الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصالونات الأوروبية إلى المنيعة ليفتح لفرنسا أبواب الصحراء التي ظلت مغلقة، بواسطة أبنائها أتباع الطيبية والشيخية (1). وقد حدث هذا في الوقت الذي ما يزال فيه بوعمامة لم يستسلم إلى فرنسا (2).
وهكذا فنحن أمام طريقة صوفية لا نعرف أنها دين أم دولة، وقد اختلط أمرها على أتباعها، بدون شك، فلم يعودوا يعرفون، وأمامهم الطرق الصوفية الأخرى، هل تجبى منها الغرامات أو تفرض عليهم الغفارات أو تطلب منهم الصدقات للفقراء والمساكين، وكيف يكون الرجل من أولاد سيدي الشيخ (خليفة) باسم الحكومة الفرنسية و (خليفة) باسم الطريقة الشاذلية في نفس الوقت، هذا على الأقل قبل أن تشاركهم طرق صوفية أخرى نفس المصير.
الطريقة الدرقاوية
حديثنا عن الطريقة الدرقاوية سيشملها في فروعها أيضا، كالمدنية والعليوية، وحتى الهبرية، وقد كنا تناولنا وضع الدرقاوية السياسي أيام العثمانيين وعلاقة نشاطهم بالعلاقات بين الدولتين المتجاورتين: الجزائر والمغرب عندئذ (3). ولم نتوسع في نشاطها الديني والصوفي، ولذلك سنحاول الآن تناول هذه النقطة بشيء من التفصيل.
كل المصادر تشير إلى أن أصل الدرقاوية هو الشاذلية، وقد ظهرت في المغرب الأقصى، كما ظهرت طرق صوفية أخرى قبلها، وهي تنسب إلى محمد العربي الدرقاوي المتوفى سنة 1823، والدرقاوي (ولد سنة 1214) نسبة إلى قبيلة درقة التي منها جده يوسف أبو درقة، وقد توفي الشيخ في
(1) مقالة (ماسكري) في إفريقية الفرنسية (A، F). إبريل 1892، ص 8 - 10، وقد توفي قدور بن حمزة سنة 1897.
(2)
أرسل الحاكم العام (لافريير) سنة 1899 عهد الأمان مع الحاج علي بن أحمد بوطالب (من عائلة الأمير عبد القادر) إلى بوعمامة لكنه لم يثق في العهد.
(3)
انظر الجزء الأول من هذا الكتاب، الفصل الثاني،
زاوية بوبريح شمال فاس، في قبيلة بني زروال، وخلفه محمد البوزيدي، ثم يتوالى الخلفاء، ومنهم عبد الرحمن بن الطيب الذي كان متوليا سنة 1884 على نفس الزاوية، وكان له تأثير كبير، وهذه الزاوية تعتبر هي الأم لفروع الدرقاوية الأخرى، تليها زاوية تافيلالت التي أسسها أشراف مدغرة، والتي لعبت أيضا دورا رئيسيا في الناحية عندئذ، وكانت ملجأ للثائرين أمثال بوعمامة وأتباعه، كما كانت ناقمة على الحكومات، ويقال عنها أنها ضد المجتمع الحضري، والثالثة زاوية مدغرة التي أسسها أحمد البدوي، وهو أيضا من الأشراف، ودفين فاس، وقد أعاد تنظيمها شيخها أحمد الهاشم بن العربي المتوفى سنة 1892 عن 93، والشيخ أحمد الهاشم كان من المعارضين للنفوذ الفرنسي في المنطقة، وهو الذي أعلن الجهاد ضد الفرنسيين في تافيلالت سنة 1888 (1).
والدرقاوي تتلمذ على الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الرحمن الجمالي الفاسي، وله سلسلة صوفية مستمدة من أحمد بن يوسف الملياني وابن عطاء الله الإسكندري وأحمد زروق وأحمد المرسي عن أبي الحسن الشاذلي، وتنسب إلى الدرقاوية مواقف مختلفة، منها أنها خالفت تعاليم الشاذلية في التسامح والحياد إزاء السياسة والمهادنة، ومنها أنها أعطت دفعا جديدا للشاذلية رغم بقائها من الناحية الفلسفية تلميذة لها، أما مظاهرها من لباس وممارسات وعبادات فقد تعددت الأوصاف لها، فمن قائل إن أتباعها كانوا يقلدون كبار الصحابة وغيرهم في بعض المظاهر، مثل لبس المرقعات، لأن أبا بكر وعمر لبساها، ومثل حمل العصا لأن موسى عليه السلام قد حملها، وهم يرقصون على اسم الله، لأن جعفر بن أبي طالب قد احتفى باسم الله بأداء الرقص، وهم يحملون السبحة لأن أبا هريرة في دعواهم كان يحملها في رقبته، كما أنهم يفضلون العزلة ويمشون حفاة، ويحتملون الجوع، ولا يخالطون إلا الصالحين، ويتفادون أصحاب السلطة، ويصدقون في أقوالهم.
(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 508،
ولا ينامون إلا قليلا ويقضون الليل مت عبد ين، ويكثرون من الصدقات، ويطيعون شيخهم ويطلعونه على كل كبيرة وصغيرة، وفي الجزائر قبلوا الوظائف الدينية كالإمامة والقضاء ولكنهم رفضوا الوظائف الإدارية الأخرى، وهم على كل حال ضد الفرنسيين (المسيحيين) وضد الحضارة الغربية.
وهذه الصورة تجعلهم على الحافة من السياسة والثورة، ولذلك وجدنا منهم من لم يطق حياة العزلة والهدوء إذا لم تخدم الدين، فثاروا في العهد العثماني كما ثاروا في العهد الفرنسي، ويهمنا هنا العهد الثاني، لقد ظهر منهم المنادون بالثورة والجهاد مثل موسى الدرقاوي المعاصر للأمير عبد القادر، وعبد الرحمن الطوطي (1). وغيرهما، ولكن هناك من شيوخ الدرقاوية من بقي محافظا على تعاليم الشاذلية ورفض الارتماء في الوظيفة، مثل محمد بن إبراهيم والعربي بن عطية، لقد حاول الأمير استمالة العربي بن عطية زعيم الدرقاوية في الونشريس، إلى الجهاد، ولكنه اعتذر له فقبل عذره، أو على الأقل تفهم موقفه، وقد انتهى الأمر بالشيخ ابن عطية إلى الهجرة من الجزائر والوفاة بتونس.
أما محمد بن إبراهيم فقد جاءه الحشم والحرار وأهل فليته يطلبون منه أن يكون حكما بينهم وأن يقضي في أمورهم، وذلك في وادي العابد (سيدي بلعباس). ولما أحس بالضغط ذهب معهم إلى غريس قرب معسكر، وحاول إقناعهم مدة أسبوع بالصلح والسلم، وأخبرهم أن (الحكومة لله). ولكن هذا الوعظ لم يقنع الذين يريدون زعيما وقائدا للثورة، ولما عرف أنه لا يستطيع إقناعهم بعدم تولي المسؤولية هرب ليلا وترك لهم رسالة على وسادته شارحا لهم فيها الأسباب التي جعلته لا يتدخل في السياسة والحياة الدنيا، وتذهب بعض المصادر الفرنسية إلى أن الأمير عبد القادر كان يريد خطف محمد بن إبراهيم للتأثير به على الدرقاويين، وقد ملأ هذا الفراغ عبد الرحمن الطوطي، المقدم الذي كان محمد بن إبراهيم نفسه
(1) انظر عنهما كتابنا (الحركة الوطنية الجزائرية). ج 1، ط، الجزائر/ بيروت 1992، وعن الطوطي انظر الشقراني (القول الأوسط). تحقيق ناصر الدين سعيدوني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1989،
قد عينه للأخوان، وكان الطوطي مخالفا لرأي شيخه فأعلن الجهاد سنة 1845 في نواحي بلعباس، وقد توفي محمد بن إبراهيم سنة 1840، ولم يسع المقدمين الآخرين، أمثال الحاج محمد ولد الصوفي والحبيب بن أميان، إلا الهروب، الأول إلى المغرب والثاني إلى الدوائر، وهكذا تغلب فريق الحرب على فريق السلم في الطريقة الدرقاوية.
وفي نفس الوقت كان موسى الدرقاوي يقوم بالجهاد أيضا، وحياته مليئة بالمغامرات التي تستحق كتابا كاملا، فهو من مواليد مصر، وقد تجول في سورية واسطانبول، ثم وصل ليبيا، ودخل الشاذلية على يد مقدمها محمد بن حمزة سنة 1829، واتجه إلى المغرب وأخذ هناك الطريقة الدرقاوية، وبعد الاحتلال بقليل دخل الجزائر واتصل بالحاج سيدي السعدي وعيسى البركاني في متيجة ونسقوا معا حركة الجهاد - ابتداء من سنة 1833، إن لم يكن قبل ذلك، وزار الحاج موسى الشيخ العربي بن عطية في الونشريس محاولا إقناعه بتأييد الجهاد ودعوة الإخوان إليه، فلم يفلح، فحارب الفرنسيين مع الأمير، كما تحارب معه على الفوز بالمدية، ولما هزمه الأمير ظل الحاج موسى تائها على وجهه فنزل في أولاد نائل بجبل مساعد وحارب بهم الفرنسيين، ثم دخل الأغواط ونظم نواة لطريقته - الدرقاوية/ المدنية، وعين خليفتين له أحدهما محمد بلحاج، على الجنوب، وقويدر بن محمد، على الشمال، ولكن الفرنسيين طاردوه على يد اللقيط يوسف، كما اعتقلوا خليفته (قويدر) وأفسدوا بذلك خططه في الجنوب والوسط، فهرب الحاج موسى إلى بني يعلى بزواوة، ثم تحول إلى متليلي عند الشعانبة، سنة 1848، وعند ثورة الزعاطشة (1849) كان مع الشيخ بوزيان زعيم هذه الثورة واستشهد إلى جانبه وعلقت رأسه إلى جانب رأس بوزيان على باب المعسكر الفرنسي، وقد ترك الحاج موسى الدرقاوي ولدين أحدهما بقي على رأس زاوية الأغواط المعروفة عند الناس بزاوية درقاوة سيدي موسى، وهو أبو بكر الذي تقول المصادر الفرنسية (1894) أنه كان متحفظا من الموظفين الفرنسيين ومن عملائهم الجزائريين، وأما ولده الثاني (مصطفى) فقد سلك
اتجاها آخر، وهو قبول وظيفة معلم اللغة العربية في معهد (لافيجري) بتونس، الذي كان يشرف عليه الآباء البيض (1).
ومن شخصيات الطريقة الدرقاوية عدة بن غلام الله، الذي لم يظهر كمحارب، ولكنه ظهر كشخصية دينية وعلمية ذات وزن كبير، وهو عدة بن الموسوم بن غلام الله البو عبد لي، وكان شاذلي الطريقة شريف النسب كما قيل، وينتسب إلى إدريس، ولد عدة سنة 1202 في بطحاء الشلف، وبعد أن حفظ القرآن الكريم، قرأ على الشيخ ابن حوا (معسكر؟) ودرس التوحيد واللغة والحديث والفلك على شيخ الطريقة الطيبية، محمد بن عبد الرحمن، ثم انتقل إلى مازونة فأخذ بها الفقه على الشيخ أبي طالب المازوني، وقد تمسك أولا بالطريقة الرحمانية التي أخذها عن والده، ثم أخد القادرية عن عبد القادر بن الأحول (وادي مينة؟). كما أخذها عن الشيخ ابن القندوز، ضحية السياسة في آخر العهد العثماني، كما أخذ الطريقة الطيبية على مقدمها المذكور (محمد بن عبد الرحمن) ثم عن الحاج العربي مولاي أحمد، ثم العربي بن عطية.
وفي عهد الأمير عبد القادر تولى عدة بن غلام الله وظيفة القضاء، بأمر من الأمير، وقبل أن يتولى الوظيفة استشار شيخه العربي بن عطية فيها، وكان تعيينه قاضيا على بلاد الظهرة ومينه، وبعد مدة ترك القضاء وتفرغ للعبادة والتعليم والإرشاد، وشاع أمره، وسميت طريقته بالشاذلية - الدرقاوية - البو عبد لية، وقد ترك الشيخ عدة مؤلفات وقصائد تزيد على 400 بين فصيحة وزجلية، كما له أحزاب أو أذكار، واستغاثات (2). وقد توفي سنة 1283 عن نحو 80 سنة، وتعرف زاويته بزاوية أولاد الأكراد، وله تلاميذ أصبحوا من أصحاب
(1) بالإضافة إلى ما كتبناه عن الحاج موسى الدرقاوي في الجزء الأول من الحركة الوطنية الجزائرية، نذكر (ملاحظات على تاريخ الأغواظ) لمانجان MANGIN في المجلة الإفريقية R، A، عدد 38، سنة 1894، ص 97.
(2)
عن سيرته انظر ابن بكار، مرجع سابق، ص 155 - 156، وفي آخر هذا المرجع غوثية من غوثيات الشيخ عدة بن غلام الله،