الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فبعث إليهم وهزمهم، وبعث إلى الصعيد، فقدم صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس في طلب مروان هو وأبو عون عبد الملك بن يزيد يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فأدرك صالح مروان ببوصير من الجيزة بعد ما استخلف على الفسطاط معاوية بن بحيرة بن ريسان، فحارب مروان حتى قتل ببوصير يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة، ودخل صالح إلى الفسطاط يوم الأحد لثمان خلون من المحرّم سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وبعث برأس مروان إلى العراق، وانقضت أيام بني أمية.
فولي: صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس، ولي من قبل أمير المؤمنين أبي العباس عبد الله بن محمد السفاح، فاستقبل بولايته المحرّم سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وبعث بوفد أهل مصر إلى أبي العباس السفاح ببيعة أهل مصر، وأسر عبد الملك بن موسى بن نصير وجماعة، وقتل كثيرا من شيعة بني أمية، وحمل طائفة منهم إلى العراق، فقتلوا بقلنسوة «1» من أرض فلسطين، وأمر للناس بأعطياتهم للمقاتلة والعيال، وقسمت الصدقات على اليتامى والمساكين، وزاد صالح في المسجد، وورد عليه كتاب أمير المؤمنين السفاح، بإمارته على فلسطين والاستخلاف على مصر، فاستخلف أبا عون مستهلّ شعبان سنة ثلاث وثلاثين، وسار ومعه عبد الملك بن نصير ملزما، وعدّة من أهل مصر صحابة لأمير المؤمنين، وأقطع الذين سوّدوا قطائع منها: منية بولاق، وقرى إهناس، وغيرها ثم من بعد صالح بن عليّ.
سكن أمراء مصر العسكر، وأوّل من سكنه أبو عون، والله تعالى أعلم.
ذكر العسكر الذي بني بظاهر مدينة فسطاط مصر
اعلم: أن موضع العسكر قد كان يعرف في صدر الإسلام بالحمراء القصوى، وقد تقدّم أن الحمراء القصوى كانت خطة بني الأزرق، وبني روبيل، وبني يشكر بن جزيلة، ثم دثرت هذه الخطط بعد العمارة بتلك القبائل، حتى صارت صحراء، فلما قدم مروان بن محدم آخر خلفاء بني أمية إلى مصر منهزما من بني العباس نزلت عساكر صالح بن عليّ، وأبي عون عبد الملك بن يزيد في هذه الصحراء، حيث جبل يشكر حتى ملؤوا الفضاء، وأمر أبو عون أصحابه بالبناء فيه، فبنوا وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة.
فلما خرج صالح بن عليّ من مصر خرب أكثر ما بنى فيه إلى زمن موسى بن عيسى الهاشميّ فابتنى فيه دارا أنزل فيها حشمة وعبيده، وعمر الناس، ثم ولي: السريّ بن الحكم، فأذن للناس في البناء، فابتنوا فيه وصار مملوكا بأيديهم، واتصل بناؤه ببناء الفسطاط، وبنيت فيه دار الإمارة، ومسجد جامع عرف بجامع العسكر، ثم عرف بجامع ساحل الغلة، وعملت
الشرطة أيضا في العسكر، وقيل لها: الشرطة العليا، وإلى جانبها بنى أحمد بن طولون جامعه الموجود الآن، وسمي من حينئذ ذلك الفضاء بالعسكر، وصار أمراء مصر إذا ولوا ينزلون به من بعد أبي عون، فقال الناس من يومئذ: كنا بالعسكر، وخرجنا إلى العسكر، وكتب من العسكر، وصار مدينة ذات محال، وأسواق ودور عظيمة، وفيه بنى أحمد بن طولون مارستانه «1» ، فأنفق عليه، وعلى مستغله ستين ألف دينار، وكان بالقرب من بركة قارون التي صارت كيمانا، وبعضها بركة على يسرة من سار من حدرة ابن قميحة يريد قنطرة السدّ، وعلى بركة قارون هذه كانت جنان بني مسكين، وبني كافور الإخشيدي دارا أنفق عليها مائة ألف دينار، وسكنها في رجب سنة ست وأربعين وثلثمائة، وانتقل منها بعد أيام عليها مائة ألف دينار، وسكنها في رجب سنة ست وأربعين وثلثمائة، وانتقل منها بعد أيام لوباء وقع في غلمانه من بخار البركة، وعظمت العمارة في العسكر جدّا إلى أن قدم أحمد بن طولون من العراق إلى مصر، فنزل بدار الإمارة من العسكر، وكان لها باب إلى جامع العسكر، وينزلها الأمراء منذ بناها صالح بن عليّ بعد قتله مروان، وما زال بها أحمد بن طولون إلى أن بنى القصر، والميدان بالقطائع، فتحوّل من العسكر، وسكن قصره بالقطائع، فلما ولي أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بعد أبيه، جعل دار الإمارة ديوان الخراج، ثم فرّقت حجرا بعد دخول محمد بن سليمان الكاتب إلى مصر، وزوال دولة بني طولون، فسكن محمد بن سليمان بدار الإمارة في العسكر عند المصلى القديم، وكان المصلى القديم حيث الكوم المطلّ الآن على قبر القاضي بكار، وما زالت الأمراء تنزل بالعسكر إلى أن قدم القائد جوهر «2» من المغرب، وبنى القاهرة المعزية، ولما بنى أحمد بن طولون القطائع اتصلت مبانيها بالعسكر، وبنى جامعه على جبل يشكر، فعمرها هنا لك عمارة عظيمة تخرج عن الحدّ في الكثرة، وقدم جوهر القائد بعساكر مولاه المعز لدين الله في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، والعسكر عامر إلّا أنه منذ بنيت القطائع هجر اسم العسكر، وصار يقال: مدينة الفسطاط والقطائع، وربما قيل: والعسكر أحيانا، فلما خرّب محمد بن سليمان قصر ابن طولون، وميدانه بقي في القطائع مساكن جليلة حيث كان العسكر، وأنزل المعز لدين الله عمه أبا عليّ في دار الإمارة، فلم يزل أهله بها إلى أن خربت القطائع في الشدّة العظمى التي كانت في خلافة المستنصر أعوام بضع وخمسين وأربعمائة، فيقال: إنه كان هناك زيادة على مائة ألف دار سوى البساتين، وما هذا ببعيد، فإنّ ذلك كان ما بين سفح الشرف الذي عليه الآن قلعة الجبل، وبين ساحل مصر القديم حيث الآن الكبارة خارج مصر، وما على سمتها إلى كوم الجارح، ومن كوم الجارح إلى جامع ابن طولون، وخط
قناطر السباع، وخط السبع سقايات إلى قنطرة السدّ، ومراغة مصر إلى المعاريج بمصر، وإلى كوم الجارح، ففي هذه المواضع كان العسكر والقطائع، ويخص العسكر من بين ذلك ما بين قناطر السباع، وحدرة ابن قميحة إلى كوم الجارح حيث الفضاء الذي يتوسط ما بين قنطرة السدّ، وبين سور القرافة الذي يعرف بباب المجدم، فهذا هو العسكر، ولما استولى الخراب في المحنة أمر ببناء حائط يستر الخراب عن نظر الخليفة إذا سار من القاهرة إلى مصر، فيما بين العسكر والقطائع، وبين الطريق، وأمر ببناء حائط آخر عند جامع ابن طولون.
فلما كان في خلافة الآمر بأحكام الله أبي عليّ منصور بن المستعلي أمر وزيره أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالأجل المأمون بن البطائحي، فنودي مدّة ثلاثة أيام في القاهرة ومصر، بأنّ من كان له دار في الخراب، أو مكان فليعمره، ومن عجز عن عمارته يبيعه أو يؤجره من غير نقل شيء من أنقاضه، ومن تأخر بعد ذلك، فلا حق له ولا حكر يلزمه، وأباح تعمير جميع ذلك بغير طلب حق، وكان سبب هذا النداء أنه لما قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ في آخر الشدّة العظمى، وقام بعمارة إقليم مصر، أخذ الناس في نقل ما كان بالقطائع والعسكر من أنقاض المساكن حتى أتى على معظم ما هنا لك الهدم، فصار موحشا، وخرب ما بين القاهرة ومصر من المساكن، ولم يبق هنا لك إلّا بعض البساتين، فلما نادى الوزير المأمون عمّر الناس ما كان من ذلك، مما يلي القاهرة من جهة المشهد النفيسيّ إلى ظاهر باب زويلة، كما يرد خبر ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، ونقلت أنقاض العسكر كما تقدّم، فصار هذا الفضاء الذي يتوصل إليه من مشهد السيدة نفيسة، ومن الجامع الطولونيّ، ومن قنطرة السدّ، ومن باب المجدم في سور القرافة، ويسلك في هذا الفضاء إلى كوم الجارح، ولم يبق الآن من العسكر ما هو عامر سوى جبل يشكر الذي عليه جامع ابن طولون، وما حوله من الكبش، وحدرة ابن قميحة إلى خط السبع سقايات، وخط قناطر السباع إلى جامع ابن طولون، وأما سوق الجامع من قبليه، وما وراء ذلك إلى المشهد النفيسيّ، وإلى القبيبات، والرميلة تحت القلعة، فإنما هو من القطائع كما ستقف عليه عند ذكر القطائع، وعند ذكر هذه الخطط، إن شاء الله تعالى، وطالما سلكت هذا الفضاء الذي بين جامع ابن طولون، وكوم الجارح، حيث كان العسكر، وتذكرت ما كان هنا لك من الدور الجليلة والمنازل العظيمة، والمساجد والأسواق والحمامات والبساتين والبركة البديعة، والمارستان العجيب، وكيف بادت حتى لم يبق لشيء منها أثر البتة فأنشدت أقول:
وبادوا فلا مخبر عنهم
…
وماتوا جميعا وهذا الخبر
فمن كان ذا عبرة فليكن
…
فطينا ففي من مضى معتبر
وكان لهم أثر صالح
…
فأين هم ثم أين الأثر