بهذه القاعة

- ‌الإيوان الكبير

- ‌الدواوين

- ‌ديوان المجلس

- ‌ديوان النظر

- ‌ديوان التحقيق

- ‌ديوان الجيوش والرواتب

- ‌ديوان الإنشاء والمكاتبات

- ‌التوقيع بالقلم الدقيق في المظالم

- ‌التوقيع بالقلم الجليل

- ‌مجلس النظر في المظالم

- ‌رتب الأمراء

- ‌قاضي القضاة

- ‌قاعة الفضة

- ‌قاعة السدرة

- ‌قاعة الخيم

- ‌المناظر الثلاث

- ‌قصر الشوك

- ‌قصر أولاد الشيخ

- ‌قصر الزمرّد

- ‌الركن المخلق

- ‌السقيفة

- ‌دار الضرب

- ‌خزائن السلاح

- ‌المارستان العتيق

- ‌التربة المعزية

- ‌القصر النافعيّ

- ‌الخزائن التي كانت بالقصر

- ‌ خزانة الكتب

- ‌خزانة الكسوات

- ‌خزائن الجوهر والطيب والطرائف

- ‌خزائن الفرش والأمتعة

- ‌خزائن السلاح

- ‌خزائن السروج

- ‌خزائن الخيم

- ‌خزانة الشراب

- ‌خزانة التوابل

- ‌دار التعبية

- ‌خزانة الأدم

- ‌خزائن دار أفتكين

- ‌خزانة البنود

- ‌دار الفطرة

- ‌المشهد الحسينيّ

- ‌ما كان يعمل في يوم عاشوراء

- ‌ذكر أبواب القصر الكبير الشرقي

- ‌ذكر المنحر

- ‌ذكر دار الوزارة الكبرى

- ‌ذكر رتبة الوزارة، وهيئة خلعهم، ومقدار جاريهم، وما يتعلق بذلك

- ‌ذكر المناخ السعيد

- ‌ذكر اصطبل الطارمة

- ‌ذكر ما كان يضرب في خميس العدس من خراريب الذهب

- ‌ذكر دار الوكالة الآمرية

- ‌ذكر مصلى العيد

- ‌ذكر هيئة صلاة العيد وما يتعلق بها

- ‌ذكر القصر الصغير الغربي

- ‌أبواب القصر الغربيّ

- ‌ذكر دار العلم

- ‌ذكر دار الضيافة

- ‌ذكر اصطبل الحجريّة

- ‌ذكر مطبخ القصر

- ‌ذكر الدار المأمونية

- ‌ذكر المناظر التي كانت للخلفاء الفاطميين، ومواضع نزههم ما كان لهم فيها من أمور جميلة

- ‌ذكر ما كان يعمل يوم فتح الخليج

- ‌منازل العز

- ‌ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادا، ومواسم تتسع بها أحوال الرعية، وتكثر نعمهم

- ‌ذكر مذاهبهم في أوّل الشهور

- ‌ذكر النوروز

- ‌ذكر ما كان من أمر القصرين، والمناظر بعد زوال الدولة الفاطمية

الفصل: ‌ذكر ما كانت عليه مدينة الفسطاط من كثرة العمارة

‌ذكر ما كانت عليه مدينة الفسطاط من كثرة العمارة

قال ابن يونس عن الليث بن سعد: أن حكيم بن أبي راشد حدّثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنه وقف على جزار، فسأله عن السعر؟ فقال: بأربعة أفلس الرطل، فقال له أبو سلمة: هل لك أن تعطينا بهذا السعر ما بدا لنا وبدا لك؟ قال: نعم، فأخذ منه أبو سلمة، ومرّ في القصبة، حتى إذا أراد أن يوفيه، قال: بعثني بدينار، ثم قال: اصرفه فلوسا، ثم وفه.

وقال الشريف أبو عبد الله محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط: سمعت الأمير تأييد الدولة تميم بن محمد المعروف بالضمضام يقول: في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وحدّثني القاضي أبو الحسين عليّ بن الحسين الخلعيّ عن القاضي أبي عبد الله القضاعيّ قال: كان في مصر الفسطاط من المساجد، ستة وثلاثون ألف مسجد، وثمانية آلاف شارع مسلوك، وألف ومائة، وسبعون حماما، وإن حمام جنادة في القرافة ما كان يتوصل إليها إلّا بعد عناء من الزحام، وإن قبالتها في كل يوم جمعة خمسمائة درهم.

وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ في كتاب الخطط: إنه طلب لقطر الندى ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون ألف تكة بعشرة آلاف دينار من أثمان كل تكة بعشرة دنانير، فوجدت في السوق في أيسر وقت، وبأهون سعي، وذكر عن القاضي أبي عبيد: أنه لما صرف عن قضاء مصر كان في المودع مائة ألف دينار، وإنّ فائقا مولى أحمد بن طولون اشترى دارا بعشرين ألف دينار، وسلم الثمن إلى البائعين، وأجلهم شهرين، فلما انقضى الأجل سمع فائق صياحا عظيما وبكاء فسأل عن ذلك؟ فقيل: هم الذين باعوا الدار، فدعاهم وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: إنما نبكي على جوارك، فأطرق وأمر بالكتب، فردّت عليهم، ووهب لهم الثمن، وركب إلى أحمد بن طولون، فأخبره فاستصوب رأيه، واستحسن فعله.

ويقال: إنه كان لفائق ثلثمائة فرشة كل فرشة لحظية مثمنة، وإنّ دار الحرم بناها خمارويه لحرمه، وكان أبوه اشتراها له، فقام عليه الثمن وأجرة الصناع والبناء بسبعمائة ألف دينار، وإنّ عبد الله بن أحمد بن طباطبا الحسينيّ دخل الجامع، فلم يجد مكانا في الصفّ الأوّل، فوقف في الصف الثاني، فالتفت أبو حفص بن الجلاب، فلما رآه تأخر، وتقدّم الشريف مكانه، فكافأه على ذلك بنعمة حملها إليه، ودارا ابتاعها له، ونقل أهله إليها بعد أن كساهم وحلّاهم.

وذكر غير القضاعيّ: أنه دفع إليه خمسمائة دينار قال: ويقال: إنه أهدى إلى أبي جعفر الطحاويّ كتبا قيمتها ألف دينار، وإنّ رشيقا الإخشيديّ استحجبه أبو بكر محمد بن

ص: 149

عليّ المادرانيّ، فلما مضت عليه سنة رفع فيه أنه كسب عشرة آلاف دينار، فخاطبه في ذلك، فحلف بالإيمان الغليظة على بطلان ذلك، فأقسم أبو بكر المادرانيّ بمثل ما أقسم به لئن خرجت سنتنا هذه، ولم تكسب هذه الجملة لأصحبتني، ولم يزل في صحبته إلى أن صودر أبو بكر، فأخذ منه، ومن رشيق مال جزيل، وذكر: أن الحسن بن أبي المهاجر موسى بن إسماعيل بن عبد الحميد بن بحر بن سعد كان على البريد في زمن أحمد بن طولون، وقتله خمارويه، وسبب ذلك ما كان في نفس عليّ بن أحمد المادرانيّ منه، فأغرى خمارويه به، وقال: قد بقي لأبيك مال غير الذي ذكره في وصيته، ولم يقف عليه غير ابن مهاجر، فطالبه، فلم يزل خمارويه بابن مهاجر إلى أن وصف له موضع المال من دار خمارويه، فأخرج فكان مبلغه ألف ألف دينار، فسلمه إلى أحمد المادرانيّ، فحمله إلى داره، وأقبلت توقيعات خمارويه فأخرج، فكان مبلغه ألف ألف دنار، فسلمه أموال الضياع والمرافق، وحصلت له تلك الأموال، ولم يضع يده عليها إلى أن قتل، وصودر أبو بكر محمد بن عليّ في أيام الإخشيد، وقبضت ضياعه، فعاد إلى تلك الألف ألف دينار مع ما سواها من ذخائره وأعراضه وعقده، فما ظنك برجل ذخيرته ألف ألف دينار، سوى ما ذكر عن أبي بكر محمد بن عليّ المادرانيّ أنه قال: بعث إليّ أبو الجيش خمارويه أن أشتري له أردية وأقنعة للجواري، وعمل دعوة خلا فيها بنفسه وبهم، وغدوت متعرّفا لخبره، فقيل له: إنه طرب لما هو فيه، فنثر دنانير على الجواري والغلمان، وتقدّم إليهم أنّ ما سقط من ذلك في البركة، فهو لمحمد بن عليّ كاتبي، فلما حضرت، وبلغني ذلك أمرت الغلمان، فنزلوا في البركة، فأصعدوا إليّ منها سبعين ألف دينار، فما ظنك بمال نثر على أناس فتطاير منه إلى بركة ماء هذا المبلغ.

وقال ابن سعيد في كتاب المعرب في حل المغرب: وفي الفسطاط دار تعرف بعبد العزيز يصب فيها لمن بها في كل يوم أربعمائة راوية ماء، وحسبك من دار واحدة يحتاج أهلها في كل يوم إلى هذا القدر من الماء.

وقال ابن المتوّج في كتاب إيقاظ المتغفل واتعاظ المتأمّل عن ساحل مصر، ورأيت من نقل عمن نقل عمن رأى الأسطال التي كانت بالطاقات المطلة على النيل، وكان عددها ستة عشر ألف سطل مؤبدة ببكر، وأطناب بها ترخى وتملأ. أخبرني بذلك من أثقل بنقله، قال:

وكان بالفسطاط في جهته الشرقية حمام من بناء الروم عامرة زمن أحمد بن طولون. قال الراوي: دخلتها في زمن خمارويه بن أحمد بن طولون، وطلبت بها صانعا يخدمني، فلم أجد فيها صانعا متفرّغا لخدمتي، وقيل لي: إن كل صانع معه اثنان يخدمهم وثلاثة، فسألت كم فيها من صانع؟ فأخبرت: أنّ بها سبعين صانعا قلّ من معه دون ثلاثة، سوى من قضى حاجته، وخرج قال: فخرجت ولم أدخله لعدم من يخدمني بها، ثم طفت غيرها، فلم أقدر على من أجده فارغا إلّا بعد أربع حمامات، وكان الذي خدمني فيها نائبا، فانظر رحمك الله

ص: 150

ما اشتمل عليه هذا الخبر، مع ما ذكره القضاعيّ من عدد الحمامات، وأنها ألف ومائة وسبعون حماما، تعرف من ذلك كثرة ما كان بمصر من الناس، هذا والسعر راخ والقمح كل خمسة أرادب بدينار، وبيعت عشرة أرادب بدينار في زمن أحمد بن طولون.

قال ابن المتوّج: خطة مسجد عبد الله أدركت بها آثار دار عظيمة، قيل: إنها كانت دار كافور الإخشيديّ، ويقال: إن هذه الخطة تعرف بسوق العسكر، وكان به مسجد الزكاة، وقيل: إنه كان منه قصبة سوق متصلة إلى جامع أحمد بن طولون، وأخبرني بعض المشايخ العدول عن والده، وكان من أكابر الصلحاء أنه قال: عددت من مسجد عبد الله إلى جامع ابن طولون ثلثمائة وتسعين قدر حمص مصلوق بقصبة هذا السوق بالأرض، سوى المقاعد والحوانيت التي بها الحمص، فتأمّل أعزك الله ما في هذا الخبر مما يدل على عظمة مصر، فإن هذا السوق كان خارج مدينة الفسطاط، وموضعه اليوم الفضاء الذي بين كوم الجارح وبين جامع ابن طولون، ومن المعروف أن الأسواق التي تكون بداخل المدينة أعظم من الأسواق التي هي خارجها، ومع ذلك ففي هذا السوق من صنف واحد من المآكل هذا القدر، فكم ترى تكون جملة ما فيه من سائر أصناف المآكل، وقد كان إذ ذاك بمصر عشرة أسواق كلها أو أكثرها أجلّ من هذا السوق، قال: ودرب السفافير بني فيه زقاق بني الرصاص، كان به جماعة إذا عقد عندهم عقد لا يحتاجون إلى غريب، وكانوا هم وأولادهم نحوا من أربعين نفسا.

وقال ابن زولاق «1» في كتاب سيرة المادرانيين: ولما قدم الأستاذ مونس الخادم من بغداد إلى مصر استدعى أبو عليّ الحسين بن أحمد المادرانيّ المعروف بأبي زنبور الدقاق، وهو الذي نسميه اليوم الطحان، وقال: إن الأستاذ مؤنسا قد وافى، ولي بمشتول «2» قدر ستين ألف أردب قمحا، فإذا وافى، فقم له بالوظيفة، فكان يقوم له بما يحتاج إليه من دقيق حواري مدّة شهر، فلما كمل الشهر قال كاتب مونس للدقاق: كم لك حتى ندفعه إليك؟

فأعلمه الخبر، فقال: ما أحسب الأستاذ يرضى أن يكون في ضيافة أبي عليّ، وأعلم مونسا بذلك، فقال: أنا آكل خبز حسين؟! لا يبرح الرجل حتى يقبض ماله، فمضى الدقاق وعلم أبا زنبور، فقام من فوره إلى مونس، فأكب على رجليه، فاحتشم منه، وقال: والله لا أجيبك إلا هذا الشهر الذي مضى ولا تعاود، ثم رجع فقال الدقاق: قم له بالوظيفة في المستقبل واعمل ما يريده؟ قال: فجئته وقد فرغ القمح، ومعي الحساب، وأربعمائة دينار قال:

ص: 151

إيش هذا؟ فقلت: بقية ذلك القمح، فقال: أعفني منه وتركه، فتأمّل ما اشتمل عليه هذا الخبر من سعة حال كاتب من كتاب مصر، كيف كان له في قرية واحدة هذا القدر من صنف القمح، وكيف صار مما يفضل عنه، حتى يجعله ضيافة، وكيف لم يعبأ بأربعمائة دينار، حتى وهبها لدقاق قمح، وما ذاك إلا من كثرة المعاش، وقس عليه باقي الأحوال.

وقال عن أبي بكر محمد بن عليّ المادرانيّ: أنه حج اثنتين وعشرين حجة متوالية، أنفق في كل حجة مائة ألف دينار، وخمسين ألف دينار، وأنه كان يخرج معه بتسعين ناقعة لقبته التي يركبها، وأربعمائة لجهازه وميرته، ومعه المحامل فيها أحواض البقل، وأحواض الرياحين، وكلاب الصيد، وينفق على الأشراف، وأولاد الصحابة، ولهم عنده ديوان بأسمائهم، وأنه أنفق في خمس حجات أخر ألفي ألف دينار، ومائتي ألف دينار، وكانت جاريته تواصل معه الحج، ومعها لنفسها ثلاثون ناقة لقبتها، ومائة وخمسون عربيا لجهازها، وأحصى ما يعطيه كل شهر لحاشيته، وأهل الستر، وذوي الأقدار جراية من الدقيق الحواري، فكان بضعا وثمانين ألف رطل، وكان سنة القرمطيّ بمكة، فمن جملة ما ذهب له به مائتا قميص ديبقي ثمن كل ثوب منها خمسون دينارا، وقال مرّة: وهو في عطلته أخذ مني محمد بن طفج الإخشيد عينا وعرضا يبلغ نيفا وثمانين ويبة دنانير، فاستعظم من حضر ذلك، فقال ابنه الذي أخذ أكثر: وأنا أوقفه عليه، ثم قال لأبيه: يا مولاي أليس نكتب ثلاث مرّات؟ قال: قريب منها، قال: وعرض وعين؟ قال: كذلك، فأمر بعض الحساب بضبط ذلك، فجاء ما ينيف عن ثلاثين أردبا من ذهب؟! فانظر ما تضمنته أخبار المادرانيّ، وقس عليها بقية أحوال مصر، فما كان سوى كاتب الخراج، وهذه أمواله كما قد رأيت.

وقال الشريف الجوانيّ: إن أبا عبد الله محمد بن مفسر قاضي مصر سمع بأن المادرانيّ عمل في أيامه الكعك المحشوّ بالسكر، والقرص الصغار المسمى افطن له، فأمرهم بعمل الفستق الملبس بالسكر الأبيض الفانيد المطيب بالمسك، وعمل منه في أوّل الحال أشياء عوض لبه: لب ذهب في صحن واحد، فمضى عليه جملة، وخطف قدّامه تخاطفه الحاضرون، ولم يعد لعمله بل الفستق الملبس، وكان قد سمع في سيرة المادرانيين أنه عمل له هذا الإفطن له، وفي كل واحدة خمسة دنانير، ووقف أستاذ على السماط، فقال لأحد الجلساء: افطن له، وكان عمل على السماط عدّة صحون من ذلك الجنس، لكن ما فيه الدنانير صحن واحد، فلما رمز الأستاذ لذلك الرجل بقوله: افطن له، وأشار إلى الصحن تناول ذلك الرجل منه، فأصاب الذهب، واعتمد عليه، فحصل له جملة، ورآه الناس وهو إذا أكل يخرج من فمه، ويجمع بيده، ويحط في حجره، فتنبهوا له، وتزاحموا عليه فقيل لذلك من يومئذ: افطن له.

ص: 152

وقال أبو سعيد «1» عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر: حدّثني بعض أصحابنا بتفسير رؤيا رآها غلام ابن عقيل الخشاب عجيبة، فكانت حقا، كما فسرت، فسألت غلام ابن عقيل عنها؟ فقال لي: أنا أخبرك، كان أبي في سوق الخشابين فأنفق بضاعته، ورثت حاله وماله، فأسلمتني أمي إلى ابن عقيل، وكان صديقا لأبي، فكنت أخدمه، وأفتح حانوته وأكنسها، ثم أفرش ما يجلس عليه، فكان يجري عليّ رزقا أتقوّت به، فأتى يوما في الحانوت، وقد جلس أستاذي ابن عقيل، فجاء ابن العسال مع رجل من أهل الريف يطلب عود خشب لطاحونة، فاشترى من ابن عقيل عود طاحونة بخمسة دنانير، فسمعت قوما من أهل السوق يقولون: هذا ابن العسال المفسر للرؤيا عند ابن عقيل، فجاء منهم قوم، وقصوا عليه منامات رأوها، ففسرها لهم، فذكرت رؤيا رأيتها في ليلتي، فقلت له: إني رأيت البارحة في نومي كذا وكذا، فقصصت عليه الرؤيا، فقال لي: أيّ وقت رأيتها من الليل، فقلت: انتبهت بعد رؤياي في وقت كذا، فقال لي: هذه رؤيا لست أفسرها إلّا بدنانير كثيرة، فألححت عليه، فقال أستاذي ابن عقيل: إن قرّبت علينا وزنت أنا لك ذلك من عندي، فلم يزل به ينزله، حتى قال: والله لا آخذ أقل من ثمن العود الخشب خمسة دنانير، فقال له ابن عقيل: إن صحت الرؤيا دفعت إليك العود بلا ثمن، فقال له: يأخذ مثل هذا اليوم ألف دينار، قال أستاذي: فإذا لم يصح هذا، فقال: يكون العود عندك إلى مثل هذا اليوم، فإن كان لم يصح أخذ ما قلت له في ذلك اليوم، فليس لي عندك شيء، ولا أفسر رؤيا أبدا، فقال له أستاذي: قد أنصفت ومضت الجمعة، فلما كان مثل ذلك اليوم غدوت مثل ما كنت أغدو إلى دكان أستاذي، ففتحتها ورششتها، واستلقيت على ظهري أفكر فيما قال لي، ومن أين يمكن أن يصير إليّ ألف دينار، فقلت: لعل سقف المكان ينفرج، فيسقط منه هذا المال، وجعلت أجيل فكري، وإني كذلك إلى ضحى إذ وقف عليّ جماعة من أعوان الخراج معهم ناس، فقالوا: هذه دكان ابن عقيل؟ ثم قالوا لي: قم، فقلت لهم:

لست ابن عقيل، أنا غلامه، فقالوا: بل أنت ابنه، وجبذوني، فأخرجوني من الدكان، فقلت: إلى أين؟ فقالوا: إلى ديوان الأستاذ أبي عليّ الحسين بن أحمد يعنون أبا زنبور، فقلت: وما يصنع بي؟ فقالوا: إذا جئت سمعت كلامه، وما يريده منك، وكنت بعقب علة ضعيف البدن، فقلت: ما أقدر أمشي، فقالوا: اكتر حمارا تركبه، ولم يكن معي ما أكتري به حمارا، فنزعت تكة سراويلي من وسطي، ودفعتها على درهمين لمن أكراني الحمار، ومضيت معهم، فجاءوا بي إلى دار أبي زنبور، فلما دخلت قال لي: أنت ابن عقيل؟

فقلت: لا يا سيدي، أنا غلام في حانوته، قال،: أفليس تبصر قيمة الخشب؟ قلت: بلى، قال: فاذهب مع هؤلاء، فقوّم لنا هذا الخشب، فانظر بحيث لا يزيد ولا ينقص، فمضيت

ص: 153

معهم، فجاءوا بي إلى شط البحر إلى خشب كثير من أثل وسنط جاف، وغير ذلك مما يصلح لبناء المراكب، فقوّمته تقويم جزع، حتى بلغت قيمته ألفي دينار، فقالوا لي: انظر هذا الموضع الآخر فيه من الخشب أيضا، فنظرت فإذا هو أكثر مما قوّمت بنحو مرّتين فأعجلوني، ولم أضبط قيمة الخشب، فردّوني إلى أبي زنبور، فقال لي: قوّمت الخشب كما أمرتك؟ ففزعت، فقلت: نعم، فقال: هات كم قوّمته، فقلت: ألفا دينار، فقال: انظر لا تغلط، فقلت: هو قيمته عندي، فقال لي: فخذه أنت بألفي دينار، فقلت: أنا فقير لا أملك دينارا واحدا، فكيف لي بقيمته، قال: ألست تحسن تدبيره وتبيعه؟ فقلت: بلى، قال:

فدبره وبعه ونحن نصبر عليك بالثمن إلى أن تبيع شيئا شيئا، وتؤدّي ثمنه، فقلت: أفعل، فأمر بكتاب يكتب عليّ في الديوان بالمال، فكتب عليّ، ورجعت إلى الشط أعرف عدد الخشب، وأوصي به الحرّاس، فوافيت جماعة أهل سوقنا، وشيوخهم قد أتوا إلى موضع الخشب، فقالوا لي: إيش صنعت؟ قوّمت الخشب؟ قلت: نعم، قالوا: بكم قوّمته؟ فقلت:

بألفي دينار، فقالوا لي: وأنت تحسن تقوّم؟ لا يساوي هذا هذه القيمة، فقلت لهم: قد كتب عليّ كتاب في الديوان، وهو عندي يساوي أضعاف هذا، فقالوا لي: اسكت لا يسمعك أحد، وكانوا قد قوّموه قبلي لأبي زنبور بألف دينار، فقال بعضهم لبعض: أعطوا هذا ربحه، وتسلموه أنتم، فقال قائل: أعطوه ربحه خمسمائة دينار، فقلت: لا والله لا آخذ، فقالوا: قد رأى رؤيا، فزيدوه، فقلت: لا والله لا آخذ أقلّ من ألف دينار، قالوا: فلك ألف دينار، فحوّل اسمك من الديوان نعطك إذا بعنا ألف دينار، فقلت: لا والله لا أفعل حتى آخذ الألف دينار في وقتي هذا، فمضوا إلى حوانيتهم، وإلى منازلهم حتى جاءوني بألف دينار، فقلت: لا آخذها إلا بنقد الصيرفيّ وميزانه، فمضيت معهم إلى صيرفيّ الناحية، حتى وزنوا عنده الألف دينار، ونقدتها وأخذتها فشددتها في طرف رداءي، فمضيت معهم إلى الديوان، وحوّلت أسماءهم مكان اسمي، ووفوا حتى الديوان من عندهم، ورجعت وقت الظهر إلى أستاذي، فقال لي: قبضت ألف دينار منهم؟ فقلت: نعم ببركتك، وتركت الدنانير بين يديه، وقلت له: يا أستاذ خذ ثمن العود الخشب، فقال: لا والله لا آخذ منك شيئا أنت عندي مقام ابني، وجاء في الوقت ابن العسال، فدفع إليه أستاذي العود الخشب، فمضى، فهذا خبر رؤياي وتفسيرها، فتأمّل أعزك الله ما يشتمل عليه من عظم ما كانت عليه مصر، وسعة حال الديوان، وكيف فضل فيه خشب يساوي آلافا من الذهب، ونحن اليوم في زمن إذا احتيج فيه إلى عمارة شيء من الأماكن السلطانية بخشب أو غيره أخذ من الناس إما بغير ثمن أو بأخس القيم، مع ما يصيب مالكه من الخوف والخسارة للأعوان، وكيف لما قوّم هذا الخشب لم يكلف المشتري دفع المال في الحال، وفي زمننا إذا طرحت البضاعة السلطانية على الباعة يكلفون حمل ثمنها بالسرعة، حتى أنّ فيهم من يبيعها بأقلّ من نصف ما اشتراها به، ويكمل الثمن إمّا من ماله، أو يقترضه بربح، وكيف لما علم أهل السوق أن الخشب بيع بدون القيمة

ص: 154