المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فيجلسون على السماط كقيامهم بين يديه، فيأكل من أراد من - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - جـ ٢

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثانى

- ‌ذكر تاريخ الخليقة

- ‌ذكر ما قيل في مدّة أيام الدنيا ماضيها وباقيها

- ‌ذكر التواريخ التي كانت للأمم قبل تاريخ القبط

- ‌ذكر تاريخ القبط

- ‌ذكر أسابيع الأيام

- ‌ذكر أعياد القبط من النصارى بديار مصر

- ‌ذكر ما يوافق أيام الشهور القبطية من الأعمال في الزراعات، وزيادة النيل، وغير ذلك على ما نقله أهل مصر عن قدمائهم واعتمدوا عليه في أمورهم

- ‌ذكر تحويل السنة الخراجية القبطية إلى السنة الهلالية العربية

- ‌ذكر فسطاط مصر

- ‌ذكر ما كان عليه موضع الفسطاط قبل الإسلام إلى أن اختطه المسلمون مدينة

- ‌ذكر الحصن الذي يعرف بقصر الشمع

- ‌ذكر حصار المسلمين للقصر وفتح مصر

- ‌ذكر ما قيل في مصر هل فتحت بصلح أو عنوة

- ‌ذكر من شهد فتح مصر من الصحابة رضي الله عنهم

- ‌ذكر السبب في تسمية مدينة مصر بالفسطاط

- ‌ذكر الخطط التي كانت بمدينة الفسطاط

- ‌ذكر أمراء الفسطاط من حين فتحت مصر إلى أن بني العسكر

- ‌ذكر العسكر الذي بني بظاهر مدينة فسطاط مصر

- ‌ذكر من نزل العسكر من أمراء مصر من حين بني إلى أن بنيت القطائع

- ‌ذكر القطائع ودولة بني طولون

- ‌ذكر من ولي مصر من الأمراء بعد خراب القطائع إلى أن بنيت قاهرة المعز على يد القائد جوهر

- ‌ذكر ما كانت عليه مدينة الفسطاط من كثرة العمارة

- ‌ذكر الآثار الواردة في خراب مصر

- ‌ذكر خراب الفسطاط

- ‌ذكر ما قيل في مدينة فسطاط مصر

- ‌ذكر ما عليه مدينة مصر الآن وصفتها

- ‌ذكر ساحل النيل بمدينة مصر

- ‌ذكر المنشأة

- ‌ذكر أبواب مدينة مصر

- ‌ذكر القاهرة قاهرة المعز لدين الله

- ‌ذكر ما قيل في نسب الخلفاء الفاطميين بناة القاهرة

- ‌ذكر الخلفاء الفاطميين

- ‌ذكر ما كان عليه موضع القاهرة قبل وضعها

- ‌ذكر حدّ القاهرة

- ‌ذكر بناء القاهرة وما كانت عليه في الدولة الفاطمية

- ‌ذكر ما صارت إليه القاهرة بعد استيلاء الدولة الأيوبية عليها

- ‌ذكر طرف مما قيل في القاهرة ومنتزهاتها

- ‌ذكر ما قيل في مدّة بقاء القاهرة ووقت خرابها

- ‌ذكر مسالك القاهرة وشوارعها على ما هي عليه الآن

- ‌ذكر سور القاهرة

- ‌ذكر أبواب القاهرة

- ‌ باب زويلة

- ‌باب النصر

- ‌باب الفتوح

- ‌باب القنطرة

- ‌باب الشعرية

- ‌باب سعادة

- ‌الباب المحروق

- ‌باب البرقية

- ‌ذكر قصور الخلفاء ومناظرهم والإلماع بطرف من مآثرهم وما صارت إليه أحوالها من بعدهم

- ‌ القصر الكبير

- ‌كيفية سماط شهر رمضان بهذه القاعة

- ‌عمل سماط عيد الفطر بهذه القاعة

- ‌الإيوان الكبير

- ‌الدواوين

- ‌ديوان المجلس

- ‌ديوان النظر

- ‌ديوان التحقيق

- ‌ديوان الجيوش والرواتب

- ‌ديوان الإنشاء والمكاتبات

- ‌التوقيع بالقلم الدقيق في المظالم

- ‌التوقيع بالقلم الجليل

- ‌مجلس النظر في المظالم

- ‌رتب الأمراء

- ‌قاضي القضاة

- ‌قاعة الفضة

- ‌قاعة السدرة

- ‌قاعة الخيم

- ‌المناظر الثلاث

- ‌قصر الشوك

- ‌قصر أولاد الشيخ

- ‌قصر الزمرّد

- ‌الركن المخلق

- ‌السقيفة

- ‌دار الضرب

- ‌خزائن السلاح

- ‌المارستان العتيق

- ‌التربة المعزية

- ‌القصر النافعيّ

- ‌الخزائن التي كانت بالقصر

- ‌ خزانة الكتب

- ‌خزانة الكسوات

- ‌خزائن الجوهر والطيب والطرائف

- ‌خزائن الفرش والأمتعة

- ‌خزائن السلاح

- ‌خزائن السروج

- ‌خزائن الخيم

- ‌خزانة الشراب

- ‌خزانة التوابل

- ‌دار التعبية

- ‌خزانة الأدم

- ‌خزائن دار أفتكين

- ‌خزانة البنود

- ‌دار الفطرة

- ‌المشهد الحسينيّ

- ‌ما كان يعمل في يوم عاشوراء

- ‌ذكر أبواب القصر الكبير الشرقي

- ‌ذكر المنحر

- ‌ذكر دار الوزارة الكبرى

- ‌ذكر رتبة الوزارة، وهيئة خلعهم، ومقدار جاريهم، وما يتعلق بذلك

- ‌ذكر المناخ السعيد

- ‌ذكر اصطبل الطارمة

- ‌ذكر ما كان يضرب في خميس العدس من خراريب الذهب

- ‌ذكر دار الوكالة الآمرية

- ‌ذكر مصلى العيد

- ‌ذكر هيئة صلاة العيد وما يتعلق بها

- ‌ذكر القصر الصغير الغربي

- ‌أبواب القصر الغربيّ

- ‌ذكر دار العلم

- ‌ذكر دار الضيافة

- ‌ذكر اصطبل الحجريّة

- ‌ذكر مطبخ القصر

- ‌ذكر الدار المأمونية

- ‌ذكر المناظر التي كانت للخلفاء الفاطميين، ومواضع نزههم ما كان لهم فيها من أمور جميلة

- ‌ذكر ما كان يعمل يوم فتح الخليج

- ‌منازل العز

- ‌ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادا، ومواسم تتسع بها أحوال الرعية، وتكثر نعمهم

- ‌ذكر مذاهبهم في أوّل الشهور

- ‌ذكر النوروز

- ‌ذكر ما كان من أمر القصرين، والمناظر بعد زوال الدولة الفاطمية

الفصل: فيجلسون على السماط كقيامهم بين يديه، فيأكل من أراد من

فيجلسون على السماط كقيامهم بين يديه، فيأكل من أراد من غير إلزام، فإنّ في الحاضرين من لا يعتقد الفطر في ذلك اليوم، فيستولي على ذلك المعمول الآكلون، وينقل إلى دار أرباب الرسوم، ويباح فلا يبقى منه إلا السماط فقط، فيعم أهل القاهرة ومصر من ذلك نصيب وافر، فإذا انقضى ذلك عند صلاة الظهر، انفض الناس، وخرج الوزير إلى داره مخدوما بالجماعة الحاضرين، وقد عمل سماطا لأهله وحواشيه، ومن يعز عليه لا يلحق بأيسر يسير من سماط الخليفة، وعلى هذا العمل يكون سماط عيد النحر أوّل يوم منه، وركوبه إلى المصلى، كما ذكرنا، ولا يخرج عن هذا المنوال ولا ينقص عن هذا المثال، ويكون الناس كلهم مفطرين، ولا يفوت أحدا منهم شيء، كما ذكرنا في عيد الفطر.

قال: ومبلغ ما ينفق في سماطي الفطر، والأضحى أربعة آلاف دينار، وكان يجلس على أسمطة الأعياد في كل سنة رجلان من الأجناد يقال لأحدهما: ابن فائز، والآخر الديلميّ يأكل كل واحد منهما خروفا مشويا، وعشر دجاجات محلاة، وجام حلوى عشرة أرطال، ولهما رسوم تحمل إليهما بعد ذلك من الأسمطة لبيوتهما ودنانير وافرة على حكم الهبة، وكان أحدهما أسر بعسقلان في تجريدة جرّد إليها، وأقام مدّة في الأسر فاتفق أنه كان عندهم عجل سمين فيه عدّة قناطير لحم، فقال له الذي أسره وهو يداعبه: إن أكلت هذا العجل أعتقتك، ثم ذبحه، وسوّى لحمه، وأطعمه حتى أتى على جميعه، فوفى له وأعتقه، فقدم على أهله بالقاهرة، ورأيته يأكل على السماط.

‌الإيوان الكبير

قال القاضي الرئيس محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر الروحي الكاتب في كتاب الروضة البهية الزهراء في خطط المعزية القاهرة، الإيوان الكبير بناه العزيز بالله أبو منصور نزار بن المعز لدين الله معدّ في سنة تسع وستين وثلثمائة، انتهى.

وكان الخلفاء أولا يجلسون به في يومي الاثنين والخميس إلى أن نقل الخليفة الآمر بأحكام الله الجلوس منه في اليومين المذكورين إلى قاعة الذهب كما تقدّم، وبصدر هذا الإيوان كان الشباك الذي يجلس فيه الخليفة، وكان يعلو هذا الشباك قبة، وفي هذا الإيوان، كان يمدّ سماط الفطرة بكرة يوم عيد الفطر كما تقدّم به، وبه أيضا كان يعمل الاجتماع، والخطبة في يوم عيد الغدير، وكان بجانب هذا الإيوان الدواوين، وكان بهذا الإيوان ضلعا سمكة إذا أقيما واريا الفارس بفرسه، ولم يزالا حتى بعثهما السلطان صلاح الدين يوسف إلى بغداد في هدية.

عيد الغدير «1» : إعلم أن عيد الغدير لم يكن عيدا مشروعا، ولا عمله أحد من سالف

ص: 254

الأمّة المقتدى بهم، وأوّل ما عرف في الإسلام بالعراق أيام معز الدولة عليّ بن بويه، فإنه أحدثه في سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدا، وأصلهم فيه، ما خرّجه الإمام أحمد في مسنده الكبير من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر لنا، فنزلنا بغدير خم، ونودي الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين، فصلى الظهر، وأخذ بيد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال:«ألستم أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» .

قال: فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة.

وغدير خم: على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة الطريق، وتصب فيه عين، وحوله شجر كثير، ومن سنتهم في هذا العيد، هو أبدا يوم الثامن عشر من ذي الحجة أن يحيوا ليلته بالصلاة، ويصلوا في صبيحته ركعتين قبل الزوال، ويلبسوا فيه الجديد، ويعتقوا الرقاب، ويكثروا من عمل البرّ، ومن الذبائح، ولما عمل الشيعة هذا العيد بالعراق أرادت عوامّ السنية مضاهاة فعلهم، ونكايتهم، فاتخذوا في سنة تسع وثمانين وثلثمائة بعد عيد الغدير بثمانية أيام عيدا، أكثروا فيه من السرور واللهو، وقالوا: هذا يوم دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار هو وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، وبالغوا في هذا اليوم في إظهار الزينة، ونصب القباب، وإيقاد النيران، ولهم في ذلك أعمال مذكورة في أخبار بغداد

وقال ابن زولاق: وفي يوم ثمانية عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وهو يوم الغدير: تجمع خلق من أهل مصر والمغاربة، ومن تبعهم للدعاء لأنه يوم عيد، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فيه، واستخلفه، فأعجب المعز ذلك من فعلهم، وكان هذا أوّل ما عمل بمصر.

قال المسبحيّ، وفي يوم الغدير، وهو ثامن عشر ذي الحجة اجتمع الناس بجامع القاهرة والقرّاء والفقهاء، والمنشدون، فكان جمعا عظيما أقاموا إلى الظهر، ثم خرجوا إلى القصر، فخرجت إليهم الجائزة، وذكر أن الحاكم بأمر الله، كان قد منع من عمل عيد الغدير، قال ابن الطوير: إذا كان العشر الأوسط من ذي الحجة اهتمّ الأمراء، والأجناد بركوب عيد الغدير، وهو في الثامن عشر منه، وفيه خطبة وركوب الخليفة بغير مظلمة، ولا

ص: 255

سمة، ولا خروج عن القاهرة، ولا يخرج لأحد شيء، فإذا كان ذلك اليوم ركب الوزير بالاستدعاء الجاري به العادة، فيدخل القصر، وفي دخوله بروز الخليفة لركوبه من الكرسيّ على عادته، فيخدم ويخرج ويركب من مكانه من الدهليز، ويخرج فيقف قبالة باب القصر، ويكون ظهره إلى دار فخر الدين جهاركس اليوم، ثم يخرج الخليفة راكبا أيضا، فيقف في الباب، ويقال له: القوس، وحواليه الأستاذون المحنكون رجالة، ومن الأمراء المطوّقين من يأمره الوزير بإشارة خدمة الخليفة على خدمته، ثم يجوز زيّ كل من له زيّ على مقدار همته، فأوّل ما يجوز زيّ الخليفة، وهو الظاهر في ركوبه، فتجد الجنائب الخاص التي قدّمنا ذكرها أوّلا، ثم زيّ الأمراء المطوّقين لأنهم غلمانه واحدا فواحدا بعددهم، وأسلحتهم، وجنائبهم إلى آخر أرباب القصب والعماريات، ثم طوائف العسكر أزمّتها أمامها، وأولادهم مكانهم لأنهم في خدمة الخليفة وقوف بالباب طائفة طائفة، فيكونون أكثر عددا من خمسة آلاف فارس، ثم المترجلة الرماة بالقسيّ بالأيدي والأرجل، وتكون عدّتهم قريبا من ألف، ثم الراجل من الطوائف الذين قدّمنا ذكرهم في الركوب، فتكون عدّتهم قريبا من سبعة آلاف كل منهم بزمام وبنود ورايات وغيرها، بترتيب مليح مستحسن، ثم يأتي زيّ الوزير مع ولده، أو أحد أقاربه، وفيه جماعته وحاشيته في جمع عظيم، وهيئة هائلة، ثم زيّ صاحب الباب، وهم أصحابه وأجناده، ونوّاب الباب، وسائر الحجاب، ثم يأتي زيّ اسفهسلار العساكر بأصحابه، وأجناده في عدّة وافرة، ثم يأتي زيّ والي القاهرة، وزيّ والي مصر، فإذا فرغا خرج الخليفة من الباب والوقوف بين يديه مشاة في ركابه خارجا عن صبيان ركابه الخاص، فإذا وصل إلى باب الزهومة بالقصر، انعطف على يساره داخلا من الدرب هناك جائزا على الخوخ «1» ، فإذا وصل إلى باب الديلم الذي داخله المشهد الحسينيّ، فيجد في دهليز ذلك الباب: قاضي القضاة والشهود، فإذا وازاهم خرجوا للخدمة والسلام عليه، فيسلم القاضي كما ذكرنا من تقبيل رجله الواحدة التي تليه، والشهود أمام رأس الدابة بمقدار قصبة، ثم يعودون ويدخلون من ذلك الدهليز إلى الإيوان الكبير، وقد علق عليه الستور القرقوبية جميعه على سعته، وغير القرقوبية سترا فسترا، ثم يعلق بدائرة على سعته ثلاث صفوف: الأوسط طوارق فارسيات مدهونة، والأعلى والأسفل درق، وقد نصب فيه كرسيّ الدعوة، وفيه تسع درجات لخطابة الخطيب في هذا العيد، فيجلس القاضي والشهود تحته، والعالم من الأمراء، والأجناد، والمتشيعين، ومن يرى هذا الرأي من الأكابر والأصاغر، فيدخل الخليفة من باب العيد إلى الإيوان إلى باب الملك، فيجلس بالشباك، وهو ينظر القوم، ويخدمه الوزير عندما ينزل، ويأتي هو ومن معه، فيجلس بمفرده على يسار منبر الخطيب، ويكون قد سير لخطيبه بدلة حرير يخطب فيها، وثلاثون دينارا، ويدفع له كرّاس

ص: 256

محرّر من ديوان الإنشاء يتضمن نص الخلافة من النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورضي عنه بزعمهم، فإذا فرغ ونزل صلى قاضي القضاة بالناس ركعتين، فإذا قضيت الصلاة، قام الوزير إلى الشباك، فيخدم الخليفة، وينفض الناس بعد التهاني من الإسماعيلية بعضهم بعضا، وهو عندهم أعظم من عيد النحر، وينحر فيه أكثرهم.

قال: وكان الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد: لما سلم من يد أبي عليّ بن الأفضل الملقب كتيفات، لما وزر له، وخرج عليه عمل عيدا في ذلك اليوم، وهو السادس عشر من المحرّم من غير ركوب، ولا حركة بل إنّ الإيوان باق على فرشه، وتعليقه من يوم الغدير، فيفرش المجلس المحوّل اليوم في الإيوان الذي بابه خورنق.

وكان يقابل الإيوان الكبير الذي هو اليوم: خزائن السلاح، بأحسن فرش، وينصب له مرتبة هائلة قريبا من باذهنجه، فيجتمع أرباب الدولة سيفا وقلما، ويحضرون إلى الإيوان إلى باب الملك المجاور للشباك، فيخرج الخليفة راكبا إلى المجلس، فيترجل على بابه، وبين يديه الخواص، فيجلس على المرتبة، ويقفون بين يديه صفين إلى باب المجلس، ثم يجعل قدّامه كرسيّ الدعوة، وعليه غشاء قرقوبيّ، وحواليه الأمراء الأعيان، وأرباب الرتب، فيصعد قاضي القضاة، ويخرج من كمه كراسة مسطحة تتضمن فصولا، كالفرج بعد الشدّة بنظم مليح، يذكر فيه كل من أصابه من الأنبياء والصالحين والملوك شدّة، وفرّج الله عنه واحدا فواحدا، حتى يصل إلى الحافظ، وتكون هذه الكراسة محمولة من ديوان الإنشاء، فإذا تكاملت قراءتها، نزل عن المنبر، ودخل إلى الخليفة، ولا يكون عنده من الثياب أجلّ مما لبسه، ويكون قد حمل إلى القاضي قبل خطابته بدلة مميزة يلبسها للخطابة، ويوصل إليه بعد الخطابة خمسون دينارا.

وقال الأمير جمال الدين أبو عليّ موسى بن المأمون أبي عبد الله محمد بن فاتك بن مختار الطائحيّ في تاريخه، واستهل عيد الغدير يعني من سنة ست عشرة وخمسمائة، وهاجر إلى باب الأجل يعني الوزير المأمون البطائحي الضعفاء والمساكين من البلاد، ومن انضمّ إليهم من العوالي، والأدوان على عادتهم في طلب الحلال، وتزويج الأيامى، وصار موسما يرصده كل أحد، ويرتقبه كل غنيّ وفقير، فجرى في معروفه على رسمه، وبالغ الشعراء في مدحه بذلك، ووصلت كسوة العيد المذكور، فحمل ما يختص بالخليفة والوزير، وأمر بتفرقة ما يختص بأزمّة العساكر فارسها وراجلها من عين وكسوة، ومبلغ ما يختص بهم من العين سبعمائة وتسعون دينارا، ومن الكسوات مائة وأربع وأربعون قطعة، والهيئة المختصة بهذا العيد، برسم كبراء الدولة، وشيوخها وأمرائها وضيوفها، والأستاذين المحنكين والمميزين منهم خارجا عن أولاد الوزير وإخوته، ويفرّق من مال الوزير بعد الخلع عليه ألفان وخمسمائة دينار وثمانون دينارا، وأمر بتعليق جميع أبواب القصور،

ص: 257

وتفرقة المؤذنين بالجوامع والمساجد عليها، وتقدّم بأن تكون الأسمطة بقاعة الذهب على حكم سماط أوّل يوم من عيد النحر، وفي باكر هذا اليوم توجه الخليفة إلى الميدان، وذبح ما جرت به العادة، وذبح الجزارون بعده مثل عدد الكباش المذبوحة في عيد النحر، وأمر بتفرقة ذلك للخصوص دون العموم، وجلس الخليفة في المنظرة وخدمت الرهجية «1» .

وتقدّم الوزير والأمراء، وسلموا، فلما حان وقت الصلاة والمؤذنون على أبواب القصر يكبرون تكبير العيد إلى أن دخل الوزير، فوجد الخطيب على المنبر قد فرغ، فتقدّم القاضي أبو الحجاج يوسف بن أيوب فصلى به وبالجماعة صلاة العيد، وطلع الشريف بن أنس الدولة، وخطب خطبة العيد، ثم توجه الوزير إلى باب الملك، فوجد الخليفة قد جلس قاصدا للقائه، قد ضربت المقدّمة، فأمره بالمضيّ إليها، وخلع عليه خلعة مكملة من بدلات النحر وثوبها أحمر بالشدّة الدائمية، وقلده سيفا مرصعا بالياقوت والجواهر، وعندما نهض ليقبل الأرض وجده قد أعدّ له العقد الجوهر، وربطه في عنقه بيده، وبالغ في إكرامه، وخرج من باب الملك فتلقاه المقرّبون، وسارع الناس إلى خدمته، وخرج من باب العيد وأولاده وإخوته والأمراء المميزون بحجبه، وخدمت الرهجية، وضربت العربية والموكب جميعه بزيه، وقد اصطفت العساكر، وتقدّم إلى ولده بالجلوس على أسمطته وتفرّقتها برسومها، وتوجه إلى القصر، واستفتح المقرئون، فسلم الحاضرون، وجرى الرسم في السماط الأوّل والثاني، وتفرقة الرسوم والموائد على حكم أوّل يوم من عيد النحر، وتوجه الخليفة بعد ذلك إلى السماط الثالث الخاص بالدار الجليلة لأقاربه وجلسائه.

ولما انقضى حكم التعييد جلس الوزير في مجلسه، واستفتح المقرئون، وحضر الكبراء وبياض البلدين لتهنىء بالعيد والخلع، وخرج الرسم، وتقدّم الشعراء، فأنشدوا وشرحوا الحال، وحضر متولي خزائن الكسوة الخاص بالثياب التي كانت على المأمون قبل الخلع، وقبضوا الرسم الجاري به العادة، وهو مائة دينار، وحضر متولي بيت المال، وصحبته صندوق فيه خمسة آلاف دينار برسم فكاك العقد الجوهر والسيف المرصع، فأمر الوزير المأمون الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة: كاتب الدست الشريف بكتب مطالعة إلى الخليفة بما حمل إليه من المال برسم منديل الكم، وهو ألف دينار، ورسم الأخوة والأقارب ألف دينار، وتسلم متولي الدولة بقية المال ليفرّق على الأمراء المطوّقين والمميزين والضيوف والمستخدمين.

المحول: قال ابن عبد الظاهر: المحول هو مجلس الداعي «2» ، ويدخل إليه من باب

ص: 258

الريح، وبابه من باب البحر، ويعرف بقصر البحر، وكان في أوقات الاجتماع يصلي الداعي بالناس في رواقه.

وقال المسبحيّ: وفي ربيع الأوّل يعني من سنة خمس وثمانين وثلثمائة، جلس القاضي محمد بن النعمان على كرسيّ بالقصر لقراءة علوم آل البيت على الرسم المعتاد المتقدّم له ولأخيه بمصر، ولأبيه بالمغرب، فمات في الزحمة أحد عشر رجلا، فكفنهم العزيز بالله، وقال ابن الطوير: وأما داعي الدعاة فإنه يلي قاضي القضاة في الرتبة، ويتزيا بزيه في اللباس وغيره، ووصفه أنه يكون عالما بجميع مذاهب أهل البيت يقرأ عليه، ويأخذ العهد على من ينتقل من مذهبه إلى مذهبهم، وبين يديه من نقباء المعلمين اثنا عشر نقيبا، وله نوّاب كنوّاب الحكم في سائر البلاد، ويحضر إليه فقهاء الدولة، ولهم مكان يقال له:

دار العلم «1» ، ولجماعة منهم على التصدير بها أرزاق واسعة، وكان الفقهاء منهم يتفقون على دفتر يقال له: مجلس الحكمة في كل يوم اثنين وخميس، ويحضر مبيضا إلى داعي الدعاة فينفذه إليهم، ويأخذه منهم، ويدخل به إلى الخليفة في هذين اليومين المذكورين، فيتلوه عليه إن أمكن، ويأخذ علامته بظاهره، ويجلس بالقصر لتلاوته على المؤمنين في مكانين للرجال على كرسيّ الدعوة بالإيوان الكبير، وللنساء بمجلس الداعي، وكان من أعظم المباني وأوسعها.

فإذا فرغ من تلاوته على المؤمنين والمؤمنات حضروا إليه، لتقبيل يديه، فيمسح على رؤوسهم بمكان العلامة، أعني خط الخليفة، وله أخذ النجوى من المؤمنين بالقاهرة ومصر وأعمالهما، لا سيما الصعيد، ومبلغها ثلاثة دراهم وثلث، فيجتمع من ذلك شيء كثير يحمله إلى الخليفة بيده بينه، وبينه، وأمانته في ذلك مع الله تعالى، فيفرض له الخليفة منه ما يعينه لنفسه وللنقباء، وفي الإسماعيلية المموّلين من يحمل ثلاثة وثلاثين دينارا وثلثي دينار على حكم النجوى، وصحبة ذلك رقعة مكتوبة باسمه، فيتميز في المحول فيخرج له عليها خط الخليفة بارك الله فيك، وفي مالك وولدك ودينك، فيدّخر ذلك، ويتفاخر به، وكانت هذه الخدمة متعلقة بقوم يقال لهم: بنو عبد القويّ أبا عن جدّ آخرهم الجليس، وكان الأفضل بن أمير الجيوش نفاهم إلى المغرب، فولد الجليس بالمغرب، وربي به، وكان يميل إلى مذهب أهل السنة، وولي القضاء مع الدعوة، وأدركه أسد الدين شيركوه، وأكرمه وجعله واسطة عند الخليفة العاضد، وكان قد حجر على العاضد ولولاه لم يبق في الخزائن شيء لكرمه، وكأنه علم أنه آخر الخلفاء.

ص: 259

قال المسبحيّ: وكان الداعي يواصل الجلوس بالقصر لقراءة ما يقرأ على الأولياء، والدعاوي المتصلة، فكان يفرد للأولياء مجلسا، وللخاصة وشيوخ الدولة، ومن يختص بالقصور من الخدم وغيرهم مجلسا، ولعوام الناس، وللطارئين على البلد مجلسا، وللنساء في جامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر مجلسا، وللحرم وخواص نساء القصر مجلسا، وكان يعمل المجالس في داره، ثم ينفذها إلى من يختص بخدمة الدولة، ويتخذ لهذه المجالس كتبا يبيضونها بعد عرضها على الخليفة، وكان يقبض في كل مجلس من هذه المجالس ما يتحصل من النجوى من كل من يدفع شيئا من ذلك عينا وورقا من الرجال والنساء، ويكتب أسماء من يدفع شيئا على ما يدفعه، وكذلك في عيد الفطر يكتب ما يدفع عن الفطرة، ويحصل من ذلك مال جليل، يدفع إلى بيت المال شيئا بعد شيء، وكانت تسمى مجالس الدعوة: مجالس الحكمة، وفي سنة أربعمائة كتب سجل عن الحاكم بأمر الله فيه رفع الخمس والزكاة والفطرة والنجوى التي كانت تحمل، ويتقرّب بها، وتجري على أيدي القضاة، وكتب سجل آخر بقطع مجالس الحكمة التي تقرأ على الأولياء يوم الخميس والجمعة، انتهى. ووظيفة داعي الدعاة كانت من مفردات الدولة الفاطمية، وقد لخصت من أمر الدعوة طرفا أحببت إيراده هنا.

وصف الدعوة وترتيبها: وكانت الدعوة مرتبة على منازل: دعوة بعد دعوة.

الدعوة الأولى: سؤال الداعي لمن يدعوه إلى مذهبه عن المشكلات، وتأويل الآيات، ومعاني الأمور الشرعية، وشيء من الطبيعيات، ومن الأمور الغامضة، فإن كان المدعوّ عارفا سلم له الداعي وإلّا تركه يعمل فكره فيما ألقاه عليه من الأسئلة، وقال له: يا هذا، إنّ الدين لمكتوم، وإنّ الأكثر له منكرون، وبه جاهلون، ولو علمت هذه الأمّة ما خص الله به الأئمة من العلم، لم تختلف؟ فيتشوق حينئذ المدعوّ إلى معرفة ما عند الداعي من العلم فإذا علم منه الإقبال أخذ في ذكر معاني القراءات وشرائع الدين، وتقرير أنّ الآفة التي نزلت بالأمّة، وشتت الكلمة، وأورثت الأهواء المضلة، ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم، وأقيموا حافظين لشرائعهم يؤدونها على حقيقتها، ويحفظون معانيها، ويعرفون بواطنها غير أنّ الناس لما عدلوا عن الأئمة، ونظروا في الأمور بعقولهم، واتبعوا ما حسن في رأيهم، وقلدوا أسفلتهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم اتباعا للملوك، وطلبا للدنيا التي هي أيدي متبعي لإثم وأجناد الظلمة، وأعوان الفسقة الذين يحبون العاجلة، ويجتهدون في طلب الرئاسة على الضعفاء ومكايدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمّته وتغيير كتاب الله عز وجل، وتبديل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة دعوته، وإفساد شريعته، وسلوك غير طريقته، ومعاندة الخلفاء الأئمة من بعده بختر من قبل ذلك، وصار الناس إلى أنواع الضلالات، فإنّ دين محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء بالتحلي، ولا بأمانيّ الرجال، ولا شهوات الناس، ولا بما خف على الألسنة،

ص: 260

وعرفته دهماء العامّة، ولكنه صعب مستصعب، وأمر مستقبل، وعلم خفيّ غامض ستره الله في حجبه، وعظم شأنه عن ابتذال أسراره، فهو سرّ الله المكتوم، وأمره المستور الذي لا يطيق حمله، ولا ينهض بأعبائه، وثقله إلّا ملك مقرّب، أو نبيّ مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للتقوى، فإذا ارتبط المدعوّ على الداعي، وأنس له، نقله إلى غير ذلك.

فمن مسائلهم ما معنى: رمي الجمار؟ والعدو بين الصفا والمروة؟ ولم كانت الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ وما بال الجنب يغتسل من ماء دافق يسير؟ ولا يغتسل من البول النجس الكثير القذر؟ وما بال الله خلق الدنيا في ستة أيام؟ أعجز عن خلقها في ساعة واحدة؟ وما معنى الصراط المضروب في القرآن مثلا؟ والكاتبين الحافظين وما لنا لا نراهما؟

أخاف أن نكابره، ونجاحده حتى أدلى العيون، وأقام علينا الشهود، وقيد ذلك في القرطاس بالكتابة، وما تبديل الأرض غير الأرض؟ وما عذاب جهنم؟ وكيف يصح تبديل جلد مذنب بجلد لم يذنب حتى يعذب؟ وما معنى: ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية؟ وما إبليس؟

وما الشياطين؟ وما وصفوا به وأين مستقرّهم؟ وما مقدار قدرهم؟ وما يأجوج ومأجوج وهاروت وماروت وأين مستقرّهم؟ وما سبعة أبواب النار؟ وما ثمانية أبواب الجنة؟ وما شجرة الزقوم النابتة في الجحيم؟ وما دابة الأرض ورؤس الشياطين؟ والشجرة الملعونة في القرآن؟ والتين والزيتون؟ وما الخنس الكنس؟ وما معنى ألم والمص؟ وما معنى كهيعص وحمعسق، ولم جعلت السماوات سبعا والأرضون سبعا، والمثاني من القرآن سبع آيات، ولم فجرت العيون اثنتي عشرة عينا، ولم جعلت الشهور اثني عشر شهرا، وما يعمل معكم عمل الكتاب والسنة، ومعاني الفرائض اللازمة؟ فكروا أوّلا في أنفسكم أين أرواحكم؟

وكيف صورها؟ وأن مستقرّها؟ وما أوّل أمرها والإنسان ما هو؟ وما حقيقته؟ وما الفرق بين حياته وحياة البهائم؟ وفضل ما بين حياة البهائم وحياة الحشرات؟ وما الذي بانت به حياة الحشرات من حياة النبات؟ وما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت حوّاء من ضلع آدم» ؟ وما معنى قول الفلاسفة: الإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير؟ ولم كانت قامة الإنسان منتصبة دون غيره من الحيوانات؟ ولم كان في يديه من الأصابع عشر، وفي رجليه عشر أصابع؟ وفي كل أصبع من أصابع يديه ثلاثة شقوق إلا الإبهام، فإنّ فيه شقين فقط؟ ولم كان في وجهه سبع ثقب؟ وفي سائر بدنه ثقبان؟ ولم كان في ظهره اثنتا عشرة عقدة وفي عنقه سبع عقد؟

ولم جعل عنقه صورة ميم، ويداه: حاء، وبطنه: ميما، ورجلاه: دالا حتى صار ذلك كتابا مرسوما يترجم عن محمد، ولم جعلت قامته إذا انتصب صورة ألف، وإذا ركع صارت صورة: لام، وإذا سجد صارت صورة هاء، فكان كتابا يدل على الله، ولم جعلت أعداد عظام الإنسان كذا؟ وأعداد أسنانه كذا؟ والأعضاء الرئيسة كذا إلى غير ذلك من التشريح، والقول في العروق والأعضاء، ووجوه منافع الحيوان، ثم يقول الداعي: ألا تتفكرون في حالكم، وتعتبرون وتعلمون أنّ الذي خلقكم حكيم غير مجازف، وأنه فعل جميع ذلك

ص: 261

لحكمة، وله فيها أسرار خفية، حتى جمع ما جمع، وفرّق ما فرّق، فكيف يسعلكم الإعراض عن هذه الأمور، وأنتم تسمعون قول الله عز وجل: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ

[الذاريات/ 20، 21] ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

[إبراهيم/ 25] ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ

[فصلت/ 53] . فأيّ شيء رآه الكفار في أنفسهم وفي الآفاق، حتى عرفوا أنه الحق، وأيّ حق عرفه من جحد الديانة، ألا يدلكم هذا على أنّ الله جل اسمه أراد أن يرشدكم إلى بواطن الأمور الخفية، وأسرار فيها مكتومة لو نبهتم لها، وعرفتموها لزالت عنكم كل حيرة، ودحضت كل شبهة، وظهرت لكم المعارف السنية، ألا ترون أنكم جهلتم أنفسكم التي من جهلها، كان حريا أن لا يعلم غيرها، أليس الله تعالى يقول: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا

[الإسراء/ 72] ونحو ذلك من تأويل القرآن، وتفسير السنن والأحكام، وإيراد أبواب من التجويز والتعليل، فإذا علم الداعي أن نفس المدعوّ قد تعلقت بما سأله عنه، وطلب منه الجواب عنها قال له: حينئذ لا تعجل فإنّ دين الله أعلى وأجل من أن يبذل لغير أهله، ويجعل غرضا للعب وجرت عادة الله، وسنته في عباده عند شرع من نصبه أن يأخذ العهد على من يرشده، ولذلك قال: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً

[الأحزاب/ 7]، وقال عز وجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا

[الأحزاب/ 23]، وقال جل جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

[المائدة/ 1]، وقال: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً

[النحل/ 91]، وقال: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ

[المائدة/ 70] . ومن أمثال هذا فقد أخبر الله تعالى أنه لم يملك حقه إلا لمن أخذ عهده فأعطنا صفقة يمينك، وعاهدنا بالموكد من أيمانك وعقودك، أن لا تفشي لنا سرّا، ولا تظاهر علينا أحدا، ولا تطلب لنا غيلة، ولا تكتمنا نصحا، ولا توالي لنا عدوّا، فإذا أعطى العهد قال له الداعي: أعطنا جعلا من مالك نجعله مقدّمة أمام كشفنا لك الأمور، وتعريفك إياها، والرسم في هذا الجعل بحسب ما يراه الداعي، فإن امتنع المدعوّ أمسك عنه الداعي، وإن أجاب وأعطى نقله إلى الدعوة الثانية، وإنما سميت الإسماعيلية بالباطنية لأنهم يقولون: لكل ظاهر من الأحكام الشرعية باطن، ولكل تنزيل تأويل.

الدعوة الثانية: لا تكون إلّا بعد تقدّم الدعوى الأولى، فإذا تقرّر في نفس المدعوّ جميع ما تقدّم، وأعطى الجعل، قال له الداعي: إنّ الله تعالى لم يرض في إقامة حقه، وما شرعه لعباده إلّا أن يأخذوا ذلك عن أئمة نصبهم للناس، وأقامهم لحفظ شريعته على ما أراده الله تعالى، ويسلك في تقرير هذا، ويستدل عليه بأمور مقرّرة في كتبهم، حتى يعلم أن

ص: 262

اعتقاد الأئمة قد ثبت في نفس المدعوّ، فإذا اعتقد ذلك، نقله إلى الدعوة الثالثة.

الدعوة الثالثة: مرتبة على الثانية، وذلك أنه إذا علم الداعي ممن دعاه، أنّ ارتباطه على دين الله لا يعلم إلّا من قبل الأئمة، قرّر حينئذ عنده أن الأئمة سبعة، قد رتبهم الباري تعالى كما رتب الأمور الجليلة، فإنه جعل الكواكب السيارة سبعة، وجعل السماوات سبعا، وجعل الأرضين سبعا، ونحو ذلك مما هو سبع من الموجودات.

وهؤلاء الأئمة السبعة هم: عليّ بن أبي طالب، والحسن بن عليّ، والحسين بن عليّ، وعليّ بن الحسين الملقب زين العابدين، ومحمد بن عليّ، وجعفر بن محمد الصادق، والسابع هو: القائم صاحب الزمان.

وهم أعني الشيعة مختلفون في هذا القائم، فمنهم من يجعله: محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ويسقط إسماعيل بن جعفر، ومنهم من يعدّ إسماعيل بن جعفر إماما، ثم يعدّ ابنه محمد بن إسماعيل، فإذا تقرّر عند المدعوّ أن الأئمة سبعة انحل عن معتقد الإمامية من الشيعة القائلين بإمامة اثني عشر إماما، وصار إلى معتقد الإسماعيلية، بأنّ الإمامة انتقلت إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، فإذا علم الداعي ثبات هذا العقد في نفس المدعوّ، شرع في ثلب بقية الأئمة الذين قد اعتقد الإمامية فيهم الإمامة، وقرّر عند المدعوّ أنّ محمد بن إسماعيل عنده علم المستورات، وبواطن المعلومات التي لا يمكن أن توجد عند أحد غيره، وأنّ عنده أيضا علم التأويل، ومعرفة تفسير ظاهر الأمور، وعنده سرّ الله تعالى في وجه تدبيره المكتوم، وإتقان دلالته في كل أمر يسأل عنه في جميع المعدومات، وتفسير المشكلات، وبواطن الظاهر كله والتأويلات، وتأويل التأويلات، وأنّ دعاته هم: الوارثون لذلك كله من بين سائر طوائف الشيعة لأنهم أخذوا عنه، ومن جهته رووا، وإنّ أحدا من الناس المخالفين لهم لا يستطيع أن يساويهم، ولا يقدر على التحقق بما عندهم إلّا منهم، ويحتج لذلك بما هو معروف في كتبهم مما لا يسع هذا الكتاب حكايته لطوله، فإذا انقاد المدعوّ، وأذعن لما تقرّر، نقله إلى الدعوة الرابعة.

الدعوة الرابعة: لا يشرع الداعي في تقريرها حتى يتيقن صحة انقياد المدعوّ لجميع ما تقدّم، فإذا تيقن منه صحة الانقياد، قرّر عنده أنّ عدد الأنبياء الناسخين للشرائع المبدّلين لأحكامها، أصحاب الأدوار، وتقليب الأحوال، الناطقين بالأمور، سبعة فقط، كعدد الأئمة سواء، وكل واحد من هؤلاء الأنبياء لا بدّ له من صاحب يأخذ عنه دعوته، ويحفظها على أمّته، ويكون معه ظهيرا له في حياته، وخليفة له من بعد وفاته، إلى أن يبلغ شريعته إلى أحد يكون سبيله معه، كسبيله هو مع نبيه الذي اتبعه، ثم كذلك كل مستخلف خليفة إلى أن يأتي منهم على تلك الشريعة، سبعة أشخاص.

ويقال لهؤلاء السبعة: الصامتون لثباتهم على شريعة اقتفوا فيها أثر واحد هو أوّلهم،

ص: 263

ويسمى الأوّل من هؤلاء السبعة: السوس، وأنه لا بدّ عند انقضاء هؤلاء السبعة، ونفاذ دورهم من استفتاح دور ثان يظهر فيه نبيّ ينسخ شرع من مضى من قبله، وتكون الخلفاء من بعده أمورهم تجري كأمر من كان قبلهم، ثم يكون من بعدهم نبيّ ناسخ يقوم من بعده سبعة صمت أبدا، وهكذا حتى يقوم النبيّ السابع من النطقاء، فينسخ جميع الشرائع التي كانت قبله، ويكون صاحب الزمان الأخير.

فكان أوّل هؤلاء الأنبياء النطقاء: آدم عليه السلام، وكان صاحبه وسوسه ابنه شيث، وعدوّ إتمام السبعة الصامتين على شريعة آدم.

وكان الثاني من الأنبياء النطقاء نوح عليه السلام فإن نطق بشريعة، نسخ بها شريعة آدم، وكان صاحبه وسوسه ابنه سام، وتلاه بقية السبعة الصامتين على شريعة نوح.

ثم كان الثالث من الأنبياء النطقاء إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه، فإنه نطق بشريعة نسخ بها شريعة نوح وآدم عليهما السلام، وكان صاحبه وسوسه في حياته، والخليفة القائم من بعده المبلغ شريعته ابنه إسماعيل عليه السلام، ولم يزل يخلفه صامت بعد صامت على شريعة إبراهيم، حتى تمّ دور السبعة الصمت.

وكان الرابع من الأنبياء النطقاء: موسى بن عمران عليه السلام، فإنه نطق بشريعة نسخ بها شريعة آدم ونوح وإبراهيم، وكان صاحبه وسوسه أخوه هارون، ولما مات هارون في حياة موسى، قام من بعد موسى، يوشع بن نون خليفة له صمت على شريعته، وبلغها فأخذها عنه واحد بعد واحد إلى أن كان آخر الصمت على شريعة موسى، يحيى بن زكرياء وهو آخر الصمت.

ثم كان الخامس من الأنبياء النطقاء المسيح عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فإنه نطق بشريعة نسخ بها شرائع من كان قبله، وكان صاحبه وسوسه: شمعون الصفا، ومن بعده تمام السبعة الصمت على شريعة المسيح.

إلى أن كان السادس من الأنبياء النطقاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه نطق بشريعة نسخ بها جميع الشرائع التي جاء بها الأنبياء من قبله، وكان صاحبه وسوسه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم من بعد عليّ ستة صمتوا على الشريعة المحمدية، وقاموا بميراث أسرارها، وهم: ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين، ثم عليّ بن الحسين، ثم محمد بن عليّ، ثم جعفر بن محمد، ثم إسماعيل بن جعفر الصادق، وهو آخر الصمت من الأئمة المستورين والسابع من النطقاء هو صاحب الزمان.

وعند هؤلاء الإسماعيلية أنه: محمد بن إسماعيل بن جعفر وأنه الذي انتهى إليه علم الأوّلين، وقام بعلم بواطن الأمور وكشفها، وإليه المرجع في تفسيرها دون غيره، وعلى

ص: 264

جميع الكافة أتباعه والخضوع له، والانقياد إليه، والتسليم له، لأنّ الهداية في موافقته وأتباعه، والضلال والحيرة إلى في العدول عنه، فإذا تقرّر ذلك عند المدعوّ انتقل الداعي إلى الدعوة الخامسة.

الدعوة الخامسة: مترتبة على ما قبلها، وذلك أنه إذا صار المدعوّ في الرتبة الرابعة من الاعتقاد أخذ الداعي يقرّر أنه لا بدّ مع كل إمام قائم في كل عصر حجج متفرّقون في جميع الأرض عليهم تقوم، وعدّة هؤلاء الحجج أبدا اثنا عشر رجلا في كل زمان كما أنّ عدد الأئمة سبعة، ويستدل لذلك بأمور منها: أنّ الله تعالى لم يخلق شيئا عبثا، ولا بدّ في خلق كل شيء من حكمة، وإلّا فلم خلق النجوم التي بها قوام العالم سبعة، وجعل أيضا السماوات سبعا، والأرضين سبعا، والبروج اثني عشر، والشهور اثني عشر شهرا، ونقباء بني إسرائيل اثني عشر نقيبا، ونقباء رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار اثني عشر نقيبا، وخلق تعالى في كف كل إنسان أربع أصابع، وفي كل أصبع ثلاث شقوق تكون جملتها اثني عشر شقا، على أنه في يد كل إبهام شقان، دلالة على أنّ الإنسان بدنه كالأرض، وأصابعه كالجزائر الأربع والشقوق التي في الأصابع كالحجج، والإبهام الذي به قوام جميع الكف، وسداد الأصابع، كالذي يقوّم الأرض بقدر ما فيها، والشقان اللذان في الإبهام إشارة إلى أنّ الإمام وسوسة لا يفترقان، ولذلك صار في ظهر الإنسان: اثنتا عشرة خرزة، إشارة إلى الحجج الاثني عشر، وصار في عنقه: سبع، فكان العنق عاليا في خرزات الظهر، وذلك إشارة إلى الأنبياء النطقاء، والأئمة السبعة، وكذلك الأثقاب السبعة التي في وجه الإنسان العالي على بدنه، وأشياء من هذا النوع كثيرة، فإذا تمهد عند المدعوّ ما دعاه إليه الداعي، وتقرّر نقله حينئذ إلى الدعوة السادسة.

الدعوة السادسة: لا تكون إلا بعد ثبوت جميع ما تقدّم في نفس المدعوّ، وذلك أنه إذا صار إلى الرتبة الخامسة، أخذ الداعي في تفسير معاني شرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والحج والطهارة، وغير ذلك من الفرائض بأمور مخالفة للظاهر، بعد تمهيد قواعد تبين في أزمنة من غير عجلة تؤدّي إلى أنّ هذه الأشياء، وضعت على جهة الرموز لمصلحة العامة، وسياستهم حتى يشتغلوا بها عن بغي بعضهم على بعض، وتصدّهم عن الفساد في الأرض، حكمة من الناصبين للشرائع، وقوّة في حسن سياستهم لأتباعهم، وإتقانا منهم لما رتبوه من النواميس ونحو ذلك، حتى يتمكن هذا الاعتقاد في نفس المدعوّ، فإذا طال الزمان، وصار المدعوّ يعتقد أنّ أحكام الشريعة كلها وضعت على سبيل الرمز لسياسة العامّة، وأنّ لها معاني أخر غير ما يدل عليه الظاهر، ونقله الداعي إلى الكلام في الفلسفة، وحضه على النظر في كلام أفلاطون، وأرسطو، وفيثاغورس، ومن في معناهم، ونهاه عن قبول الأخبار، والاحتجاج بالسمعيات، وزين له الاقتداء بالأدلة العقلية، والتعويل عليها، فإذا استقرّ ذلك عنده واعتقده، نقله بعد ذلك إلى الدعوة السابعة، ويحتاج ذلك إلى زمان طويل.

ص: 265

الدعوة السابعة: لا يفصح بها الداعي ما لم يكثر أنسه بمن دعاه، ويتيقن أنه قد تأهل إلى الانتقال إلى رتبة أعلى مما هو فيه، فإذا علم ذلك منه قال: إنّ صاحب الدلالة، والناصب للشريعة، لا يستغني بنفسه، ولا بدّ له من صاحب معه يعبر عنه ليكون أحدهما الأصل والآخر عنه كان وصدر، وهذا إنما هو إشارة العام السفليّ، لما يحويه العالم العلويّ، فإنّ مدبر العالم في أصل الترتيب، وقوام النظام صدر عنه أوّل موجود بغير واسطة، ولا سبب نشأ عنه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

[يس/ 82] إشارة إلى الأوّل في الرتبة، والآخر هو القدر الذي قال فيه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ

[القمر/ 49] وهذا معنى ما نسمعه من أنّ الله: أوّل ما خلق القلم، فقال للقلم: اكتب، فكتب في اللوح ما هو كائن، وأشياء من هذا النوع موجودة في كتبهم، وأصلها مأخوذ من كلام الفلاسفة القائلين: الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد، وقد أخذ هذا المعنى المتصوّفة، وبسطوه بعبارات أخر في كتبهم، فإن كنت ممن ارتاض وعرف مقالات الناس تبين ذلك ما ذكرت، ولا يحتمل هذا الكتاب بسط القول في هذا المعنى، وإذا تقرّر ما ذكر في هذه الدعوة عند المدعوّ، نقله الداعي إلى الدعوة الثامنة.

الدعوة الثامنة: متوقفة على اعتقاد سائر ما تقدّم، فإذا استقرّ ذلك عند المدعوّ، دينا له، قال له الداعي: اعلم أن أحد المذكورين اللذين هما مدبر الوجود والصادر عنه، إنما تقدّم السابق على اللاحق، تقدّم العلة على المعلول، فكانت الأعيان كلها ناشئة، وكائنة عن الصادر الثاني، بترتيب معروف في بعضهم، ومع ذلك فالسابق عندهم: لا اسم له، ولا صفة، ولا يعبر عنه، ولا يقيد فلا يقال هو موجود، ولا معدوم، ولا عالم، ولا جاهل، ولا قادر، ولا عاجز، وكذلك سائر الصفات، فإنّ الإثبات عندهم يقتضي شركة بينه وبين المحدثات، والتقي يقتضي التعطيل، وقالوا: ليس بقديم، ولا محدث، بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته، كما هو مبسوط في كتبهم، فإذا استقرّ ذلك عند المدعوّ قرر عنده الداعي، أن التالي يدأب في أعماله حتى يلحق بمنزلة السابق، وأنّ الصامت في الأرض يدأب في أعماله حتى يصير بمنزلة الناطق سواء، وأنّ الداعي يدأب في أعماله حتى يبلغ منزلة السوس، وحالة سواء.

وهكذا تجري أمور العالم في أكواره وأدواره، ولهذا القول بسط كثير، فإذا اعتقده المدعوّ قرّر عنده الداعي أنّ معجزة النبيّ الصادق الناطق ليست غير أشياء ينتظم بها سياسة الجمهور، وتشمل الكافة مصلحتها بترتيب من الحكمة تحوي معاني فلسفية تنبىء عن حقيقة أنية السماء والأرض، وما يشتمل العالم عليه بأسره من الجواهر والأعراض، فتارة برموز يعقلها العالمون، وتارة بإفصاح يعرفه كل أحد، فينتظم بذلك للنبيّ شريعة يتبعها الناس، ويقرّر عنده أيضا أنّ القيامة، والقرآن، والثواب، والعقاب، معناها: سوى ما يفهمه

ص: 266

العامّة، وغير ما يتبادر الذهن إليه، وليس هو إلّا حدوث أدوار عند انقضاء أدوار من أدوار الكواكب، وعوالم اجتماعاتها من كون، وفساد جاء على ترتيب الطباع، كما قد بسطه الفلاسفة في كتبهم، فإذا استقرّ هذا العقد عند المدعوّ، نقله الداعي إلى الدعوة التاسعة.

الدعوة التاسعة: هي النتيجة التي يحاول الداعي بتقرير جميع ما تقدّم رسوخها في نفس من يدعوه، فإذا تيقن أنّ المدعوّ تأهل لكشف السرّ، والإفصاح عن الرموز أحاله على ما تقرّر في كتب الفلاسفة من علم الطبيعيات، وما بعد الطبيعة والعلم الإلهي، وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية، حتى إذا تمكن المدعوّ من معرفة ذلك، كشف الداعي قناعه وقال اذكر من الحدوث، والأصول رموز إلى معاني المبادىء، وتقلب الجواهر، وأنّ الوحي إنما هو صفاء النفس، فيجد النبيّ في فهمه ما يلقي إليه، ويتنزل عليه، فيبرزه إلى الناس، ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبيّ شريعته بحسب ما يراه من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب حينئذ العمل بها إلّا بحسب الحاجة من رعاية مصالح الدهماء، بخلاف العارف، فإنه لا يلزمه العمل بها، ويكفيه معرفته، فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه وما عدا المعرفة من سائر المشروعات، فإنما هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة لمعرفة الأعراض والأسباب. ومن جملة المعرفة عندهم: أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع، إنّما هم لسياسة العامّة، وإنّ الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة، وإنّ الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني، إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه، وظهوره الآن إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه، ونحو ذلك مما هو مبسوط في كتبهم، وهذا حاصل علم الداعي، ولهم في ذلك مصنفات كثيرة، منها اختصرت ما تقدّم ذكره.

ابتداء هذه الدعوة: إعلم أنّ هذه الدعوة منسوبة إلى شخص كان بالعراق يعرف:

بميمون القدّاح، وكان من غلاة الشيعة، فولد ابنا عرف: بعبد الله بن ميمون، اتسع علمه وكثرت معارفه، وكاد أن يطلع على جميع مقالات الخليقة، فرتب له مذهبا، وجعله في تسع دعوات، ودعا الناس إلى مذهبه، فاستجاب له خلق، وكان يدعو إلى الإمام محمد بن إسماعيل، وظهر من الأهواز، ونزل بعسكر مكرّم، فصار له مال، واشتهرت دعاته، فأنكر الناس عليه، وهموا به ففرّ إلى البصرة، ومعه من أصحابه الحسين الأهوازيّ، فلما انتشر ذكره بها طلب، فصار إلى بلاد الشام، وأقام بسلمية، وبها ولد له ابنه أحمد، فقام من بعد أبيه عبد الله بن ميمون فسير الحسين الأهوازيّ داعية له إلى العراق، فلقي حمدان بن الأشعث المعروف: بقرمط بسواد الكوفة، فدعاه واستجاب له، وأنزله عنده، وكان من أمره ما هو مذكور في أخبار القرامطة من كتابنا هذا، عند ذكر المعز لدين الله معدّ، ثم إنه ولد لأحمد بن عبد الله: ابنه الحسين ومحمد المعروف: بأبي الشلعلع، فلما هلك أحمد خلفه ابنه الحسين، ثم قام من بعده أخوه أبو الشلعلع، وكان من أمرهم ما هو مذكور في موضعه، فانتشرت الدعاة في أقطار الأرض، وتفقهوا في الدعوة، حتى وضعوا فيها الكتب الكثيرة،

ص: 267

وصارت علما من العلوم المدوّنة، ثم اضمحلت الآن، وذهبت بذهاب أهلها، ولهذا يقال:

إنّ أصل دعوة الإسماعيلية مأخوذ من القرامطة، ونسبوا من أجلها إلى الإلحاد.

صفة العهد الذي يؤخذ على المدعوّ: وهو إنّ الداعي يقول لمن يأخذ عليه العهد ويحلفه: جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه، وذمّة رسوله، وأنبيائه، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما أخذه على النبيين من عقد، وعهد، وميثاق إنك تستر جميع ما تسمعه، وسمعته، وعلمته، وتعلمه، وعرفته، ونعرفه من أمري، وأمر المقيم بهذا البلد لصاحب الحق الإمام الذي عرّفت إقراري له، ونصحي لمن عقد ذمّته، وأمور إخوانه وأصحابه وولده، وأهل بيته المطيعين له على هذا الدين، ومخالصته له من الذكور والإناث، والصغار والكبار، فلا تظهر من ذلك شيئا قليلا، ولا كثيرا، ولا شيئا يدل عليه إلا ما أطلقت لك أن تتكلم به، أو أطلقه لك صاحب الأمر المقيم بهذا البلد، فتعمل في ذلك بأمرنا ولا تتعدّاه، ولا تزيد عليه، وليكن ما تعمل عليه قبل العهد، وبعده بقولك، وفعلك أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتشهد أن محمدا عبده ورسوله، وتشهد أن الجنة حقّ، وأن النار حقّ، وأن الموت حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وتقيم الصلاة لوقتها، وتؤتي الزكاة لحقها، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام، وتجاهد في سبيل الله حق جهاده على ما أمر الله به ورسوله، وتوالي أولياء الله، وتعادي أعداء الله، وتقوم بفرائض الله وسننه، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهرين ظاهرا وباطنا، وعلانية سرّا وجهرا فإنّ ذلك يؤكد هذا العهد، ولا يهدمه، ويثبته، ولا يزيله، ويقرّ به، ولا يباعده، ويشدّه، ولا يضعفه، ويوجب ذلك، ولا يبطله ويوضحه، ولا يعميه، كذلك هو الظاهر والباطن، وسائر ما جاء به النبييون من ربهم صلوات الله عليهم أجمعين على الشرائط المبينة في هذا العهد، جعلت على نفسك الوفاء بذلك، قل: نعم، فيقول المدعوّ: نعم.

ثم يقول الداعي له: والصيانة له بذلك، وأداء الأمانة على أن لا تظهر شيئا أخذ عليك في هذا العهد في حياتنا، ولا بعد وفاتنا لا في غضب، ولا على حال رضى، ولا على رغبة، ولا في حال رهبة، ولا عند شدّة، ولا في حال رخاء، ولا على طمع، ولا على حرمان، تلقي الله على الستر لذلك، والصيانة له على الشرائط المبينة في هذا العهد، وجعلت على نفسك عهد الله وميثاقه، وذمّته وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن تمنعني وجميع من أسميه لك، وأثبته عندك مما تمنع منه نفسك، وتنصح لنا ولوليك وليّ الله نصحا ظاهرا وباطنا، فلا تخن الله ووليه، ولا أحدا من إخواننا وأوليائنا، ومن تعلم أنه منا بسبب في أهل ولا مال، ولا رأي، ولا عهد، ولا عقد تتأوّل عليه بما يبطله، فإن فعلت شيئا من ذلك، وأنت تعلم أنك قد خالفته، وأنت على ذكر منه فأنت بريء من الله خالق السماوات والأرض الذي سوّى خلقك، وألف تركيبك، وأحسن إليك في دينك ودنياك، وآخرتك، وتبرأ من رسله الأوّلين

ص: 268

والآخرين، وملائكته المقرّبين الكروبيين، والروحانيين والكلمات التامّات، والسبع المثاني، والقرآن العظيم، وتبرأ من التوراة، والإنجيل، والزبور، والذكر الحكيم، ومن كل دين ارتضاه الله في مقدّم الدار الآخرة، ومن كل عبد رضي الله عنه، وأنت خارج من حزب الله، وحزب أوليائه وخذلك الله خذلانا بينا، يعجل لك بذلك النقمة والعقوبة، والمصير إلى نار جهنم التي ليس لله فيها رحمة، وأنت بريء من حول الله وقوّته، وملجأ إلى حول نفسك، وقوّتك، وعليك لعنة الله التي لعن الله بها إبليس، وحرّم عليه بها الجنة وخلده في النار، إن خالقت شيئا من ذلك، ولقيت الله يوم تلقاه، وهو عليك غضبان، ولله عليك أن تحج إلى بيته الحرام ثلاثين حجة حجا واجبا ماشيا حافيا، لا يقبل الله منك إلّا الوفاء بذلك، وكل ما تملك في الوقت الذي تخالفه فيه، فهو صدقة على الفقراء والمساكين الذين لا رحم بينك، وبينهم لا يأجرك الله عليه، ولا يدخل عليك بذلك منفعة وكل مملوك لك من ذكر وأنثى في ملكك، أو تستفيده إلى وقت وفاتك إن خالفت شيئا من ذلك، فهم أحرار لوجه الله عز وجل، وكل امرأة لك أو تتزوّجها إلى وقت وفاتك إن خالفت شيئا من ذلك، فهنّ طوالق ثلاثا بتة، طلاق الحرج لا مثوبة لك، ولا خيار، ولا رجعة، ولا مشيئة، وكل ما كان لك من أهل ومال وغيرهما، فهو عليك حرام، وكل ظهار فهو لازم لك، وأنا المستحلف لك لإمامك، وحجتك، وأنت الحالف لهما، وإن نوت أو عقدت أو أضمرت، خلاف ما أحملك عليه، وأحلفك به، فهذه اليمين من أوّلها إلى آخرها مجدّدة عليك لازمة لك، لا يقبل الله منك، إلّا الوفاء بها والقيام بما عاهدت بيني وبينك. قل: نعم، فيقول: نعم، ولهم مع ذلك وصايا كثيرة أضربنا عنها خشية الإطالة وفيما ذكرناه كفاية لمن عقل.

ص: 269