الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ أو ما يتميز به عن غيره من أفكار، ولكن تهمهم شخصيته سلطته الروحية، كراماته، فصاحته. وهكذا كانت شخصية ابن طكوك (السنوسية) أقوى من طريقته الصوفية، في نظر بيرك، وكذلك كانت سمعة ابن عليوة وشخصيته أقوى من تصوراته الصوفية التي لا يدركها الناس. وفي بلاد المغرب عموما، حسب رأيه، لا يهتم الناس بفكر الرجل ولكن بالرجل نفسه، وفي الطريقة الكبيرة الواحدة المعروفة بتعاليمها وقواعدها يأتي شخص قوي فيتبعه الناس ويخرج بهم عنها فيتبعونه وينفصل عن الأصل، دون الاهتمام بالفكرة الأولى والتعاليم، فالاهتمام هنا بالشخص بقطع النظر عن العقيدة، وهذا الرأي في عمومه صحيح قياسا على التاريخ والواقع.
أما الملاحظة الثانية التي جاء بها بيرك فهي انتقاده لكل من لويس رين ولديبون وكوبولاني في تناولهم الطرق الصوفية وقضية المرابطين، ملاحظا لهم أن المصير السياسي لهذه الطرق مصير غير موحد وغير مترابط، ذلك أن كتبهم صورت الطرق الصوفية عموما بانها العدوة غير المتهاونة للاحتلال وللحكم الفرنسي، لكن الواقع التاريخي أثبت أن هذه الطرق أصبحت اليوم متهمة بأنها عميلة هذا الحكم ومناصرته، فهل يرجع ذلك إلى التغيير في السياسة الفرنسية، أو يرجع إلى تركيبة الطرق الصوفية نفسها، كما لاحظ الاسكندر جولي؟ واتهم بيرك زميليه ديبون وكوبولاني بأنهما كتبا عن الجزائر بروح ما كان موجودا في باريس، وتصورا مشروعهما عن الإسلام بصورة ما هو في باريس، فلونا الطرق الصوفية في الجزائر بألوان لا تملكها في الواقع، وما كان في باريس عندئذ هو الحملة ضد الماسونية وأعمال الجمعيات السرية الأروبية (1).
توظيف الطرق الصوفية وتدجينها
رأى خبراء الفرنسيين بعد 1871 أن رؤساء الطرق الصوفية قد حلوا في
(1) أوغسطين بيرك، مرجع سابق، (مجلة البحر الأبيض المتوسط)، عدد 10، 1951، البحث بعنوان (أسرى الألوهية)، ص 296 - 302.
الأهمية محل الأجواد وزعماء العشائر نتيجة ضعف هؤلاء من جراء قانون الأرض سنة 1863 - 1873 وما يعرف بعهد المملكة العربية. وقد وقف منهم الحكام العامون الثلاثة (شانزي وتيرمان وكامبون) مواقف مشابهة أحيانا وهي المراقبة والتشدد، ومختلفة أحيانا أخرى، سيما عند كامبون، وقد أشرنا في عدة مناسبات إلى السياسة الفرنسية منذ 1871 نحو الطرق الصوفية، ففي عهد الجنرال شانزي طلبت مصلحة الشؤون الأهلية (تعيين من يجب أخذهم كرهائن) من زعماء الطرق الصوفية في حالة حرب أروبية، ورأى الفرنسيون أن استقلال هؤلاء الزعماء عن الإدارة وعدم قبولهم الوظيفة يجعلهم خطرين ومشكوكا في ولائهم.
ولذلك تقررت مراقبتهم عن كثب بالتحكم في مداخيلهم المادية ومنع إعطائهم الرخص لجمع أموال الزيارات، وجاءت تقارير من قناصل فرنسا في تونس والاسكندرية تندد بالإخوان عموما، وندد تقرير تونس بالشيخ أحمد التجاني رغم أن السلطات الفرنسية تحميه، ورأى القناصل أن بعض العلماء الألمان تسربوا إلى الطرق الصوفية مثل (رولفس RUHLFS). وكان شانزي قد منع، بضغط من نواب الكولون، إعطاء الامتيازات لشيوخ الزوايا عدا شيخ زاوية تماسين، بدعوى أن تأثيره مفيد للقضية الفرنسية، وأصدر شانزي منشورا سنة 1876 يأذن فيه للسلطات المحلية بإعطاء الرخص لبعض الشيوخ لزيارة أتباعهم بشرط هدف جدي وبصفة استثنائية وتحديد خط السير وبضرورة المرور بالجزائر، أما الشيوخ المقيمون في الخارج فقد احتفظ شانزي لنفسه بامتياز التصرف فيهم، وهكذا استثني محمد بوزيان، شيخ زاوية القنادسة فسمح له بزيارة أتباعه وجمع المال منهم، كما استثني عبد السلام، شيخ الطيبية، واستقبله في الجزائر استقبالا فخما (1).
وفي عهد لويس تيرمان (1882 - 1891) كثرت الضغوط على شيوخ
(1) آجرون (الجزائريون المسلمون). 1/ 306، 309.عن شيخ الطيبية انظر الحديث عن هذه الطريقة.
الزوايا، وألف رين كتابه المعروف. وحدثت ثورة بو عمامة، ومقتلة بعثة فلاترز، وكثر الحديث عن السنوسية، وتجدد اتهام أحمد التجاني بعدم الولاء لفرنسا، بل إن المكتب العربي في تلمسان تحدث عن مؤامرة التجانية في عين ماضي، واعتقلت السلطات عددا من الأهالي في سبدو ونفتهم إلى جزيرة كورسيكا، لكن الشرطة لم تثبت اتهام التجاني ولا طريقته في الأحداث، بالعكس فقد قالوا إن أحمد التجاني قد وجه إلى أتباعه نداء يطلب منهم الهدوء وعدم المشاركة في ثورة بو عمامة، وقالت إنه سهل مهمة العقيد ديبورد إلى السودان، لكن مشروع التمرد الذي ولد في زاوية تلمسان قد ظهر الحديث عنه سنة 1930 أيضا في كتاب صادر عن الحكومة العامة نفسها (1). وفي عهد تيرمان أيضا ظهر كتاب دو فيرييه عن السنوسية وحملها مسؤولية ثورات عديدة ضد فرنسا في الجزائر، ورأى تيرمان أن السنوسي له علاقة ببو عمامة وأن كليهما له علاقة بثورة المهدي في السودان، ومن جهة أخرى كان تيرمان يرى في الجامعة الإسلامية خطرا يهدد الجزائر، وقد تحدثت وسائل مخابراته عن مبعوثين جاؤوا من سورية والعراق لكي يدعوا إلى الهجرة وينتقدوا سياسة فرنسا، ومن أجل ذلك لم يرخص تيرمان لشيوخ الزوايا بالتنقل إلا نادرا، ورأى زيس (أحد كبار القضاة) التخلص من رجال الدين بنشر المدارس الفرنسية، ورأى غيره أن إضعاف رجال الدين يكمن في منع المال عنهم واللجوء إلى السياسة الميكيافيللية، أي باستعمال الانشقاق وحط الاعتبار ولكن دون مواجهتهم (2).
وبناء على ذلك جرت دراسات وسجلت آراء حول رد الفعل الفرنسي. فكان الاقتراح البارز هو المراقبة المتشددة دون المهاجمة، ودفع الشيوخ إلى أن يعلنوا ولاءهم أو عداوتهم، ومطالبتهم بتقديم عدد المنخرطين عندهم، وتساءل الكتاب عن الطرق التي زادها الاضطهاد انتشارا وشعبية مثل الرحمانية
(1) نفس المصدر، ص 309.
(2)
آجرون (الجزائريون المسلمون)، 1/ 311 - 312، والرأي الأخير منسوب إلى دي كونستانت الذي كتب عن (الجمعيات السرية عند العرب)(يعني الطرق الصوفية) في (مجلة العالمين). أول مارس 1886.
(الشمالية) والدرقاوية، رغم أنهما طريقتان أقرب إلى التقشف منها إلى الحياة الرغدة، وقالوا لماذا لم ينضم الفلاح إلى الطرق (الارستقراطية) مثل التجانية والطيبية. ولكن الذي تفطن إلى اتباع أسلوب جديد نحو هذه الطرق هو جول كامبون، فقد رأى أن يقترب من الطرق المصنفة (عدوة) ويستميل رؤساءها، وهكذا استمال زعيم أولاد سيدي الشيخ وتفاوض مع بو عمامة (وهو منهم). وعرض الوظائف عليهم، ولا سيما الدرقاوية والرحمانية، وأذن لزعيم الطيبية بزيارة أتباعه في الجزائر، وسلم إلى رؤساء هذه الطرق وغيرها برانيس وأوسمة، وأقام لمن مات منهم احتفالات التأبين (التجاني، القاسمي
…
). وكان هدف كامبون هو توظيف نفوذ الطرق الصوفية في خدمة المصالح الفرنسية في الصحراء، ومن أجل ذلك لجأ أيضا إلى الحصول على فتوى من علماء المسلمين (سنة 1895) شبيهة بالفتوى التي حصل عليها روش قبل ذلك (1). ومع ذلك أيد كامبون غلق الزوايا التابعة للطريقة الدرقاوية (2).
وقد سار الحاكمان العامان شارل جونار (1903 - 1912) وشارل ليطو (1912 - 1918) على سياسة مشابهة نحو الطرق الصوفية، ورأينا كيف استخدمت الإدارة نفوذ هذه الطرق خلال الحرب العالمية ضد الدعوة إلى الجهاد التي صدرت عن شيخ الإسلام بإسطانبول، ورغم بداية الضعف الذي اعترى الطرق الصوفية فإن الإدارة استمرت في توظيف نفوذها إلى الحرب العالمية الثانية، وسترد عليك أمثلة على ذلك.
لم تستنفد الطرق الصوفية كل طاقتها عشية الحرب الأولى، كما قال الاسكندر جولي، فقد رأيناها قد ساهمت في تهدئة السكان خلال هذه الحرب، ثم ان دورها لم ينته مع الاحتفال المئوي، كما قال أوغسطين بيرك،
(1) استعمل كامبون الصحفي الشهير في وقته، جيرفي كورتيلمونت، الذي تنكر وذهب مع أحد المسلمين الجزائريين (اسمه الحاج اكلي) إلى مكة، وحصل على مرغوبه، وهو تثبيط الهجرة من الجزائر وتسهيل سياسة فرنسا في الصحراء، انظر بحثنا (فرنسيان في الحجاز) في مجلة (المنهل). غشت، 1996.
(2)
آجر ون، (الجزائريون) 1/ 514 - 515.
بل استمرت السلطة الفرنسية في توظيفها لمعارضة التيارات السياسية والإصلاحية التي ولدت في الجزائر منذ 1920 (1). ولا حاجة بنا إلى شرح الظروف التي أدت إلى ظهور التيارات السياسية كحركة الأمير خالد ونجم الشمال الإفريقي واتحادية النواب، أو ظهور الحركة الإصلاحية بزعامة ابن باديس ثم جمعية العلماء سنة 1931 (2). إن الإدارة التي كانت تتحدث منذ أواخر القرن الماضي عن البديل للطرق الصوفية والتي رأته في النخبة الجديدة المتخرجة من المدارس الفرنسية وفي التحولات الاجتماعية التي أدت إلى تنور الأتباع ووعيهم، هذه الإدارة فوجئت بتحولات من نوع آخر تولدت من الحرب الكبرى، من جنود عائدين من الميدان ومن صحافة نشطة ومن مطالب جماعية برفع الضيم ونيل الحقوق، بالإضافة إلى التيارات السياسية والإصلاحية التي أشرنا إليها، وإذن لا بد من فعل شيء يحدث التوازن في المجتمع الأهلي ويحافظ على الهدوء، الذي ترجوه الإدارة دائما.
ولم يحدث خلال العشرينات أن ظهرت هيئة أو جمعية تعارض الطرف الصوفية سواء بدعم من فرنسا أو بغير دعمها، وإنما ظهر أمران أمام مسمع ونظر الإدارة، وكلاهما يضر بالطرق الصوفية التقليدية، الأول ظهور طريقة الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة التي اعتبرها الفرنسيون نموذجا جديدا للتصوف (العصري)، وقد تعرضنا إليها وبينا أنها كانت تختلف في أسلوب دعوتها وتحركات شيخها وصحفها ومطالبها عن الطرق القديمة والمتجذرة، وقد كانت الإدارة راضية، إن لم تكن مشجعة، عن هذه الظاهرة التي ستؤدي عند بعض محلليها إلى تغيير وجه الطرق الصوفية من الأساس، أما الأمر الثاني فهو نشاط الحركة الإصلاحية بين 1920 - 1931 بزعامة ابن باديس، ويهمنا الآن من هذه الحركة موقفها من المرابطين والطرق الصوفية. ففي
(1) كانت الطرق الصوفية بين الحربين ما تزال تتمتع بعدد من الأتباع ولها عليهم تأثير ونفوذ، وما تزال التقاليد الشعبية تعطيها أهمية خاصة.
(2)
ارجع في ذلك إلى كتاب الحركة الوطنية، ج 2، وإلى كتاب علي مراد (الإصلاح الإسلامي في الجزائر)، ليدن، 1967.
الصحف ذات الاتجاه الإصلاحي التي ظهرت خلال هذا العهد هجوم قوي على الظاهرة المرابطية والشعوذة والبدع والخرافات التي كان يمارسها الأشياخ، والموقف السياسي لهم وتبعيتهم للإدارة، وتضليل الناس عن الدين، ونشر الخرافة والتخدير بين الناس بممارسات معينة كالحضرة والذبائح والزيارات والكرامات، وكانت الإدارة تراقب هذا التحول في المجتمع وتدرس عواقبه وتعرف أنه سيزعزع جذور الطرق الصوفية التي طالما حاربتها وخافت من خطرها.
وعندما تقدمت (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) بطلب التأسيس سنة 1931 لم تمانع السلطات الفرنسية في ذلك، بل إن بعضهم قد لاحظ السرعة التي تمت بها الموافقة، وكان الجو الذي خلقه الاحتفال المئوي يبرر هذه الموافقة، ربما، لأن الجزائريين تذمروا كثيرا من غطرسة الفرنسيين بعد قرن من الاحتلال والتحكم، ولاحظت ذلك صحفهم، حتى المعتدلة منها، ففي الموافقة على طلب العلماء تفريج لهذا التوتر، ولكن الموافقة تخدم أغراضا أخرى للإدارة أيضا، فقد أعلنت الجمعية في قانونها الأساسي أنها تقبل بعضوية (العلماء) غير الموظفين، ومن هؤلاء بعض رجال الطرق الصوفية، وأن انضمام عناصر من هذه الطرق إلى الجمعية كان يخدم موقف فرنسا المعلن منذ آخر القرن الماضي وهو (تذويب) الطرق في غيرها وإحلال البديل محلها طبقا لمقتضيات التطور الاجتماعي والسياسي، والغرض الآخر الذي تخدمه الموافقة على إنشاء جمعية العلماء هو أن النشاط الشيوعي كان قويا في الجزائر وهو يحاول أن يحتوي العناصر الأهلية المستعدة لممارسة السياسة والهجوم على الامبريالية والاستعمار، فميلاد جمعية العلماء المتحمسة للنهضة الإسلامية والمعتمدة على السلفية والإصلاح الديني سيكون حاجزا ضد توغل التنظيم الشيوعي في الأوساط الأهلية، في نظر الإدارة، ولكن هذه التوقعات لم تكلل بالنجاح المطلق، لقد كان على رأس الإدارة الأهلية عندئذ جان ميرانت الضابط المختص في قضايا الجزائر الإسلامية، وهو الذي كان يعمل مترجما في الحكومة العامة منذ آخر القرن
الماضي، وكان من المساعدين في الترجمة لكل من ديبون وكوبولاني أثناء تحرير كتابهما سنة 1897. ولا شك أنه أقر توصياتهما لأن الكتاب نشرته الحكومة العامة وتبنت كثيرا مما جاء فيه. ومبدأ توازن القوى يفرض على الإدارة أن لا تقضي تماما على الطرق الصوفية وأن لا تعطى لخصومهم كل التسهيلات، بل لا بد من جعلهم في درجة واحدة أو جعلهم يتبادلون القوة والضعف دواليك. وقد ظهر من انتخاب المجلس الإداري الأول والثاني لجمعية العلماء أن العناصر الإصلاحية هي المتحكمة وأن العناصر الطرقية كانت في المركز الأضعف، ولعل الإدارة كانت تريد العكس، لأن وجود عناصر من العلماء الدارسين في الشرق أو الزيتونة يزعج الإدارة، ويصعب من تشديد قبضتها على الجمعية، ولذلك لم يدم تفاهم المصلحين والطرقيين إلا حوالي سنة، ففي 1932 انفصل أصحاب الاتجاه الطرقي وكونوا (جمعية علماء السنة) التي تقمصت مبادئهم، وهذا الانقسام كان يحقق أيضا أهداف الإدارة من الطرق الصوفية ومن المصلحين معا، لأن خلق التنافس والصراعات عادة قديمة وأسلوب ناجح مارسه الفرنسيون طيلة عهدهم، وبه تحكموا في رقاب الجزائريين.
وإذا كانت مسيرة (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) مدروسة ومعروفة سواء في عهد ابن باديس أو عهد الإبراهيمي، فإن مسيرة نقيضتها (جمعية علماء السنة) والجمعيات الأخرى المشابهة غير معروفة. ذلك أن الإدارة الفرنسية رأت أن الجمعية الأخيرة وليد ضعيف بالأسلوب الذي وقع به الانفصال وبالشخصيات التي تبنت هذا الاتجاه والوسائل المختارة والأهداف المرسومة، فلم تعش جمعية علماء السنة إلا عاما أو بعض العام، وقد حاولت هذه الجمعية أن تقلد نشاط المصلحين، فأنشأت جريدة (الإخلاص) وفتحت ناديا، وأعلنت أنها تعمل من أجل (الإسلام الجزائري) الذي سماه أوغسطين بيرك الإسلام المنغلق على نفسه، ويمكن القول إن جمعية علماء السنة هي (رابطة الطرق الصوفية) بأسلوب عصري، ذلك أن فرنسا كانت تخشى تجمعهم في الماضي ولم تحاول أبدا من جهتها تكوين رابطة أو ناد
لهم، بل كانت تعمل على تفتيتهم وتمزيقهم حتى لا يتوحدوا ضدها، حتى فكرة رين في إعطاء سلطة فوق العادة لشيخ التجانية وتنصيبه في مكانة (شيخ الإسلام) في الجزائر لم يقدر لها التنفيذ، أما بين الحربين ففرنسا أخذت تحاول أن تؤطر الطرق الصوفية وأن تحدثها لمواجهة جمعية العلماء من جهة، والحركة الشيوعية والتيارات الأخرى السياسية (المتطرفة).
ودعما لجمعية علماء السنة التي ولدت ضعيفة، كما قلنا، أوعزت الإدارة بعقد مؤتمر يضم مختلف الطرق الصوفية والزوايا في الجزائر، وربما كان هو الحدث الأول من نوعه، انعقد هذا المؤتمر الذي أطلق عليه (مؤتمر رؤساء الطرق الإسلامية) في الأسبوع الثاني من نوفمبر 1933 بالعاصمة، وفي (نادي الإخلاص) التابع لجمعية علماء السنة، ومن قراراته أن أعضاء المؤتمر يصبحون أعضاء في الجمعية، وأن جريدة (الإخلاص) تتحول إلى مجلة لنشر المقالات حول الأخلاق والدين والمجتمع، وقد ترأس المؤتمر الشيخ مصطفى القاسمي (زاوية الهامل) وأوضح الهدف حين ذهب وفد منه لزيارة الحاكم العام، جول كارد، وكان الوفد مرفوقا بجان ميرانت الذي أشرنا إليه، وأمام الحاكم العام ألقى الشيخ القاسمي كلمة باسم زملائه رؤساء الطرق، وأعلن له تعلقهم بفرنسا والإخلاص لها، كما فعلوا في الماضي، ولكن الوفد طالب الحاكم العام أيضا بتحسين حالة (الرعية). وقد علق محمد سعيد الزاهري العضو في جمعية العلماء المسلمين عندئذ، بقوله إن جمعية علماء السنة قد تحولت إلى (سنديكا) - نقابة - من شيوخ الزوايا، وأن هدفها هو تكوين (كهنوت) وليس الدفاع عن الإسلام (1).
وقبل أن نواصل الحديث عن المؤتمرات الطرقية الموازية للنشاط الإصلاحي الذي تقوم به جمعية العلماء المسلمين، نشير إلى العريضة التي بعث بها عدد من رجال الطرق الصوفية في تلمسان ضد الشيخ الإبراهيمي سنة
(1) جريدة (الصراط) - لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، عدد 11، 27 نوفمبر 1933، انعقد المؤتمر المذكور بين 7 - 11 نوفمبر.
1933، وكانت العريضة موقعة من قبل خمسة عشر فردا، من أعيان البلدة (مستشارون، وتجار، وشيوخ). من بينهم خمسة من مقدمي الطرق الصوفية، وكان الإبراهيمي قد حل بتلمسان في نهاية سنة 1932 كممثل لجمعية العلماء في الناحية الغربية، وكانت الجمعية قد وقفت ضد منشور إداري يسمى منشور ميشيل صدر في 16 فيفري 1933، وهو منشور يحد من نشاطها ويصف أعضاءها بالوهابية والتبعية للخارج، وكان المنشور جزءا من تدخل الإدارة الذي ذكرناه من أجل إحداث التوازن بين الطرق الصوفية وخصومها، ذلك أن موقف الإدارة كان ضد الاثنين معا، ولكن لا بد من هذا الأسلوب الذي يقدم البعض ويؤخر الآخرين لإحداث التوتر والمنافسة لكي تعيش الإدارة في أمن وهدوء.
والغريب أن أصحاب العريضة قالوا عن الإبراهيمي إنه (أجنبي) وعليه أن يرجع إلى (بلاده) سطيف، وقد ذكروا الإدارة الناسية في نظرهم، بأن الطرق الصوفية عاشت منذ قرون في تفاهم وأنها تقف مع السلطة الفرنسية موالية ومخلصة الولاء، وأضافوا أن الإبراهيمي ينتمي إلى (جمعية سرية) هدفها زعزعة الحضور الفرنسي، وأنها تستعمل الدين كغطاء لهدفها، وأنها أصبحت تستعمل النوادي بعد منع المساجد عليها (طبقا لقرار ميشيل). وقد اعتبرت العريضة ما تقوم به هذه الجمعية السرية (جمعية العلماء) والشيخ الإبراهيمي بالذات هو (موجة وطنية ومعادية لفرنسا). أما الإبراهيمي وأصحابه فقد اعتبروهم أهالي متعلمين (وشبانا أتراكا) من صنف آخر، وأخبروا الحاكم العام الذي وجهوا إليه العريضة، أن في تلمسان حوالي عشر طرق صوفية كلها ذات صلة عميقة بفرنسا. أما نشاط الإبراهيمي فهو (جرثومة آتية من الشرق). وتساءلوا: لماذا تسمح الإدارة (للأجانب) مثل الإبراهيمي بالعمل في الجزائر مع أن هدفهم هو إثارة الشغب؟ (1).
(1) العريضة من خمس صفحات مرقونة بالفرنسية، نسخة منها سلمني إياها محمد القورصو. تاريخها هو 26 مايو 1933، وتاريخ قرار ميشيل هو 16/ 2/ 1933. والخمسة الممثلون للطرق هم: سليمان عمامو (العيساوية). حمادي الصقال =
وكلما تقدمت جمعية العلماء في نشاطها الإصلاحي وازداد نشاط التيارات السياسية الوطنية، برز على المسرح نشاط الطرق الصوفية في ثوب جديد، لقد أصبحت هذه الطرق موظفة بكل عناية من قبل الإدارة، لم يعد هناك خوف ظاهر منها، وبدل أن تموت عضويا، كما قال الاسكندر جولي، كانت الإدارة تبعث فيها الدم وتحاول ملاءمتها مع الوضع الجديد، وبعد مؤتمر الطرق الإسلامية في العاصمة، كما رأينا، تأسست (الجمعية الطرقية الدينية الإسلامية)(1) في قسنطينة سنة 1937 على إثر انعقاد المؤتمر الإسلامي ونشاط العلماء والنواب فيه، خصوصا في مدينة قسنطينة، ولكن نشاط هذه الجمعية لم ينحصر في قسنطينة، بل امتد إلى أنحاء القطر كله، وكان أعضاؤها يتكونون من المقدمين والشواش ورؤساء الزوايا والإخوان، ولها مجلس إداري من أربعين عضوا هو الذي يسيرها، وهو منتخب من الجمعية العامة، ويرأسها شرفيا، الحاكم العام للجزائر والولاة الثلاثة (وهران والعاصمة وقسنطينة)، وكذلك حكام المقاطعات الجنوبية الثلاثة (وكلهم فرنسيون طبعا). وماليتها تأتي من اشتراك الأعضاء والتبرعات ومن (إعانات الحكومة) والولاية، أما هدفها فهو المحافظة على نفوذ الزوايا والطرق، وعلى شهرتها وسمعتها ومكانتها بالإضافة إلى الاهتمام بالفقراء (المنتشرين في المساجد والزوايا وإصلاح حالهم)، وكلمة (فقراء) هنا قد تعني البائسين عموما، وهو الأقرب، وقد تعني فقراء الطرق الصوفية الذين هم صنف من الأتباع. ومثل كل الجمعيات غير السياسية عندئذ أعلنت هذه الجمعية الطرقية
= (القادرية)، محمد بلولة (الطيبية) حمادي زياني (التجانية)، عبد القادر يوسفي (الدرقاوية). أما الآخرون فنواب وتجار، وهم: الحاج محمد العشعاشي، وسي بن علي بن منصور، والغوثي الحصار، ومحمد بن الأعرج، والغوثي بن ثابت، ومحمد بن منصور، وعيسى بن يحيى، ومحمد بن عبد الله، ومحمد ولد حمو بن ثابت، ومحمد بن سليمان.
(1)
يظهر من العنوان أنه اختراع فرنسي، لأنه لا توجد طرق غير إسلامية، فكيف تسمى الجمعية (دينية إسلامية).
أنها لا تتدخل في السياسة، ومفهوم ذلك بلغة الوقت عدم انتقاد السياسة الفرنسية في الجزائر أو المطالبة بحقوق سياسية للمواطنين. أما مقر الجمعية فهو: الزاوية التجانية بمدينة قسنطينة، وكاتبها هو أحمد بن بسام (1).
واستمرت الإدارة تحرك أصحاب الطرق الصوفية لأغراضها، وكانوا من جهتهم يحسون أنهم يدافعون عن وجودهم المهدد في الواقع من الإدارة نفسها، كما عرفنا، وليس من الحركة الإصلاحية، لأنه إذا كان مأخذ السلطة الفرنسية عليهم هو الثورة والسياسة، فإن مأخذ الحركة الإصلاحية عليهم هو التجارة بالدين واستغلال العامة مما نتج عنه خدمة الاستعمار.
فقد انعقد في الجزائر مؤتمر آخر لأصحاب الطرق يسمى (بجامعة اتحاد الزوايا)، في افريل سنة 1938 ودام ثلاثة أيام، وكان انعقاده على إثر قرار مارس من نفس السنة بعد زيارة وزير الداخلية الفرنسي رينيه، وهو القرار الذي يشبه قرار ميشيل، وكان يهدف إلى وقف التعليم العربي وتوقيف دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، ومعاقبة المعلمين بدون رخصة، وكانت رئاسة المؤتمر الجديد أيضا للشيخ مصطفى القاسمي (زاوية الهامل). كما حضر رجال الزوايا الآتية: طولقة (رحمانية). عميش (قادرية)(2). وكان هناك ضيفان غريبان، الأول هو محمد سعيد الزاهري بعد خروجه من جمعية العلماء، والأغرب من ذلك أنهم نعتوه (بالفاشيست) لأنه كان عضوا في الحزب الفرنسي اليميني، أما الضيف الغريب الثاني، فهو عبد الحي الكتاني، رئيس إحدى الطرق الصوفية في المغرب الأقصى ونصير فرنسا هناك وفي الجزائر، وسيرد اسمه بعد حين، كانت كل جلسة تفتتح بالقرآن الكريم، ثم بالخطب في موضوعات دينية شتى.
وقد دعا أصحاب الزوايا الذين اجتمعوا تحت المظلة الفرنسية، إلى
(1) البصائر، عدد 13 يناير 1939.
(2)
عن موقف فرنسا من زاوية عميش وزعيمها (عبد العزيز بن الهاشمي). انظر فصل التعليم الحر.
عدم التعرض للسياسة ونبذ البدع (والأخير يعتبر أحد مطالب جمعية العلماء، والمقصود به بالنسبة إلى الدين ما لم يرد في القرآن والسنة النبوية ولم يأت في فعل أو قول السلف الصالح) ومن الذين حضروا أيضا الشيخ السائح (التجانية؟) الذي ألقى قصيدة في المناسبة، كما حضر الشيخ اسطانبولي إمام الجامع الكبير بالمدية، ومحمد بن الموهوب (قسنطينة). وعبد الحميد عثماني (طولقة) ومحمد الصالح بن الهاشمي (الوادي). والشريف الصائغي مدير مدرسة السلام بقسنطينة، ونلاحظ أن بعضهم (ابن الهاشمي) قد ألقى خطبة لتأييد الإصلاح واتباع طريق السنة النبوية، وهو الخطاب الذي ألقاه باسم أخيه (عبد العزيز) الذي اعتقلته السلطات الفرنسية سنة 1937، والغريب أيضا أن هذا الخطاب تضمن مقولة الشيخ عبد العزيز بأنه كان طرقيا وتحول إلى الإصلاح، وإن الحكومة العامة تريد القضاء على الدين واللغة العربية بقرار 8 مارس (1938)، وهو رأي يظهر نشازا في ذلك التجمع الطرقي لا ندري كيف سمح له بإعلانه على الحاضرين (1).
وفي 1938 أيضا طلبت فرنسا من مختلف الهيئات في الجزائر الإعلان عن تأييدها لها في الحرب القادمة ضد ألمانيا، وبادرت الأحزاب الموالية تفعل ذلك، وتحفظت جمعية العلماء، كما هو معروف من (حادثة البرقية) الشهيرة والتي أدت إلى خروج الشيخ الطيب العقبي منهاة ولم تكتف فرنسا بالمواقف الفردية للزوايا والطرق الصوفية في الجزائر، بل نسقت ونظمت وخرجت بطبخة جديدة سمتها مؤتمر الزوايا على مستوى المغرب العربي كله. وانعقد المؤتمر في مدينة الجزائر في شهر إبريل 1939، وبالإضافة إلى
(1) البصائر عدد 111، 29 أبريل 1938. انظر أيضا عدد 112، 113 من نفس الجريدة، عن الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي ورفاقه، سيما عبد القادر الياجوري وعلي بن سعد، وما كتبه الشيخ ابن باديس عن أحداث سوف، انظر مقالتنا: (مجاهد من صنف آخر) فى مجلة الثقافة، 1995، وقد أحلت السلطة الفرنسية محمد الصالح بن الهاشمي مكان أخيه عبد العزيز على رأس زاوية عميش القادرية بعد أحداث سوف المشار إليها.
الجزائريين حضره من المغرب الأقصى عبد الحي الكتاني الذي سبق ذكره، ومن تونس الفاضل بن عاشور، والتبريزي بن عزوز، شيخ الزوايا بتونس، وكان حضور ابن عاشور بالطائرة قد جعل بعض الكتاب يعلق على ذلك بطريقة تهكمية، ومن ليبيا حضر وفد يمثل طريقة (طائفة) سيدي عبد السلام (السلامية؟) ولكنه جاء من مصر، لأن الخبر يقول إن إيطاليا لم تسمح لوفد طرابلس بالحضور، وكان المؤتمر برئاسة الشيخ مصطفى القاسمي أيضا. وكالعادة ذهب وفد من المؤتمرين لمقابلة الحاكم العام وتقديم فروض الطاعة لفرنسا، وعلى إثر المؤتمر نشرت الجرائد عريضة (رجال الدين والعلم) في تأييد الحكومة العامة بالجزائر، واعتبروا أنفسهم ممثلين لمشائخ الطرق ورؤساء الزوايا وعلماء الدين، والمتكلمين باسم أكثر من ثلاثة ملايين، وقد وضعوا ثقتهم في فرنسا وسياستها، وقرروا ما يلي:
1 -
قطع الطريق على المشوشين والمغرضين، أعداء فرنسا في الجزائر (وهو ما كانت السلطة الفرنسية في الماضي تنسبه إلى أصحاب الطرق أنفسهم).
2 -
على المسلمين (الجزائريين)(الثبات الراسخ على إخلاصهم لفرنسا، وتضحيتهم في سبيلها، ومحبتهم لها)، (واضح أن هذا هو الهدف من المؤتمر والعريضة، لأن هدف الإدارة هو توظيف سمعة شيوخ الطرق لصالحها أمام الخطر الألماني والإيطالي).
3 -
تنبيه الجزائريين إلى أن قانون 8 مارس (1938)(لا يمس الدين الإسلامي بحال). وفي ذلك رد على جمعية العلماء المقصودة به، والتي جندت ضده إلى جانبها التيارات السياسية الأخرى، وقد لاحظت العريضة ردود الفعل القوية على ذلك القانون (القرار) عندما قالت إنه (صار مبعثا جديدا لزرع بذور الحقد السائد في الجزائر الآن). ذلك أن فرنسا لا تريد أن تواجه الخارج بجبهة مضعضعة من الداخل، وكأنها بهذه العريضة تريد التخفيف من وقع ذلك القرار (1).
(1) البصائر، 5 مايو 1939. وقد نشرت العريضة في جريدة (لا ديباش ألجيريان) 19 =
وقد هاجم الإصلاحيون هذا المؤتمر ما داموا هم قد تحفظوا من اتخاذ موقف مشابه، كما ذكرنا، وحكموا على المؤتمر بأنه انعقد بوحي من الإدارة الفرنسية، وقد انتقدوا حضور الفاضل بن عاشور (ابن الشيخ الطاهر، شيخ جامع الزيتونة عندئذ) وإعلانه الولاء لفرنسا وتأييده للطرقية، ويبدو أن ابن عاشور حاول أن يمسك العصا من الوسط وأن يوفق بين الإصلاح والطرقية، ولذلك كانت محاضرته بعنوان (الوحدة الإسلامية)، ولكنه فشل في هدفه، حسب تعليق البصائر (1).
والواقع أن الانتقاد كان مسلطا على الطرقية عموما باعتبارها أداة في يد الإدارة وليس ضد التصوف من حيث هو، وكانت الحركة الإصلاحية تنتقد أيضا العلماء الذين يفتون لهذه الإدارة بما تريد منهم لا ما يريده الدين أو ينص عليه، ويطول بنا الحديث إذا استعرضنا كل ذلك هنا، فهدفنا هو تقرير ما وصلت إليه الطرق الصوفية بعد مسيرة قرن من الاحتلال الفرنسي، وقد تناول هذا الموضوع معظم رجال الإصلاح الأوائل كابن باديس والإبراهيمي والعقبي والتبسي والميلي وأبي يعلى الزواوي، بل إن علماء من أمثال المجاوي وابن الموهوب وابن زكري قد تعرضوا له ولكن بشكل غير صريح صراحة رجال جمعية العلماء، ولعل العقبي والميلي والزاهري (قبل خروجه من الجمعية) كانوا من أوائلهم وأكثرهم تفرغا لهذا الموضوع. ثم تراجع الزاهري، وخفت حدة العقبي بعد 1936، ولكن كتاب الميلي (رسالة الشرك ومظاهره) يظل الوثيقة الأساسية في انتقاد الطرق الصوفية ووصف حالة التصوف عندئذ بطريقة هي أقرب إلى الموضوعية من خطب ومقالات زملائه، وفي المقابل ظهرت أدبيات أخرى أيضا اشتهرت منها جريدة (البلاغ) الجزائري بين الحربين، (وصوت المسجد) بعد الحرب العالمية الثانية، وكتاب من أمثال محمد العاصمي.
= أبريل 1939. وهي طبعا موجهة إلى الرأي الحام الفرنسي والخارجي. ثم ترجمتها البصائر كاملة (انعقد المؤتمر بين 14 - 17 أبريل، 1939).
(1)
البصائر، 5 مايو، 1939.
وكان النقد غالبا موجها (للطرقية) دون تمييز، أي إلى الظاهرة في حد ذاتها باعتبارها مؤثرا اجتماعيا سلبيا ومعرقلا في مسيرة الإصلاح المنشود، ونظرا لعلاقة الطرق الصوفية بالاستعمار الفرنسي منذ تجريدها من سلاحها في فاتح هذا القرن وجعلها آداة في يد الإدارة، فإن الهجوم عليها كان (كاسحا) بالأولوية، وحتى الاستعمار نفسه، بقوانينه وتعسفاته، لم يحظ بمثل الهجوم الذي شن على الطرق الصوفية، ولعل الهجمة في الجزائر على هذه الظاهرة كانت أشد من غيرها في العالم الإسلامي (1)، نظرا لشراسة الاستعمار من جهة وسيطرة الطرق على عقول الناس من جهة أخرى، ففي غياب التعليم وفي ظل العزلة القاتلة حكم الفرنسيون على الجزائر بالإعدام المعنوي من خلال عدة ظواهر، ومن بينها توظيف الطرق الصوفية. ونادرا ما يذكر المهاجمون طريقة بعينها إلا العيساوية ربما، فقد انفردت أحيانا لشعوذتها وبهلوانيتها (ومثلها العمارية). وكذلك التجانية لغموضها وضلالتها و (إلحادها) على حد تعبير ابن باديس.
فرغم دور التجانية في المغرب وفي غرب افريقية في مقاومة الاستعمار ونشر الدين الإسلامي، فإنها في الجزائر قد اعتبرت طريقة متسترة على فظائع الاستعمار، وقد لاحظنا ذلك في الجانب السياسي فيما مضى، أما الجانب العقائدي فقد ظهرت عدة كتابات في نقد بعض أذكار التجانية وما نسب إليهم من تفسير لبعض الآيات، وما نسب إلى شيخها من فتوحات وكشوفات لا تتلاءم مع التصوف السني، ومن تلك الكتابات النقدية ما ظهر في مجلة (الفتح) المصرية ونقلته عنها (الشهاب)(2).
ومنها ما كتبه محمد الحجوي المغربي في مجلة (الرسالة) ضد التجانية، وقد تبنى ابن باديس ما جاء به الحجوي وتوسع فيه، فإذا بأحد المغاربة وهو الشيخ أحمد سكيرج يرد على ابن باديس معتبرا إياه (مهدم الطائفة
(1) قد يشبهه في ذلك موقف أتباع محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية أول أمرهم.
(2)
الشهاب، 1939.
التجانية). ولم يكن ابن باديس فيما يبدو ضد الطريقة في حد ذاتها ولكن ضد أمور اعتبرها إلحادية وضالة ومنومة لأتباعها. وقد طلب من علمائها والمنتسبين إليها أن ينفوا ذلك عنها وأن يتبرأوا منه نفيا للتضليل في الدين، ولكنه قال إنه لم يتلق أو يقرأ بيانا في ذلك، إلا ما جاء على قلم سكيرج.
قال الحجوي: (إن التجانية ليست كسائر الطرق بدعة وضلالة في الإسلام، بل هي هدم صريح وضد عتيد للإسلام
…
). فأخذ ابن باديس هذه العبارات وأوضحها قائلا إنه صرح بما جمجم به الحجوي: (صرحنا فيه بذلك، وبيناه بدلائله، وبنينا كلامنا فيه على كلام الشيخ الحجوي، وطلبنا من جميع المنتسبين للتجانية أن ينفوا ما نسب إليها أو يتبرأوا منه، وتحديناهم في ذلك، فلم نر منهم جوابا من عالم إلى الآن)، ثم قال ابن باديس:(نعم، إن الحملة على الطرقية وبيان ضلالتها وفضح التجانية وبيان إلحادها، كل ذلك محمول على كاهلي ومربوط به رأسي، وإن كنت فيه كواحد من إخواني)(1).
أما الشيخ أبو يعلى الزواوي فقد هاجم فكرة (المهدي) المنتظر من أساسها، واعتبر الإيمان بالعصمة والشعوذة من الضلالات، وقال إن ما جاء به ابن تومرت من مبدإ (الإمام المعصوم المهدي المعلوم) فكرة ملعونة، واعتبر هذه الدعوة التي جاءت في قواعد الدولتين الفاطمية والموحدية، دعوة المهدي والعصمة، إنما هي ضلالة ولعنة، وقد أخذها المتصوفة أيضا وبالغوا فيها، ولذلك سلط نقده العنيف على الطرقية وأدعياء العصمة في الشيخ،
(1) البصائر، 3 مارس، 1939، كان ابن باديس يرد على راديو مونديال ووكالة هافاس لأنهما نقلا عن سكيرج أنه كتب كراسا في الرد على ابن باديس، ووصفا سكيرج بأنه من حملة الأقلام، وتساءل ابن باديس: (هل رأيتم آثار قلمه في نصرة حق أو مقاومة باطل أو إعلان فكرة أو تقرير مبدإ أو توجيه شعب
…
غير ما يسوده من صحائف في طريقته الضالة من الكلام المعاد فيستدر بها أتباعها المنومين). كتب ابن باديس ذلك سنة قبل وفاته.
وقال إن الشيخ سعيد بن زكري (مدرس وإمام ومفتي) قد أيده فيما ذهب إليه (1).
ولكننا لن نتتبع هنا كل الأدبيات المتعلقة بهذا الموضوع، فهي في الحقيقة تحتاج إلى معالجة منفصلة وهادئة في إطارها الحقيقي من تطور المجتمع الجزائري. وغرضنا الآن هو معرفة كيف انتهى مصير الطرق الصوفية. إنها لم تنته كما توقع الفرنسيون، ولم تتلاش، رغم الأدبيات التي صدرت ضدها، ورغم تطور المجتمع وظهور الحركات السياسية والإصلاحية وانتشار التعليم والوعي العام، ولكنها لم تبق كما كانت تخيف السلطة وتجند آلاف الجماهير، ونحن وإن كنا ننتهي بهذه الدراسة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية فإننا نشير إلى أن ثورة نوفمبر قد جندت آلاف الإخوان الذين كانوا سابقا احتياطيين في الطرق الصوفية، وأن هذه الطرق في جملتها قد رأت في مجاهدي 1954، صورة لمجاهدي القرن الماضي الذين قدمتهم فداء لتحرير الدين والوطن، وإذا أخذنا بنظرية الدورة التاريخية لابن خلدون والتي طبقها أوغسطين بيرك على الحركات الدينية في الجزائر، فإنه يمكن القول بأن ثورة 1954 كانت إحدى الدورات - بعد الطرق الصوفية ثم جمعية العلماء - وإن الحركة الإسلامية التي ظهرت أخيرا ما هي إلا حلقة أخرى في هذه الدورة التاريخية، وقد رأينا في السنوات الأخيرة أيضا كيف انبعثت الطرق الصوفية من مرقدها نتيجة الضغط السياسي والانحراف الاجتماعي، لكن يجب ألا نضع كل الطرق الصوفية والمرابطين في كيس واحد، إن أصلها متشابه وممارساتها تكاد تكون واحدة، وأساليبها متقاربة، ولكن أهدافها ومواقفها ووسائلها قد اختلفت باختلاف رجالها وظروفهم، فمن الطرق الصوفية ما كافح بشتى الوسائل وكذلك المرابطون، ولكن الموجة كانت أعتى منهم، وقد ظلوا منطوين على أنفسهم ومخلصين لتراثهم النضالي فربوا جيلا على ذلك فكانوا الشرارة للثورة التي عرفتها الجزائر. وإذا بحث
(1) الزواوي (الإسلام الصحيح). دمشق 1924، ص 92.
الباحثون مستقبلا عن أصول القادة والمناضلين البارزين فسيجدون منهم من كان له تاريخ طويل في النضال داخل الطرق الصوفية والحركة الدينية عموما، ولا ننسى أن بعض أصحاب الطرق قد اختار الهجرة، وهو موضوع لم نتناوله هنا، سيما من زواوة ومن تلمسان، كما هاجرت عائلات مرابطة إلى المغرب الأقصى من جهة معسكر.
والتصنيف الفرنسي لدور الطرق الصوفية يصدق أحيانا إذا قيس بموجة الاحتلال نفسها، فهي قوية عاتية بين 1830 - 1860، ثم تأتي مرحلة المملكة العربية 1860 - 1870، حين تضاءل دور كبار الأعيان وحكام الخيام الكبيرة، ثم عادت قوة الاحتلال كأشد ما تكون بعد ثورة 1871 فضربت الجزائر في العمق، وتلا ذلك قوانين جائرة وتغييرات في البنية الاجتماعية، فكان رجال الزوايا والمرابطين والطرق هم الملجأ الآمن للناس، وكان صوتهم يمثله الشاعر الشعبي والمداح. ولكن ابتداء من فاتح هذا القرن غير الفرنسيون من تعاملهم وأخذوا في نشر التعليم بلغتهم وتقديم النخبة المتفرنسة، وتشجيع العلماء الرسميين على إعطاء الدروس العامة، ونشرت بعض الآثار والمخطوطات والصحف وفتحت النوادي، كل ذلك كان على أيدي الفرنسيين أنفسهم أو بتشجيع وإيعاز منهم، فإذا الطرق الصوفية تظهر وكأنها تخلفت عن الركب، وعندما ظهرت الحركة الإصلاحية في العشرينات والثلاثينات حاولت فرنسا بعث الحياة في الطرق الصوفية لتوازن بها (المتطرفين) دعاة الوهابية والعروبة والإسلام السلفي، حسب الدعوة الفرنسية، وقد رأينا أنه كان للطرق الصوفية والزوايا دور هام في حركة التعليم.