المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر الخلفاء الفاطميين - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - جـ ٢

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثانى

- ‌ذكر تاريخ الخليقة

- ‌ذكر ما قيل في مدّة أيام الدنيا ماضيها وباقيها

- ‌ذكر التواريخ التي كانت للأمم قبل تاريخ القبط

- ‌ذكر تاريخ القبط

- ‌ذكر أسابيع الأيام

- ‌ذكر أعياد القبط من النصارى بديار مصر

- ‌ذكر ما يوافق أيام الشهور القبطية من الأعمال في الزراعات، وزيادة النيل، وغير ذلك على ما نقله أهل مصر عن قدمائهم واعتمدوا عليه في أمورهم

- ‌ذكر تحويل السنة الخراجية القبطية إلى السنة الهلالية العربية

- ‌ذكر فسطاط مصر

- ‌ذكر ما كان عليه موضع الفسطاط قبل الإسلام إلى أن اختطه المسلمون مدينة

- ‌ذكر الحصن الذي يعرف بقصر الشمع

- ‌ذكر حصار المسلمين للقصر وفتح مصر

- ‌ذكر ما قيل في مصر هل فتحت بصلح أو عنوة

- ‌ذكر من شهد فتح مصر من الصحابة رضي الله عنهم

- ‌ذكر السبب في تسمية مدينة مصر بالفسطاط

- ‌ذكر الخطط التي كانت بمدينة الفسطاط

- ‌ذكر أمراء الفسطاط من حين فتحت مصر إلى أن بني العسكر

- ‌ذكر العسكر الذي بني بظاهر مدينة فسطاط مصر

- ‌ذكر من نزل العسكر من أمراء مصر من حين بني إلى أن بنيت القطائع

- ‌ذكر القطائع ودولة بني طولون

- ‌ذكر من ولي مصر من الأمراء بعد خراب القطائع إلى أن بنيت قاهرة المعز على يد القائد جوهر

- ‌ذكر ما كانت عليه مدينة الفسطاط من كثرة العمارة

- ‌ذكر الآثار الواردة في خراب مصر

- ‌ذكر خراب الفسطاط

- ‌ذكر ما قيل في مدينة فسطاط مصر

- ‌ذكر ما عليه مدينة مصر الآن وصفتها

- ‌ذكر ساحل النيل بمدينة مصر

- ‌ذكر المنشأة

- ‌ذكر أبواب مدينة مصر

- ‌ذكر القاهرة قاهرة المعز لدين الله

- ‌ذكر ما قيل في نسب الخلفاء الفاطميين بناة القاهرة

- ‌ذكر الخلفاء الفاطميين

- ‌ذكر ما كان عليه موضع القاهرة قبل وضعها

- ‌ذكر حدّ القاهرة

- ‌ذكر بناء القاهرة وما كانت عليه في الدولة الفاطمية

- ‌ذكر ما صارت إليه القاهرة بعد استيلاء الدولة الأيوبية عليها

- ‌ذكر طرف مما قيل في القاهرة ومنتزهاتها

- ‌ذكر ما قيل في مدّة بقاء القاهرة ووقت خرابها

- ‌ذكر مسالك القاهرة وشوارعها على ما هي عليه الآن

- ‌ذكر سور القاهرة

- ‌ذكر أبواب القاهرة

- ‌ باب زويلة

- ‌باب النصر

- ‌باب الفتوح

- ‌باب القنطرة

- ‌باب الشعرية

- ‌باب سعادة

- ‌الباب المحروق

- ‌باب البرقية

- ‌ذكر قصور الخلفاء ومناظرهم والإلماع بطرف من مآثرهم وما صارت إليه أحوالها من بعدهم

- ‌ القصر الكبير

- ‌كيفية سماط شهر رمضان بهذه القاعة

- ‌عمل سماط عيد الفطر بهذه القاعة

- ‌الإيوان الكبير

- ‌الدواوين

- ‌ديوان المجلس

- ‌ديوان النظر

- ‌ديوان التحقيق

- ‌ديوان الجيوش والرواتب

- ‌ديوان الإنشاء والمكاتبات

- ‌التوقيع بالقلم الدقيق في المظالم

- ‌التوقيع بالقلم الجليل

- ‌مجلس النظر في المظالم

- ‌رتب الأمراء

- ‌قاضي القضاة

- ‌قاعة الفضة

- ‌قاعة السدرة

- ‌قاعة الخيم

- ‌المناظر الثلاث

- ‌قصر الشوك

- ‌قصر أولاد الشيخ

- ‌قصر الزمرّد

- ‌الركن المخلق

- ‌السقيفة

- ‌دار الضرب

- ‌خزائن السلاح

- ‌المارستان العتيق

- ‌التربة المعزية

- ‌القصر النافعيّ

- ‌الخزائن التي كانت بالقصر

- ‌ خزانة الكتب

- ‌خزانة الكسوات

- ‌خزائن الجوهر والطيب والطرائف

- ‌خزائن الفرش والأمتعة

- ‌خزائن السلاح

- ‌خزائن السروج

- ‌خزائن الخيم

- ‌خزانة الشراب

- ‌خزانة التوابل

- ‌دار التعبية

- ‌خزانة الأدم

- ‌خزائن دار أفتكين

- ‌خزانة البنود

- ‌دار الفطرة

- ‌المشهد الحسينيّ

- ‌ما كان يعمل في يوم عاشوراء

- ‌ذكر أبواب القصر الكبير الشرقي

- ‌ذكر المنحر

- ‌ذكر دار الوزارة الكبرى

- ‌ذكر رتبة الوزارة، وهيئة خلعهم، ومقدار جاريهم، وما يتعلق بذلك

- ‌ذكر المناخ السعيد

- ‌ذكر اصطبل الطارمة

- ‌ذكر ما كان يضرب في خميس العدس من خراريب الذهب

- ‌ذكر دار الوكالة الآمرية

- ‌ذكر مصلى العيد

- ‌ذكر هيئة صلاة العيد وما يتعلق بها

- ‌ذكر القصر الصغير الغربي

- ‌أبواب القصر الغربيّ

- ‌ذكر دار العلم

- ‌ذكر دار الضيافة

- ‌ذكر اصطبل الحجريّة

- ‌ذكر مطبخ القصر

- ‌ذكر الدار المأمونية

- ‌ذكر المناظر التي كانت للخلفاء الفاطميين، ومواضع نزههم ما كان لهم فيها من أمور جميلة

- ‌ذكر ما كان يعمل يوم فتح الخليج

- ‌منازل العز

- ‌ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادا، ومواسم تتسع بها أحوال الرعية، وتكثر نعمهم

- ‌ذكر مذاهبهم في أوّل الشهور

- ‌ذكر النوروز

- ‌ذكر ما كان من أمر القصرين، والمناظر بعد زوال الدولة الفاطمية

الفصل: ‌ذكر الخلفاء الفاطميين

كتامة «1» ، ونقرة «2» ، تلقوا ذلك من عهد جعفر الصادق، فقدم على محمد بن جعفر والد عبيد الله رجل من شيعته باليمن، فبعث معه الحسن بن حوشب في سنة ثمان وستين ومائتين، فأظهرا أمرهما باليمن، وأشهرا الدعوة في سنة سبعين، وصار لابن حوشب دولة بصنعاء، وبث الدعاة بأقطار الأرض، وكان من جملة دعاته أبو عبد الله الشيعيّ، فسيره إلى المغرب، فلقي كتامة ودعاهم، فلما مات محمد بن جعفر عهد لابنه عبيد الله، فطلبه المكتفي العباسيّ، وكان يسكن عسكر مكرّم، فسار إلى الشام، ثم سار إلى المغرب، فكان من أمره ما كان، وكانت رجال هذه الدولة الذين قاموا ببلاد المغرب، وديار مصر «3» عشر رجلا هذه خلاصة أخبارهم في أنسابهم، فتفطن ولا تغترّ بزخرف القول الذي لفقوه من الطعن فيهم، والله يهدي من يشاء.

‌ذكر الخلفاء الفاطميين

وكان ابتداء الدولة الفاطمية أن أبا عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكرياء الشيعيّ سار إلى أبي القاسم الحسين بن فرج بن حوشب الكوفيّ القائم ببلاد اليمن، وصار من كبار أصحابه وله علم، وعنده دهاء ومكر، فورد على ابن حوشب من المغرب، خبر موت الحلوانيّ داعية في المغرب ورفيقه، فقال لأبي عبد الله الشيعيّ: قد خرّب الحوانيّ، وأبو يوسف بلاد المغرب، وقد ماتا، وليس للبلاد إلّا أنت فإنها موطأة ممهدة، فخرج أبو عبد الله إلى مكة، وقصد حجاج كتامة، فجلس قريبا منهم، وسمعهم يتحدّثون بفضائل البيت، فحدّثهم في معناه، فمالوا إليه، وسألوه أن يأذن لهم في زيارته، فلما زاروه سألوه عن مقصده، فلم يخبرهم، وأوهمهم أنه يريد مصر، فسرّوا بصحبته، ورحلوا، وهو رفيقهم فشاهدوا من عبادته، وزهده ما زادهم رغبة فيه، هذا وهو يسألهم عن أحوالهم وقبائلهم، حتى صار يعرف جميع أمورهم، فلما وصلوا مصر همّ بمفارقتهم، فقالوا: أيّ شيء تطلب من مصر؟ فقال: أطلب التعليم بها، فقالوا: إذا كان قصدك هذا، فبلادنا أنفع لك، وما زالوا به حتى سار معهم، فلما وصلوا بلادهم اقترعوا فيمن يضيفه منهم، ومن بقية أصحابهم، ووصلوا به أرض كتامة للنصف من ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانين ومائتين، وكادوا يحتربون عليه أيّهم ينزل عنده، فأبى أن ينزل عندهم، وقال: أين يكون فج الأخيار؟ فعجبوا لذلك! إذ لم يكونوا ذكروه له قط، فدلوه عليه، فسار إليه، وقال: هذا فج الأخيار، وما سمي إلا بكم، ولقد جاء في الآثار للمهديّ هجرة عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان قوم اسمهم مشتق من الكتمان، وبخروجكم في هذا الفج سمي فج الأخيار،

ص: 183

فتسامعت به القبائل، وأتوه فعظم أمره وهو لا يذكر اسم المهديّ البتة، فبلغ خبره إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية، فبعث يسأل عن خبره، وكانت له معه قصص آلت إلى قيام أبي عبد الله ومحاربته لمن خالفه، فظفر بهم، وصارت إليه أموالهم، وغلب على مدائن، وهزم جيوش ابن الأغلب، وقتل كثيرا من أصحابه، فمات إبراهيم بن الأغلب، وولي زيادة الله بن الأغلب، وكان كثير اللهو، فقوي أمر أبي عبد الله، وانتشرت جنوده في البلاد، وصار يقول: المهديّ يخرج في هذه الأيام، ويملك الأرض فيا طوبى لمن هاجر إليّ، وأطاعني ويغري الناس بزيادة الله بن الأغلب ويعيبه، وكان أكثر خواص زيادة الله شيعة، فلم يكن يسوءهم ظفر أبي عبد الله، وأكثر من ذكر كرامات المهديّ، والإرسال إلى أصحاب زيادة الله إلى أن تمكن، فبعث برجال من كتامة إلى سلمية من أرض الشام، فقدموا على عبيد الله، وأخبروه بما فتح الله عليه، وكان قد اشتهر هناك، وطلبه الخليفة المكتفي، فخرج من سلمية فارا، ومعه ابنه أبو القاسم نزار، ومعهما أهلهما ومواليهما، فأقاما بمصر مستترين، فوردت على عيسى النوشريّ أمير مصر الكتب من بغداد بصفة عبيد الله وحليته، وإنه يأخذ عليه الطريق ويقبضه، فبلغ ذلك عبيد الله، فخرج والأعوان في طلبه، ويقال: إنّ النوشريّ ظفر به، فناشده الله في أمره، فخلى عنه ووصله، فسار إلى طرابلس، وقد سبق خبره إلى زيادة الله، فسار إلى قسطيلية «1» ، فقدم كتاب زيادة الله بن الأغلب إلى عامل طرابلس بأخذ عبيد الله وقد فاتهم، فلم يدركوه، فرحل إلى سلجماسة، وأقام بها، وقد أقيمت له المراصد بالطرقات، فتلطف باليسع بن مدرار صاحب سلجماسة، وأهدى إليه فكف عنه، ووافاه كتاب زيادة الله بالقبض على عبيد الله، فلم يجد بدّا من أن قبض عليه وسجنه، واشتغل زيادة الله بجمع العساكر لمحاربة أبي عبد الله وتجهيزهم إليه فغلبهم أبو عبد الله، وغنم سائر ما معهم، وقتل أكثرهم، وبلغه ما كان من سجن عبيد الله، فكتب إليه يبشره، فوصل إليه الكتاب، وهو بالسجن مع قصاب دخل به إليه، وهو يبيع اللحم، وما زال أبو عبد الله يضايق زيادة الله إلى أن فرّ إلى مصر، وقام من بعده إبراهيم بن الأغلب، فلم يتم له أمر، وملك أبو عبد الله القيروان، ونزل برقادة «2» مستهل رجب سنة ست وتسعين ومائتين، فأمر ونهى، وبث العمال في الأعمال، وقتل من يخاف شرّه، وأمر فنقش على السكة في أحد الوجهين: بلغت حجة الله، وفي الآخر: تفرّق أعداء الله ونقش على السلاح عدّة في سبيل الله، ووسم الخيل على أفخاذها: الملك لله، وأقام على ما كان عليه من لبس الخشن الدون، وتناول القليل الغليظ من الطعام، فلما دخل شهر رمضان سار من رقادة في جيوش عظيمة اهتز لها المغرب بأسره يريد سلجماسة، فحاربه اليسع يوما كاملا إلى الليل، ثم فرّ في خاصته، فدخل أبو عبد الله من الغد إلى البلد، وأخرج عبيد الله وابنه، ومشى في

ص: 184

ركابهما بجميع رؤساء القبائل، وهو يقول للناس: هذا مولاكم، وهو يبكي من شدّة الفرح حتى وصل بهما إلى فسطاط ضربه في العسكر، فأنزلهما فيه، وبعث الخيل في طلب اليسع، فأدركته وجاءت به فقتله، وأقام عبيد الله بسلجماسة أربعين يوما، ثم سار إلى إفريقية في ربيع الآخر سنة سبع وتسعين، ونزل برقادة، وأمر يوم الجمعة أن يذكر في الخطبة وتلقب بالمهديّ أمير المؤمنين، فدعي له في جميع البلاد بذلك، وجلس بعد الصلاة الدعاة ودعوا الناس كافة إلى مذهبهم، فمن أجاب قبل منه، ومن أبى قتل، وعرض جواري زيادة الله، واختار منهنّ لنفسه ولولده، وفرّق ما بقي على وجوه كتامة، وقسم عليهم أعمال إفريقية، ودوّن الدواوين، وجبى الأموال ودانت له البلاد، فشق ذلك على أبي عبد الله، ونافس المهديّ، وحسده من أجل أنه كف يده، ويده، ويد أخيه أبي العباس، فعظم عليه الفطام عن الأمر والنهي والأخذ والعطاء، وأقبل أبو العباس يرزي على المهديّ في مجلس أخيه، ويؤنب أخاه على ما فعل حتى أثر في نفسه، فسأل المهديّ: أن يفوّض إليه الأمور ويجلس في القصر، وكان قد بلغ المهديّ ما يجهر به أبو العباس من السوء في حقه، فردّ أبا عبد الله ردّا لطيفا، وأسرّها في نفسه، وأكثر أبو العباس من قوله حتى أغرى المقدّمين بالمهديّ، وقال:

ما هذا بالذي كنا نعتقد طاعته، وندعو إليه لأنّ المهديّ يأتي بالآيات الباهرة، فمال إليه جماعة، وواجه بعضهم المهديّ بذلك، وقال له: إن كنت المهديّ، فأظهر لنا آية، فقد شككنا فيك، فبعد ما بين المهديّ، وبين أبي عبد الله، وأوجس كلّ منهما في نفسه خيفة من الآخر، وأخذ أبو العباس يدبر في قتل المهديّ، والمهديّ يحلّ ما كان يبرمه، وثم رتب رجالا، فلما ركب أبو عبد الله، وأخوه إلى قصر المهديّ ثار بهما الرجال، فقال أبو عبد الله:

لا تفعلوا، فقالوا له: إنّ الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك، فقتل هو وأخوه للنصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين بمدينة رقادة، فثارت فتنة بسبب قتلهما، فركب المهديّ حتى سكنت وتتبع جماعة منهم، فقتلهم فلما استقام له الأمر عهد إلى ابنه أبي القاسم، وتتبع بني الأغلب، فقتل منهم جماعة، وجهز في سنة إحدى وثلثمائة ابنه أبا القاسم بالعساكر إلى مصر، فأخذ برقة والإسكندرية والفيوم، وكانت له مع عساكر مصر، وعساكر العراق الواردة إلى مصر مع مؤنس الخادم عدّة حروب، وعاد إلى الغرب، فجهز المهديّ في سنة اثنتين وثلثمائة: حباسة بجيوش إلى مصر، فغلب على الإسكندرية، وكان من أمره ما تقدّم ذكره.

وكان للمهدي ببلاد المغرب عدّة حروب، وكان يوجد في الكتب خروج أبي يزيد النكاريّ على دولته، فبنى المهدية، وأدار عليها سورا جعل فيه أبوابا زنة كل مصراع منها، مائة قنطار من حديد، وكان ابتداء بنائها في ذي القعدة سنة ثلاث وثلثمائة، وبنى المصلى بظاهرها، وقال: إلى هنا يصل صاحب الحمار، يعني أبا يزيد، فكان كذلك، وأنشأ صناعة فيها تسعمائة شونة، وقال: إنما بنيت هذه لتعتصم الفواطم بها ساعة من نهار، فكان كذلك،

ص: 185

ثم إنه جهز ابنه أبا القاسم في سنة ست وثلثمائة على جيش إلى مصر، فأخذ الإسكندرية، وملك جزيرة الأشمونين، وكثيرا من صعيد مصر، وكانت هناك حروب مع عساكر مصر والعراق، ثم عاد إلى المغرب، وخرج أبو القاسم في سنة خمس عشرة بالجيوش إلى المغرب، فحارب قوما وعاد، فمات عبيد الله في ليلة الثلاثاء منتصف شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة بالمهدية من القيروان عن ثلاث وستين سنة، وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وشهرا وعشرين يوما، ولما مات: أخفى ابنه موته.

وقام من بعد عبيد الله المهديّ وليّ عهده: القائم بأمر الله أبو القاسم محمد، ويقال:

كان اسمه بالمشرق: عبد الرحمن، فتسمى في بلاد المغرب: بمحمد، وذلك بسلمية في المحرّم سنة ثمانين ومائتين، فلما فرغ من جميع ما يريده، وتمكن أظهر موت أبيه، واستقل بالأمر، وله سبع وأربعون سنة، وتبع سيرة أبيه وثار عليه جماعة، فظفر بهم وبث جيوشه في البرّ والبحر، فسبوا وغنموا من بلد جنوة، وبعث جيشا إلى مصر، فملكوا الإسكندرية والإخشيد يومئذ أمير مصر، فلما كان في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، خرج عليه أبو يزيد مخلد بن كندار «1» النكاريّ الخارجيّ بإفريقية، واشتدّت شوكته، وكثرت أتباعه، وهزم جيوش القائم غير مرّة، وكان مذهبه تكفير أهل الملة، وإراقة دمائهم ديانة، فملك باجة»

، وحرّقها، وقتل الأطفال، وسبى النسوان، ثم ملك القيروان، فاضطرب القائم، وخاف الناس وهموا بالنقلة من زويلة، وقوي أمر أبي يزيد، ونازل المهدية، وحصر القائم بها، وكاد أن يغلب عليها، فلما بلغ المصلى حيث أشار المهديّ أنه يصل هزمه أصحاب القائم، وقتلوا كثيرا من أصحابه، وكانت له قصص، وأنباء إلى أن مات القائم لثلاث عشرة خلت من شوّال سنة أربع وثلاثين وثلثمائة عن أربع وخمسين سنة وتسعة أشهر، ولم يرق منبرا، ولا ركب دابة لصيد مدّة خلافته، حتى مات وصلى مرّة على جنازة، وصلى بالناس العيد مرّة واحدة، وكانت مدّة خلافته اثنتي عشرة سنة وستة أشهر وأياما، وترك أبا الظاهر إسماعيل، وأبا عبد الله جعفرا، وحمزة وعدنان، وعدّة أخر.

وقام من بعده ابنه: المنصور بنصر الله أبو الظاهر إسماعيل، وكتم موت أبيه خوفا أن يعلم أبو يزيد فإنه كان قريبا منه، وأبقى الأمور على حالها، ولم يتسمّ بالخليفة، ولا غير السكة، ولا الخطبة ولا البنود، وجدّ في حرب أبي يزيد حتى ظفر به وحمل إليه، فمات من جراحات كانت به سلخ المحرّم سنة ست وثلاثين وثلثمائة، ولم يزل المنصور إلى أن مات سلخ شوّال سنة إحدى وأربعين وثلثمائة عن إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر، وكانت

ص: 186

مدّة خلافته ثمان سنين، وقيل: سبع سنين وعشرة أيّام، وقد اختلف في تاريخ ولادته، فقيل: ولد أوّل ليلة من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلثمائة بالمهدية، وقيل: بل ولد في سنة اثنتين، وقيل: سنة إحدى وثلثمائة، وكان خطيبا بليغا يرتجل الخطبة لوقته شجاعا عاقلا.

وقام من بعده ابنه: المعز لدين الله أبو تميم معدّ، وعمره نحو أربع وعشرين سنة، فإنه ولد للنصف من رمضان سنة سبع عشرة وثلثمائة، فانقاد إليه البربر، وأحسن إليهم فعظم أمره، واختص من مواليه: بجوهر، وكناه بأبي الحسين وأعلى قدره، وصيره في رتبة الوزارة، وعقد له على جيش كثيف فيهم: الأمير زيري بن مناد الصنهاجيّ، فدوّخ المغرب وافتتح مدنا، وقهر عدّة أكابر وأسرهم حتى أتى البحر المحيط، فأمر باصطياد سمكة منه، وسيّرها في قلة من ماء إلى المعز إشارة إلى أنه ملك حتى سكان البحر المحيط الذي لا عمارة بعده، ثم قدم غانما مظفرا، فعظم قدره عند المعز، ولما كان في بعض الأيام استدعى المعز في يوم شات عدّة من شيوخ كتامة، فدخلوا عليه في مجلس قد فرش باللبود، وحوله كساء، وعليه جبة، وحوله أبواب مفتحة تفضي إلى خزائن كتب، وبين يديه دواة وكتب.

فقال: يا إخواننا أصبحت اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد، فقلت لأمّ الأمراء، وإنها الآن بحيث تسمع كلامي: أترى إخواننا يظنون أنا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب، ونتقلب في المثقل والديباج والحرير، والفنك والسمور والمسك والخمر، والقباء كما يفعل أرباب الدنيا، ثم رأيت أن أنفذ إليكم فأحضرتكم لتشاهدوا حالي إذا خلوت دونكم، واحتجبت عنكم، وإني لا أفضلكم في أحوالكم إلّا بما لا بدّ لي منه من دنياكم، وبما خصني الله به من إمامتكم، وإني مشغول بكتب ترد عليّ من المشرق والمغرب أجيب عنها بخطي، وإني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما يصون أرواحكم، ويعمر بلادكم، ويذل أعداءكم، ويقمع أضدادكم، فافعلوا يا شيوخ في خواتكم مثل ما أفعله، ولا تظهروا التكبر والتجبر، فينزع الله النعمة عنكم، وينقلها إلى غيركم، وتحننوا عليّ من وراءكم ممن لا يصل إليّ، كتحنني عليكم ليتصل في الناس الجميل، ويكثر الخير، وينتشر العدل، وأقبلوا بعدها على نسائكم والزموا الواحدة التي تكون لكم، ولا تشرهوا إلى التكثر منهنّ والرغبة فيهنّ، فيتنغص عشيكم، وتعود المضرّة عليكم، وتنهكوا أبدانكم وعقولكم، واعلموا أنكم إذا لزمتم ما آمركم به رجوت أن يقرّب الله علينا أمر المشرق كما قرّب أمر المغرب بكم انهضوا رحمكم الله ونصركم، فخرجوا عنه، واستدعى يوما أبا جعفر حسين بن مهذب صاحب بيت المال، وهو في وسط القصر قد جلس على صندوق، وبين يديه ألوف صناديق مبدّدة، فقال له: هذه صناديق مال، وقد شذ عني ترتيبها فانظرها ورتبها قال: فأخذت أجمعها إلى أن صارت مرتبة، وبين يديه جماعة من خدّام بيت المال، والفرّاشين، فأنفذت إليه أعلمه فأمر برفعها في الخزائن على ترتيبها، وأن يغلق عليها، وتختم بخاتمه، وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك، فكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار، وذلك في سنة سبع وخمسين

ص: 187

وثلثمائة، فأنفقها أجمع على العساكر التي سيرها إلى مصر من سنة ثمان وخمسين إلى سنة اثنتين وستين وثلثمائة.

ولما أخذ في تجهيز جوهر بالعساكر إلى أخذ ديار مصر، حتى تهيأ أمره، وبرز للمسير، بعث المعز خفيفا الصقلبيّ إلى شيوخ كتامة يقول: يا إخواننا قد رأينا أن ننفذ رجالا إلى بلدان كتامة يقيمون بينهم، ويأخذون صدقاتهم، ومراعيهم ويحفظونها عليهم في بلادهم، فإذا احتجنا إليها أنفذنا خلفها، فاستعنا بها على ما نحن بسبيله، فقال بعض شيوخهم لخفيف لما بلغه ذلك، قل لمولانا والله لا فعلنا هذا أبدا، كيف تؤدّي كتامة الجزية، ويصير عليها في الديوان ضريبة، وقد أعزها الله قديما بالإسلام، وحديثا معكم بالإيمان وسيوفنا بطاعتكم في المشرق والمغرب، فعاد خفيف إلى المعز بذلك، فأمر بإحضار جماعة كتامة، فدخلوا عليه، وهو راكب فرسه، فقال: ما هذا الجواب الذي صدر عنكم؟ فقالوا: هذا جواب جماعتنا ما كنا يا مولانا بالذي يؤدّي جزية تبقى علينا، فقام المعز في ركابه، وقال: بارك الله فيكم فهكذا أريد أن تكونوا، وإنما أردت أن أختبركم، فانظر كيف أنتم بعدي، فسار جوهر، وأخذ مصر، كما قد ذكر في ترجمته عند ذكر سور القاهرة من هذا الكتاب.

فلما ثبتت قدم جوهر بمصر كتب إليه المعز جوابا عن كتابه، وأما ما ذكرت يا جوهر، من أن جماعة بني حمدان وصلت إليك كتبهم يبذلون الطاعة، ويعدون بالمسارعة في المسير إليك، فاسمع لما أذكره لك، احذر أن تبتدىء أحدا من آل حمدان بمكاتبة ترهيبا له، ولا ترغيبا، ومن كتب إليك كتابا منهم، فأجبه بالحسن الجميل، ولا تستدعه إليك، ومن ورد إليك منهم، فأحسن إليه، ولا تمكن أحدا منهم من قيادة جيش، ولا ملك طرف، فبنو حمدان يتظاهرون بثلاثة أشياء عليها مدار العالم، وليس لهم فيها نصيب، يتظاهرون بالدين، وليس لهم فيه نصيب، ويتظاهرون بالكرم، وليس لواحد منهم كرم في الله، ويتظاهرون بالشجاعة، وشجاعتهم للدنيا لا للآخرة، فاحذر كل الحذر من الاستناد إلى أحد منهم.

ولما عزم المعز على المسير إلى مصر أجال فكره، فيمن يخلفه في بلاد المغرب، فوقع اختياره على جعفر بن عليّ الأمير، فاستدعاه، وأسرّ إليه أنه يريد استخلافه بالمغرب، فقال: تترك معي أحد أولادك أو إخوتك يجلس في القصر، وأنا أدبر، ولا تسألني عن شيء من الأموال، لأنّ ما أجيبه يكون بإزاء ما أنفقه من الأموال، وإذا أردت أمرا فعلته من غير أن أنتظر ورود أمرك فيه لبعد ما بين مصر والمغرب، ويكون تقليد القضاء والخراج وغيره إليّ، فغضب المعز، وقال: يا جعفر عزلتني عن ملكي؟ وأردت أن تجعل لي فيه شريكا في أمري؟ واستبددت بالأعمال والأموال دوني؟ قم فقد أخطأت حظك، وما أصبت رشدك، فخرج عنه.

ص: 188

ثم إنه استدعى يوسف «1» بن زيري الصنهاجيّ، وقال له: تأهب لخلافة المغرب، فأكبر ذلك، وقال: يا مولانا، أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صفا لكم المغرب، فكيف يصفو لي، وأنا صنهاجيّ بربري؟ قتلتني يا مولانا بغير سيف ولا رمح، فما زال به المعز حتى أجاب بشريطة أنّ المعز يولي القضاء والخراج لمن يراه ويختاره، ويجعل الحيز لمن يثق به، ويجعله قائما بين أيدي هؤلاء، فمن استعصى عليهم يأمره هؤلاء به حتى يعمل به ما يجب، ويكون الأمر لهم ويصير كالخادم بين أولئك، فأحب المعز ما قال وشكره، فلما انصرف قال أبو طالب بن القائم بأمر الله للمعز: يا مولانا، وتثق بهذا القول من يوسف، وإنه يقوم بوفاء ما ذكر، فقال المعز: يا عمنا كم بين قول يوسف، وقول جعفر، فاعلم يا عمّ أن الأمر الذي طلبه جعفر ابتداء، هو آخر ما يصير إليه أمر يوسف، وإذا تطاولت المدّة سينفرد بالأمر، ولكن هذا أوّلا أحسن، وأجود عند ذوي العقل، وهو نهاية ما يفعله، وكانت أم الأمراء قد وجهت من المغرب صبية لتباع بمصر، فعرضها وكيلها في مصر للبيع، وطلب فيها ألف دينار، فحضر إليه في بعض الأيام امرأة شابة على حمار لتقلب الصبية، فساومته ففيها، وابتاعتها منه بستمائة دينار، فإذا هي ابنة الإخشيد محمد بن طفج، وقد بلغها خبر هذه الصبية.

فلما رأتها شغفتها حبا، فاشترتها لتستمتع بها، فعاد الوكيل إلى المغرب، وحدّث المعز بذلك، فأحضر الشيوخ، وأمر الوكيل فقص عليهم خبر ابنة الإخشيد مع الصبية إلى آخره، فقال المعز: يا إخواننا انهضوا إلى مصر، فلن يحول بينكم وبينها شيء، فإنّ القوم قد بلغ بهم الترف إلى أن صارت امرأة من بنات الملوك فيهم تخرج بنفسها، وتشتري جارية لتتمتع بها، وما هذا إلّا من ضعف نفوس رجالهم، وذهاب غيرتهم، فانهضوا لمسيرنا إليهم، فقالوا: السمع والطاعة، فقال: خذوا في حوائجكم، فنحن نقدّم الاختيار لمسيرنا إن شاء الله تعالى. وكان قيصر، ومظفر الصقلبيان قد بلغا رتبة عظيمة عند المنصور والد المعز، وكان المظفر يدل على المعز من أجل أنه علمه الخط في صغره، فحرد عليه مرّة، وولى فسمعه المعز يتكلم بكلمة صقلبية استراب منها، ولقنها منه، وأنفت نفسه من السؤال عن معناها، فأخذ يحفظ اللغات، فابتدأ بتعلم اللغة البربرية، حتى أحكمها، ثم تعلم الرومية والسودانية حتى أتقنهما، ثم أخذ يتعلم الصقلبية، فمرّت به تلك الكلمة، فإذا هي سب قبيح، فأمر بمظفر، فقتل من أجل تلك الكلمة، وبلغه أمر الحرب التي كانت بين بني حسن، وبني جعفر بالحجاز، حتى قتل من بني حسن أكثر ممن قتل من بني جعفر، فأنفذ مالا ورجالا في السرّ ما زالوا بالطائفتين حتى اصطلحتا، وتحمل الرجال عن كل منهما

ص: 189

الحمالات، فجاء الفاضل في القتلى لبني حسن عند بني جعفر نحو سبعين قتيلا، فأدّوا عنهم وعقدوا بينهم الصلح في الحرم تجاه الكعبة، وتحملوا عنهم الديات من مال المعز، وكان ذلك في سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، فصارت هذه الفعلة يدا عند بني حسن للمعز، فلما ملك جوهر مصر: بادر حسن بن جعفر الحسنيّ بالدعاء للمعز في مكة، وبعث إلى جوهر بالخبر، فسير إلى المعز يعرّفه بإقامة الدعوة له بمكة، فأنفذ إليه بتقليده الحرم وأعماله.

وسار المعز بعساكره من المغرب حتى نزل بالجيزة فعقد له جوهر جسرا جديدا عند المختار بالجزيرة، فسار عليه، وقد زينت له مدينة الفسطاط، فلم يشقها ودخل إلى القاهرة بجميع أولاده وإخوته وسائر أولاد عبيد الله المهديّ، وبتوابيت آبائه، وذلك لسبع خلون من رمضان سنة اثنتين وستين وثلثمائة، فعندما دخل القصر صلى ركعتين، فاقتدى به من حضر، وبات به ثم أصبح فجلس للهناء، وأمر فكتب في سائر مدينة مصر: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وأثبت اسم المعز لدين الله، واسم أبيه عبد الله الأمير، وجلس في القصر على السرير الذهب، وصلى بالناس صلاة عيد الفطر في المصلى، فسبح في كل ركعة، وفي كل سجدة ثلاثين تسبيحة، ثم خطب بعد الصلاة، وركب لفتح خليج مصر يوم الوفاء، وعمل عيد غدير خم، ومات بعض بني عمه، فصلى عليه، وكبر سبعا، وكبر على ميت آخر خمسا، وقدمت القرامطة إلى مصر، فسير إليهم الجلوس وهزموهم، وما زال إلى أن توفي من علة اعتلها بعد دخوله إلى القاهرة بسنتين وسبعة أشهر وعشرة أيام، وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريبا، فإنّ مولده بالمهدية في حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلثمائة، ووفاته بالقاهرة لأربع عشرة خلت من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلثمائة، وكانت مدّة خلافته بالمغرب، وديار مصر، ثلاثا وعشرون سنة وعشرة أيام، وهو أوّل الخلفاء الفاطميين بمصر، وإليه تنسب القاهرة المعزية لأنّ عبده جوهر القائد بناها حسب ما رسم له كما ذكر في خبر بنائها.

وكان المعز عالما فاضلا جوادا حسن السيرة منصفا للرعية مغرما بالنجوم أقيمت له الدعوة بالمغرب كله وديار مصر والشام، والحرمين، وبعض أعمال العراق.

وقام من بعده ابنه: العزيز بالله أبو منصور نزار، فأقام في الخلافة إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا، ومات وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما في الثامن والعشرين من رجب سنة ست وثمانين وثلثمائة بمدينة بلبيس، وحمل إلى القاهرة.

وقام من بعده ابنه: الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور، وكانت مدّة خلافته إلى أن فقد خمسا وعشرين سنة وشهرا، وفقد وعمره ست وثلاثون سنة وسبعة أشهر في ليلة السابع والعشرين من شوّال سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وقد بسطت خبر العزيز والحاكم عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب.

ص: 190

وقام من بعده ابنه: الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسين عليّ بن الحاكم، بأمر الله، ولد بالقاهرة يوم الأربعاء، لعشر خلون من رمضان سنة خمس وتسعين وثلثمائة، وبويع له بالخلافة يوم عيد النحر، سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وعمره ست عشرة سنة، فخرج إلى صلاة العيد، وعلى رأسه المظلة، وحوله العساكر، وصلى بالناس في المصلى، وعاد فكتب بخلافته إلى الأعمال، وشرب الخمر ورخص فيه للناس، وفي سماع الغناء، وشرب الفقاع، وأكل الملوخيا وجميع الأسماك، فأقبل الناس على اللهو، ووزر له الخطير رئيس الرؤساء أبو الحسن عمار «1» بن محمد، وكان يلي ديوان الإنشاء وغيره، واستوزره بعده بدر الدولة أبا الفتوح موسى بن الحسين، وكان يتولى الشرطة، ثم ولي ديوان الإنشاء بعد ابن حيران، وصرف عن الوزارة في المحرّم سنة ثلاث عشرة، وقبض عليه في شوّال، وقتل فوجد له من العين ستمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار، وولي بعده الأزارة الأمير شمس الملوك المكين مسعود بن طاهر.

وفي سنة أربع عشرة قلد منتخب الدولة الدريزي متولي قيساورية ولاية فلسطين، فكانت له مع حسان بن مفرح بن جراح الطائيّ حروب، وفيها نزع السعر بمصر، وتعذر وجود الخبز، وفي المحرّم سنة خمس عشرة لقب الخادم الأسود معضاد «2» ، بالقائد عز الدولة وسنائها أبي الفوارس معضاد الظاهر، وخلع عليه، وثار رجل من بني الحسين ببلاد الصعيد، فقبض عليه، وأقرّ أنه قتل الحاكم بأمر الله، ووجد معه قطعة من جلد رأسه، وقطعة من الفوطة التي كانت عليه، فسئل عن سبب قتله إياه؟ فقال: غرت لله وللإسلام، ثم قتل نفسه بسكين كانت معه، فقطعت رأسه، وسيرت إلى القاهرة، وفيها اشتدّ الغلاء بمصر، وكثر نقص النيل.

وفيها قرّر الشريف الكبير العجميّ، والشيخ نجيب الدولة الجرجراي «3» ، والشيخ العميد محسن بن بدوس، مع القائد معضاد أن لا يدخل على الظاهر أحد غيرهم، وكانوا يدخلون كل يوم خلوة ويخرجون، فيتصرّفون في سائر أمور الدولة، والظاهر مشغول بلذاته، وصار شمس الملوك مظفر صاحب المظلمة، وابن حيران صاحب الإنشاء، وداعي

ص: 191

الدعاة، ونقيب نقباء الطالبيين، وقاضي القضاة، ربما دخلوا على الظاهر في كل عشرين يوما مرّة، ومن عداهم لا يصل إلى الظاهر البتة، والثلاثة الأول هم الذين يقضون الأشغال، ويمضون الأمور بعد الاجتماع عند القائد معضاد، ومنع الناس من ذبح الأبقار لقلتها، وعزت الأقوات بمصر، وقلت البهائم كلها حتى بيع الرأس البقر بخمسين دينارا، وكثر الخوف في ظواهر البلد، وكثر اضطراب الناس، وتحدّث زعماء الدولة بمصادرة التجار، فاختلف بعضهم على بعض، وكثر ضجيج طوائف العسكر من الفقر والحاجة، فلم يجابوا وتحاسد زعماء الدولة، فقبض على العميد محسن، وضرب عنقه واشتدّ الغلاء، وفشت الأمراض، وكثر الموت في الناس، وفقد الحيوان، فلم يقدر على دجاجة، ولا فروج وعز الماء لقلة الظهر، فعمّ البلاء من كل جهة، وعرض الناس أمتعتهم للبيع، فلم يوجد من يشتريها، وخرج الحاج فقطع عليهم الطريق بعد رحيلهم من بركة الجب، وأخذت أموالهم، وقتل منهم كثير وعاد من بقي، فلم يحج أحد من أهل مصر، وتفاقم الأمر في شدّة الغلاء، فصاح الناس بالظاهر: الجوع الجوع يا أمير المؤمنين؟ لم يصنع بنا هذا أبوك ولا جدّك، فالله الله في أمرنا، وطرقت عساكر ابن جراح الفرما، ففرّ أهلها إلى القاهرة، وأصبح الناس بمصر على أقبح حال من الأمراض والموتان، وشدّة الغلاء، وعدم الأقوات، وكثر الخوف من الذعار التي تكبس حتى أنه لما عمل سماط عيد النحر بالقصر كبس العبيد على السماط، وهم يصيحون: الجوع، ونهبوا سائر ما كان عليه، ونهبت الأرياف وكثر طمع العبيد ونهبهم، وجرت أمور من العامّة قبيحة، واحتاج الظاهر إلى القرض، فحمل بعض أهل الدولة إليه مالا، وامتنع آخرون، واجتمع نحو الألف عبد لتنهب البلد من الجوع، فنودي بأن من تعرّض له أحد من العبيد، فليقتله وندب جماعة لحفظ البلد، واستعدّ الناس، فكانت نهبات بالساحل، ووقائع مع العبيد احتاج الناس فيها إلى أن خندقوا عليهم خنادق، وعملوا الدروب على الأزقّة والشوارع، وخرج معضاد في عسكر، فطردهم وقبض على جماعة منهم ضرب أعناقهم، وأخذ العبيد في طلب الحرحراي وغيره من وجوه الدولة، فحرسوا أنفسهم، وامتنعوا في دورهم وانقضت السنة، والناس في أنواع من البلاء.

وفي سنة ست عشرة أمر الظاهر، فأخرج من بمصر من الفقهاء المالكية وغيرهم، وأمر الدعاة أن يحفظوا الناس كتاب دعائم الإسلام، ومختصر الوزير، وجعل لمن حفظ ذلك مالا.

وفي سنة سبع عشرة ثار بمصر رعاف عظيم بالناس، وكثرت زيادة النيل عن العادة، وتصدّق الظاهر بمائة ألف دينار من أجل أنه سقط عن فرسه وسلم.

وفي سنة ثمان عشرة وقعت الهدنة مع صاحب الروم، وخطب للظاهر في بلاده، وأعاد الجامع بقسطنطينية، وعمل فيه مؤذنا، فأعاد الظاهر كنيسة قمامة بالقدس، وأذن لمن

ص: 192

أظهر الإسلام في أيام الحاكم أن يعود إلى النصرانية، فرجع إليها كثير منهم، وصرف الظاهر وزيره عميد الدولة، وناصحها أبا محمد الحسن بن صالح الروذبادي، وأقام بدله أبا القاسم عليّ بن أحمد الحرحراي.

وفي سنة عشرين كانت فتنة بين المغاربة والأتراك قتل فيها كثير.

وفي سنة إحدى وعشرين بويع لابن الظاهر بولاية العهد، وعمره ثمانية أشهر، وأنفق على ذلك في خلع لأهل الدولة، وطعام ونثار للعامة ما يجل وصفه.

وفي سنة اثنتين وعشرين تحرّك السعر لنقص ماء النيل، ثم زاد بعد أوانه بأربعة أشهر.

وفي سنة ثلاث وعشرين قتل الظاهر أحد الدعاة، فاضطربت الرعية والجند، وتحدّث الناس بخلعه، ثم سكنت الفتنة بعد إنفاق مال جزيل.

وفي سنة أربع وعشرين ركب وليّ العهد من القاهرة إلى مصر، وقد زينت الطرقات، فكان إذا مرّ بقوم قبلوا له الأرض، ونثر يومئذ على العامّة مبلغ خمسة آلاف دينار، فكان يوما عظيما.

وفي سنة خمس وعشرين بث الظاهر دعاته ببغداد عند اختلاف الأتراك بها، فكثرت دعاته هناك، واستجاب لهم خلق كثير، فلما كان في سنة ست وعشرين كثر الوباء بمصر، ومات الظاهر للنصف من شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة عن اثنتين وثلاثين سنة إلّا أياما، فكانت مدّة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياما، وكان مشغوفا باللهو محبا للغناء، فتأنق الناس في أيامه بمصر، واتخذوا المغنيات والرقاصات، وبلغوا من ذلك مبلغا عظيما، واتخذ حجرا لمماليكه وعلمهم أنواع العلوم، وسائر فنون الحرب، واتخذ خزانة البنود، وأقام فيها ثلاثة آلاف صانع، وراسل الملوك واستكثر من شراء الجواهر، وكانت مملكته بإفريقية ومصر والشام والحجاز، وغلب صالح «1» بن مرداس على حلب في أيامه، واستولى على ما يليها، وتغلّب حسان بن جرّاح على أكثر بلاد الشام، فتضعضعت الدولة.

وقام من بعده ابنه وليّ العهد، وبويع له وهو: المستنصر بالله أبو تميم معدّ، ومولده في السادس عشر من جمادى الآخرة سنة عشرين وأربعمائة، وبويع بالخلافة للنصف من شعبان سنة سبع وعشرين، وعمره يومئذ سبع سنين، فأقام ستين سنة وأشهرا في الخلافة كانت فيها أنباء، وقصص شنيعة بديار مصر منها: أنّ أمّه كانت أمة سوداء لتاجر يهوديّ يقال له:

أبو سعد سهل بن هارون التستريّ، فابتاعها منه الظاهر، واستولدها المستنصر، فلما أفضت الخلافة إليه استدنت أمّه أبا سعد، ورقته درجة عليّة، وكان الوزير يومئذ أبا القاسم

ص: 193

الحرحراي، فلم يتمكن أبو سعد من إظهار ما في نفسه حتى مات الحرحراي، وتولى أبو منصور صدقة بن يوسف العلاجيّ الوزارة، فانبسطت يد أبي سعد، وصار العلاجيّ يأتمر بأمر، فعمل عليه وقتله كما ذكر في خبر خزانة البنود، فحقدت أم المستنصر على العلاجيّ، وصرفته عن الوزارة واستقر أبو البركات صفيّ الدين الحسين بن محمد بن أحمد الحرحراي في الوزارة.

وفي سنة أربعين سار ناصر الدولة الحسين بن حمدان متولي دمشق بالعساكر إلى حلب، وحارب متوليها: ثمال بن صالح بن مرداس، ثم رجع بغير طائل، فقلد مظفر الصقلبيّ دمشق، وقبض على ابن حمدان، وصادره واعتقله بصور، ثم بالرملة، وخرج أمير الأمراء: رفق الخادم على عسكر تبلغ عدّته نحو الثلاثين ألفا بلغت النفقة عليه أربعمائة ألف دينار يريد الشام، ومحاربة بني مرداس.

وفي المحرّم سنة إحدى وأربعين صرف قاضي القضاة قاسم بن عبد العزيز بن النعمان عن القضاء بعدما باشره ثلاث عشرة سنة وشهر أو أربعة أيام، وتقلد وظيفة القضاء بعده القاضي الأجل خطير الملك أبو محمد البازوريّ.

وفيها حارب رفق بني مرداس، فظفروا به وأسروه، فمات بقلعة حلب، فأفرج عن ابن حمدان، وبقي بالحضرة، وقبض على الوزير أبي البركات الحرحراي، ونفي إلى الشام، وعمل أبو المفضل صاعد بن مسعود واسطة لا وزيرا، ثم قلد القضاة أبو محمد البازوريّ الوزارة مع وظيفة القضاء، ولقب بسيد الوزراء.

وفي سنة اثنتين وأربعين كانت حروب البحيرة، وإخراج بني قرّة منها، وإنزال بني سنيس بعدهم بها، وفيها دعا عليّ بن محمد الصليحيّ باليمن للمستنصر، وبعث إليه بمال النجوة والهدن.

وفي سنة أربع وأربعين كتب ببغداد محاضر بالقدح في نسب الخلفاء المصريين، ونفيهم من الانتساب إلى عليّ بن أبي طالب، وسيرت إلى الآفاق وقصر مدّ النيل، فتحرّك السعر بمصر، ثم قصر أيضا مدّ النيل في سنة ست وأربعين، فقوي الغلاء، وكثر الموت في الناس.

وفي سنة ثمان وأربعين خرج أبو الحارث «1» البساسيري من بغداد منتميا للمستنصر،

ص: 194

فسيرت إليه الأموال والخلع.

وفي سنة ثمان وأربعين عادت حلب إلى مملكة المستنصر.

وفي سنة خمسين قبض على الوزير الناصر للدين أبي محمد البازوريّ، وتقلد بعده الوزارة أبو الفرج محمد بن جعفر المغربي بن عبد الله بن محمد، وولي القضاء بعد البازوريّ أبو عليّ أحمد بن عبد الحكم، ثم صرف بعبد الحاكم المليحيّ، وفيها أخذ البساسيري بغداد، وأقام فيها الخطبة للمستنصر، وفرّ الخليفة القائم بأمر الله العباسيّ إلى قريش «1» بن بدران، فبعث به إلى غانة، وسيرت ثياب القائم، وعمامته وغير ذلك من الأموال إلى مصر، وفيها سار ناصر الدولة إلى دمشق أميرا عليها.

وفي سنة إحدى وخمسين أقيمت دعوة المستنصر بالبصرة وواسط وجميع تلك الأعمال، فقدم طغريل إلى بغداد، وأعاد الخليفة القائم بعد ما خطب للمستنصر ببغداد أربعون خطبة، وقتل البساسيريّ، وفيها قطعت خطبة المستنصر أيضا من حلب، فسار إليها ابن حمدان، وحارب أهلها، فانكسر كسرة شديدة شنيعة، وعاد إلى دمشق، وفيها صرف أبو الفرج بن المغربيّ عن الوزارة، وعبد الحاكم عن القضاء، وأعيد إلى الوزارة أبو الفرج البابليّ، واستقرّ في وظيفة القضاء أحمد بن أبي زكري.

وفي سنة ثلاث وخمسين كثر صرف الوزراء والقضاة، وولايتهم لكثرة مخالطة الرعاع للخليفة، وتقدّم الأراذل بحيث كان يصل إليه في كل يوم ثمانمائة رقعة فيها المرافعات والسعايات، فاشتبهت عليه الأمور، وتناقضت الأحوال، ووقع الاختلاف بين عبيد الدولة، وضعفت قوى الوزراء عن التدبير لقصر مدّة كل منهم، وخربت الأعمال، وقلّ ارتفاعها، وتغلب الرجال على معظمها مع كثرة النفقات والاستخفاف بالأمور، وطغيان الأكابر إلى أن آل الأمر إلى حدوث الشدّة العظمى، كما قد ذكر في موضعه من هذا الكتاب، وكان من قدوم أمير الجيوش بدر الجماليّ «2» في سنة ست وستين وأربعمائة، وقيامه بسلطنة مصر ما ذكر في ترجمته عند ذكر أبواب القاهرة، فلم يزل المستنصر مدّة أمير الجيوش ملجما عن التصرّف إلى أن مات في سنة سبع وثمانين، فأقام العسكر من بعده في الوزارة ابنه الأفضل شاهنشاه، فباشر الأمور يسيرا، ومات المستنصر ليلة الخميس لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة سبع وثمانين عن سبع، وستين سنة وخمسة أشهر منها في الخلافة ستون سنة، وأربعة

ص: 195

أشهر وثلاثة أيام مرّت فيها أهوال عظيمة، وشدائد آلت به إلى أن جلس على نخ، وفقد القوت فلم يقدر عليه حتى كانت امرأة من الأشراف تتصدّق عليه في كل يوم بقعب فيه فتيت، فلا يأكل سواه مرّة في كل يوم، وقد مرّ في غير موضع من هذا الكتاب كثير من أخباره، فلما مات المستنصر أقام الأفضل بن أمير الجيوش في الخلافة من بعده ابنه:

المستعلي بالله أبا القاسم أحمد، وكان مولده في العشرين من المحرّم سنة سبع وستين وأربعمائة، فحالف عليه أخوه نزار، وفرّ إلى الإسكندرية وكان القائم بالأمور كلها الأفضل، فحاربه حتى ظفر به، وقتله كما تقدّم في خبر أفتكين عند خزائن القصر.

وفي سنة تسعين وقع بمصر غلاء ووباء وقطعت الخطبة من دمشق للمستعلي، وخطب بها للعباسيّ، وخرج الفرنج من قسطنطينية لأخذ سواحل الشام، وغيرها من أيدي المسلمين فملكوا أنطاكية.

وفي سنة إحدى وتسعين خرج الأفضل بعسكر عظيم من القاهرة، فأخذ بيت المقدس من الأرمن، وعاد إلى القاهرة.

وفي سنة اثنتين وتسعين ملك الفرنج الرملة وبيت المقدس، فخرج الأفضل بالعساكر، وسار إلى عسقلان، فسار إليه الفرنج وقاتلوه، وقتلوا كثيرا من أصحابه، وغنموا منه شيئا كثيرا وحصروه، فنجا بنفسه في البحر، وصار إلى القاهرة.

وفي سنة ثلاث وتسعين عمّ الوباء أكثر البلاد، فهلك بمصر عالم عظيم.

وفي سنة أربع وتسعين خرج عسكر مصر لقتال الفرنج، وكانت بينهما حروب كثيرة.

وفي سنة خمس وتسعين وأربعمائة مات المستعلي بالله لثلاث عشرة بقيت من صفر، وعمره سبع وعشرون سنة وسبعة وعشرون يوما، ومدّة خلافته سبع سنين وشهران، وفي أيامه اختلت الدولة، وانقطعت الدعوة من أكثر مدن الشام، فإنها صارت بين الأتراك والفرنج، وصارت الإسماعيلية فرقتين: فرقة نزارية تطعن في إمامة المستعلي، وفرقة ترى صحة خلافته، ولم يكن للمستعلي مع الأفضل أمر ولا نهي، ولا نفوذ كلمة، وقيل: إنه سمّ، وقيل: بل قتل سرّا.

فلما مات أقام الأفضل من بعده في الخلافة ابنه: الآمر بأحكام الله أبا عليّ منصورا، وعمره خمس سنين وشهر وأيام، فقتل الأفضل في أيامه، وأقام في الخلافة تسعا وعشرين سنة وثمانية أشهر ونصفا، وقد ذكرت ترجمته عند ذكر الجامع الأقمر في ذكر الجوامع من هذا الكتاب، ولما قتل الآمر بأحكام الله.

أقيم من بعده: الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله، وكان قد ولد بعسقلان في المحرّم سنة سبع، وقيل: في سنة ثمان

ص: 196

وتسعين وأربعمائة لما أخرج المستنصر ابنه أبا القاسم مع بقية أولاده في أيام الشدّة، فلذلك كان يقال له في أيام الآمر بأحكام الله الأمير عبد المجيد العسقلانيّ ابن عمّ مولانا.

ولما قتل النزارية: الخليفة الآمر أقام برغش وهزار الملوك الأمير عبد المجيد في دست الخلافة، ولقباه بالحافظ لدين الله، وأنه يكون كفيلا لمنتظر في بطن أمّه من أولاد الآمر، واستقرّ هزاز الملوك وزيرا، فثار العسكر، وأقاموا أبا عليّ بن الأفضل وزيرا، وقتل هزار الملوك، ونهب شارع القاهرة، وذلك كله في يوم واحد، فاستبدّ أبو عليّ بالوزارة يوم السادس عشر من ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وقبض على الحافظ، وسجنه مقيدا، فاستمرّ إلى أن قتل أبو عليّ في سادس عشر المحرّم سنة ست وعشرين، فأخرج من معتقله، وأخذ له العهد على أنه وليّ عهد كفيل لمن يذكر اسمه، فاتخذ الحافظ هذا اليوم عيدا سماه عيد النصر، وصار يعمل كل سنة، ونهبت القاهرة يومئذ وقام يانس صاحب الباب بالوزارة إلى أن هلك في ذي الحجة منها بعد تسعة أشهر، فلم يستوزر الحافظ بعده أحدا، وتولى الأمور بنفسه إلى سنة ثمان وعشرين، فأقام ابنه سليمان وليّ عهده مقام وزير، فلم تطل أيامه سوى شهرين ومات، فجعل مكانه ابن حيدرة، فخنق ابنه حسن، وثار بالفتنة، وكان من أمره ما ذكر في خبر الحارة اليانسية من هذا الكتاب، فلما قتل حسن قام بهرام الأرمنيّ، وأخذ الوزارة في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين، وكان نصرانيا، فاشتدّ ضرر المسلمين من النصارى، وكثرت أذيتهم فسار رضوان بن ولخشي، وهو يومئذ متولي الغربية، وجمع الناس لحرب بهرام، وسار إلى القاهرة، فانهزم بهرام، ودخل رضوان القاهرة، واستولى على الوزارة في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين، فأوقع بالنصارى وأذلهم، فشكره الناس إلا أنه كان خفيفا عجولا، فأخذ في إهانة حواشي الخليفة، وهمّ بخلع، وقال: ما هو بإمام، وإنما هو كفيل لغيره، وذلك الغير لم يصح، فتوحش الحافظ منه، وما زال يدبر عليه حتى ثارت فتنة انهزم فيها رضوان، وخرج إلى الشام، فجمع وعاد في سنة أربع وثلاثين، فجهز له الحافظ العساكر لمحاربته، فقاتلهم وانهزم منهم إلى الصعيد فقبض عليه، واعتقل، فلم يستوزر الحافظ أحدا بعده إلى أن كانت سنة ست وثلاثين، فغلت الأسعار بمصر وكثر الوباء، وامتدّ إلى سنة سبع وثلاثين، فعظم الوباء.

وفي سنة اثنتين وأربعين خلص رضوان من معتقله بالقصر، وخرج من نقب، وثار بجماعة، وكانت فتنة آلت إلى قتله.

وفي سنة أربع وأربعين ثارت فتنة بالقاهرة بين طوائف العسكر، فمات الحافظ ليلة الخامس من جمادى الآخرة عن سبع وسبعين سنة منها مدّة خلافته ثمان عشرة سنة وأربعة أشهر وتسعة يوما، أصابته فيها شدائد كثيرة، وكان حازما سيوسا كثير المداراة عارفا جماعا للمال مغرى بعلم النجوم يغلب عليه الحلم.

ص: 197

فلما مات والفتنة قائمة أقيم ابنه: الظاهر بأمر الله أبو منصور إسماعيل، ومولده للنصف من ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فأقام في الخلافة أربع سنين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام، وكان محكوما عليه من الوزارة، وفي أيامه أخذت عسقلان، فظهر الخلل في الدولة، وقد ذكرت أخباره في خط الخشيبة عند ذكر الخطط من هذا الكتاب.

فلما قتل أقيم من بعده ابنه: الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى، أقامه في الخلافة بعد مقتل أبيه الوزير عباس، وعمره خمس سنين، فقدم طلائع بن رزيك «1» والي الأشمونين بجموعه إلى القاهرة، ففرّ عباس، واستولى طلائع على الوزارة، وتلقب بالصالح، وقام بأمر الدولة إلى أن مات الفائز لثلاث عشرة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين عن إحدى عشرة سنة، وستة أشهر ويومين منها في الخلافة ست وستين وخمسة أشهر وأيام، لم ير فيها خيرا فإنه لما أخرج ليقام خليفة رأى أعمامه قتلى، وسمع الصراخ، فاختلّ عقله، وصار يصرخ حتى مات.

فأقام الصالح بن رزيك في الخلافة بعده: العاضد لدين الله أبا محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله، ومولده لعشر بقين من المحرّم سنة ست وأربعين وخمسمائة، وكان عمره يوم بويع نحو إحدى عشرة سنة، وقام الصالح بتدبير الأمور إلى أن قتل في رمضان سنة ست وخمسين كما ذكر في خبره عند ذكر الجوامع، فقام من بعده ابنه رزيك بن طلائع، وحسنت سيرته، فعزل شاور بن مجير السعديّ عن ولاية قوص، فلم يقبل العزل، وحشد وسار على طريق الواحات في البرية إلى تروجة، فجمع الناس، وسار إلى القاهرة، فلم يثبت رزيك، وفرّ فقبض عليه بإطفيح، واستقرّ شاور في الوزارة لأيام خلت من صفر سنة ثمان وخمسين، فأقام إلى أن ثار ضرغام صاحب الباب، ففرّ منه إلى الشام، واستبدّ ضرغام بالوزارة، فقتل أمراء الدولة، وأضعفها بسبب ذهاب أكابرها، فقدم الفرنج، ونازلوا مدينة بلبيس مدّة، ودافعهم المسلمون عدّة مرار، حتى عادوا إلى بلادهم بالساحل، ورجع العسكر إلى القاهرة، وقد قتل منهم كثير، فوصل شاور بعساكر الشام في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، فحاربه ضرغام على بلبيس بعساكر مصر، وكانت لهم منه معارك انهزموا في آخرها، وغنم شاور ومن معه سائر ما خرجوا به، وكان شيئا جليلا، فسرّوا بذلك، وساروا إلى القاهرة فكانت بين الفريقين حروب آلت إلى هزيمة ضرغام، وقتله في شهر رمضان منها.

فاستولى شاور على الوزارة مرّة ثانية، واختلف مع الغزاة القادمين معه من الشام، وكانت له معهم حروب آلت إلى أن شاور كتب إلى مري ملك الفرنج يستدعيه إلى القاهرة

ص: 198

ليعينه على محاربة شيركوه، ومن معه من الغز، فحضر، وقد صار شيركوه في مدينة بلبيس، فخرج شاور من القاهرة، ونزل هو ومري على بلبيس، وحصرا شيركوه ثلاثة أشهر، ثم وقع الصلح، فسار شيركوه بالغز إلى الشام، ورحل الفرنج، وعاد شاور إلى القاهرة في سنة ستين وخمسمائة، فلم يزل إلى أن قدم شيركوه من الشام بالعساكر مرّة ثانية في ربيع الآخر، فخرج شاور من القاهرة إلى لقائه، واستدعى مري ملك الفرنج، فسار شيركوه على الشرق، وخرج من إطفيح، فسار إليه شاور بالفرنج، وكانت له معه الوقعة المشهورة، فسار شيركوه بعد الوقعة من الأشمونين، وأخذ الإسكندرية بعد أن استخلف عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولم يزل يسير من الإسكندرية إلى قوص، وهو يجبي البلاد، فخرج شاور من القاهرة بالفرنج، ونازل الإسكندرية، فبلغ شيركوه ذلك، فعاد من قوص إلى القاهرة، وحصرها.

ثم كانت أمور آخرها مسير شيركوه وأصحابه من أرض مصر إلى الشام في شوّال، وقد طمع الفرنج في البلاد وتسلموا أسوار القاهرة، وأقاموا فيها شحنة معه عدّة من الفرنج لمقاسمة المسلمين ما يتحصل من مال البلد، وفحش أمر شاور، وساءت سيرته، وكثر تجرّيه على الدماء، وإتلافه للأموال، فلما كان في سنة أربع وستين قوي تمكن الفرنج في القاهرة، وجاروا في حكمهم بها، وركبوا المسلمين بأنواع الإهانة.

فسار مري يريد أخذ القاهرة، ونزل على مدينة بلبيس، وأخذها عنوة، فكتب العاضد إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستصرخه، ويحثه على نجدة الإسلام، وإنقاذ المسلمين من الفرنج، فجهز أسد الدين شيركوه في عسكر كثير، وجهزهم وسيرهم إلى مصر، وقد أحرق شاور مدينة مصر، كما تقدّم ونزل مري ملك الفرنج على القاهرة، وألحّ في قتال أهلها حتى كاد أن يأخذها عنوة، فسير إليها شاور وخادعه حتى رضي بمال يجمعه له، فشرع في جبايته، وإذا بالخبر ورد بقدوم شيركوه، فرحل الفرنج عن القاهرة في سابع ربيع الآخر، ونز شيركوه على القاهرة بالغز ثالث مرّة، فخلع عليه العاضد، وأكرمه، فأخذ شاور يفتك بالغز على عادته، فكان من قتله ما ذكر في موضعه، وذلك في سابع عشر ربيع الآخر المذكور، وتقلد شيركوه وزارة العاضد، وقام بالدولة شهرين وخمسة أيام، ومات في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، ففوّض العاضد الوزارة لصلاح الدين يوسف بن أيوب، فساس الأمور، ودبر لنفسه، فبذل الأموال، وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد.

وأمر العاضد في نقصان، وصار يخطب من بعد العاضد للسلطان محمود نور الدين، وأقطع أصحابه البلاد، وأبعد أهل مصر، وأضعفهم، واستبدّ بالأمور، ومنع العاضد من التصرّف حتى تبين للناس ما يريده من إزالة الدولة إلى أن كان من واقعة العبيد ما ذكرنا،

ص: 199

فأبادهم وأفناهم، ومن حينئذ تلاشى العاضد، وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة فقط، هذا وصلاح الدين يوالي الطلب منه في كل يوم ليضعفه، فأتى على المال والخيل والرقيق وغير ذلك حتى لم يبق عند العاضد غير فرس واحد، فطلب منه، وألجأه إلى إرساله، وأبطل ركوبه من ذلك الوقت.

وصار لا يخرج من القصر البتة، وتتبع صلاح الدين جند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم، فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، فلما كان في سنة ست وستين أبطل المكوس من ديار مصر، وهدم دار المعونة بمصر، وعمرها مدرسة للشافعية، وأنشأ مدرسة أخرى للمالكية، وعزل قضاة مصر الشيعة، وقلد القضاء صدر الدين بن عبد الملك بن درباس الشافعيّ، وجعل إليه الحكم في إقليم مصر كله، فعزل سائر القضاة، واستتاب قضاة شافعية، فتظاهر الناس من تلك السنة بمذهب مالك والشافعيّ رضي الله عنهما، واختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر، وأخذ في غزو الفرنج، فخرج إلى الرملة، وعاد في ربيع الأوّل، ثم سار إلى أيلة، ونازل قلعتها، حتى أخذها من الفرنج في ربيع الآخر، ثم سار إلى الإسكندرية، ولمّ شعث سورها، وعاد وسير توران شاه «1» ، فأوقع بأهل الصعيد، وأخذ منهم ما لا يمكن وصفه كثرة، وعاد فكثر القول من صلاح الدين، وأصحابه في ذم العاضد، وتحدّثوا بخلعه، وإقامة الدعوة العباسية بالقاهرة ومصر، ثم قبض على سائر من بقي من أمراء الدولة، وأنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة، فأصبح في البلد من العويل والبكاء، ما يذهل، وتحكم أصحابه في البلد بأيديهم، وأخرج إقطاعات سائر المصريين لأصحابه، وقبض على بلاد العاضد، ومنع عنه سائر موادّه، وقبض على القصور، وسلمها إلى الطواشي بهاء الدين «2» قراقوش الأسديّ، وجعله زمامها، فضيق على أهل القصر، وصار العاضد معتقلا تحت يده، وأبطل من الأذان: حيّ على خير العمل، وأزال شعار الدولة، وخرج بالعزم على قطع خطبة العاضد، فمرض ومات، وعمره إحدى وعشرون سنة إلّا عشرة أيام منها في الخلافة إحدى عشرة سنة وستة أشهر وسبعة أيام، وذلك في ليلة يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة بعد قطع اسمه من الخطبة، والدعاء للمستنجد العباسيّ بثلاثة أيام، وكان كريما لين الجانب مرّت به مخاوف وشدائد، وهو آخر الخلفاء الفاطميين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهديّ إلى أن مات العاضد مائتي سنة واثنتين وسبعين سنة وأياما بالقاهرة، منها مائتان وثماني سنين، فسبحان الباقي.

ص: 200