الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معرفَة أَحْوَال الروَاة جرحا وتعديلا
وَمن المهم معرفَة أَحْوَالهم: تعديلا وتجريحا وجهالة لِأَن الرَّاوِي إِمَّا أَن تعرف عَدَالَته أَو يعرف فسقه، أَو لَا يعرف فِيهِ شَيْء من ذَلِك.
وَشرط عَمَّن يقبل خَبره ويحتج بحَديثه / كَونه: ضابطا عدلا لسلامته من أَسبَاب الْفسق من ارْتِكَاب كَبِيرَة أَو إِصْرَار على صَغِيرَة، وَحفظه من خوارم الْمُرُوءَة خلافًا للخطيب فِي الْأَخير.
وَيرجع فِي معرفَة الْجرْح وَالتَّعْدِيل إِلَى الْكتب الْمُؤَلّفَة فِيهِ: " كالثقات " وَالْجرْح لِابْنِ حبَان، وَالْعجلِي، والضعفاء، لَهما، وللذهبي. وَإِن لم يذكرُوا فِيهَا سَبَب الْجرْح، إِذْ فائدتها التَّوَقُّف فِيمَن جرحوه، ثمَّ إِن انزاحت الرِّيبَة ببحثنا عَنهُ حصلت الثِّقَة بِهِ، وَقَبلنَا حَدِيثه كَمَا وَقع فِي جمَاعَة فِي الصَّحِيحَيْنِ، وكما فِي اتهام
الرَّاوِي بِالْوَضْعِ.
مَرَاتِب الْجرْح: وَمن أهم ذَلِك بعد الِاطِّلَاع الْمَذْكُور معرفَة مَرَاتِب الْجرْح وَالتَّعْدِيل. ليعرف من يرد حَدِيثه مِمَّن يعْتَبر لأَنهم قد يجرحون الشَّخْص بِمَا لَا يلْزم رد حَدِيثه كُله. بل بعضه، كَأَن يكون ضَعِيفا فِي بعض مشايخه دون بعض، وَمن ذَلِك أَنه قيل لبَعْضهِم: لم تركت التحديث عَن فلَان؟ قَالَ: رَأَيْته يرْكض برذونا. وَقد بَينا أَسبَاب ذَلِك أَي الْجرْح فِيمَا مضى أَوَائِل الْكتاب وحصرناه فِي عشرَة أَي عشر أَسبَاب وَتقدم شرحها مفصلا على وَجه الِاخْتِصَار المحصل للمقصود.
وَالْغَرَض هُنَا ذكر الْأَلْفَاظ الدَّالَّة فِي اصطلاحهم أَي الْمُحدثين على
تِلْكَ الْمَرَاتِب الْعشْرَة الْمُتَقَدّمَة.
وللجرح مَرَاتِب أسوأها أَي أَكْثَرهَا سوء أَي قبحا الْوَصْف بِمَا دلّ على الْمُبَالغَة فِيهِ، وأصرح ذَلِك التَّعْبِير بأفعل بِفَتْح الْهمزَة وَالْعين صِيغَة / مُبَالغَة كأكذب النَّاس، وَكَذَا قَوْلهم إِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي الْوَضع. أَو - فِي نُسْخَة - الْكَذِب أَو هُوَ ركن الْكَذِب، وَنَحْو ذَلِك.
ثمَّ بعد ذَلِك فِي الرُّتْبَة دجال، أَو وَضاع، أَو كَذَّاب لِأَنَّهَا وَإِن كَانَت فِيهَا نوع مُبَالغَة لَكِنَّهَا دون الَّتِي قبلهَا فِي الْقبْح، لِأَنَّهَا قد تسْتَعْمل لأصل الْفِعْل فَلذَلِك كَانَت دون، هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْمُؤلف تبعا لجمع، وَجعله أَبُو حَاتِم وَتَبعهُ ابْن الصّلاح وَابْن الْجَوْزِيّ
من الْمرتبَة الأولى: كمتروك الحَدِيث، واه، ذَاهِب الحَدِيث، لسقوطهم وَعدم الْكِتَابَة عَنْهُم.
وأسهلها - أَي الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على الْجرْح أَي أدناها مَا قرب من التَّعْدِيل قَوْلهم: فلَان لين، أَو سيء الْحِفْظ، أَو فِيهِ أدنى مقَال.
وَبَين أَسْوَأ الْجرْح وأسهله مَرَاتِب لَا تخفى. وَقَوْلهمْ: مَتْرُوك أَو سَاقِط، أَو فَاحش الْغَلَط، أَو مُنكر الحَدِيث اشد من قَوْلهم: ضَعِيف، أَو لَيْسَ بِالْقَوِيّ أَو فِيهِ مقَال.
وَقَالَ بَعضهم: أَسْوَأ الْمَرَاتِب بعد صِيغَة الْمُبَالغَة: يكذب يضع. ويليها مُتَّهم بِالْكَذِبِ، مُتَّهم بِالْوَضْعِ، سَاقِط، هَالك، ذَاهِب الحَدِيث، مَتْرُوك، تَرَكُوهُ، فِيهِ نظر، سكتوا عَنهُ، لَا يعْتَبر حَدِيثه، لَيْسَ بالثقة، غير مَأْمُون. ويليها: مَرْدُود، ضَعِيف جدا، واه بِمرَّة، مطروح، أرم بِهِ، لَيْسَ بشئ، لَا يُسَاوِي درهما، لَا يُسَاوِي فلسًا.
وكل من وصف بِشَيْء من هَذِه الْمَرَاتِب لَا يحْتَج بِهِ، وَلَا
يستشهد بحَديثه، لَا يعْتَبر بِهِ. د
ويليها: ضَعِيف، مُنكر الحَدِيث، مُضْطَرب الحَدِيث، واه / ضَعَّفُوهُ، لَا يحْتَج بِهِ. ويليها: فِيهِ مقَال، لَيْسَ بِذَاكَ لَيْسَ بِالْقَوِيّ، تعرف وتنكر، لَيْسَ بعمدة، فِيهِ خلف، مطعون فِيهِ، سيء الْحِفْظ، لين، تكلمُوا فِيهِ. وَأَصْحَاب هَاتين الرتبتين يكْتب حَدِيثهمْ للاعتبار.
مَرَاتِب التَّعْدِيل:
وَمن المهم - أَيْضا - معرفَة مَرَاتِب التَّعْدِيل وَقد رتبها ابْن أبي حَاتِم فأجاد وَبلغ المُرَاد. وأرفعها أَي أَعْلَاهَا الْوَصْف بِمَا دلّ على الْمُبَالغَة فِيهِ لَكِن صَدُوق وَإِن كَانَ فِيهِ مُبَالغَة - لكِنهمْ لَا يُرِيدُونَ بِهِ إِلَّا
أصل الصدْق فلينتبه لَهُ. كَذَا ذكره المُصَنّف فِي غير هَذَا الْكتاب وأصرح ذَلِك التَّعْبِير بأفعل الدَّالَّة على الْمُبَالغَة كأوثق النَّاس، أَو أثبت النَّاس، أَو إِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي التثبت، كَمَا وَقع فِي عبارَة الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ -.
ثمَّ مَا تَأَكد بِصفة من الصِّفَات الدَّالَّة على التَّعْدِيل، أَو صفتين كثقة ثِقَة، أَو ثَبت ثَبت، أَو ثِقَة حَافظ، أَو عدل ضَابِط، أَو نَحْو ذَلِك. كمأمون، حجَّة، لَا بَأْس بِهِ. وَأَدْنَاهَا مَا اشعر بِالْقربِ من أسهل التجريح كشيخ، يروي حَدِيثه، وَيعْتَبر بِهِ وَنَحْو ذَلِك. وَبَين ذَلِك مَرَاتِب لَا تخفى. فأعلاها صِيغَة مُبَالغَة، ثمَّ المكرر كثقة ثِقَة، ثَبت ثَبت، أَو ثِقَة حجَّة، أَو ثِقَة متقن. ويليها: ثِقَة، متقن، حجَّة، ثَبت، حَافظ، ضَابِط، مُفْرد.
ويليه: لَيْسَ بِهِ بَأْس، لَا بَأْس بِهِ، صَدُوق، مَأْمُون، خِيَار.
ويليها: مَحَله الصدْق، رووا عَنهُ، شيخ وسط، صَالح، مقارب، جيد الحَدِيث، حسن الحَدِيث.
ويليها: / الصويلح، صَدُوق إِن شَاءَ الله تَعَالَى، أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ.
أَحْكَام مُتَعَلقَة بِالْجرْحِ وَالتَّعْدِيل:
وَهَذِه أَحْكَام تتَعَلَّق بذلك، ذكرتها هُنَا لتكملة الْفَائِدَة فَأَقُول:
1 -
تقبل التَّزْكِيَة من عَارِف بأسبابها لَا من غير عَارِف لِئَلَّا يُزكي بِمُجَرَّد مَا يظْهر لَهُ ابْتِدَاء من غير ممارسة واختبار.
وَلَا يشْتَرط فِي الْعَارِف ذكر سَببه لِكَثْرَة الْأَسْبَاب، وَلِأَنَّهُ قد يتَعَلَّق بِالنَّفْيِ: كلم يفعل، لم يرتكب فَيشق تعدادها.
وَلَو كَانَت التَّزْكِيَة صادرة من مزك وَاحِد. لِأَن الْعدَد لَا يشْتَرط فِي قبُول الْخَبَر على الْأَصَح وَالْجرْح كالتزكية فِيمَا تقرر، وَفِيمَا يَأْتِي.
خلافًا لمن شَرط أَنَّهَا لَا تقبل إِلَّا من اثْنَيْنِ إِلْحَاقًا لَهَا بِالشَّهَادَةِ. أَي بتزكية الشَّهَادَة فِي الْأَصَح - أَيْضا -. نظرا إِلَى أَن الرِّوَايَة شَهَادَة فَلَا بُد فيهمَا من الْعدَد.
وَأَشَارَ بقوله: فِي الْأَصَح - أَيْضا - إِلَى أَن اشْتِرَاط الْعدَد فِي تَزْكِيَة الشَّاهِد فِيهِ خلاف أَيْضا، وَالأَصَح مَا جرى عَلَيْهِ الْمُؤلف، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والهندي عَن تَصْحِيح الْأَكْثَرين، وَرجحه الإِمَام وَأَتْبَاعه. وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّه الصَّحِيح الَّذِي اخْتَارَهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ وَغَيره. وَصَححهُ النَّوَوِيّ - أَيْضا - وَعَلِيهِ جرى الْبرمَاوِيّ فِي
" نَبَذته " و " ألفيته " مُخَالفا لما اقْتَضَاهُ كَلَام التَّاج السُّبْكِيّ تبعا لتصريح الباقلاني من الِاكْتِفَاء بِوَاحِد فِي الشَّهَادَة كالرواية.
وَشَمل الْوَاحِد: العَبْد وَالْمَرْأَة وَهُوَ عدل الرِّوَايَة.
وَالْفرق بَينهمَا: أَن التَّزْكِيَة أَي تَزْكِيَة / الرَّاوِي تنزل منزلَة الحكم، فَلَا يشْتَرط فِيهَا الْعدَد، وَالشَّهَادَة تقع من الشَّاهِد عِنْد الْحَاكِم فَافْتَرقَا.
وَالْحَاصِل: أَن الشَّهَادَة تعلق الْحق فِيهَا بالمشهود لَهُ فاحتيط لذَلِك بِاشْتِرَاط الْعدَد بِخِلَاف الرِّوَايَة، وَلَو قيل: يفصل بَين مَا إِذا كَانَت التَّزْكِيَة فِي الرَّاوِي مستندة من الْمُزَكي إِلَى اجْتِهَاده، أَو إِلَى النَّقْل عَن غَيره لَكَانَ متجها، لِأَنَّهُ إِن كَانَ الأول فَلَا يشْتَرط الْعدَد
أصلا، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون بِمَنْزِلَة الْحَاكِم. وَإِن كَانَ الثَّانِي فَيجْرِي فِيهِ الْخلاف، وَتبين - أَيْضا - لَا يشْتَرط الْعدَد لِأَن أصل النَّقْل لَا يشْتَرط فِيهِ الْعدَد فَكَذَا مَا تفرع عَنهُ.
كَذَا بَحثه الْمُؤلف - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ -، ورده الشَّيْخ الْمَنَاوِيّ وَغَيره: بِأَنَّهُ لَيْسَ لهَذَا التَّفْصِيل الَّذِي ذكره فَائِدَة إِلَّا نفي الْخلاف فِي الْقسم الأول فَقَط.
وَيَنْبَغِي أَن لَا يقبل الْجرْح وَالتَّعْدِيل إِلَّا من عدل متيقظ، فَلَا يقبل جرح من أفرط فِيهِ، فجرح بِمَا لَا يَقْتَضِي رد حَدِيث الْمُحدث، كَمَا لَا تقبل تَزْكِيَة من أَخذ بِمُجَرَّد الظَّاهِر فَأطلق التَّزْكِيَة.
وَلَو نظر لذَلِك لرد أَكثر الروَاة حَتَّى الْأَئِمَّة الْكِبَار، فَإِنَّهُ قل من
سلم فِي الْجرْح، وَقد تكلم فِي الْكِبَار من الْأَئِمَّة، لَكِن ينْدَفع ذَلِك بِأَنَّهُ إِذا كَانَ عدم الْقبُول إِنَّمَا هُوَ للتوقف لَا للجرح فَلَا الْتِفَات لكَلَام من جرح أحدا من الْأَئِمَّة، لِأَن الشُّهْرَة بِالْإِمَامَةِ وَالْجَلالَة تغني عَن التَّعْدِيل، وتدفع فِي صدر / من جرح أحدا مِنْهُم.
وَقَالَ الذَّهَبِيّ - وَهُوَ من أهل الاستقراء التَّام فِي نقد الرِّجَال - لم يجْتَمع اثْنَان من عُلَمَاء هَذَا الشَّأْن قطّ على تَوْثِيق ضَعِيف، وَلَا تَضْعِيف ثِقَة. انْتهى /
قَالَ الْمُؤلف رحمه الله فِي " تَقْرِيره ": يَعْنِي يكون سَبَب ضعفه شَيْئَيْنِ مُخْتَلفين، وَكَذَا عَكسه. انْتهى /
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: لم يَقع المُصَنّف على علم ذَلِك، وَلَا يفهم مِنْهُ المُرَاد من قبل هَذَا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَن اثْنَيْنِ لم يتَّفقَا فِي شخص
على خلاف الْوَاقِع (فِي الْوَاقِع) بل لَا يتَّفقَا إِلَّا على من فِيهِ شَائِبَة مِمَّا اتَّفقُوا عَلَيْهِ. وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَب النَّسَائِيّ كَمَا نَقله عَنهُ ابْن مَنْدَه وَغَيره أَن لَا يتْرك حَدِيث الرجل حَتَّى يجْتَمع الْجَمِيع على تَركه قَالَ بَعضهم: وَفِي صَلَاحِية هَذَا تعليلا لما قبله نظر.
وليحذر الْمُتَكَلّم فِي هَذَا الْفَنّ من التساهل فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل، فَإِنَّهُ إِن أعدل بِغَيْر تثبت كَانَ كالمثبت حكما لَيْسَ بِثَابِت، فيخشى عَلَيْهِ أَن يدْخل فِي زمرة من روى حَدِيثا وَهُوَ يظنّ أَنه كذب، وَإِن جرح بِغَيْر تحرز أقدم على الطعْن فِي مُسلم برِئ من ذَلِك، ووسمه
بميسم سوء يبْقى عَلَيْهِ عاره أبدا. والآفة تدخل فِي هَذَا تَارَة من الْهوى وَالْغَرَض الْفَاسِد وَكَلَام الْمُتَقَدِّمين سَالم من هَذَا غَالِبا، وَتارَة من الْمُخَالفَة فِي العقائد وَهُوَ مَوْجُود كثيرا قَدِيما وحديثا، وَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاق الْجرْح بذلك، فقد قدمنَا تَحْقِيق الْحَال / فِي الْعَمَل بِرِوَايَة المبتدعة.
2 -
وَالْجرْح مقدم عِنْد التَّعَارُض على التَّعْدِيل إِن كَانَ عدد الْجَارِح أَكثر من عدد الْمعدل إِجْمَاعًا، وَكَذَا إِن كَانَ عدد الْجَارِح والمعدل سَوَاء، أَو كَانَ الْجَارِح أقل عددا من الْمعدل - على الْأَصَح -
لاطلاع الْجَارِح على مَا لم يطلع عَلَيْهِ الْمعدل. كَذَا ذَكرُوهُ وَأخذ مِنْهُ أَنه لَو اطلع الْمعدل على السَّبَب وَعلم تَوْبَته مِنْهُ قدم على الْجَارِح. وَهُوَ كَذَلِك.
وَأطلق ذَلِك جمَاعَة، لَكِن مَحَله إِن صدر مُبينًا أَي مُفَسرًا من عَارِف بأسبابه على الصَّحِيح عِنْد الْأَئِمَّة الشَّافِعِيَّة لاخْتِلَاف النَّاس فِي أَسبَابه، قَالَ بَعضهم: اشْتِرَاط كَون الْجَارِح عَارِفًا بالأسباب بعد اشْتِرَاط كَونه مُبينًا فِيهِ نظر لَا يخفى. لإنه إِذا كَانَ غير مُفَسّر لم يقْدَح فِيمَن يثبت عَدَالَته وَإِن صدر من غير عَارِف بالأسباب لم يعْتَبر بِهِ. وَفِي نسخ: لم يعْتد بِهِ أَي لما ذكر، وَمَا جرى عَلَيْهِ الْمُؤلف تبع فِيهِ القَاضِي الباقلاني، وَالَّذِي جرى عَلَيْهِ الإِمَام الشَّافِعِي - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - أَنه يشْتَرط ذكر سَبَب الْجرْح للِاخْتِلَاف فِيهِ دون سَبَب التَّعْدِيل وَهُوَ الْمُخْتَار فِي الشَّهَادَة، أما الرِّوَايَة فَيَكْفِي فِيهَا إِطْلَاق الْجرْح كالتعديل إِذا عرف مَذْهَب الْجَارِح، تَنْزِيلا
لذَلِك منزلَة ذكر السَّبَب، وَظَاهره أَنه يثبت الْجرْح بِدُونِ بَيَان السَّبَب وَإِلَيْهِ يُشِير قَول ابْن الصّلاح: إِنَّمَا يعْتَمد النَّاس فِي جرح الروَاة ورد حَدِيثهمْ / على الْكتب المصنفة فِي الْجرْح، وقلما يتعرضون فِيهَا لذكر السَّبَب بل يقتصرون على فلَان ضَعِيف، أَو لَيْسَ بِشَيْء وَنَحْوهمَا. فاشتراط بَيَان السَّبَب فِي جرح الروَاة يُفْضِي إِلَى سد بَاب الْجرْح غَالِبا. ثمَّ أجَاب عَنهُ ابْن الصّلاح: بِأَنا وَإِن لم نعتمده فِي إِثْبَات الْجرْح وَالْحكم بِهِ فقد اعتمدناه فِي التَّوَقُّف عَن قبُول حَدِيثه لحُصُول رِيبَة لَا لِأَنَّهُ مَجْرُوح فِي نفس الْأَمر، وَلِهَذَا من زَالَت عَنهُ هَذِه الرِّيبَة ببحث عَن حَاله يقبل كَالَّذِين احْتج بهم الشَّيْخَانِ مِمَّن تقدم فيهم الْجرْح. اه /.
وَعمل الْعَالم الْمُشْتَرط للعدالة فِي الرَّاوِي بِرِوَايَة شخص تَعْدِيل لَهُ فِي الْأَصَح وَإِلَّا لما عمل بروايته.
وَرِوَايَة من لَا يروي إِلَّا عَن عدل بِأَن صرح بذلك أَو عرف من عَادَته بالاستقراء أَنه لَا يروي إِلَّا عَن عدل تَعْدِيل لَهُ، كَمَا لَو قَالَ: هُوَ عدل لَكِن هَذَا دون التَّصْرِيح كَمَا قَالَه ابْن دَقِيق الْعِيد.
وَلَيْسَ من الْجرْح ترك الْعَمَل بمرويه وَترك الحكم بمشهوده لاحْتِمَال أَن يكون التّرْك لمعارض.
وَفِيمَا إِذا تَعَارضا فِي ثُبُوت جارح معِين ونفيه تردد.
فَإِن خلا الْمَجْرُوح عَن تَعْدِيل قبل الْجرْح فِيهِ مُجملا غير مُبين السَّبَب إِذا صدر من عَارِف على الْمُخْتَار، لِأَنَّهُ إِذا لم يكن فِيهِ
تَعْدِيل فَهُوَ فِي حيّز الْمَجْهُول، وإعمال قَول الْمَجْرُوح أولى من إهماله، وَمَال ابْن الصّلاح فِي مثل هَذَا إِلَى التَّوَقُّف.
أما إِذا كَانَ من جرح مُجملا قد عدله أحد من أَئِمَّة هَذَا الْفَنّ فَلَا يقبل الْجرْح فِيهِ من أحد كَائِنا من كَانَ / إِلَّا مُبينًا لَهُ لِأَنَّهُ قد يثبت لَهُ رُتْبَة الثِّقَة فَلَا يزحزح عَنْهَا إِلَّا بِأَمْر جلي. وَهَذَا اخْتِيَار للمؤلف قد نوزع فِيهِ.
(تَنْبِيه) :
مَا ذكره الْمُؤلف كُله مَأْخُوذ من كَلَام التَّاج السُّبْكِيّ حَيْثُ قَالَ: هُنَا قَاعِدَة مهمة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل، نافعة ضَرُورِيَّة، وَذَلِكَ أَنَّك إِذا
سَمِعت أَن الْجرْح مقدم على التَّعْدِيل، وَرَأَيْت جرحا وتعديلا فِي رجل، وَكنت غرا بالأمور أَو فدما مُقْتَصرا على مَنْقُول الْأُصُول، جزمت بِأَن الْعَمَل على جرحه. فإياك ثمَّ إياك، والحذر كل الحذر من هَذَا الظَّن، بل الصَّوَاب أَن من تثبت أَمَانَته وعدالته، وَكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحوه وَكَانَت هُنَاكَ قرينَة دَالَّة على سَبَب جرحه: من تعصب مذهبي أَو غَيره لَا يلْتَفت إِلَى الْجرْح فِيهِ، بل يعْمل فِيهِ بِالْعَدَالَةِ، وَإِلَّا فَلَو فتحنا هَذَا الْبَاب وأخذنا بِتَقْدِيم الْجرْح على إِطْلَاقه لما سلم لنا أحد من الْأَئِمَّة إِذْ مَا من إِمَام إِلَّا وَقد طعن فِيهِ طاعنون، وَهلك فِيهِ هالكون. وَقد عقد الْحَافِظ أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي " كتاب الْعلم " بَابا فِي حكم قَول الْعلمَاء بَعضهم فِي بعض، بَدَأَ فِيهِ بِحَدِيث: دب إِلَيْكُم دَاء الْأُمَم قبلكُمْ الْبغضَاء والحسد. . الحَدِيث.
وروى بِسَنَدِهِ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنه أَنه قَالَ: اسْتَمعُوا علم الْعلمَاء، وَلَا تصدقوا بَعضهم على بعض، فو الَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَهُم أَشد تغايرا من التيوس فِي / الزريبة. وَعَن مَالك بن دِينَار - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ -: يُؤْخَذ بقول (الْعلمَاء) والقراء فِي كل شَيْء إِلَّا قَول بَعضهم فِي بعض. . وَفِي " معِين الْحُكَّام " لِابْنِ عبد الرفيع الرفيع الْمَالِكِي: لَا تجوز شَهَادَة الْعَالم على مثله لأَنهم أَشد النَّاس تحاسدا وتباغضا وتباغيا.
وَهَذَا لَا بَأْس بِهِ، غير أَنا لَا نَأْخُذ بِهِ على إِطْلَاقه بل الضَّابِط عندنَا أَن ثَابت الْعَدَالَة لَا يلْتَفت فِيهِ إِلَى قَول من تشهد الْقَرَائِن بِأَنَّهُ مُتَحَامِل عَلَيْهِ، لتعصب مذهبي أَو غَيره.
ثمَّ قَالَ ابْن عبد الْبر: الصَّحِيح أَن من ثبتَتْ عَدَالَته، وَصحت فِي الْعلم إِمَامَته لَا يلْتَفت فِيهِ إِلَى قَول أحد إِلَّا أَن يَأْتِي فِي جرحه بَينه، وَاسْتدلَّ بِأَن السّلف تكلم بَعضهم فِي بعض بِكَلَام مِنْهُ مَا حمل عَلَيْهِ التعصب أَو الْحَسَد، وَمِنْه مَا دعِي إِلَيْهِ التَّأْوِيل وَاخْتِلَاف الِاجْتِهَاد، وَقد حمل بَعضهم على بعض بِالسَّيْفِ تَأْوِيلا واجتهادا.
ثمَّ انْدفع إِلَى ذكر جمَاعَة من النظراء تكلم بَعضهم فِي بعض، وَعدم الِالْتِفَات إِلَيْهِ حَتَّى انْتهى إِلَى كَلَام ابْن معِين فِي الإِمَام الشَّافِعِي، وَقَالَ: إِنَّه مِمَّا نقم على ابْن معِين. وَذكر قَول أَحْمد: من أَيْن يعرف ابْن معِين الشَّافِعِي، هُوَ لَا يعرفهُ، من جهل شَيْئا عَادَاهُ.
ثمَّ ذكر ابْن عبد الْبر كَلَام ابْن أبي ذِئْب وَإِبْرَاهِيم بن أبي سعد فِي مَالك. قَالَ: وَقد تكلم - أَيْضا - فِي مَالك عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة، وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن / أسلم وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَابْن أبي يحيى وَابْن أبي الزِّنَاد وعابوا أَشْيَاء من مذْهبه، وَقد برأه الله مِمَّا قَالُوا (وَكَانَ عِنْد الله وجيها)
قَالَ: وَمَا مثل من تكلم فِي مَالك وَالْإِمَام الشَّافِعِي ونظائرهما
إِلَّا كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: كناطح صَخْرَة يَوْمًا ليوهنها فَلم يَضرهَا وأوهى قرنه الوعل أَو كَمَا قَالَ الْحسن بن حميد:
(يَا ناطح الْجَبَل العالي ليكلمه
…
أشْفق على الرَّأْس لَا تشفق على الْجَبَل) وَقد أحسن أَبُو الْعَتَاهِيَة حَيْثُ قَالَ:
(وَمن ذَا الَّذِي ينجوا من النَّاس سالما
…
وَلِلنَّاسِ قَالَ بالظنون وَقيل) وَقيل لِابْنِ الْمُبَارك: فلَان يتَكَلَّم فِي أبي حنيفَة فَأَنْشد:
(حسدوا أَن رأوك فضلك الله
…
بِمَا فضلت بِهِ النجبا)
وَقيل لأبي عَاصِم النَّبِيل: فلَان يتَكَلَّم فِي أبي حنيفَة: قَالَ: هُوَ كَمَا قَالَ نصيب:
سلمت وَهل حَيّ من النَّاس يسلم
وَقَالَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي:
(حسدوا الْفَتى إِذا لم ينالوا سَعْيه
…
فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم)
ثمَّ قَالَ ابْن عبد الْبر: فَمن أَرَادَ قبُول قَول الْعلمَاء الثِّقَات بَعضهم فِي بعض فليقبل قَول الصَّحَابَة بَعضهم فِي بعض، وَإِن فعل
فقد ضل ضلالا بَعيدا وخسر خسرانا مُبينًا، وَإِن لم يفعل وَلنْ يفعل. . إِن هداه الله فليقف عِنْد / مَا شرطناه فِي أَن لَا يقبل فِي صَحِيح الْعَدَالَة الْمَعْلُوم بِالْعلمِ عنايته قَول قَائِل لَا برهَان لَهُ. انْتهى.
وَهُوَ على حسنه غير صَاف عَن القذى والكدر، إِذْ لم يزدْ فِيهِ على قَوْله أَن من ثبتَتْ عَدَالَته ومعرفته لَا يقبل قَول جارحه إِلَّا ببرهان وَهَذَا قد ذكره الْعلمَاء رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم جَمِيعًا، حَيْثُ قَالُوا: لَا يقبل الْجرْح إِلَّا مُفَسرًا، فَمَا الَّذِي زَاده عَلَيْهِم؟ . وَإِن أَرَادَ: أَن كَلَام النظير فِي نَظِيره، والعالم فِي مثله لَا يقبل فَيَنْبَغِي أَن لَا يُؤْخَذ بِإِطْلَاقِهِ. . بل يُقَال: إِن الْجَارِح لَا يقبل مِنْهُ الْجرْح وَإِن فسره فِي حق من غلبت طَاعَته مَعَاصيه، ومزكوه على جارحيه إِذا كَانَ ثمَّ قرينَة تدل على أَن الْحَامِل على ذَلِك تعصب مذهبي، أَو تنافس دُنْيَوِيّ كَمَا يكون بَين النظراء، مثلا لَا يلْتَفت إِلَى كَلَام ابْن أبي ذِئْب فِي مَالك وَابْن معِين فِي الإِمَام الشَّافِعِي، وَالنَّسَائِيّ فِي ابْن
صَالح لأَنهم أَئِمَّة مشهورين، فالجارح لَهُم كالآتي بِخَبَر غَرِيب لَو صَحَّ توفرت الدَّوَاعِي على نَقله، فَكَانَ الْقَاطِع قَائِما على كذبه. وَيَنْبَغِي أَن يتفقد عِنْد الْجرْح حَال العقائد واختلافها بِالنِّسْبَةِ للجارح والمجروح، وَرُبمَا. خَالف الْجَارِح الْمَجْرُوح فِي العقيدة فجرحه لذَلِك، وَإِلَيْهِ اشار الإِمَام الرَّافِعِيّ بقوله: يَنْبَغِي أَن يكون المزكون بُرَآء أَي من الشحناء / والعصبية فِي الْمَذْهَب لِئَلَّا يحملهم ذَلِك على جرح عدل أَو تَزْكِيَة فَاسق كَمَا وَقع لكثير من الْأَئِمَّة، وَقد أَشَارَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " الاقتراح " إِلَيْهِ وَقَالَ: أَعْرَاض الْمُسلمين حُفْرَة من حفر النَّار، وقف على شفيرها طَائِفَتَانِ: المحدثون والحكام.
وَمن أَمْثِلَة قَول بَعضهم فِي البُخَارِيّ: تَركه أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم من أجل مَسْأَلَة اللَّفْظ. فيا لله ايجوز لأحد أَن يَقُول فِي البُخَارِيّ مَتْرُوك مَعَ أَن الْحق فِي مَسْأَلَة اللَّفْظ مَعَه إِذْ لَا يستريب عَاقل فِي أَن تلفظه من أَفعاله الْحَادِثَة الَّتِي هِيَ مخلوقة لله، وَإِنَّمَا أنكرها أَحْمد لبشاعة لَفظهَا
…
وَهَذَا الذَّهَبِيّ من هَذَا الْقَبِيل، لَهُ علم وديانة وَعِنْده على أهل السّنة
تحمل مفرط، فَلَا يجوز الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ. قَالَ العلائي: الْحَافِظ الذَّهَبِيّ لَا اشك فِي دينه وورعه، لَكِن غلب عَلَيْهِ مَذْهَب الْإِثْبَات ومنافرة التَّأْوِيل حَتَّى أثر فِي طبعة انحرافا شَدِيدا عَن أهل التَّنْزِيه، وميلا إِلَى أهل الْإِثْبَات، وَإِذا ترْجم أحدهم يطنب فِي وَصفه ويبالغ ويتغافل عَن غلطاته، وَإِذا ذكر أحدا من الطّرف الآخر كإمام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ لَا يُبَالغ فِي وَصفه، وَيكثر من قَول الطاعنين فِيهِ، وَيُعِيد ذَلِك ويبديه، ويعتقده دينا، ويعرض عَن محاسنة الطافحة / وَإِذا ظفر لأَحَدهم بغلطة ذكرهَا، وَكَذَا فعل فِي أهل عصره إِن لم يقدر على أحد مِنْهُم بتصريح يَقُول: الله يصلحه، وَنَحْو ذَلِك، وَسَببه الْمُخَالفَة فِي العقيدة. انْتهى.
قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: وَالْحَال فِي حق شَيخنَا الذَّهَبِيّ أَزِيد مِمَّا وصف، وَهُوَ شَيخنَا ومعلمنا لَكِن الْحق أَحَق أَن يتبع، وَقد وصل من تعصبه
المفرط إِلَى حد حقد يسخر مِنْهُ، وأخشى عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة من الْأَئِمَّة الَّذين حملُوا لنا الشَّرِيعَة فَإِن غالبهم أشاعرة، وَهُوَ إِذا وَقع بأشعري لَا يبْقى وَلَا يذر، وَالَّذِي اأركنا عَلَيْهِ الْمَشَايِخ النَّهْي عَن النّظر فِي كَلَامه، وَعدم اعْتِبَار قَوْله
…
مَعَ قلَّة مَعْرفَته بمدلولات الْأَلْفَاظ، وَعدم ممارسته لعلوم الشَّرِيعَة. .، وَكَانَ إِذا ترْجم أحدا من عُلَمَاء الْمذَاهب الثَّلَاثَة - الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم - وَمد الْقَلَم لترجمته غضب غَضبا مفرطا، ثمَّ قرطم الْكَلَام ومزقه، ثمَّ هُوَ مَعَ ذَلِك غير خَبِير بمدلولات الْأَلْفَاظ، وَرُبمَا ذكر لَفْظَة من
الذَّم لَو عقل مَعْنَاهَا لم ينْطق بهَا، ودائما أتعجب من ذكره فِي " الْمِيزَان " الْفَخر الرَّازِيّ والآمدي فِي الضُّعَفَاء مَعَ أَنَّهُمَا لَا رِوَايَة لَهما، وَلَا جرحهما أحد، وَلَا ضعفهما فِيمَا ينقلانه من الْعُلُوم. . ثمَّ إِنَّا لسنا نقُول: لَا تقبل شَهَادَة سني على بدعى مُطلقًا بل من شهد على آخر وَهُوَ مُخَالف لَهُ فِي / العقيدة أوجب مُخَالفَته لَهُ فِيهَا رِيبَة للْحَاكِم
…
فَيتَوَقَّف إِلَى تبين الْحَال، وَقبُول شَهَادَة المبتدع لَا توجب دفع الرِّيبَة فَيجب الفحص والتثبت وَقد قَالَ ابْن الصّلاح: إمامان ابتليا بأصحابهما وهما بريئان مِنْهُمَا أَحْمد بن حَنْبَل بالمجسمة، وجعفر الصَّادِق بالرافضة.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يتفقد حَال الْجَارِح فِي الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة فَرب جَاهِل ظن الْحَلَال حَرَامًا، والمحمود مذموما فجرح بِهِ، وَمن ثمَّ أوجبوا التَّفْسِير. قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: حضرت بِمصْر مزكيا يجرح رجلا فَسئلَ عَن سَببه؟ فَقَالَ: يَبُول قَائِما. وَفِي " الْبَحْر " جرح رجل رجلا وَقَالَ: طين سطحه بطين حَوْض السَّبِيل.
وَمِمَّا يَنْبَغِي تفقده كَمَا قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: الْخلاف الْوَاقِع كثيرا بَين الصُّوفِيَّة والمحدثين. . والطامة الْكُبْرَى إِنَّمَا هِيَ فِي العقائد المثيرة للتعصب والتنافس على حطام الدُّنْيَا. . وَقد وصل حَال بعض المجسمة إِلَى أَن كتب " شرح مُسلم " للنووي وَحذف مِنْهُ
مَا تكلم بِهِ على أَحَادِيث الصِّفَات، فَإِن النَّوَوِيّ أشعري. . وَالْحَاصِل: إِن من تكلم فِي إِمَام اسْتَقَرَّتْ فِي الأذهان عَظمته، وتناقلت الروَاة ممادحه فقد جر الملام إِلَى نَفسه لَكِن لَا نقضي على من عرفت عَدَالَته إِذا جرح من لم يقبل مِنْهُ جرحه إِيَّاه بِالْفِسْقِ، بل يجوز أَن يكون واهما وَمن ذَا الَّذِي لَا يهم، وَأَن يكون / مؤولا، وَأَن يكون نَقله إِلَيْهِ من يرَاهُ صَادِقا ونراه نَحن كَاذِبًا. . ومعنا أصلان نستصحيهما إِلَى تَيَقّن خلافهما: اصل عَدَالَة الْمَجْرُوح الَّتِي اسْتَقَرَّتْ عَظمته، وأصل عَدَالَة الْجَارِح فَلَا يلْتَفت إِلَى جرحه وَلَا نجرحه بجرحه فاحفظه فَهُوَ من الْمُهِمَّات. . وَهَذَا لَا يُخَالف
قَوْلهم: الْجرْح مقدم، فَإِنَّهُم إِنَّمَا عنوا حَالَة تعَارض الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَإِذا تَعَارضا لأمر من جِهَة التَّرْجِيح قدم الْجرْح، وتعارضهما هُوَ اسْتِوَاء الظَّن عِنْدهمَا (لِأَن هَذَا شَأْن المتعارضين إِمَّا لَو لم يَقع اسْتِوَاء الظَّن عِنْدهمَا) فَلَا تعَارض، بل الْعَمَل بأقوى الظنين من جرح أَو تَعْدِيل، (وَفِي) مَا نَحن فِيهِ لم يتعارضا لِأَن غَلَبَة الظَّن بِالْعَدَالَةِ قَائِمَة، وَهَذَا كَمَا أَن عدد الْجَارِح إِذا كَانَ (أَكثر) قدم الْجرْح إِجْمَاعًا إِذْ لَا تعَارض وَالْحَالة هَذِه، وَلَا يَقُول أحد بِتَقْدِيم التَّعْدِيل لَا من قَالَ بتقديمة عِنْد التَّعَارُض وَلَا غَيره، وعبارتنا فِي " جمع الْجَوَامِع ": الْجرْح مقدم إِن كَانَ الْجَارِح أَكثر من الْمعدل إِجْمَاعًا، وَكَذَا إِن تَسَاويا، أَو كَانَ الْجَارِح أقل. وَقَالَ ابْن شعْبَان: يطْلب التَّرْجِيح. انْتهى.
وَفِيه زِيَادَة على مَا فِي مختصرات أصُول الْفِقْه، فَإنَّا نبهنا فِيهِ على
الْإِجْمَاع وَلم ينبهوا عَلَيْهِ، حكينا مقَالَة ابْن شعْبَان - وَهِي غَرِيبَة - وَلم يذكروها فأشرنا بقولنَا يطْلب التَّرْجِيح إِلَى أَن النزاع إِنَّمَا هُوَ فِي حَال التَّعَارُض لِأَن طلب التَّرْجِيح إِنَّمَا هُوَ فِي تِلْكَ الْحَالة. .
إِذا عرف هَذَا علم أَنه لَيْسَ كل جرح مقدما وَقد عقد شَيخنَا / الذَّهَبِيّ فصلا فِي جمَاعَة لَا يعبأ بالْكلَام فيهم بل هم ثِقَات على رغم أَنفه.
نختم هَذِه الْقَاعِدَة بفائدتين لَا تراهما لغيرنا:
1 -
إِحْدَاهمَا: أَن قَوْلهم: لَا يقبل الْجرْح إِلَّا مُفَسّر إِنَّمَا هُوَ فِي جرح من ثبتَتْ عَدَالَته واستقرت، فَإِذا أَرَادَ رَافع رَفعهَا بِالْجرْحِ؟ قيل لَهُ: ائْتِ ببرهان (عَلَيْهِ) .
أَو فِيمَن لم يعرف حَاله لَكِن ابتدره جارحان ومزكيان فَيُقَال للجارحين فسرا مَا رميتماه بِهِ
…
2 -
الثَّانِيَة: أَنا لَا نطلب التَّفْسِير من كل أحد بل حَيْثُ يحْتَمل الْحَال شكا، لاخْتِلَاف فِي الِاجْتِهَاد، أَو لتهمة يسيرَة فِي الْجَارِح، أَو نَحوه مِمَّا لَا يُوجب سُقُوط قَول الْجَارِح، وَلَا يَنْتَهِي أَي الِاعْتِبَار بِهِ على الْإِطْلَاق، بل يكون بَين بَين، أما لَو انْتَفَت الظنون واندفعت التهم، وَكَانَ الْجَارِح حبرًا من أَحْبَار الْأمة مبرءا عَن مظان التُّهْمَة. أَو كَانَ الْمَجْرُوح مَشْهُور الضعْف فَلَا نتلعثم عِنْد جرحه وَلَا نحوج الْجَارِح إِلَى تَفْسِير، بل طلب التَّفْسِير مِنْهُ لَا حَاجَة إِلَيْهِ فنقبل قَول ابْن معِين فِي إِبْرَاهِيم بن شُعَيْب الْمدنِي شيخ روى عَنهُ ابْن وهب: أَنه لَيْسَ بِشَيْء، وَفِي إِبْرَاهِيم بن يزِيد الْمَدِينِيّ أَنه ضَعِيف. وَفِي الْحُسَيْن بن الْفرج أَنه
كَذَّاب
…
. . وَإِن لم يبين الْجرْح، لِأَنَّهُ إِمَام مقدم فِي هَذِه الصِّنَاعَة
…
وَلَا يقبل قَوْله فِي الشَّافِعِي وَلَو فسر وأتى بِأَلف إِيضَاح لقِيَام الْقَاطِع على أَنه غير محق بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ.
فَاعْتبر مَا أَشَرنَا / إِلَيْهِ فِي ابْن معِين وَغَيره واحتفظ بِمَا ذَكرْنَاهُ تنْتَفع بِهِ. إِلَى هُنَا كَلَام السُّبْكِيّ: