الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما كان في ذي القعدة وقد اشتدّ البلاء من الحصار جمع ابن مصال ماله، وفرّ في البحر إلى جهة بلاد المغرب، ففت ذلك في عضد نزار وتبين فيه الانكسار، واشتدّ الأفضل، وتكاثرت جموعه، فبعث نزار وأفتكين إليه يطلبان الأمان منه، فأمنهما ودخل الاسكندرية، وقبض على نزار وأفتكين، وبعث بهما إلى القاهرة، فأما نزار: فإنه قتل في القصر بأن أقيم بين حائطين بنيا عليه فمات بينهما، وأما أفتكين، فإنه قتله الأفضل بعد قدومه، ودار أفتكين هذه كانت خارج القصر وموضعها الآن حيث مدرسة القاضي الفاضل، وآدره بدرب ملوخيا.
خزانة البنود
«1»
البنود: هي الرايات والأعلام، ويشبه أن تكون هي التي يقال لها في زمننا: العصائب السلطانية، وكانت خزانة البنود ملاصقة للقصر الكبير، ومن حقوقه فيما بين قصر الشوك، وباب العيد بناها: الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله أبو هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله، وكان فيها ثلاثة آلاف صانع مبرزين في سائر الصنائع، وكانت أيام الظاهر هذا سكونا وطمأنينة، وكان مشتغلا بالأكل والشرب، والنزه، وسماع الأغاني.
وفي زمانه تأنق أهل مصر والقاهرة في اتخاذ الأغاني والرقاصات، وبلغ من ذلك المبالغ العجيبة، واتخذت له حجرة المماليك، وكانوا يعلمونهم فيها أنواع العلوم وأنواع آلة الحرب، وصنوف حيلها من الرماية، والمطاعنة، والمسابقة وغير ذلك.
وقال في كتاب الذخائر والتحف: ولما وهب السلطان يعني الخليفة المستنصر لسعد الدولة المعروف بسلام عليك ما في خزانة البنود من جميع المتاع والآلات، وغير ذلك في اليوم السادس من صفر سنة إحدى وستين وأربعمائة، حمل جميعه ليلا، وكان فيما وجد سعد الدولة فيها ألفا وتسعمائة درقة إلى ما سوى ذلك من آلات الحرب وما سواه، وغير ذلك من القضب الفضة والذهب والبنود، وما سواه، وفي خلال ذلك سقط من بعض الفرّاشين: مقط شمع موقد نارا، فصادف هناك أعدال كتان، ومتاعا كثيرا، فاحترق جميعه، وكانت لتلك غلبة عظيمة، وخوف شديد فيما يليها من القصر، ودور العامّة والأسواق.
وأعلمني من له خبرة بما كان في خزانة البنود أن مبلغ ما كان فيها من سائر الآلات، والأمتعة، والذخائر لا يعرف له قيمة عظما، وإنّ المنفق فيها كل سنة: من سبعين ألف دينار إلى ثمانين ألف دينار من وقت دخول القائد جوهر، وبناء القصر من سنة ثمان وخمسين
وثلثمائة إلى هذا الوقت، وذلك زائد عن مائة سنة، وإنّ جميعه باق فيها على الأيام لم يتغير، وإنّ جميعه احترق حتى لم يبق منه باقية، ولا أثر، وإنه احترق في هذه الليلة من قربات النفط عشرات ألوف، ومن زراقات النفط أمثالها، فأما الدرق والسيوف والرماح والنشاب، فلا تحصى بوجه، ولا سبب مع ما فيها من قضب الفضة، وثيابها المذهبة وغيرها، والبنود المجملة، وسروج ولجم وثياب الفرحية المصبغات والبنادين، وغيرها بعد أن أخذوا ما قدروا عليه، حتى لواء الحمد «1» ، وسائر البنود، وجميع العلامات، والألوية.
وحدّثني من أثق به أيضا: أنه احترق فيها من السيوف عشرات ألوف، وما لا يحصى كثرة، وإن السلطان بعد ذلك بمدّة طويلة احتاج إلى إخراج شيء من السلاح لبعض مهماته، فأخرج من خزانة واحدة مما بقي وسلم خمسة عشر ألف سيف مجوهرة سوى غيرها.
حدّثني بجميعه الأجل: عظيم الدولة متولي الستر الشريف انتهى.
وجعلت خزانة البنود بعد هذا الحريق حبسا، وفيها يقول القاضي المهذب بن الزبير لما اعتقل بها، وكتب بها للكامل بن شاور:
أيا صاحبي سجن الخزانة خليا
…
نسيم الصبا يرسل إلى كبدي نفحا
وقولا لضوء الصبح هل أنت عائد
…
إلى نصري أم لا أرى بعدها صبحا
ولا تيأسا من رحمة الله أن أرى
…
سريعا بفضل الكامل العفو والصفحا
وقال:
أيا صاحبي سجن الخزانة خليا
…
من الصبح ما يبدو سناه لناظري
فو الله ما أدري أطرفي ساهر
…
على طول هذا الليل أم غير ساهر
وما لي من أشكو إليه إذا كما
…
سوى ملك الدنيا شجاع بن شاور
واستثمرت سجنا للأمراء، والوزراء، والأعيان إلى أن زالت الدولة، فاتخذها ملوك بني أيوب أيضا سجنا، تعتقل فيه الأمراء والمماليك.
ومن غريب ما وقع بها أن الوزير: أحمد بن عليّ الجرجرائي «2» : لما توفي طلب الوزارة: الحسن بن عليّ الأنباري: فأجيب إليها، فتعجل من سوء التدبير قبل تمامه ما فوّته مراده، وضيع ماله ونفسه، وذلك أنه كان قد نبغ في أيام الحاكم بأمر الله أخوان يهوديان:
بتصرّف أحدهما في التجارة، والآخر في الصرف، وبيع ما يحمله التجار من العراق.
وهما: أبو سعد إبراهيم، وأبو نصر هارون ابنا سهل التستريّ، واشتهر من أمرهما في البيوع وإظهار ما يحصل عندهما من الودائع الخفية لمن يفقد من التجار في القرب والبعد، ما ينشأ به جميل الذكر في الآفاق، فاتسع حالهما لذلك، واستخدم الخليفة الظاهر لإعزار دين الله: أبا سعد إبراهيم بن سهل التستريّ في ابتياع ما يحتاج إليه من صنوف الأمتعة، وتقدّم عنده، فباع له جارية سوداء، فتحظى بها الظاهر، وأولدها: ابنه المستنصر، فرعت لأبي سعد ذلك، فلما أفضت الخلافة إلى المستنصر ولدها قدّمت: أبا سعد، وتخصصت به في خدمتها.
فلما مات الوزير الجرجرائي، وتكلم ابن الأنباري في الوزارة قصده أبو نصر أخو أبي سعد، فجبهه أحد أصحابه بكلام مؤلم، فظنّ أبو نصر أن الوزير ابن الأنباري إذا بلغه ذلك ينكر على غلامه، ويعتذر إليه، فجاء منه خلاف ما ظنه، وبلغه عنه أضعاف ما سمعه من الغلام، فشكا ذلك إلى أخيه أبي سعد، وأعلمه بأنّ الوزير متغير النية لهما، فلم يفتر أبو سعد عن ابن الأنباريّ، وأغرى به أمّ المستنصر مولاته، فتحدّثت مع ابنها الخليفة المستنصر في أمره حتى عزله عن الوزارة فسعى أبو سعد عند أمّ المستنصر: لأبي نصر صدقة بن يوسف الفلاحيّ في الوزارة، فاستوزره المستنصر، وتولى أبو سعد الإشراف عليه، وصار الوزير الفلاحيّ منقادا لأبي سعد تحت حكمه، وأخذ الفلاحي يعمل على ابن الأنباري ويغري به، ويصنع عليه ديونا، ويذكر عنه ما يوجب الغضب عليه، حتى تمّ له ما يريد، فقبض عليه، وخرّج عليه من الدواوين أموالا كثيرة، مما كان يتولاه قديما، وألزمه بحملها، ونوّع له أصناف العذاب، واستصفى أمواله، وهو معتقل بخزانة البنود، ثم قتله في يوم الاثنين الخامس من المحرّم سنة أربعين وأربعمائة بها، فاتفق أن الفلاحي لما صرف عن الوزارة، اعتقل بخزانة البنود حيث كان ابن الأنباري، قم قتل بها، وحفر له ليدفن، فظهر في الحفر رأس ابن الأنباري قبل أن يمضي فيه القتل، فقال لا إله إلّا الله: هذا رأس ابن الأنباري أنا قتلته، ودفنته ههنا وأنشد:
رب لحد قد صار لحدا مرارا
…
ضاحكا من تزاحم الأضداد «1»
فقتل، ودفن في تلك الحفرة مع ابن الأنباري، فعدّ ذلك من غرائب الاتفاق.
ثم إن خزانة البنود جعلت منازل للأسرى من الفرنج المأسورين من البلاد الشامية أيام
كانت محاربة المسلمين لهم، فأنزل بها الملك الناصر محمد بن قلاون: الأسارى بعد حضوره من الكرك، وأبطل السجن بها، فلم يزالوا فيها بأهاليهم، وأولادهم في أيام السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، فصار لهم فيها أفعال قبيحة، وأمور منكرة شنيعة من التجاهر: ببيع الخمر، والتظاهر بالزنا واللياطة، وحماية من يدخل إليها من أرباب الديون، وأصحاب الجرائم وغيرهم، فلا يقدر أحد، ولو جلّ على أخذ من صار إليهم واحتمى بهم.
والسلطان يغضي عنهم لما يرى في ذلك من مراعاة المصلحة، والسياسة التي اقتضاها الحال من مهادنة ملوك الفرنج، وكان يسكن بالقرب منها الأمير الحاج آل ملك الجوكندار، ويبلغه ما يفعله الفرنج من العظائم الشنيعة، فلا يقدر على منعهم، وفحش أمرهم، فرفع الخبر إلى السلطان، وأكثر من شكايتهم غير مرّة والسلطان يتغافل عن ذلك إلى أن كثرت مفاوضة الحاج آل ملك للسلطان في أمرهم، فقال له السلطان: أتنقل أنت عنهم يا أمير؟
فلم يسعه إلّا الإعراض عن ذلك، وعمّر داره التي بالحسينية، والإصطبل، والجامع المعروف: بآل ملك والحمام والفندق، وانتقل من داره التي كان فيها بجوار خزانة البنود، وسكن بالحسينية إلى أن مات السلطان الملك الناصر في أخريات سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وتنقل الملك في أولاده إلى أن جلس الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاون، وضرب شورى على من يكون نائب السلطنة بالديار المصرية يدبر أحوال المملكة، كما كانت العادة في ذلك مدّة الدلة التركية، فأشير بتولية الأمير: بدر الدين جنكل بن البابا، فتنصل من ذلك، وأبى قبوله، فعرضت النيابة على الأمير الحاج آل مالك فاستبشر وقال: لي شروط أشرطها على السلطان، فإن أجابني إليها فعلت ما يرسم به.
وهي أن لا يفعل شيء في المملكة إلا برأيي، وأن يمنع الناس من شرب الخمر، ويقام منار الشرع، ولا يعترض على أمر من الأمور، فأجيب إلى ما سأل، وأحضرت التشاريف، فأفيضت عليه بالجامع من قلعة الجبل في يوم الجمعة الثاني عشر من المحرّم سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وأصبح يوم السبت جالسا في دار النيابة من القلعة، وحكم بين الناس، وأوّل ما بدأ به: أن أمر والي القاهرة بالنزول إلى خزانة البنود، وأن يحتاط على جميع ما فيها من الخمر والفواحش، ويخرج الأسرى منها، ويهدمها حتى يجعلها دكا، ويسوّي بها الأرض، فنزل إليها ومعه الحاجب في عدّة وافرة، وهجموا على من فيها، وهم آمنون، وأحاطوا بسائر ما تشتمل عليه، وقد اجتمع من العامّة والغوغاء، ما لا يقع عليه حصر، فأراقوا منها خمورا كثيرة تتجاوز الحدّ في الكثرة، وأخرج من كان فيها من النساء البغايا، وغيرهنّ من الشباب، وأرباب الفساد، وقبض على الفرنج والأرمن، وهدمها حتى